موسوعة التفسير

سُورةُ الجُمُعةِ
الآيات (5-8)

ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ

غريب الكلمات:

مَثَلُ: أي: صِفةُ، وشبَهُ، والمَثَلُ عبارةٌ عن تَشبيهِ شَيءٍ بشَيءٍ في حُكمِه، وتقريبِ المعقولِ مِن المحسوسِ، أو أحدِ المحسوسَينِ مِن الآخَرِ، واعتبارِ أحَدِهما بالآخَرِ، وأصلُ (مثل): يدُلُّ على مُناظَرةِ الشَّيءِ للشَّيءِ [77] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 269)، ((تفسير السمرقندي)) (3/447)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/296)، ((المفردات)) للراغب (ص: 759)، ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) لابن القيم (2/270). .
أَسْفَارًا: أي: كُتُبًا، واحِدُها: سِفْرٌ، وهو: الكِتابُ الكَبيرُ؛ لأنَّه يُسفِرُ عن المعنى إذا قُرِئَ، وأصلُ (سفر): يدُلُّ على الانكِشافِ والجَلاءِ [78] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 465)، ((تفسير ابن جرير)) (22/634)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 83)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/82)، ((المفردات)) للراغب (ص: 412)، ((تفسير القرطبي)) (18/94). .
الَّذِينَ هَادُوا: أي: اليهودُ، والهَودُ: الرُّجوعُ برِفقٍ، قيل: سُمِّيَ اليهودُ مِن: هادَ يَهودُ، إذا تابَ؛ لأنَّهم تابوا عن عِبادةِ العِجلِ، وقالوا: هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف: 156] ، أي: تُبْنَا، وكان اسمَ مَدحٍ، ثمَّ صارَ بعدَ نَسْخِ شَريعتِهم لازمًا لهم، وإنْ لم يكُنْ فيه معنَى المدحِ، وقيل: كانَتِ اليَهُود تُنسَبُ إلى يَهوذا بنِ يَعقوبَ، فسُمُّوا اليَهوذَ، وعُربتْ بالدَّالِ، ويُقالُ: هادَوا: تهَوَّدوا، أي: صاروا يهودًا، وهادَ فُلانٌ: إذا تحرَّى طَريقةَ اليَهودِ في الدِّينِ [79] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 495)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/17)، ((المفردات)) للراغب (1/847)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبينًا بعضَ رذائلِ اليهودِ: مَثَلُ عُلَماءِ اليَهودِ الَّذين كلَّفَهم اللهُ العَمَلَ بالتَّوراةِ، ثمَّ لم يَعمَلوا بها كمَثَلِ الحِمارِ الَّذي يَحمِلُ على ظَهْرِه كُتُبًا لا يَعقِلُ ما فيها، بِئسَ مَثَلًا هذا المَثَلُ المَضروبُ للقَومِ الَّذين كَذَّبوا بآياتِ اللهِ، واللهُ لا يَهْدي القَومَ الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والتَّكذيبِ.
ثمَّ يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يرُدَّ على مَزاعِمِ اليهودِ الباطِلةِ، وأنْ يتحدَّاهم، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك اليَهودِ: يا أيُّها اليَهودُ، إنْ كُنتُم صادِقينَ في زَعْمِكم أنَّكم أحبابُ اللهِ مِن دُونِ النَّاسِ فتَمَنَّوُا الموتَ؛ لِتَستريحوا مِن تَعَبِ الدُّنيا، وتَنتَقِلوا إلى الجنَّةِ ونَعيمِها!
ولا يَتمَنَّى اليهودُ الموتَ أبَدًا؛ بما قدَّمَتْه أيديهم في الدُّنيا مِن الكُفرِ والتَّكذيبِ، واللهُ عَليمٌ بالظَّالِمينَ.
 ثمَّ يأمرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بأن يُخبِرَهم بأنَّهم لا مفَرَّ لهم مِن الموتِ، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك اليَهودِ: إنَّ الموتَ الَّذي تَهرُبونَ منه فإنَّه مُدرِكُكم لا مَحالةَ، ثمَّ تُرجَعونَ بعْدَ مَوتِكم إلى اللهِ عالِمِ ما غاب عن خَلْقِه، وما هو مُشاهَدٌ لهم، فيُخبِرُكم بما كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا، ويُجازيكم عليه.

تفسير الآيات:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى مِنَّتَه على هذه الأُمَّةِ الَّذين ابتُعِثَ فيهم النَّبيُّ الأُمِّيُّ، وما خَصَّهم اللهُ به مِن المزايا والمَناقِبِ الَّتي لا يَلحَقُهم فيها أحَدٌ، وهم الأُمَّةُ الأُمِّيَّةُ الَّذين فاقُوا الأوَّلِينَ والآخِرِينَ. حتَّى أهلُ الكِتابِ الَّذين يَزعُمونَ أنَّهم العُلَماءُ الرَّبَّانيُّونَ والأحبارُ المتقَدِّمونَ: ذكَرَ أنَّ الَّذين حَمَّلَهم اللهُ التَّوراةَ مِنَ اليَهودِ وكذا النَّصارى، وأمَرَهم أن يَتعَلَّموها ويَعمَلوا بما فيها، وأنَّهم لم يَحْمِلوها ولم يَقوموا بما حُمِّلوا به: أنَّهم لا فضيلَة لهم، وأنَّ مَثَلَهم كمَثَلِ الحِمارِ الَّذي يَحمِلُ فَوقَ ظَهْرِه أسفارًا مِن كُتُبِ العِلمِ، فهل يَستفيدُ ذلك الحِمارُ مِن تلك الكُتُبِ الَّتي فوقَ ظَهْرِه؟! وهل يَلحَقُ به فضيلةٌ بسَبَبِ ذلك؟! أو حَظُّه منها حَمْلُها فقط؟ فهذا مَثَلُ عُلَماءِ اليَهودِ الَّذين لم يَعمَلوا بما في التَّوراةِ؛ الَّذي مِن أجَلِّه وأعظَمِه الأمرُ باتِّباعِ محمَّدٍ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- والبِشارةُ به، والإيمانُ بما جاء به مِنَ القُرآنِ [80] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 862). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أثبَتَ التَّوحيدَ والنُّبُوَّةَ، وبيَّنَ في النُّبوَّةِ أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بُعِث إلى الأُمِّيِّينَ، واليَهودُ لَمَّا أوردوا تلك الشُّبهةَ -وهي أنَّه عليه الصَّلاةُ السَّلامُ بُعِثَ إلى العَرَبِ خاصَّةً، ولم يُبعَثْ إليهم، بمفهومِ الآيةِ- أتْبَعَه اللهُ تعالى بضَربِ المثَلِ للَّذين أعرَضُوا عن العَمَلِ بالتَّوراةِ، والإيمانِ بالنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والمقصودُ منه أنَّهم لَمَّا لم يَعمَلوا بما في التَّوراةِ شُبِّهوا بالحِمارِ؛ لأنَّهم لو عَمِلوا بمُقْتَضاها لَانتَفَعوا بها، ولم يُورِدوا تلك الشُّبهةَ؛ وذلك لأنَّ فيها نَعْتَ الرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، والبِشارةَ بمَقْدَمِه، والدُّخولَ في دِينِه [81] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/539). .
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا.
أي: مَثَلُ عُلَماءِ اليَهودِ الَّذين كلَّفَهم اللهُ تعالى العَمَلَ بالتَّوراةِ، ثمَّ لم يَعمَلوا بها، وكَذَّبوا بمُحَمَّدٍ الَّذي أُمِروا في التَّوراةِ بالإيمانِ به واتِّباعِه: كمَثَلِ الحِمارِ الَّذي يَحمِلُ على ظَهْرِه كُتُبًا لا يَعقِلُ ما فيها، ولا ينتَفِعُ بما تَحْويه [82] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/633)، ((الوسيط)) للواحدي (4/295)، ((تفسير ابن عطية)) (5/307)، ((تفسير ابن كثير)) (8/117)، ((تفسير السعدي)) (ص: 862)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/213). !
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ.
أي: بِئسَ هذا المَثَلُ المَضروبُ للقَومِ الَّذين كَذَّبوا بآياتِ اللهِ الدَّالَّةِ على صِدقِ رُسُلِه، وما جاؤُوا به مِنَ الحَقِّ؛ فأولئك الأحبارُ مِن اليَهودِ قد ضَمُّوا إلى جَهْلِهم بمعاني التَّوراةِ تَكذيبَهم بالقُرآنِ [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/635)، ((تفسير الشوكاني)) (5/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/214). !
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
أي: واللهُ لا يُوَفِّقُ لاتِّباعِ الحَقِّ القَومَ الَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ بآياتِه، وتكذيبِ رُسُلِه، وأصَرُّوا على إنكارِ الحَقِّ مع وُضوحِه [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/635)، ((تفسير الشوكاني)) (5/269)، ((تفسير الألوسي)) (14/290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). .
كما قال تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27] .
وقال سُبحانَه: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 86] .
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى أعقَبَ تمثيلَ حالِ جَهْلِهم بالتَّوراةِ بذِكرِ زَعمٍ مِن آثارِ جَهْلِهم بها؛ إبطالًا لِمَفخرةٍ مَزعومةٍ عِندَهم؛ أنَّهم أولياءُ اللهِ، وبَقيَّةُ النَّاسِ لَيسُوا مِثْلَهم! وذلك أصلٌ كانوا يَجعَلونَه حُجَّةً على أنَّ شُؤونَهم أفضَلُ مِن شُؤونِ غَيرِهم [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/215). .
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك اليَهودِ: يا مَن تَدَيَّنوا باليَهوديَّةِ، إنْ كُنتُم صادِقينَ في زَعْمِكم أنَّكم أحبابُ اللهِ مِن دُونِ النَّاسِ، فإنَّ اللهَ يُكرِمُ أحبابَه ولا يُعَذِّبُهم، فتَمَنَّوُا الموتَ لِتَستريحوا مِن تَعَبِ الدُّنيا وهمومِها، وتَنتَقِلوا إلى الجِنانِ ونَعيمِها [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/635)، ((تفسير القرطبي)) (18/96)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/57، 58)، ((تفسير الألوسي)) (14/290، 291). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والبِقاعي، والألوسي. يُنظر: المصادر السَّابقة. قال الشنقيطي كما في ((تتمة أضواء البيان)) (8/120): (لا يَتَمنَّونَه لشِدَّةِ حِرصِهم على الحياةِ، كما بيَّنه تعالى بقولِه: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة: 96] ، فشِدَّةُ حرصِهم على الحياةِ؛ لِعِلْمِهم أنَّهم إذا ماتوا دخلوا النَّارَ، ولو تَمَنَّوْا لَماتوا مِن حِينِهم). وقال السعدي: (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وهذا أمرٌ خفيفٌ؛ فإنَّهم لو عَلِموا أنَّهم على حقٍّ لَما توَقَّفوا عن هذا التَّحدِّي الَّذي جعله اللهُ دليلًا على صِدقِهم إن تَمَنَّوْه، وكَذِبِهم إن لم يَتمَنَّوْه، ولَمَّا لم يقَعْ منهم مع الإعلانِ لهم بذلك، عُلِم أنَّهم عالِمون ببُطلانِ ما هم عليه وفَسادِه). ((تفسير السعدي)) (ص: 863). وقيل: المرادُ: إنْ كُنتُم تَزعُمونَ أنَّكم على هُدًى، وأنَّ مُحمَّدًا وأصحابَه على ضَلالةٍ؛ فادْعُوا بالموتِ على الضَّالِّ مِن الفِئتَينِ إن كنتم صادِقينَ فيما تَزعُمونَه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/118). وقال ابن كثير عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [البقرة: 94، 95]: (ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى في سورةِ الجُمُعةِ: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، فهم -عليهم لعائنُ الله- لَمَّا زعَموا أنَّهم أبناءُ الله وأحِبَّاؤُه، وقالوا: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا مَن كان هُودًا أو نَصارى، دُعُوا إلى المُباهَلةِ والدُّعاءِ على أكذَبِ الطَّائفتَينِ منهم، أو مِن المسلمينَ. فلمَّا نَكَلوا عن ذلك عَلِمَ كلُّ أحدٍ أنَّهم ظالِمون؛ لأنَّهم لو كانوا جازمينَ بما هم فيه لَكانوا أقْدَموا على ذلك، فلمَّا تأخَّروا عُلِم كَذِبُهم. وهذا كما دعا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ وَفْدَ نَجْرانَ مِن النَّصارى بعدَ قيامِ الحُجَّةِ عليهم في المُناظَرةِ، وعُتُوِّهم وعنادهم إلى المباهلة). ((تفسير ابن كثير)) (1/332). وذكَر أنَّ المرادَ الدُّعاءُ على أيِّ الفريقَينِ أكذَبُ منهم أو مِن المسلمينَ على وجْهِ المُباهَلةِ، وأنَّ هذا هو الَّذي فسَّر به ابنُ عبَّاسٍ الآيةَ، وأنَّه ثبَت عنه بأسانيدَ صحيحةٍ. يُنظر: ((المصدر السابق)) (1/331، 332). وقال ابن عثيمين في آيةِ البقرة: (ذهب بعضُ العلماءِ إلى أنَّ المرادَ بقولِه تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: 94] أي: فباهِلونا، وتمَنَّوُا الموتَ لِمَن هو كاذبٌ مِنَّا؛ فتكونُ هذه مِثلَ قولِه تعالى في سورةِ آلِ عِمْرانَ: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ [آل عمران: 61] ؛ فيكونُ المعنى: تمَنَّوُا الموتَ عن طريقِ المُباهَلةِ؛ ورجَّح هذا ابنُ كثير؛ وضعَّف الأوَّلَ بأنَّه لو كان المرادُ: تمَنَّوْا حُصولَ الموتِ لَكانوا يَحتَجُّون أيضًا علينا نحن، ويَقولونَ: أنتم أيضًا إن كنتم تَقولون: إنَّ الدَّارَ الآخرةَ لكم فتمَنَّوُا الموتَ؛ لأنَّ تَحَدِّيَكم إيَّانا بذلك ليس بأَولى مِن تحَدِّينا إيَّاكم به؛ لأنَّكم أنتم أيضًا تقولون: إنَّ الدَّارَ الآخرةَ لكم، وأنَّ اليهودَ بعدَ بَعثةِ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ في النَّارِ؛ فتمَنَّوُا الموتَ أنتم أيضًا، والجوابُ عن ذلك: أنَّا لم نَدَّعِ أنَّ الدَّارَ الآخرةَ خالِصةٌ لنا مِن دونِ النَّاسِ؛ بل نؤمِنُ بأنَّ الدَّارَ الآخرةَ لكلِّ مَن آمَنَ وعَمِل صالحًا، سواءٌ كان مِن هذه الأمَّةِ أم مِن غيرِها؛ وهذا المعنى الَّذي نحا إليه ابنُ كثير رحمه الله مخالِفٌ لظاهرِ السِّياقِ؛ فلا يُعوَّلُ عليه؛ وقد عرَفْتَ الانفِكاكَ منه). ((تفسير ابن عثيمين: الفاتحة والبقرة)) (1/308). !
كما قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [المائدة: 18] .
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7).
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ.
أي: ولا يَتمَنَّى اليهودُ الموتَ أبَدًا؛ بسَبَبِ ما قدَّمَتْه أيديهم في الدُّنيا مِن الكُفرِ والتَّكذيبِ، وتحريفِ الحَقِّ، واقترافِ المعاصي [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/635)، ((تفسير القرطبي)) (18/96)، ((تفسير ابن كثير)) (8/118)، ((تفسير الشوكاني)) (5/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). قال الزَّجَّاج: (أعلَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّهم لا يتمَنَّونَه؛ لأنَّهم قد عَلِموا أنَّ النَّبيَّ عليه السَّلامُ حَقٌّ، وأنَّهم إن تمَنَّوه ماتوا؛ فلم يتمَنَّوه). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/170). .
كما قال الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [البقرة: 94 - 96] .
وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
أي: واللهُ ذو عِلمٍ بالِغٍ تامٍّ بمَن يَظلِمُ نَفْسَه بالكُفرِ والمعاصي مِنَ اليَهودِ وغَيرِهم، لا يَخفى عليه شَيءٌ مِن أَمْرِهم، وسيُجازيهم على أعمالِهم [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/635)، ((تفسير البيضاوي)) (5/212)، ((تفسير الشوكاني)) (5/269)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/218). .
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا كان عَدَمُ تَمَنِّيهم عَلَمًا مِن أعلامِ نبُوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِمُوافَقتِه ما أخبَرَ به، وكان ذلك فِعلَ مَن يَعتَقِدُ أنَّ التَّمنِّيَ يُقَدِّمُه عن أجَلِه، وعَدَمَه يُؤَخِّرُه؛ فصاروا بيْنَ التَّكذيبِ بما عِندَهم ونهايةِ البَلادةِ- أمَرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَنبيهِهم على بَلادتِهم؛ تَبكيتًا لهم، فقال [89] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/6). :
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ.
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك اليَهودِ: إنَّ الموتَ الَّذي تَهرُبونَ منه فتَكرَهونَه وتَأبَونَ تَمنِّيَه: لا بدَّ أن يُدرِكَكم ويَنزِلَ بكم [90] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/636)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/60، 61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). قال الواحدي: (اليهودُ عَلِموا أنَّهم أفسَدوا على أنفُسِهم أمرَ الآخرةِ بتَكذيبِهم مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكانوا يَكرَهونَ الموتَ أشَدَّ الكراهةِ، فقال اللهُ تعالى لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: قُلْ لهم: إنَّكم وإن فرَرْتُم مِن الموتِ وكَرِهتُموه، فإنَّه لا بُدَّ يَنزِلُ بكم ويَلْقاكم). ((الوسيط)) (4/296). .
كما قال الله تبارك وتعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] .
وقال سُبحانَه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [العنكبوت: 57] .
ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.
أي: ثمَّ تُرجَعونَ -أيُّها اليَهودُ- بعدَ مَوتِكم إلى اللهِ الَّذي يَعلَمُ كُلَّ شَيءٍ، سَواءٌ ما غاب عن خَلْقِه، أو ما هو مُشاهَدٌ لهم، لا يخفَى عليه سُبحانَه شَيءٌ مِن أعمالِكم [91] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/636)، ((تفسير السمعاني)) (5/434)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). .
قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62] .
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
أي: فيُخبِرُكم اللهُ بما كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا، ويُجازيكم عليه [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/636)، ((تفسير ابن عطية)) (5/308)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/61، 62)، ((تفسير السعدي)) (ص: 863). .
قال تعالى: ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الزمر: 7] .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا قاسَ مَن حَمَّله سُبحانَه كِتابَه؛ لِيُؤمِنَ به ويتدَبَّرَه ويَعمَلَ به ويَدعوَ إليه، ثمَّ خالف ذلك ولم يَحمِلْه إلَّا على ظَهرِ قَلبٍ؛ فقِراءتُه بغيرِ تدَبُّرٍ ولا تفَهُّمٍ ولا اتِّباعٍ ولا تحكيمٍ له وعَمَلٍ بمُوجَبِه: كحِمارٍ على ظَهرِه زامِلةُ أسفارٍ لا يدري ما فيها، وحَظُّه منها حَمْلُها على ظَهرِه ليس إلَّا! فحَظُّه مِن كتابِ اللهِ كحَظِّ هذا الحِمارِ مِن الكُتبِ الَّتي على ظَهْرِه؛ فهذا المَثَلُ وإن كان قد ضُرِبَ لليَهودِ فهو مُتناوِلٌ مِن حيث المعنى لِمَن حُمِّلَ القُرآنَ فتَرَك العَمَلَ به، ولم يؤَدِّ حَقَّه، ولم يَرْعَه حقَّ رعايتِه [93] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/127). ! ففي هذا تنبيهٌ مِنَ الله تعالى لِمَن حُمِّلَ الكِتابَ أن يَتعلَّمَ مَعانيَه، ويَعلَمَ ما فيه، ويَعمَلَ به؛ لئلَّا يَلحَقَه مِنَ الذَّمِّ ما لَحِقَ هؤلاء [94] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (18/94)، ((تفسير ابن عادل)) (19/74). .
2- في قَولِه تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا أنَّ الإنسانَ لا ينبغي أنْ يَتَشَبَّهَ بالحيوانِ؛ فإنَّ اللهَ لم يَذْكُرْ تشبيهَ الإنسانِ بالحيوانِ إلَّا في مقامِ الذَّمِّ [95] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (3/231). .
3- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ التَّحذيرُ مِن الظُّلمِ، وأنَّه كُلَّما كان الإنسانُ أظْلَمَ كان عن الهدايةِ أبْعَدَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى عَلَّقَ نفْيَ الهدايةِ بالظُّلمِ، وتعليقُ الحُكْمِ بالظُّلمِ يدُلُّ على عِلِّيَّتِه، وكُلَّما قَوِيتِ العلَّةُ قَوِيَ الحُكْمُ المُعَلَّقُ عليها [96] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/285). .
4- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنَّ مَن أخَذ بالعَدلِ كان حَرِيًّا بالهدايةِ؛ لمفهومِ المخالفةِ في الآيةِ، فإذا كان الظَّالمُ لا يَهديه اللهُ، فصاحِبُ العدلِ حَرِيٌّ بأنْ يَهديَه اللهُ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ الإنسانَ الَّذي يريدُ الحقَّ ويَتَّبِعُ الحقَّ -والحقُّ هو العدلُ- غالبًا يُهْدَى ويُوَفَّقُ للهدايةِ؛ ولهذا قال ابنُ تيميةَ: (مَن تَدَبَّرَ القرآنَ طالبًا الهدى منه تَبَيَّنَ له طريقُ الحقِّ) [97] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) لابن تيمية (ص: 10). ، وهذه كَلِمةٌ مأخوذةٌ مِن القُرآنِ مَنطوقًا ومَفهومًا [98] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/286). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا فيه سؤالٌ: ما الحِكمةُ في تعيينِ الحِمارِ مِن بَينِ سائِرِ الحيواناتِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ اللهَ تعالى خَلَق الخَيلَ والبِغالَ والحَميرَ للرُّكوبِ والزِّينةِ، والزِّينةُ في الخَيلِ أكثَرُ وأظهَرُ بالنِّسبةِ إلى الرُّكوبِ، وحَملِ الشَّيءِ عليه، وفي البِغالِ دونَ الخَيلِ، وفي الحِمارِ دونَ البِغالِ؛ فالبِغالُ كالمتوسِّطِ في المعاني الثَّلاثةِ، وحينَئذٍ يلزَمُ أن يكونَ الحِمارُ في معنى الحَملِ أظهَرُ وأغلَبُ بالنِّسبةِ إلى الخَيلِ والبِغالِ وغَيرِهما من الحيواناتِ.
الوجهُ الثَّاني: أنَّ هذا التَّمثيلَ لإظهارِ الجَهلِ والبَلادةِ، وذلك في الحِمارِ أظهَرُ.
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ في الحِمارِ مِن الذُّلِّ والحَقارةِ ما ليس في غيرِه مِن الحيواناتِ، والغَرَضُ مِن الكلامِ في هذا المقامِ تعييرُ القَومِ بذلك وتحقيرُهم، فيكونُ تعيينُ الحِمارِ أليقَ وأَولى.
الوجهُ الرَّابعُ: أنَّ حَملَ الأسفارِ على الحِمارِ أتَمُّ وأعَمُّ وأسهَلُ وأسلَمُ؛ لِكَونِه ذَلُولًا سَلِسَ القِيادِ، لَيِّنَ الانقيادِ، يتصَرَّفُ فيه الصَّبيُّ الغَبيُّ مِن غَيرِ كُلْفةٍ ومَشَقَّةٍ، وهذا مِن جُملةِ ما يُوجِبُ حُسنَ الذِّكرِ بالنِّسبةِ إلى غيرِه.
الوجهُ الخامِسُ: أنَّ رعايةَ الألفاظِ والمناسَبةَ بيْنَها مِنَ اللَّوازمِ في الكَلامِ، وبيْنَ لَفظَيِ الأسفارِ والحِمارِ مُناسَبةٌ لَفظيَّةٌ لا تُوجَدُ في الغيرِ مِن الحيواناتِ؛ فيَكونُ ذِكرُه أَولى [99] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/540). .
2- قَولُه تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا أنَّ مِن جَهْلِ اليهودِ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى شَبَّهَهم في حَمْلِهم التَّوراةَ، وعدَمِ الفِقهِ فيها والعَمَلِ بها: بالحِمارِ يَحمِلُ أسفارًا، وفي هذا التَّشبيهِ مِن النِّداءِ على جَهالتِهم وُجوهٌ متعدِّدةٌ:
منها: أنَّ الحِمارَ مِن أَبْلَدِ الحيواناتِ الَّتي يُضرَبُ بها المَثَلُ في البَلادةِ.
ومنها: أنَّه لو حُمِّلَ غيرَ الأسفارِ مِن طعامٍ أو عَلَفٍ أو ماءٍ لَكان له به شُعورٌ، بخِلافِ الأسفارِ.
ومنها: أنَّهم حُمِّلُوها لا أنَّهم حَمَلُوها طَوعًا واختيارًا، بل كانوا كالمكلَّفِينَ لَمَّا حُمِّلُوه، فلَمْ يَرفعوا به رأسًا!
ومنها: أنَّهم حيثُ حُمِّلُوها تكليفًا وقَهرًا لم يَرضَوا بها، ولم يَحْمِلوها رِضاءً واختيارًا، وقد عَلِموا أنَّهم لا بُدَّ لهم منها، وأنَّهم إنْ حَمَلُوها اختيارًا كانت لهم العاقِبةُ في الدُّنيا والآخِرةِ.
ومنها: أنَّها مُشتَمِلةٌ على مصالحِ معاشِهم ومَعادِهم، وسَعادتِهم في الدُّنيا والآخرةِ؛ فإعراضُهم عن التزامِ ما فيه سَعادتُهم وفلاحُهم إلى ضِدِّه هو مِن غايةِ الجَهلِ والغَباوةِ وعَدمِ الفَطانةِ [100] يُنظر: ((هداية الحيارى)) لابن القيم (2/590). !
3- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنَّ مَن أَضَلَّه اللهُ فإنَّما ذلك لظُلمٍ منه، وأمَّا مَن طَلَبوا الحقَّ وتَحَرَّوه وتشَوَّفوا له فإنَّهم جَديرونَ بالهِدايةِ [101] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/517). . فاللهُ سبحانَه لا يَمْنَعُ فَضْلَه عن أحدٍ إلَّا إذا كان هذا الممنوعُ هو السَّبَبَ؛ فلِظُلْمِهم لم يَهْدِهم اللهُ، وهذا كقَولِه تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [102] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (3/285). [الصف: 5] .
4- في قَولِه تعالى: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ -المُنْكِرينَ أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيَدِ اللهِ-؛ إذْ لو كان كلُّ مَبعوثٍ إليه رَسولًا وكلُّ مَدلولٍ على طريقِ الهدايةِ: يَقدِرُ بنَفْسِه أنْ يَهتديَ مِن غيرِ أنْ يَهديَه اللهُ- ما كان في ذلك فائدةٌ، ولا كان ذلك عليهم عُقوبةً، وهذا لا محالةَ إخبارٌ عن قومٍ حُمِّلُوا التَّوراةَ وبُعِثَ إليهم [103] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/297). .
5- في قَولِه تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا الإخبارُ عن المُستَقبَلاتِ -وهو شَيءٌ كثيرٌ في القرآنِ-، فأَخبرَ سُبحانَه عنِ اليهودِ أنَّهم لن يتمَنَّوُا الموتَ أبدًا، وكان كما أخبَرَ، فلا يتمَنَّى اليهودُ الموتَ أبدًا، وهذا دليلٌ مِن وجهينِ: مِن جِهةِ إخبارِه بأنَّه لا يكونُ أبدًا، ومِن جِهةِ صَرْفِ اللهِ لدواعي اليَهودِ عن تمنِّي الموتِ، مع أنَّ ذلك مَقدورٌ لهم، وهذا مِن أَعْجَبِ الأمورِ الخارقةِ للعادةِ، وهم مع حِرْصِهم على تكذيبِه لم تَنْبَعِثْ دواعيهم لإظهارِ تَكذيبِه بإظهارِ تمنِّي الموتِ [104] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/76). ! وهذا عَلَمٌ مِن أعلامِ نُبُوَّتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إِذْ لا يمكنُ الاطِّلاعُ على بواطنِهم إلَّا بأخبارِ الغَيبِ، ولم يُنْطِقِ اللهُ ألسنتَهم بتمَنِّيه أبدًا [105] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/264). .
6- قَولُه تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ اسْتدلَّ به مَن جوَّز الدُّعاءَ بالموتِ وتمنِّيَه، فمَن كانَ له عملٌ صَالحٌ فإنَّه يتَمَنَّى القدومَ عليه، وكذلك مَن غلَب عليه الشَّوقُ الى لقاءِ الله، وأمَّا مَن تمنَّى الموتَ خوفَ فتنتِه في الدِّينِ فإنَّه يجوزُ بغيرِ خلافٍ [106] ينظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/112). قال ابن رجب: (تمنِّي الموتِ يقعُ على وجوهٍ: منها: تمنِّيه لضُرٍّ دنيويٍّ ينزِلُ بالعبدِ، فيُنهَى حينئذٍ عن تمنِّي الموتِ. ومنها: تمنِّيه خوفَ الفتنةِ في الدِّينِ فيجوزُ حينئذٍ. ومنها: تمنِّي الموتِ عندَ حضورِ أسبابِ الشَّهادةِ اغتِنامًا لحضورِها، فيجوزُ ذلك أيضًا. ومنها: تمنِّي الموتِ لمَن وثِق بعملِه؛ شوقًا إلى لقاءِ الله عزَّ وجلَّ فهذا يجوزُ أيضًا. ومنها: تمنِّي الموتِ على غيرِ الوجوهِ المتقدِّمةِ، فقد اختَلف العلماءُ في كراهيتِه واستحبابِه، وقد رخَّص فيه جماعةٌ مِن السَّلفِ، وكرِهه آخرونَ). ((لطائف المعارف)) (ص: 295) بتصرف. .
7- في قَولِه تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ لم يَقُلْ سُبحانَه: «فإنَّه يُدرِكُكم»، وما ظَنُّك بشَيءٍ تَفِرُّ منه وهو يُلاقيك؟! إنَّ فِرارَك منه يعني دُنُوَّك منه في الواقِعِ، فلو كنتَ فارًّا مِن شيءٍ وهو يُقابِلُك، فكلمَّا أسرعتَ في الجريِ أسرَعتَ في مُلاقاتِه؛ ولهذا قال: فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [107] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: الحجرات - الحديد)) (ص: 95). !
8- قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ استَشْعَرَ غَيرُ واحِدٍ مِنَ الآيةِ ذَمَّ الفِرارِ مِنَ الطَّاعونِ [108] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (14/292). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
- قولُه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لضربِ المثَلِ لليهودِ عِندَما ترَكوا العملَ بالتَّوراةِ ولم يُؤمِنوا بمُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم [109] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/90). .
- قولُه: ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا حرفُ ثُمَّ للتَّراخي الرُّتْبي؛ فإنَّ عدَمَ وفائِهم بما عُهِدَ إليهم أعجَبُ مِن تحمُّلِهم إيَّاه [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/214). .
- قولُه: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا فيه تشبيهٌ تمثيليٌّ؛ فقَدْ شبَّهَ اليهودَ بالحِمارِ الَّذي يَحمِلُ الكُتُبَ ولا يَدْري ما فيها، ووجْهُ الشَّبَهِ عدَمُ الانتفاعِ بما هو حاصلٌ وكائنٌ، فالحِمارُ يمشي في طريقِه وهو لا يُحِسُّ بشيءٍ ممَّا يَحمِلُه على ظَهرِه إلَّا بالكَدِّ والتَّعبِ، وكذلك اليهودُ قَرَؤوا التَّوراةَ وحَفِظوها، ولم يَنتفِعوا بها، ومِن ذلك أنَّهم أشاحوا عمَّا انطَوَتْ عليه مِن دلائلَ وإرهاصاتٍ على نبوَّةِ مُحمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم [111] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/530)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/213، 214)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/91). .
- وهذا التَّمثيلُ مَقصودٌ مِنه تشنيعُ حالِهِم؛ ولذلك ذُيِّلَ بذَمِّ حالِهِم: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ [112] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/214). .
- قولُه: مَثَلُ الْقَوْمِ فاعِلُ بِئْسَ، وأغنى هذا الفاعلُ عن ذِكْرِ المخصوصِ بالذَّمِّ؛ لحُصولِ العِلمِ بأنَّ المذمومَ هو حالُ القومِ المُكذِّبينَ، فلَمْ يُسْلَكْ في هذا التَّركيبِ طريقُ الإبهامِ على شرطِ التَّفسيرِ؛ لأنَّه قد سبَقَه ما بَيَّنَه بالمَثَلِ المذكورِ قَبْلَه في قولِه: كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا، فصارَ إعادةُ لَفظِ المثَلِ ثَقيلًا في الكلامِ أكثَرَ مِن ثلاثِ مرَّاتٍ، وهذا مِن تفنُّناتِ القُرآنِ [113] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/211)، ((تفسير أبي حيان)) (10/173)، ((تفسير أبي السعود)) (8/248)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/214)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/90). .
- وجُملةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذييلٌ؛ إخبارًا عنهم بأنَّ سوءَ حالِهم لا يُرْجى لهم منه انفكاكٌ؛ لأنَّ اللهَ حرَمَهم اللُّطفَ والعِنايةَ بإنقاذِهم لِظُلمِهم بالاعتداءِ على الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّكذيبِ دونَ نظَرٍ، وعلى آياتِ اللهِ بالجَحْدِ دونَ تدبُّرٍ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/214، 215). .
2- قولُه تعالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
- افتُتِحَ الكلامُ بفِعلِ قُلْ؛ للاهتِمامِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/215). .
- ولم يُضِفْ أَوْلِيَاءُ إلى الله، كما أضافَ في قولِه: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] ؛ ليُؤْذِنَ بالفَرقِ بيْنَ مَن يَدَّعي أنَّه مِن أولياءِ اللهِ، وبيْنَ مَن يخُصُّه اللهُ بالولايةِ [116] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/407). .
- والأمرُ في قولِه: فَتَمَنَّوُا مُستعمَلٌ في التَّعجيزِ؛ كِنايةً عن التَّكذيبِ [117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/216). .
- قولُه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ جوابُه مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ ما قَبْلَه عليه، أي: إنْ كنتُمْ صادِقينَ في زَعْمِكم واثِقينَ بأنَّه حقٌّ؛ فتَمَنَّوُا الموتَ؛ فإنَّ مَنْ أيقَنَ بأنَّه مِن أهلِ الجنَّةِ أحَبَّ أنْ يَتخلَّصَ إليها مِن هذه الدَّارِ الَّتي هي قَرارةُ الأكدارِ [118] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/248)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/92). .
- قولُه: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ جِيءَ بـ (إن) الشَّرطيَّةِ الَّتي الأصلُ فيها عدَمُ الجزمِ بوُقوعِ الشَّرطِ مع أنَّ الشَّرطَ هُنا مُحقَّقُ الوُقوعِ -إذْ قدِ اشْتُهِروا بهذا الزَّعمِ-؛ للإشارةِ إلى أنَّ زعْمَهم هذا لَمَّا كان باطلًا بالدَّلائلِ كان بمَنزِلةِ الشَّيءِ الَّذي يُفرَضُ وُقوعُه كما يُفرَضُ المُستبعَدُ وكأنَّه ليس واقعًا، ويُفيدُ ذلك تَوبيخًا بطريقِ الكِنايةِ، وهذا إلجاءٌ لهم حتَّى يَلْزَمَهم ثُبوتُ شكِّهِم فيما زعَموه [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/215، 216). .
- ووَجْهُ الملازمةِ بيْنَ الشَّرطِ وجوابِه أنَّ الموتَ رُجوعُ الإنسانِ برُوحِه إلى حياةٍ أبَديَّةٍ تَظهَرُ فيها آثارُ رِضا اللهِ عن العبدِ أو غضَبِه لِيَجزيَه على حسَبِ فِعلِه، والنَّتيجةُ الحاصلةُ مِن هذا الشَّرطِ تُحصِّلُ أنَّهم مِثلُ جميعِ النَّاسِ في الحياتَينِ الدُّنيا والآخِرةِ وآثارِهما، واختلافِ أحوالِ أهلِهما، فيُعلَمُ مِن ذلك أنَّهم ليسوا أفضَلَ مِنَ النَّاسِ، وبهذا يَندفِعُ ما قد يَعرِضُ للنَّاظِرِ في هذه الآيةِ مِنَ المعارضةِ بيْنَها وبيْنَ ما جاء في الأخبارِ الصَّحيحةِ مِنَ النَّهيِ عن تَمنِّي الموتِ [120] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/216). .
3- قولُه تعالَى: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ اعتِراضٌ بيْنَ جملتَيِ القولَينِ قُصِدَ به تحدِّيهم لإقامةِ الحُجَّةِ عليهم أنَّهم ليسوا أولياءَ للهِ، وليس المقصودُ مِن هذا مَعذرةً لهم مِن عدَمِ تمنِّيهم الموتَ، وإنَّما المقصودُ زيادةُ الكَشفِ عن بُطلانِ قولِهم: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، وإثباتُ أنَّهم في شكٍّ مِن ذلك [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/217). .
- قولُه: وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ جاء التَّعبيرُ هنا بحرفِ النَّفيِ (لا)، بيْنَما في سورةِ (البقرةِ) جاء التَّعبيرُ بحرفِ النَّفيِ (لن) في قولِه: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا [البقرة: 95] ، وهذا مِن المُناسَباتِ اللَّطيفةِ، ومِن مَحاسِنِ المعاني؛ لأنَّهم في سورةِ (البقرةِ) ادَّعَوْا أنَّ الدَّارَ الآخرةَ خالِصةٌ لهم مِن دونَ النَّاسِ، وهنا في سورةِ (الجمعةِ) ادَّعَوْا أنَّهم أولياءُ لله تعالى مِن دونِ النَّاسِ، والدَّعوى الأُولى أعظَمُ مِن الثَّانيةِ، لأنَّ السَّعادةَ القصوى فوقَ مرتبةِ الولايةِ؛ لأنَّ الثَّانيةَ تُرادُ لحصولِ الأُولى، فبيَّن سبحانَه فسادَ قولِهم بلفظِ: (لن)؛ لأنَّه أقوى الألفاظِ النَّافيةِ، واكتفَى في إبطالِ الثَّانيةِ بلفظِ (لا)؛ لأنَّه ليس في نهايةِ القوَّةِ في إفادةِ معنَى النَّفيِ [122] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (3/608)، ((تفسير أبي حيان)) (1/499)، ((تفسير القاسمي)) (1/354). .
وأيضًا لأنَّ آيةَ (البقرةِ) ورَدتْ بعدَ ما تقدَّم منهم مِن الكفرِ والعصيانِ وقتْلِ الأنبياءِ، فناسَب حرفُ المبالَغةِ فى النَّفىِ لتَمنِّيهم الموتَ؛ لِمَا يَعلمونَ ما لَهم بعْدَه مِن العذابِ [123] يُنظر: ((كشف المعانى)) لابن جَمَاعة (ص: 103). .
وأيضًا في (البقرةِ) لَمَّا كان الشَّرطُ في المغفرةِ مُستقبَلًا، وهو قولُه: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً جاء جوابُه بـ (لن) الَّتي تخصُّ الاستِقبالَ، ولَمَّا كان الشَّرطُ في (الجمعةِ) حالًّا، وهو قولُه: إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ جاء جوابُه بـ (لا) الَّتي تدخلُ على الحالِ، أو تدخلُ على المُستقبَلِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (1/91). ويُنظر أيضًا: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (1/47). .
- والباءُ في قولِه تعالَى: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سَببيَّةٌ مُتعلِّقةٌ بفِعلِ يَتَمَنَّوْنَهُ المَنفيِّ، فما قدَّمَتْ أيديهِم هو سبَبُ انتفاءِ تَمنِّيهِمُ الموتَ، ألْقى في نُفوسِهمُ الخَوفَ ممَّا قدَّمَتْ أيديهِم؛ فكان سبَبَ صَرْفِهم عن تَمنِّي الموتِ لتقدُّمِ الحُجَّةِ عليهم [125] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/248)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/217). .
- وفيه نِسبةُ ما قدَّموه مِن المعاصي القَوليَّةِ والفِعليَّةِ والاعتقاديَّةِ إلى الأيدي، على سبيلِ التَّغليب؛ لأنَّ الأيديَ تُزاوِلُ أكثرَ الأعمالِ؛ فكأنَّ كلَّ عمَلٍ واقعٌ بها [126] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/448)، ((تفسير أبي حيَّان)) (3/456). .
- قولُه: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ التَّقديمُ: أصلُه جعْلُ الشَّيءِ مُقدَّمًا، أي: سابقًا غيرَه في مكانٍ يَقْفُوهُ فيه غَيرُه، وهو مُعبَّرٌ به هُنا عمَّا سلَفَ مِنَ العملِ؛ تَشبيهًا له بشَيءٍ يُسَبِّقُه المرءُ إلى مكانٍ قبْلَ وُصولِه إليه [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/218). .
- قولُه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، أي: بهِم، وإيثارُ الإظهارِ على الإضمارِ لذمِّهم، والتَّسجيلِ عليهم بأنَّهم ظالِمونَ في كلِّ ما يأتونَ وما يَذَرونَ مِنَ الأمورِ الَّتي مِن جُملتِها ادِّعاءُ ما هُم عنه بمَعْزِلٍ [128] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/248، 249). .
وقيل: قولُه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، أي: عليمٌ بأحوالِهِم وبأحوالِ أمثالِهم مِنَ الظَّالِمينَ، فشَمِلَ لفظُ الظَّالِمينَ اليهودَ؛ فإنَّهم مِنَ الظَّالِمينَ، والمقصودُ أنَّ إحجامَهم عن تمنِّي الموتِ لِما في نفوسِهم مِن خَوفِ العِقابِ على ما فعَلوه في الدُّنيا، فكُنِّيَ بعِلمِ اللهِ بأحوالِهم عن عدمِ انفلاتِهم مِنَ الجزاءِ عليها؛ ففي هذا وعيدٌ لهم [129] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/218). .
- والجُملةُ تذييلٌ لِمَا قبْلَها مُقرِّرةٌ لمضمونِه، أي: عليمٌ بهم وبما صدَرَ عنهم مِن فُنونِ الظُّلمِ والمعاصي المُفْضِيَةِ إلى أفانينِ العذابِ، وبما سيَكونُ منهم مِنَ الاحتِرازِ عمَّا يؤدِّي إلى ذلك [130] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (849). .
4- قولُه تعالَى: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ
- هو تَصريحٌ بما اقتضاهُ التَّذييلُ مِنَ الوعيدِ وعدمِ الانفلاتِ مِنَ الجزاءِ عن أعمالِهم ولو بعْدَ زمانِ وُقوعِها؛ لأنَّ طولَ الزَّمانِ لا يُؤثِّرُ في عِلمِ اللهِ نسيانًا؛ إذْ هو عالِمُ الغَيبِ والشَّهادةِ [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/218). .
- ووصَفَ الموتَ بقولِه: الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ هلَعَهم مِنَ الموتِ خطأٌ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/218). .
- قوله: فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ أي: لاحِقٌ بكم لا تَفوتونَه البتَّةَ مِن غَيرِ صارِفٍ يَلويهِ، ولا عاطفٍ يَثنيهِ، والفاءُ لتضمُّنِ الاسمِ معنى الشَّرطِ باعتبارِ الوصفِ، وكأنَّ فِرارَهم يُسرِّعُ لُحوقَه بهِم [133] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/212)، ((تفسير أبي السعود)) (8/249). .
- وقال: فَيُنَبِّئُكُمْ؛ لأنَّ النَّبَأَ خبرٌ ذو فائدةٍ عظيمةٍ، ويُطلَقُ على الخبرِ الخطيرِ والأمرِ العظيمِ، فالنَّبأُ أخصُّ مِن الخبرِ، فكلُّ نبأٍ خبرٌ، وليس كلُّ خبرٍ نبأً؛ لأنَّ النَّبأَ لا يُطلَقُ إلَّا على الخبرِ الَّذي له خَطبٌ وشأنٌ [134] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 788)، ((تفسير أبي السعود)) (1/85)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/44). . والإنباءُ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ كِنايةٌ عن الحسابِ عليه، وهو تَعريضٌ بالوعيدِ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/219). .