موسوعة التفسير

سورةُ الواقِعةِ
الآيات (83-96)

ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْحُلْقُومَ: أي: مَجْرى النَّفَسِ، وقيل: مجرَى الطَّعامِ [513] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/143)، ((تفسير ابن عطية)) (5/253)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 408). .
مَدِينِينَ: أي: مَجْزيِّينَ مُحاسَبِينَ. وقيل: مَملوكينَ أذِلَّاءَ؛ مِن قَولِك: دِنْتُ له بالطَّاعةِ، وأصلُ (دين): يدُلُّ على الانقيادِ والذُّلِّ، فالحسابُ والجزاءُ كِلاهما أمرٌ يُنْقادُ له [514] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 452)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 427)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319)، ((المفردات)) للراغب (ص: 323)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 390)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 313)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 876). .
فَرَوْحٌ: أي: راحةٌ واستِراحةٌ وفَرَحٌ، وأصلُ (روح): يدُلُّ على سَعةٍ، وفُسحةٍ، واطِّرادٍ [515] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 452)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 242)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/454)، ((المفردات)) للراغب (ص: 369)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 390)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 313)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .
وَرَيْحَانٌ: أي: رِزقٌ طَيِّبٌ. وقيل: هو النَّبتُ ذو الرَّائِحةِ الجَميلةِ، وأصلُ (روح): يدُلُّ على سَعةٍ، وفُسحةٍ، واطِّرادٍ، وأصلُ ذلك كلِّه الرِّيحُ [516] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 452)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 242)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/454، 464)، ((المفردات)) للراغب (ص: 369)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 390)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 313)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ: أي: دُخولٌ لها، ومُقاساةٌ لحَرِّها، وأصلُ (صلي): يدُلُّ على الإيقادِ بالنَّارِ، والجحيمُ: النَّارُ، وأصْلُ (جحم): عِظَمُ الحرارةِ وشِدَّتُها [517] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((تفسير ابن جرير)) (22/382)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/429) و (3/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ الله تعالى مبيِّنًا حالَ الإنسانِ عندَ الاحتضارِ: فهلَّا إذا بَلَغَت رُوحُ المَيِّتِ حَلْقَه، وأنتم -أيُّها الحاضِرونَ عندَه- تَنظُرونَ إليه وهو في سَكَراتِ المَوتِ، ومَلائِكتُنا المُوكَّلونَ بقَبضِ رُوحِه أقرَبُ إليه منكم، ولكِن لا تَرَونَهم، فهلَّا إنْ كُنتُم -أيُّها المُكَذِّبونَ بالبَعثِ- غَيرَ مملوكينَ، ولا مُحاسَبينَ على أعمالِكم؛ هلَّا تَرجِعونَ رُوحَ المُحتَضَرِ إلى جَسَدِه إنْ كُنتُم صادِقينَ في دَعوى إنكارِ البَعثِ والحِسابِ!
ثمَّ يذكرُ الله تعالى أحوالَ الطَّوائفِ الثَّلاثِ: المقرَّبينَ، وأصحابِ اليمينِ، والمكذِّبينَ الضَّالِّينَ، فيقولُ: فأمَّا إنْ كان المَيِّتُ مِن المُقَرَّبينَ عِندَ اللهِ سُبحانَه تعالى، فله راحةٌ وسُرورٌ ورَحمةٌ، ورِزقٌ طَيِّبٌ وطِيبُ رائِحةٍ، وجَنَّةٌ يَتنَعَّمُ فيها؛ وأمَّا إنْ كان المَيِّتُ مِن أصحابِ اليَمينِ، فيُقالُ له: سَلامٌ لك لأنَّك مِن أصحابِ اليَمينِ؛ وأمَّا إن كان المَيِّتُ مِنَ المُكَذِّبينَ الضَّالِّينَ، فله ضِيافةٌ مِن شَرابٍ شَديدِ الحَرارةِ، ونارٌ يُقاسِي حَرَّها.
إنَّ هذا الجَزاءَ المذكورَ لِمَن تَقَدَّمَ ذِكرُهم لَهُو أمرٌ ثابِتٌ لا شَكَّ في وُقوعِه؛ فنَزِّهْ ربَّك العَظيمَ -يا مُحمَّدُ- عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، قائِلًا: سُبحانَ رَبِّيَ العَظيمِ.

تَفسيرُ الآياتِ:

فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أنكَرَ الله تعالى عليهم، وعَجَّب منهم في أن يَنسُبوا لِغَيرِه فِعلًا، أو يُكَذِّبوا له خبَرًا؛ سَبَّب عن ذلك -تحقيقًا لأنَّه لا فاعِلَ سِواه- قَولَه            [106] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/241).     :
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83).
أي: فهلَّا إذا بَلَغَت رُوحُ المَيِّتِ حَلْقَه حينَ خُروجِها مِن جَسَدِه            [107] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/373)،   ((تفسير القرطبي)) (17/230)، ((تفسير ابن كثير)) (7/547)، ((تفسير السعدي)) (ص:   836)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 350).      ممَّن اختار أنَّ الحُلْقومَ هو مجرى الطَّعامِ: ابنُ   عطيَّة، والسَّمينُ الحلبي، والنسفي، وجلال الدين المحلي، والبِقاعي، والألوسي.   يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/253)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/229)،   ((تفسير النسفي)) (3/430)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 717)، ((نظم الدرر)) للبقاعي   (19/242)، ((تفسير الألوسي)) (14/157).      قال البقاعي: (الْحُلْقُومَ: وهو مَجرى الطَّعامِ في   الحَلقِ، والحَلقُ: مَساغُ الطَّعامِ والشَّرابِ، مَعروفٌ، فكان الحُلْقومُ أَدنى   الحَلقِ إلى جِهةِ اللِّسانِ؛ لأنَّ المِيمَ لِمُنقَطَعِ التَّمامِ). ((نظم   الدرر)) (19/242).      وممَّن اختار أنَّ الحُلقومَ هو مجرى النَّفَسِ:   الخازنُ، والنيسابوري، وابن عثيمين: يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/8)، ((تفسير   النيسابوري)) (6/246)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 350).   ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عرفة)) (4/148).      قال الأزهري: (والحُلْقومُ وهي الحُنْجورُ، وهو مَخْرَجُ   النَّفَسِ، لا يَجْري فيه الطَّعامُ والشَّرابُ، والَّذي يجْري فيه الطَّعامُ   والشَّراب يُقال له المَرِيءُ). ((تهذيب اللغة)) (5/196). ويُنظر: ((المحكم   والمحيط الأعظم)) لابن سِيدَه (4/44).      وقال ابن أبي نصر: (والحُلْقومُ مَبدؤُه من أقْصَى   الفَمِ، وهو مجْرى النَّفَسِ لا غيرُ). ((تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري   ومسلم)) (ص: 75).      وفي ((المعجم الوسيط)) (1/193): (الحُلْقومُ: تَجويفٌ   خلْفَ تَجويفِ الفَمِ، وفيه سِتُّ فَتَحاتٍ: فَتْحةُ الفَمِ الخَلفيَّةُ،   وفَتْحَتَا المَنخِرَينِ، وفتحَتا الأُذُنَينِ، وفتحةُ الحَنجرةِ، وهي مجْرى   الطَّعامِ والشَّرابِ والنَّفَسِ).     .
كما قال تعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة: 26 - 30] .
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84).
أي: وأنتم -أيُّها الحاضِرونَ عندَ المُحتَضَرِ- تَنظُرونَ إليه وهو في سَكَراتِ المَوتِ، ولا تَستَطيعونَ رَدَّ رُوحِه إلى مَوضِعِها            [108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/373)،   ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 206)، ((تفسير ابن كثير)) (7/548)، ((تفسير   السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/344)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة   الحجرات - الحديد)) (ص: 351).     .
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85).
أي: ومَلائِكتُنا -الَّذين نُرسِلُهم إلى المُحتَضَرِ لِقَبضِ رُوحِه- أقرَبُ إليه منكم -أيُّها الحاضِرونَ عِندَه- ولكِن لا تَرَونَهم            [109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/373)، ((شرح   حديث النزول)) لابن تيميَّة (ص: 125-135)، ((تفسير ابن كثير)) (7/548)، ((تفسير   ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 351، 352).       وقد دَلَّ سياقُ الآياتِ على أنَّ المرادَ بالآيةِ   الملائِكةُ؛ فقولُه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا   تُبْصِرُونَ يدُلُّ على أنَّ هذا القريبَ في المكانِ نفْسِه ولكن لا نُبصِرُه،   وهذا يُعَيِّنُ أن يكونَ المرادُ قُربَ الملائكةِ؛ لاستِحالةِ ذلك في حقِّ   الله تعالى. فاللهُ تعالى لو أراد قُرْبَ ذاتِه لم يُخَصَّ ذلك بهذه الحالِ، ولا   قال: وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ؛ فإنَّ هذا إنَّما يُقالُ إذا كان هناك مَن يجوزُ   أنْ يُبصَرَ في بَعضِ الأحوالِ، ولكِنْ نحن لا نُبْصِرُه، والرَّبُّ تعالى لا   يَراه في هذه الحالِ لا الملائِكةُ ولا البَشَرُ.      وأيضًا فإنَّ القُربَ مُقَيَّدٌ بحالِ الاحتِضارِ،   والَّذي يَحضُرُ الميتَ عندَ موتِه هم الملائكةُ.       وأيضًا فإنَّه قال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ   مِنْكُمْ، فأخبَرَ عمَّن هو أقرَبُ إلى المُحتَضَرِ مِن النَّاسِ الَّذين عِندَه   في هذه الحالِ، ولا يجوزُ أنْ يرادَ به قُرْبُ الرَّبِّ الخاصُّ، كما في قَولِه   تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186] ؛ فإنَّ   ذاك إنَّما هو قُرْبُه إلى مَن دعاه أو عَبَدَه، وهذا المُحتَضَرُ قد يكونُ   كافِرًا أو فاجِرًا أو مُؤمِنًا أو مُقَرَّبًا؛ ولهذا قال تعالى: فَأَمَّا إِنْ   كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا   إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ   * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ   * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، ومَعلومٌ أنَّ مِثلَ هذا المُكَذِّبِ لا يَخُصُّه   الرَّبُّ بقُرْبِه منه دونَ مَن حَوْلَه، وقد يكونُ حَوْلَه قومٌ مُؤمِنونَ،   وإنَّما همُ الملائِكةُ الَّذين يَحضُرونَ عندَ المؤمِنِ والكافِرِ.      ومِمَّا يدُلُّ على ذلك أنَّه ذَكَرَه بصيغةِ الجَمعِ،   فقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ، وهذا كقَولِه سُبحانَه: إِنَّ   عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ *   ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 17 - 19] ؛ فإنَّ مِثْلَ هذا اللَّفظِ   إذا ذَكَرَه اللهُ تعالى في كتابِه دلَّ على أنَّ المرادَ أنَّه سُبحانَه يَفعَلُ   ذلك بجُنودِه وأعوانِه مِن الملائِكةِ؛ فإنَّ صيغةَ «نحن» يقولُها المتبوعُ   المُطاعُ العَظيمُ الَّذي له جُنودٌ يَتَّبِعون أمْرَه، وليس لأحدٍ جُندٌ   يُطيعونَه كطاعةِ الملائِكةِ ربَّهم، وهو خالِقُهم وربُّهم؛ فكان لفظُ «نحن» هنا   هو المناسِبَ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (5/505 - 507)، ((تفسير ابن   عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 351).     .
كما قال تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا [النازعات: 1 - 2] .
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86).
أي: فهلَّا إنْ كُنتُم -أيُّها المُكَذِّبونَ بالبَعثِ- غَيرَ مقهورينَ مملوكينَ، ولا مُحاسَبينَ مَجْزيِّينَ بأعمالِكم            [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/373، 375)،   ((تفسير القرطبي)) (17/231)، ((تفسير ابن كثير)) (7/548)، ((نظم الدرر)) للبقاعي   (19/242، 243)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/345)، ((تفسير   ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 352).      قال الرازي: (في مَدِينِينَ أقوالٌ؛ منهم مَن قال:   المرادُ مَملوكينَ، ومنهم مَن قال: مَجزيينَ). ((تفسير الرازي)) (29/174).      ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: مَدِينِينَ: أي:   مَجزيِّينَ مُحاسَبينَ: أبو عُبَيْدةَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي   زَمَنين، والقرطبيُّ، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة   (2/ 252)، ((تفسير ابن جرير)) (22/375)، ((تفسير السمرقندي)) (3/398)، ((تفسير ابن   أبي زمنين)) (4/345)، ((تفسير القرطبي)) (17/231)، ((تفسير السعدي)) (ص: 836)،   ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 352).      ونسَبَ الواحديُّ والبغويُّ هذا القولَ إلى أكثرِ   المفسِّرينَ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (21/ 267)، ((تفسير البغوي)) (5/22).      وممَّن اختار أنَّ معنى مَدينينَ: مملوكينَ: الفرَّاءُ،   والزَّجَّاجُ، والسمعاني، وابن عطية، والخازن. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء   (3/131)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/117)، ((تفسير السمعاني)) (5/361)،   ((تفسير ابن عطية)) (5/253)، ((تفسير الخازن)) (4/243).      وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ السَّابقَينِ: الثعلبيُّ،   والواحدي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/223)، ((الوجيز)) للواحدي (ص:   1064)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/243).      قال الزمخشري: (ترتيبُ الآيةِ: فلولا ترجِعونَها إذا   بلَغَت الحلقومَ إنْ كنتُم غيرَ مدينينَ. وفَلَوْلَا الثانيةُ مكرَّرةٌ   للتوكيدِ، والضَّميرُ في تَرْجِعُونَهَا للنَّفسِ وهي الرُّوحُ). ((تفسير   الزمخشري)) (4/470).     .
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87).
أي: هلَّا تَرجِعونَ رُوحَ المُحتَضَرِ إلى جَسَدِه إنْ كُنتُم صادِقينَ في دَعوى إنكارِ البَعثِ والحِسابِ والجَزاءِ            [111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/373، 375)،   ((تفسير القرطبي)) (17/231)، ((تفسير ابن كثير)) (7/548)، ((تفسير السعدي)) (ص:   836).      قال ابن جرير: (جوابُ قولِه: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ   الْحُلْقُومَ، وجوابُ قولِه: فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ جوابٌ   واحدٌ، وهو قولُه: تَرْجِعُونَهَا). ((تفسير ابن جرير)) (22/375). ويُنظر:   ((تفسير القرطبي)) (17/231، 232).      وقال ابنُ عاشور: (معنى الكلامِ: قد أخبرَكم اللهُ   بأنَّه يُجازي النَّاسَ على أفعالِهم؛ ولذلك فهو مُحْييهم بعْدَ موتِهم لإجراءِ   الجَزاءِ عليهم، وقد دلَّكم على ذلك بانتِزاعِ أرواحِهم منهم قَهرًا، فلو كان ما   تَزعُمونَ مِن أنَّكم غيرُ مَجْزيِّينَ بعْدَ الموتِ، لَبَقِيَت الأرواحُ في   أجسادِها؛ إذ لا فائِدةَ في انتِزاعِها منها بعْدَ إيداعِها فيها لولا حِكمةُ   نَقْلِها إلى حياةٍ ثانيةٍ؛ لِيَجريَ جَزاؤُها على أفعالِها في الحياةِ الأُولى!).   ((تفسير ابن عاشور)) (27/345).     ؟
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شُروعٌ في بَيانِ حالِ المُتوفَّى بعْدَ المماتِ، إثرَ بَيانِ حالِه عندَ الوفاةِ            [112] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/201).     .
وأيضًا لَمَّا دَلَّ بما ذُكِرَ على أنَّهم مُحاسَبونَ ومَجْزِيُّونَ ومَملوكونَ؛ ذكَرَ طَبَقاتِهم            [113] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (21/268).     .
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88).
أي: فأمَّا إنْ كان المَيِّتُ مِن المُقَرَّبينَ عِندَ اللهِ سُبحانَه تعالى            [114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/376)،   ((تفسير القرطبي)) (17/232)، ((تفسير ابن كثير)) (7/548).      قال ابنُ كثير: (هم الَّذين فَعَلوا الواجِباتِ   والمُستَحَبَّاتِ، وتَرَكوا المحَرَّماتِ والمكروهاتِ وبَعضَ المُباحاتِ). ((تفسير   ابن كثير)) (7/548). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 836)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة   الحجرات - الحديد)) (ص: 353).     .
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89).
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ.
القِراءاتُ ذات ُالأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: فَرُوحٌ بضَمِّ الرَّاءِ، أي: فله حياةٌ دائِمةٌ لا مَوتَ فيها. وقيل: المعنى: تخرُجُ رُوحُه معها الرَّيحانُ. وقيل: فله رَحمةٌ            [115] قرأ بها رُوَيسٌ عن يعقوبَ. يُنظر:   ((النشر)) لابن الجزري (2/383).      ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري   (3/53)، ((تفسير السمعاني)) (5/362)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/347).     .
2- قِراءةُ: فَرَوْحٌ بفَتحِ الرَّاءِ، أي: فله بعْدَ مَوتِه راحةٌ. وقيل: رَحمةٌ ومَغفِرةٌ. وقيل: فَرَجٌ. وقيل: بَردٌ. وقيلَ: فَرَحٌ. وقيل: طِيبُ النَّسيمِ            [116] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن   الجزري (2/383).      ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير))   (22/379)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/53)، ((تفسير البغوي)) (5/22)، ((تفسير   القرطبي)) (17/232).     .
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ.
أي: فله راحةٌ وسُرورٌ ورَحمةٌ، ورِزقٌ طَيِّبٌ وطِيبُ رائِحةٍ            [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/379)،   ((تفسير القرطبي)) (17/232، 233)، ((تفسير ابن كثير)) (7/548، 549)، ((تفسير ابن   عاشور)) (27/347، 348).      قال ابنُ جرير بعدَ أن ذكر الأقوالَ في الرَّوحِ، وأنَّ   مِنهم مَن قال: هي الرَّاحةُ، ومنهم مَن قال: الفرَحُ، ومنهم مَن قال: الرَّحمةُ-   قال: (وأَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ عندي: قَولُ مَن قال: عُنِيَ بالرَّوحِ:   الفَرَحُ والرَّحمةُ والمَغفِرةُ، وأصْلُه مِن قَولِهم: وجَدْتُ رَوحًا: إذا وَجَد   نَسيمًا رَوْحًا يَستريحُ إليه مِن كَرْبِ الحَرِّ). ((تفسير ابن جرير)) (22/379).   ويُنظر: ((التبيان)) لابن القيم (ص: 240).      وقال النَّحَّاسُ: (أمَّا وَرَيْحَانٌ ففي معناه   ثلاثةُ أقوالٍ؛ منها أنَّه الرِّزقُ، ومنها أنَّه الرَّاحةُ، ومنها أنَّه   الرَّيحانُ الَّذي يُشَمُّ). ((إعراب القرآن)) (4/230).      ممَّن اختار أنَّ الرَّيحانَ المرادُ به الرِّزقُ:   مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والفرَّاءُ، والزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي   زَمَنين، ومكِّي، والزمخشري، والبيضاوي، والنسفي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير   مقاتل ابن سليمان)) (4/225)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/131)، ((معاني القرآن   وإعرابه)) للزجاج (5/117)، ((تفسير السمرقندي)) (3/399)، ((تفسير ابن أبي زمنين))   (4/345)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7297)، ((تفسير الزمخشري))   (4/470)، ((تفسير البيضاوي)) (5/184)، ((تفسير النسفي)) (3/430)، ((تفسير   العليمي)) (6/523).       قال ابنُ جرير: (أمَّا الرَّيحانُ فإنَّه عِندي   الرَّيحانُ الَّذي يُتلَقَّى به عندَ الموتِ، كما قال أبو العاليةِ والحَسَنُ ومَن   قال في ذلك نحوَ قَولِهما؛ لأنَّ ذلك الأغلَبُ والأظهَرُ مِن معانيه). ((تفسير ابن   جرير)) (22/379).      وممَّن جمَع بيْن المعنيَينِ السَّابقَينِ -أي أنَّ   الرَّيحانَ الرِّزقُ، وأيضًا النَّبتُ طيِّبُ الرَّائحةِ-: البِقاعي، فقال:   (وَرَيْحَانٌ أي: رِزقٌ عظيمٌ، ونباتٌ حسَنٌ بهِجٌ، وأزاهيرُ طيِّبةُ   الرَّائحةِ). ((نظم الدرر)) (19/245).       وذكر ابنُ عثيمينَ أنَّ القولَ بأنَّ المرادَ   بالرَّيحانِ كلُّ ما يسُرُّ النَّفْسَ، وما فيه راحتُها ولَذَّتُها مِن مأكولٍ،   ومَشروبٍ، ومَلبوسٍ، ومنكوحٍ، ومَشمومٍ- هو أشمَلُ الأقوالِ، فتُحمَلُ الآيةُ   عليه. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 353).      وقال ابنُ كثيرٍ -بعدَ أن ذكَر بعضَ الأقوالِ في   الرَّوحِ والرَّيحانِ-: (وكلُّ هذه الأقوالِ مُتقاربةٌ صحيحةٌ؛ فإنَّ مَن مات   مُقرَّبًا حصَل له جميعُ ذلك مِن الرَّحمةِ والرَّاحةِ والاستِراحةِ، والفرَحِ   والسُّرورِ والرِّزقِ الحسَنِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/549).     .
عن أبي قَتادةَ بنِ رِبْعِيٍّ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم مُرَّ عليه بجِنازةٍ، فقال: مُستريحٌ ومُستراحٌ منه! قالوا: يا رَسولَ اللهِ، ما المُستريحُ والمُستراحُ منه؟ قال: العَبدُ المُؤمِنُ يَستريحُ مِن نَصَبِ الدُّنيا وأذاها إلى رَحمةِ اللهِ، والعَبدُ الفاجِرُ يَستريحُ منه العِبادُ والبِلادُ، والشَّجَرُ والدَّوابُّ !))            [118] رواه البخاريُّ (6512) واللَّفظُ له، ومسلمٌ   (950).     .
وعن البَراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ العبْدَ المؤمِنَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وإقْبالٍ مِنَ الآخِرةِ، نزَلَ إليه مَلائكةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجوهِ، كأنَّ وُجوهَهمُ الشَّمْسُ، معَهم كَفَنٌ مِن أكْفانِ الجَنَّةِ، وحَنُوطٍ            [119] الحَنوطُ: ما يُخلَطُ مِن الطِّيبِ لأكفانِ   الموتى وأجسادِهم. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (3/1176).     مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ، حتَّى يَجلِسوا مِنه مَدَّ البَصَرِ، ثمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوْتِ علَيه السَّلامُ، حتَّى يَجلِسَ عندَ رَأْسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الطَّيِّبةُ، اخْرُجي إلى مَغْفِرةٍ مِنَ اللهِ ورِضْوانٍ. فتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ القَطْرةُ مِن فِي السِّقَاءِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عَينٍ حتَّى يَأخُذوها، فيَجْعَلوها في ذَلِك الكَفَنِ، وفي ذلك الحَنُوطِ، ويَخْرُجُ مِنها كأَطْيَبِ نَفْحةِ            [120] النَّفحةُ: المرَّةُ مِن نَفحِ الطِّيبِ،   أي: رائحَتِه. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/325).      مِسْكٍ وُجِدَت على وَجْهِ الأرضِ. فيَصْعَدونَ بها، فلا يَمُرُّونَ بها على مَلَأٍ مِنَ المَلائكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟! فيَقولونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ؛ بأحْسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسَمُّونَه بها في الدُّنيا، حتَّى يَنْتَهوا بها إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيَسْتَفتِحون له، فيُفتَحُ لهم، فيُشَيِّعُه مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبوها إلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها، حتَّى يُنْتَهى به إلى السَّماءِ السَّابِعةِ، فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ            [121] عِلِّيِّينَ: هو دِيوانُ المُقَرَّبينَ.   يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/326).     ، وأعيدُوه إلى الأرضِ؛ فإنِّي مِنها خلَقْتُهم، وفيها أُعيدُهم، ومِنْها أُخْرِجُهم تارَةً أُخْرى. فتُعادُ رُوحُه في جَسَدِه، فيَأْتيه مَلَكانِ، فيُجْلِسانِه، فيَقولانِ له: مَن رَبُّك؟ فيَقولُ: رَبِّيَ اللهُ، فيَقولانِ له: ما دِينُك؟ فيَقولُ: دِينيَ الإسلامُ، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِث فيكُم؟ فيَقولُ: هو رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيَقولانِ له: وما عِلْمُك؟ فيَقولُ: قرَأتُ كِتابَ اللهِ، فآمَنْتُ به وصَدَّقتُ، فيُنادي مُنادٍ في السَّماءِ: أنْ صَدَق عَبْدي، فأفْرِشوه مِنَ الجنَّةِ، وألبِسُوه مِن الجَنَّةِ، وافْتَحوا له بابًا إلى الجنَّةِ. فيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِها            [122] مِن رَوْحِها (بفتحِ الرَّاءِ): أي: مِن   نَسيمِها. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/327).      وطِيبِها، ويُفْسَحُ            [123] يُفسَحُ: أي: يُوسَّعُ له. يُنظر: ((مرعاة   المفاتيح)) للمباركفوري (5/327).      له في قَبْرِه مَدَّ بَصَرِه. ويَأْتيه رجُلٌ حسَنُ الوَجهِ، حَسنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبْشِرْ بالَّذي يَسُرُّك؛ هذا يَومُك الَّذي كنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ له: مَن أنتَ؛ فوَجْهُك الوَجهُ يَجيءُ بالخَيرِ؟ فيَقولُ: أنا عمَلُكَ الصَّالحُ، فيَقولُ: رَبِّ أقِمِ السَّاعةَ حتَّى أرجِعَ إلى أهْلي ومالي ))            [124] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف))   (12059)، وأحمد (18534)، والطيالسي (789)، والحاكم في ((المستدرك)) (107) بألفاظٍ   مُتقارِبةٍ.      صَحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (3558)،   وحَسَّنه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/280). وصَحَّح إسنادَه   الطَّبريُّ في ((مسند ابن عمر)) (2/494)، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان))   (1/300)، وقال ابن مَنْدَه في ((الإيمان)) (398): (إسنادُه مُتَّصِلٌ مَشهورٌ   ثابِتٌ على رَسمِ الجماعةِ).     .
وَجَنَّةُ نَعِيمٍ.
أي: وله جَنَّةٌ يَتنَعَّمُ فيها            [125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/379)،   ((تفسير البيضاوي)) (5/184)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 241)،   ((تفسير السعدي)) (ص: 837).      قال السمعاني: (قال أهلُ التَّفسيرِ: الرَّوحُ   والرَّيحانُ في القَبرِ، وجَنَّةُ نَعيمٍ يومَ القيامةِ). ((تفسير السمعاني))   (5/362).      وقال ابن القيِّم: (فيُعطَون هذه الثَّلاثَ في البَرزَخِ   وفي المَعادِ الثَّاني). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 241).     .
عن كَعبِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّما نَسَمةُ المُؤمِنِ طائِرٌ يَعْلُقُ            [126] يَعلُقُ -بضَمِّ اللَّامِ- أي: يتناوَلُ.   يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 216).      في شَجَرِ الجَنَّةِ حتَّى يَرجِعَه اللهُ تبارك وتعالى إلى جَسَدِه يومَ يَبعَثُه))            [127] أخرجه النَّسائي (2073)، وابن ماجه (4271)،   وأحمد (15778) واللَّفظُ له.      صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((الصحيح)) (4657)، وابنُ عبدِ   البَرِّ في ((الاستذكار)) (2/614)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/125)،   وابنُ القيم في ((الروح)) (1/381)، وابنُ حجر في ((توالي التأسيس)) (1/203)، وابن   باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (10/97)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4271).     .
وعن عائِشةَ رضيَ اللهُ عنها، قالت: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أحَبَّ لِقاءَ اللهِ أحَبَّ اللهُ لِقاءَه، ومَن كَرِهَ لِقاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقاءَه. فقُلتُ: يا نبيَّ اللهِ، أكراهيةَ المَوتِ؟ فكُلُّنا نَكرَهُ الموتَ! فقال: ليس كذلك، ولكِنَّ المؤمِنَ إذا بُشِّرَ برَحمةِ اللهِ ورِضوانِه وجَنَّتِه، أحَبَّ لِقاءَ اللهِ، فأحَبَّ اللهُ لِقاءَه، وإنَّ الكافِرَ إذا بُشِّرَ بعَذابِ اللهِ وسَخَطِه، كَرِهَ لِقاءَ اللهِ، وكَرِهَ اللهُ لِقاءَه))            [128] رواه مسلم (2684).     .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90).
أي: وأمَّا إنْ كان المَيِّتُ مِن أصحابِ اليَمينِ            [129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/380)،   ((تفسير القرطبي)) (17/233)، ((تفسير ابن كثير)) (7/550).      قال السعدي: (وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ   الْيَمِينِ وهم الَّذين أدَّوُا الواجِباتِ، وتَرَكوا المحَرَّماتِ، وإنْ حَصَل   منهم التَّقصيرُ في بَعضِ الحُقوقِ الَّتي لا تُخِلُّ بتوحيدِهم وإيمانِهم).   ((تفسير السعدي)) (ص: 837). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد))   (ص: 354).     .
فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91).
أي: فيُقالُ له: سَلامٌ لك لأنَّك مِن أصحابِ اليمينِ            [130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/381)، ((حادي   الأرواح)) لابن القيم (ص: 96)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/146، 147)،   ((تفسير ابن كثير)) (7/550)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص:   354).      ممَّن اختار المعنى المذكورَ: ابنُ جرير، وابن القيم،   وابن كثير، وابن عثيمين. يُنظر المصادر السابقة.       قال ابن جرير: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أن يُقالَ:   معناه: فسَلامٌ لك أنَّك مِن أصحابِ اليمينِ، ثمَّ حُذِفَتْ «أن»، واجتُزِئَ   بدَلالةِ «مِن» عليها منها، بمعنى: فسَلِمْتَ مِن عذابِ الله، وممَّا تَكْرَهُ؛   لأنَّك مِن أصحابِ اليمينِ). ((تفسير ابن جرير)) (22/381).      وقال السمعاني: (وقولُه تعالَى: مِنْ أَصْحَابِ   الْيَمِينِ أي: لأنَّك مِن أصحابِ اليمينِ. وهذا قولُ كثيرٍ مِن المُفسِّرينَ).   ((تفسير السمعاني)) (5/363).      وقال ابن كثير: (أي: تُبشِّرُهم الملائكةُ بذلك، تقولُ   لأحدِهم: سلامٌ لك، أي: لا بأسَ عليك، أنت إلى سلامةٍ، أنت مِن أصحابِ اليمينِ).   ((تفسير ابن كثير)) (7/550).      وقال ابن القيِّم: (فَسَلَامٌ لَكَ أي: ثبَت لك   السَّلامُ، وحصَل لك، وعلى هذا فالخِطابُ لكلِّ مَن هو مِن هذا الضَّربِ، فهو   خِطابٌ للجِنسِ، أي: فسلامٌ لك يا مَن هو مِن أصحابِ اليمينِ، كما تقولُ: هنيئًا   لك يا مَن هو منهم؛ ولهذا -واللهُ أعلَمُ- أتى بحرفِ «مِن» في قولِه: مِنْ   أَصْحَابِ الْيَمِينِ، والجارُّ والمجرورُ في موضعِ حالٍ، أي سلامٌ لك كائنًا مِن   أصحابِ اليمينِ، كما تقولُ: هنيئًا لك مِن أتْباعِ رسولِ الله صلَّى الله عليه   وسلَّم وحِزبِه، أي: كائنًا منهم، والجارُّ والمجرورُ بعدَ المعرفةِ ينتصِبُ على   الحالِ، كما تقولُ: أحبَبْتُك مِن أهلِ الدِّينِ والعِلمِ، أي: كائنًا منهم، فهذا   معنَى هذه الآيةِ). ((بدائع الفوائد)) (2/147).      وقال أيضًا: (أكثَرُ المفسِّرينَ حامُوا حوْلَ المعنى   وما ورَدوه، وقالوا أقوالًا لا يَخفى بُعْدُها عن المقصودِ، وإنَّما معنى الآيةِ   واللهُ أعلَمُ: فسلامٌ لك أيُّها الرَّاحلُ عن الدُّنيا حالَ كَوْنِك مِن أصحابِ   اليمينِ، أي: فسلامُه لك كائنًا مِن أصحابِ اليمينِ الَّذين سَلِموا مِن الدُّنيا   وأنكادِها، ومِن النَّارِ وعذابِها، فبُشِّرَ بالسَّلامةِ عندَ ارتحالِه مِن   الدُّنيا وقُدومِه على الله، كما يُبشِّرُ المَلَكُ رُوحَه عندَ أخْذِها بقولِه:   «أبْشِري برَوحٍ ورَيْحانٍ، ورَبٍّ غيرِ غَضْبانَ»، وهذا أوَّلُ البُشْرى الَّتي   للمؤمنِ في الآخرةِ). ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) (ص: 96).      وقال ابن عثيمين: (فَسَلَامٌ أي: سلامةٌ لَكَ أي:   أيُّها المُحتضَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ أي: أنت مِن أصحابِ اليمينِ،   والمعنى: فسلامٌ لك حالَ كَونِك مِن أصحابِ اليمينِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة   الحجرات - الحديد)) (ص: 354).      وقال الفَرَّاءُ: (قولُه: فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ   أَصْحَابِ الْيَمِينِ أي: فذلك مُسلَّمٌ لك أنَّك مِن أصحابِ اليمينِ، وأُلغيَتْ   «أنَّ» وهو معناها، كما تقولُ: أنت مُصَدَّقٌ مُسافرٌ عن قليلٍ، إذا كان قد قال:   إنِّي مسافرٌ عن قليلٍ...). ((معاني القرآن)) (3/131). وذكره البخاريُّ بلَفظِه.   يُنظر: ((صحيح البخاري)) (6/146).      قال ابن حجر: (ويؤيِّدُ ما قال الفَرَّاءُ ما أخرَج ابنُ   المُنذِرِ مِن طريقِ عَطاءٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: تأتيه الملائكةُ مِن قِبَلِ   الله: سلامٌ لك مِن أصحابِ اليمينِ، تُخبِرُه أنَّه مِن أصحابِ اليمينِ). ((فتح   الباري)) (8/627).      وقيل: المعنى: فسَلامٌ لك يا صاحبَ اليمينِ مِن إخوانِك   أصحابِ اليمينِ يُسلِّمون عليك. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي،   والسمين الحلبي، والشربيني، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/470)،   ((تفسير البيضاوي)) (5/184)، ((تفسير النسفي)) (3/430)، ((الدر المصون)) للسمين   (10/232)، ((تفسير الشربيني)) (4/199)، ((تفسير أبي السعود)) (8/202).      قال السعدي: («فـ»يُقالُ لأحَدِهم: «سَلَامٌ لَكَ مِنْ   أَصْحَابِ الْيَمِينِ» أي: سلامٌ حاصلٌ لك مِن إخوانِك أصحابِ اليمينِ، أي:   يُسَلِّمون عليه ويُحَيُّونه عندَ وُصولِه إليهم ولقائِهم له. أو يُقالُ له: سلامٌ   لك مِن الآفاتِ والبَليَّاتِ والعذابِ؛ لأنَّك مِن أصحابِ اليمينِ، الَّذين   سَلِموا مِن الذُّنوبِ الموبِقاتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 837).      وقيل: المعنى: سلامةٌ لك يا محمَّدُ منهم، فلَسْتَ تَرَى   فيهم إلَّا ما تُحِبُّ مِن السَّلامةِ، فلا تَهْتَمَّ بهم، فإنَّهم يَسْلَمونَ مِن   عذابِ اللهِ. وممَّن اختار هذا المعنى في الجملةِ: الزَّجَّاجُ، والثَّعلبيُّ،   والبَغَوي، والرَّسْعَني، والقُرطبي، والخازن، وأبو حيَّان، والعُلَيمي،   والشَّوكاني. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/118)، ((تفسير الثعلبي))   (9/225)، ((تفسير البغوي)) (5/ 22)، ((تفسير الرسعني)) (7/625)، ((تفسير القرطبي))   (17/233)، ((تفسير الخازن)) (4/244)، ((تفسير أبي حيان)) (10/95)، ((تفسير   العليمي)) (6/523)، ((تفسير الشوكاني)) (5/195).      قال ابن جُزَي: (فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ   الْيَمِينِ معنى هذا على الجملةِ: نجاةُ أصحابِ اليمينِ وسعادتُهم، والسَّلامُ   هنا يحتمِلُ أن يكونَ بمعنى السَّلامةِ أو التَّحيَّةِ، والخِطابُ في ذلك يحتمِلُ   أن يكونَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أو لأحدٍ مِن أصحابِ اليمينِ؛ فإنْ   كان للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فالسَّلامُ بمعنى السَّلامةِ، والمعنى:   سلامٌ لك يا محمَّدُ منهم، أي: لا ترى منهم إلَّا السَّلامةَ مِن العذابِ، وإن كان   الخِطابُ لأحدٍ مِن أصحابِ اليمينِ فالسَّلامُ بمعنى التَّحيَّةِ، والمعنى: سلامٌ   لك -أي: تحيَّةٌ لك- يا صاحبَ اليمينِ مِن إخوانِك، وهم أصحابُ اليمينِ، أي:   يُسَلِّمون عليك، فهو كقولِه: إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا [الواقعة: 26] ،   أو يكونُ بمعنى السَّلامةِ، والتَّقديرُ: سلامةٌ لك يا صاحبَ اليمينِ، ثمَّ يكونُ   قولُه: مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ خبَرَ ابتِداءٍ مُضمَرٍ تقديرُه: أنت مِن   أصحابِ اليمينِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/341). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/438،   439).     .
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الصِّنفَينِ النَّاجِيَينِ؛ أتْبَعَهما الهالِكِينَ، فقال            [131] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/247).     :
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92).
أي: وأمَّا إن كان المَيِّتُ مِنَ المُكَذِّبينَ بآياتِ اللهِ، الضَّالِّينَ عن سَبيلِه            [132] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/382)،   ((تفسير القرطبي)) (17/234)، ((تفسير ابن كثير)) (7/551)، ((تفسير السعدي)) (ص:   837).      قال ابنُ عثيمين: (مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بالخَبَرِ   الضَّالِّينَ في العَمَلِ، فلا تصديقَ ولا التِزامَ؛ فكُلُ كافِرٍ داخِلٌ في هذه   الآيةِ حتَّى المُنافِقُ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 354).     .
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93).
أي: فله ضِيافةٌ مِن شَرابٍ قد بَلَغ الغايةَ في الحَرارةِ            [133] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/382)،   ((تفسير البيضاوي)) (5/184)، ((النبوات)) لابن تيمية (2/710)، ((الروح)) لابن   القيم (ص: 76)، ((تفسير ابن كثير)) (7/551)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/349)،   ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 354).     !
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94).
أي: وله نارٌ شَديدةُ التَّوَقُّدِ يُقاسِي حَرَّها            [134] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/382)،   ((تفسير القرطبي)) (17/234)، ((تفسير البيضاوي)) (5/184)، ((الروح)) لابن القيم   (ص: 76)، ((تفسير ابن كثير)) (7/551)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/247)، ((تفسير   السعدي)) (ص: 837)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/350).      قال ابنُ عجيبة: (هذا يدُلُّ على أنَّ الكافِرَ   بمُجَرَّدِ مَوتِه يَدخُلُ النَّارَ. وقيل: معنى ذلك: ما يَجِدُه في القَبرِ مِن   سَمومِ النَّارِ ودُخَانِها. ويحتمِلُ: أنَّ الآيةَ لا تَختَصُّ بعالَمِ البَرزخِ،   بل تَعُمُّ البَرْزخَ وما بَعْدَه). ((تفسير ابن عجيبة)) (7/305).     .
عن البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((وإنَّ العَبدَ الكافِرَ إذا كان في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنيا، وإقبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَل إليه مِن السَّماءِ مَلائكةٌ سُودُ الوُجوهِ، مَعَهمُ المُسُوحُ            [135] المُسوحُ: جمعُ المِسحِ: وهو اللِّباسُ   الخَشِن. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (3/1179).     ، فيَجْلِسونَ منه مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجيءُ مَلَكُ المَوتِ حتَّى يَجْلِسَ عِندَ رأسِه، فيَقولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الخبيثةُ، اخْرُجي إلى سَخَطٍ مِن اللهِ وغَضَبٍ! فتَفَرَّقُ في جسَدِه، فيَنتَزِعُها كما يُنتَزَعُ السَّفُّودُ            [136] السَّفُّودُ: الحديدةُ الَّتي يُشوى عليها   اللَّحمُ. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (5/328).      مِنَ الصُّوفِ المَبْلولِ، فيَأْخُذُها، فإذا أخَذَها لَم يَدَعُوها في يَدِه طَرْفةَ عَينٍ حتَّى يَجْعَلوها في تِلك المُسوحِ، ويَخْرُجُ مِنها كأنْتَنِ رِيحِ جِيفةٍ وُجِدَت على وَجهِ الأرضِ. فيَصْعَدونَ بها، فلا يَمُرُّون بها على مَلأٍ مِنَ الملائكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيثُ؟! فيَقولونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ؛ بأقبَحِ أسمائِه الَّتي كان يُسمَّى بها في الدُّنيا، حتَّى يُنتَهى به إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيُستَفتَحُ له، فلا يُفتَحُ له، ثمَّ قرَأ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف: 40] . فيَقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكْتُبوا كِتابَه في سِجِّينٍ في الأرضِ السُّفْلى، فتُطْرَحُ رُوحُه طَرحًا. ثمَّ قرَأ: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] . فتُعادُ رُوحُه في جَسَدِه، ويَأْتيه مَلَكانِ، فيُجْلِسانِه، فيَقُولانِ له: مَن ربُّك؟ فيَقولُ: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما دينُك؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيَقولانِ له: ما هذا الرَّجُلُ الَّذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاهْ هاهْ! لا أَدْري، فيُنادي مُنادٍ مِن السَّماءِ: أنْ كَذَب، فأفْرِشوا له مِنَ النَّارِ، وافْتَحوا له بابًا إلى النَّارِ، فيَأتيهِ مِنْ حَرِّها، وسَمُومِها، ويُضيَّقُ عليه قَبرُه حتَّى تَختَلِفَ فيه أَضلاعُه، ويَأتيه رجُلٌ قَبيحُ الوَجْهِ، قبيحُ الثِّيابِ، مُنتِنُ الرِّيحِ، فيَقولُ: أبْشِرْ بالَّذي يَسوؤُك! هذا يَومُك الَّذي كُنتَ تُوعَدُ، فيَقولُ: مَن أنتَ؛ فوَجْهُك الوَجهُ يَجيءُ بالشَّرِّ، فيَقولُ: أنا عمَلُك الخَبيثُ، فيَقولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السَّاعةَ))            [137] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف))   (12059)، وأحمد (18534)، والطيالسي (789)، والحاكم في ((المستدرك)) (107) بألفاظٍ   مُتقارِبةٍ.      صَحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح الترغيب)) (3558)،   وحَسَّنه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/280). وصَحَّح إسنادَه   الطَّبريُّ في ((مسند ابن عمر)) (2/494)، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان))   (1/300)، وقال ابن مَنْدَه في ((الإيمان)) (398): (إسنادُه مُتَّصِلٌ مَشهورٌ ثابِتٌ   على رَسمِ الجماعةِ).     .
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا انقَضى الإخبارُ بتَقسيمِ أحوالِهم وما آلَ إليه كُلُّ قِسمٍ منهم؛ أكَّدَ ذلك بقَولِه: إِنَّ هَذَا أي: إنَّ هذا الخبَرَ المذكورَ في هذه السُّورةِ لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ            [138] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/95).     .
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95).
أي: إنَّ هذا المذكورَ عن المُقَرَّبينَ وأصحابِ اليَمينِ وعن المُكَذِّبينَ الضَّالِّينَ، وما يَصيرونَ إليه: لَهُو خَبَرٌ أكيدٌ لا شَكَّ فيه، وأمرٌ ثابِتٌ لا بُدَّ مِن وُقوعِه            [139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/382)، ((طريق   الهجرتين)) لابن القيم (ص: 193)، ((تفسير ابن كثير)) (7/551)، ((تفسير السعدي))   (ص: 837)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 355).     .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا تحَقَّق للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هذا اليَقينُ؛ سَبَّبَ عنه أمْرَه بالتَّنزيهِ له سُبحانَه عمَّا وَصَفوه به مِمَّا يَلزَمُ منه وَصْفُه بالعَجزِ            [140] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/248).     !
وأيضًا لَمَّا بَيَّن سُبحانَه الحَقَّ وامتَنَع الكُفَّارُ؛ قال لنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا هو حَقٌّ؛ فإن امتَنَعوا فلا تترُكْهم ولا تُعرِضْ عنهم، وسَبِّحْ رَبَّك في نَفْسِك، وما عليك مِن قَومِك، سواءٌ صَدَّقوك أو كَذَّبوك            [141] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/440).     .
وأيضًا لَمَّا تقدَّمَ ذِكرُ الأقسامِ الثَّلاثةِ مُسهَبًا الكَلامُ فيهم؛ أمَرَه تعالَى بتَنزيهِه عمَّا لا يَليقُ به مِن الصِّفاتِ، ولَمَّا أعاد التَّقسيمَ مُوجِزًا الكلامَ فيه؛ أمَرَه أيضًا بتَنزيهِه وتَسبيحِه            [142] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/96).     .
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96).
فنَزِّهْ ربَّك المُتَّصِفَ بكَمالِ العَظَمةِ -يا مُحمَّدُ- عن كُلِّ نَقصٍ وعَيبٍ، قائِلًا: سُبحانَ رَبِّيَ العَظيمِ            [143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/383)،   ((تفسير ابن عطية)) (5/255)، ((تفسير القرطبي)) (17/234، 235)، ((التبيان في أقسام   القرآن)) لابن القيم (ص: 242)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/538، 539)، ((تفسير   ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 355).      قال ابن تيميَّة: (قولُه: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ   الْأَعْلَى [الأعلى: 1] و فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أمرٌ بتسبيحِ   ربِّه، ليس أمرًا بصيغةٍ مُعَيَّنةٍ، فإذا قال: «سُبْحانَ اللهِ وبحَمْدِه»   «سُبْحانَك اللَّهمَّ وبحَمدِك» فقد سبَّحَ ربَّه الأعلى والعظيمَ؛ فإنَّ اللهَ هو   الأعلى وهو العظيمُ، واسمُه «اللهُ» يَتناوُلُ معانيَ سائرِ الأسماءِ بطريقِ   التَّضمُّنِ، وإن كان التَّصريحُ بالعُلوِّ والعَظَمةِ ليس هو فيه). ((مجموع   الفتاوى)) (16/117).      وقال أيضًا: (المراد المقصود مِن الاسمِ هو المُسمَّى،   لا أنَّ نفْسَ اللَّفظِ هو المُسمَّى؛ فإنَّ هذا لا يقولُه عاقلٌ، وتنزيهُ الاسمِ   وتسبيحُه تنزيهٌ للمُسمَّى وتسبيحٌ له، كما قال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ   الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ، وقال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).   ((الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح)) (3/400).     .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

قولُه تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ عِبارةٌ تَقتضي الأمرَ بالإعراضِ عن أقوالِ الكفَّارِ وسائرِ أمورِ الدُّنيا المُختصَّةِ بها، وبالإقبالِ على أمورِ الآخرةِ وعِبادةِ الله تعالى والدُّعاءِ إليه [556] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/255). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ذَكَرَ اللهُ تعالى الحُلْقومَ دونَ المَرِيءِ؛ لأنَّ الحُلْقومَ مجرى النَّفَسِ -على قولٍ-، وبانقِطاعِه يَموتُ الإنسانُ، فإذا بلَغَتِ الرُّوحُ الحُلْقومَ وهي صاعِدةٌ مِن أسفَلِ البَدَنِ إلى هذا المَوضِعِ، حينَئذٍ تَنقَطِعُ العلائِقُ مِن الدُّنيا، ويَعرِفُ الإنسانُ أنه أقبَلَ على الآخرةِ، وانتهى مِن الدُّنيا [557] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 351). .
2- في قَولِه تعالى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ دَليلٌ على أنَّ الرُّوحَ تَخرُجُ مِن أسفَلِ البَدَنِ، تَصْعَدُ حتَّى تَصِلَ إلى أعلى البَدَنِ، ثمَّ تُقبَضُ مِن هناك، فأوَّلُ ما يموتُ مِن الإنسانِ أسفَلُه [558] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/30). .
3- قوله تعالى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ توقيفٌ على مَوضِعِ عَجزٍ يَقتَضي النَّظَرُ فيه أنَّ اللهَ تعالى مالكُ كُلِّ شَيءٍ [559] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/253). !
4- في قَولِه تعالى: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ لم يَقُلْ: «تُبصِرونَ»؛ لئَلَّا يُظَنَّ أنَّ لهم إدراكًا بالبَصَرِ لِشَيءٍ مِن البَواطِنِ مِن حَقيقةِ الرُّوحِ وغَيرِها [560] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/242). .
5- في قَولِه تعالى: فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ما أحْسَنَ إعادةَ «لولا» ثانيًا قبْلَ ذِكْرِ الفعلِ الَّذي يَقتضيه الأوَّلُ؛ وجَعْلَ الحَرْفَينِ يَقتَضِيانِه اقتِضاءً واحدًا، وذِكْرَ الشَّرطِ بيْنَ «لولا» الثَّانيةِ وما تَقتَضيه مِن الفعلِ، ثُمَّ الموالاة بيْنَ الشَّرطِ الأوَّلِ والثَّاني مع الفصلِ بيْنَهما بكلمةٍ واحدةٍ هي الرَّابطُ بيْنَ «لولا» الأُولى والثَّانيةِ؛ والشَّرطِ الأوَّلِ والثَّاني، وهذا تركيبٌ يَسجُدُ العقلُ والسَّمعُ لمعناه ولَفظِه. فتضمَّنَتِ الآيَتانِ تقريرًا وتوبيخًا واستِدلالًا على أصولِ الإيمانِ؛ مِن وُجودِ الخالقِ سُبحانَه، وكمالِ قدرتِه، ونُفوذِ مشيئتِه ورُبوبيَّتِه، وتَصَرُّفِه في أرواحِ عبادِه، حيثُ لا يَقْدِرون على التَّصرُّفِ فيها بشَيءٍ؛ وأنَّ أرواحَهم بيَدِه يَذْهَبُ بها إذا شاء، ويَرُدُّها إليهم إذا شاء، ويُخْلِي أبدانَهم منها تارةً، ويَجْمَعُ بيْنَها وبَيْنَها تارةً، وإثباتِ المعادِ، وصِدْقِ رسولِه فيما أخبَرَ به عنه، وإثباتِ ملائكتِه، وتقريرِ عبوديَّةِ الخَلْقِ. وأَتَى بهذا في صورةِ تحضيضَينِ، وتوبيخَينِ، وتقريرَينِ، وجوابَينِ، وشرطَينِ، وجزاءَينِ، مُنتَظِمةً أحْسَنَ الانتِظامِ، ومُتداخِلةً أحْسَنَ التَّداخُلِ؛ مُتَعَلِّقًا بعضُها ببعضٍ، وهذا كلامٌ لا يَقدِرُ البشرُ على مِثلِ نَظْمِه ومعناه [561] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 238). .
6- في قَولِه تعالى: فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ارتباطٌ بيْنَ هذين الأمْرَينِ، وهو مِن أحسَنِ الاستِدلالِ وأبْلَغِه؛ فإنَّهم إمَّا أنْ يُقِرُّوا بأنَّهم مَربوبونَ مَملوكونَ -على قولٍ في معنى مَدِينينَ-، عَبيدٌ لمالِكٍ قادِرٍ مُتصَرِّفٍ فيهم قاهرٍ، آمِرٍ ناهٍ، أو لا يُقِرُّون بذلك؛ فإنْ أقَرُّوا به لَزِمَهم القيامُ بحقِّه عليهم، وشُكْرُه وتَعظيمُه وإجلالُه، وألَّا يَجعَلوا له نِدًّا ولا شَريكًا، وهذا هو الَّذي جاءهم به رَسولُه، ونَزَلَ عليه به كتابُه، وإنْ أنكروا ذلك وقالوا: إنَّهم ليسوا بعَبيدٍ ولا مملوكِينَ ولا مَربوبِينَ، وإنَّ الأمرَ إليهم؛ فهَلَّا يَرُدُّون الأرواحَ إلى مَقَارِّها إذا بَلَغتِ الحُلْقومَ! فإنَّ المتصرِّفَ في نفْسِه الحاكِمَ على رُوحِه لا يَمتَنِعُ منه ذلك! بخِلافِ المحكومِ عليه، المتصرِّفِ فيه غيرُه، المُدَبِّرِ له سِواهُ، الَّذي هو عَبدٌ مملوكٌ مِن جَميعِ الجِهاتِ، وهذا الاستِدلالُ لا مَحيدَ عنه، ولا مَدْفَعَ له، ومَن أعطاه حقَّه مِن التَّقريرِ والبَيانِ انتَفَعَ به غايةَ النَّفعِ، وانقادَ مِن أجْلِه للعُبوديَّةِ وأذعَنَ، ولم يَسَعْه غَيرُ التَّسليمِ للرُّبوبيَّةِ والإلهيَّةِ، والإقرارِ بالعُبوديَّةِ [562] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 236). .
7- قَولُه تعالى: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى آخِرِ الآياتِ: استُدِلَّ به على أنَّ الرُّوحَ بعدَ مُفارَقةِ البَدَنِ مُنَعَّمةٌ أو مُعَذَّبةٌ، وعلى أنَّ مَقَرَّ أرواحِ المُؤمِنينَ في الجنَّةِ، ومَقَرَّ أرواحِ الكُفَّارِ في النَّارِ [563] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 254). قال ابن القيِّم -بعدَ أن ذكر الأقوالَ في مُسْتقَرِّ الأرواحِ ما بيْنَ الموتِ إلى القيامةِ-، مُبينًا الرَّاجحَ: (الأرواح مُتَفاوِتةٌ في مُستقَرِّها في البَرزَخِ أعظَمَ تَفاوُتٍ؛ فمنها أرواحٌ في أعلَى عِلِّيِّينَ في الملأِ الأعلى، وهي أرواحُ الأنبياءِ صلَواتُ الله وسَلامُه عليهم، وهم مُتفاوِتون فِي مَنازِلِهم كما رآهم النَّبيُّ لَيلةَ الإسراءِ. ومنها أرواحٌ في حَواصِلِ طَيرٍ خُضْرٍ تَسرَحُ في الجنَّةِ حيثُ شاءَت، وهي أرواحُ بعضِ الشُّهَداءِ لا جميعِهم، بل مِن الشُّهَداءِ مَن تُحبَسُ رُوحُه عن دُخولِ الجنَّةِ لِدَيْنٍ عليه أو غَيرِه... ومنهم مَن يكونُ مَحْبوسًا على بابِ الجنَّةِ... ومنهم مَن يكونُ محبوسًا في قبرِه... ومنهم مَن يكونُ مَقَرُّه ببابِ الجنَّةِ... ومنهم مَن يكونُ محبوسًا في الأرضِ... ومنها أرواحٌ تكونُ في تَنُّورِ الزُّناةِ والزَّواني، وأرواحٌ في نهرِ الدَّمِ تَسبَحُ فيه وتُلْقَمُ الحِجارةَ؛ فليس للأرواحِ سعيدِها وشقيِّها مُستقَرٌّ واحدٌ، بل رُوحٌ في أعلَى عِلِّيِّينَ، ورُوحٌ أرضيَّةٌ سُفليَّةٌ لا تَصعَدُ عن الأرضِ). ((الروح)) (ص: 115، 116). .
8- في قَولِه تعالى: فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ جَعَل سُبحانَه تحيَّةَ المُقَرَّبينَ عندَ الوَفاةِ الرَّوحَ والرَّيحانَ والجَنَّةَ، وهذه الكَراماتُ الثَّلاثُ الَّتي يُعطَونَها بعدَ الموتِ نَظيرُ الثَّلاثِ الَّتي يُعطَونَها يومَ القيامةِ؛ فالرَّوحُ: الفَرَحُ والسُّرورُ، والابتِهاجُ ولَذَّةُ الرُّوحِ، فهي كَلِمةٌ جامِعةٌ لنَعيمِ الرُّوحِ ولَذَّتِها، وذلك قُوتُها وغِذاؤُها. والرَّيحانُ: الرِّزْقُ -على قولٍ-، وهو الأكلُ والشُّربُ. والجَنَّةُ: المَسْكَنُ الجامِعُ لذلك كلِّه؛ فيُعطَونَ هذه الثَّلاثَ في البَرزَخِ، وفي المَعادِ الثَّاني [564] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 240). .
9- في قَولِه تعالى: فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ أنَّهم لَمَّا كانوا دونَ المُقَرَّبينَ في المَرتَبةِ، جَعَل تحيَّتَهم عندَ القُدومِ عليه السَّلامةَ مِنَ الآفاتِ والشُّرورِ الَّتي تَحصُلُ للمُكذِّبِينَ الضَّالِّينَ [565] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 241). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
10- الوَجهُ في «اللَّامِ» في قَولِه تعالى: فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ دونَ «على»: أنَّ هذا ليس سلامَ تحيَّةٍ، ولو كان تحيَّةً لَقال: «فسَلامٌ عليه»، كما قال تعالى: سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الصافات: 109] ، سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ [الصافات: 79] ، ولكنَّ الآيةَ تضَمَّنتْ ذِكْرَ مراتبِ النَّاسِ وأقسامِهم عندَ القيامةِ الصُّغرى حالَ القُدومِ على اللهِ تعالى؛ فذَكَر أنَّهم ثلاثةُ أقسامٍ: مُقَرَّبٌ له الرَّوحُ والرَّيحانُ وجَنَّةُ النَّعيمِ، ومُقتَصِدٌ مِن أصحابِ اليَمينِ له السَّلامةُ -فوَعَدَه بالسَّلامةِ، ووَعَدَ المُقَرَّبَ بالغَنيمة والفَوزِ، وإنْ كان كلٌّ منهما سالِمًا غانِمًا-؛ وظالِمٌ بتَكذيبِه وضَلالِه، فأوعَدَه بنُزُلٍ مِن حَميمٍ، وتَصليةِ جَحيمٍ، فلمَّا لم يكنِ المَقامُ مَقامَ تحيَّةٍ، وإنَّما هو مقامُ إخبارٍ عن حالِه، ذَكَر ما يَحصُلُ له مِنَ السَّلامةِ [566] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/146). .
11- ذَكَر اللهُ تعالى أحوالَ الطَّوائِفِ الثَّلاثِ -المقَرَّبِينَ، وأصحابِ اليَمينِ، والمكَذِّبينَ الضَّالِّينَ- في أوَّلِ السُّورةِ في دارِ القَرارِ، ثمَّ ذَكَر أحوالَهم في آخرِها عندَ الاحتِضارِ والموتِ [567] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 836). .
12- المراتبُ ثلاثٌ؛ علمُ يقينٍ يحصلُ عن الخبرِ، ثمَّ تتجلَّى حقيقةُ المخبَرِ عنه للقلبِ أو البصرِ، حتَّى يصيرَ العِلمُ به عينَ يقينٍ، ثمَّ يباشرُه ويلابِسُه فيصيرُ حقَّ يقينٍ، فعِلمُنا بالجنَّةِ والنَّارِ الآنَ عِلمُ يقينٍ، فإذا أُزلِفَت الجنَّةُ للمتَّقينَ في الموقفِ، وبُرِّزت الجحيمُ للغاوينَ، وشاهدوهما عيانًا، كان ذلك عينَ يقينٍ، كما قال تعالى: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر: 6 - 7] ، فإذا دخَل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، فذلك حقُّ اليقينِ، وقد مُثِّلت المراتبُ الثلاثةُ بمَن أخبَرك أنَّ عندَه عسلًا، وأنتَ لا تشكُّ في صِدقِه، ثمَّ أراك إيَّاه فازْدَدْتَ يقينًا، ثمَّ ذُقتَ منه. فالأوَّلُ: عِلمُ اليقينِ. والثَّاني: عينُ اليقينِ. والثَّالثُ: حقُّ اليقينِ [568] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (1/469، 470)، (2/379). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ مُقْتضَى فاءِ التَّفريعِ أنَّ الكلامَ الواقعَ بعْدَها ناشئٌ عمَّا قبْلَه على حسَبِ تَرتيبِه، وإذ قد كان الكلامُ السَّابقُ إقامةَ أدلَّةٍ على أنَّ اللهَ قادرٌ على إعادةِ الحياةِ للنَّاسِ بعْدَ الموتِ، وأعقَبَ ذلك بأنَّ تلك الأدلَّةَ أيَّدَت ما جاء في القرآنِ مِن إثباتِ البعثِ، وأنْحَى عليهم أنَّهم وَضَحَت لهم الحُجَّةُ، ولكنَّهم مُكابِرونَ فيها، ومُظهِرونَ الجُحودَ وهم مُوقِنون بها في الباطنِ، وكلُّ ذلك راجعٌ إلى الاستدلالِ بقُوَّةِ قُدرةِ اللهِ على إيجادِ مَوجوداتٍ لا تَصِلُ إليها مَداركُ الناسِ -انتقَلَ الكلامُ إلى الاستدلالِ على إثباتِ البَعثِ بدَليلٍ لا مَحيصَ لهم عن الاعترافِ بدَلالتِه؛ فالتَّفريعُ على جُملةِ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ [الواقعة: 62] ، وهو أنَّ عجْزَهم عن إرجاعِ الرُّوحِ عندَ مُفارقتِها الجسَدَ، يُنبِّهُهم على أنَّ تلك المُفارَقةَ مُقدَّرةٌ في نِظامِ الخِلْقةِ، وأنَّها لحِكمةٍ [569] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/342). .
- قولُه: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ تَبكيتٌ مَبْنيٌّ على تَكذيبِهم بالقُرآنِ فيما نطَقَ به قولُه: نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ [الواقعة: 57] إلى هُنا، مِن القوارعِ الدَّالَّةِ على كَونِهم تحتَ مَلكوتِه تعالى مِن حيثُ ذَواتُهم، ومِن حيث طَعامُهم وشَرابُهم، وسائرُ أسبابِ مَعايشِهم [570] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/200). .
- و(لولا) حرْفُ تَحضيضٍ مُستعمَلٌ هنا في التَّعجيزِ؛ لأنَّ المحضوضَ إذا لم يَفعَلْ ما حُضَّ على فِعلِه، فقدْ أظهَرَ عجْزَه، والفعلُ المحضوضُ عليه هو تَرْجِعُونَهَا، أي: تُحاوِلون رُجوعَها [571] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/94)، ((تفسير أبي السعود)) (8/200)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/343). .
- قولُه: إِذَا بَلَغَتِ ظرْفٌ مُتعلِّقٌ بـ تَرْجِعُونَهَا مُقدَّمٌ عليه؛ لتَهويلِه، والتَّشويقِ إلى الفعلِ المَحضوضِ عليه [572] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/343). .
- والضَّميرُ المُستتِرُ في بَلَغَتِ عائدٌ على مَفهومٍ مِن العِباراتِ؛ لظُهورِ أنَّ الَّتي تَبلُغُ الحُلقومَ هي الرُّوحُ، حُذِفَ إيجازًا [573] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/343، 344). .
- جُملةُ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ حالٌ مِن ضَميرِ بَلَغَتِ، ومَفعولُ تَنْظُرُونَ مَحذوفٌ، تَقديرُه: تَنظُرون صاحبَها، أي: صاحبَ الرُّوحِ؛ بقَرينةِ قولِه بعْدَه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ [574] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/344). .
2- قولُه تعالَى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ
- جُملةُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ في مَوضعِ الحالِ مِن مَفعولِ تُبْصِرُونَ المَحذوفِ، أو مُعترِضةٌ والواوُ اعتراضيَّةٌ. وأيًّا ما كانتْ فهي احتراسٌ لبَيانِ أنَّ ثَمَّةَ حُضورًا أقرَبَ مِن حُضورِهم عندَ المُحتضَرِ [575] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/344). .
- وجُملةُ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ مُعتَرِضةٌ بيْن جُملةِ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وجُملةِ فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ [576] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/344). [الواقعة: 86] .
- ومَفعولُ تُبْصِرُونَ مَحذوفٌ دلَّ عليه قولُه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ [577] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/345). .
3- قولُه تعالَى: فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
- كَلمةُ (فلولا) الثَّانيةُ تأْكيدٌ لَفظيٌّ لنَظيرِها السَّابقِ، أُعِيدَ لتُبْنى عليه جُملةُ تَرْجِعُونَهَا؛ لطُولِ الفَصلِ [578] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/470)، ((تفسير البيضاوي)) (5/183)، ((تفسير أبي حيان)) (10/94)، ((تفسير أبي السعود)) (8/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/344)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/448). .
- وجُملةُ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ مُعترِضةٌ، أو حالٌ مِن الواوِ في تَرْجِعُونَهَا، وجَوابُ شَرطِ (إنْ) مَحذوفٌ دلَّ عليه فِعلُ تَرْجِعُونَهَا [579] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/344). .
- قيل: أُسنِدَ فِعلُ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ إلى المُخاطَبينَ بضَميرِ المُخاطَبينَ، دونَ أنْ يَقولَ: إنْ كان النَّاسُ غيرَ مَدينِينَ؛ لأنَّ المُخاطَبينَ همُ الَّذين مِن أجْلِ إنكارِهم البعثَ سِيقَ هذا الكلامُ، والمعْنى: لو كُنتُم أنتُم وكان النَّاسُ غيرَ مَدينِينَ، لَما أُخرِجَت الأرواحُ مِن الأجسادِ؛ إذْ لا فائدةَ تَحصُلُ مِن تَفريقِ ذَينِكَ الإلْفَينِ لولا غرَضٌ سامٍ، وهو وضْعُ كلِّ رُوحٍ فيما يَلِيقُ بها مِن عالَمِ الخُلودِ جَزاءً على الأعمالِ؛ ولذلك أُوثِرَ لَفظُ غَيْرَ مَدِينِينَ دونَ أنْ يُقالَ: غيرَ مَبعوثِينَ، أو غيرَ مُعادِينَ، وإنْ كان لا يَلزَمُ مِن نفْيِ الإدانةِ نفْيُ البَعثِ؛ فإنَّه يجوزُ أنْ يكونَ بعثٌ بلا جَزاءٍ، لكنْ ذلك لا يُدَّعَى؛ لأنَّه عبَثٌ؛ فقولُه: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ إيماءٌ إلى أنَّ الغرَضَ مِن سَوقِ هذا الدَّليلِ إبطالُ إنكارِهم البعثَ الَّذي هو لحِكمةِ الجزاءِ. ومِن مُستتبَعاتِ هذا الكلامِ أنْ يُفِيدَ الإيماءَ إلى حِكمةِ الموتِ بالنِّسبةِ للإنسانِ؛ لأنَّه لتَخليصِ الأرواحِ مِن هذه الحياةِ الزَّائلةِ المَملوءةِ باطلًا إلى الحياةِ الأبَدِيَّةِ الحقِّ الَّتي تَجْري فيها أحوالُ الأرواحِ على ما يُناسِبُ سُلوكَها في الحياةِ الدُّنيا، كما أشار إليه قولُه تَعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] ، فيَقْتضي أنَّه لولا أنَّكم مَدِينونَ لَما انتَزَعْنا الأرواحَ مِن أجسادِها بعْدَ أنْ جَعَلْناها فيها، ولَأبْقَيْناها؛ لأنَّ الرُّوحَ الإنسانيَّ ليس كالرُّوحِ الحَيوانيِّ، فتَكونُ الآيةُ مُشتمِلةً على دَليلَينِ: أحدُهما بحاقِّ التَّركيبِ، والآخَرُ بمُستَتبعاتِه الَّتي أَومَأَ إليها قولُه: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، والغرَضُ الأوَّلُ هو الَّذي ذُيِّلَ بقولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [580] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/345، 346). .
- وقولُه: تَرْجِعُونَهَا سَدَّ مَسدَّ الأجوبةِ والبَياناتِ الَّتي يَقْتضيها التَّحْضيضاتُ، و(إذا) مِن قولِه: فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ، و(إنْ) المُتكرِّرةُ في قولِه: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وحمَل بعضُ القولِ بَعضًا، إيجازًا واقتضابًا [581] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/253، 254)، ((تفسير أبي حيان)) (10/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/344). .
- وجُملةُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَيانٌ لجُملةِ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، وعلى أن معْنى مَدِينِينَ أي: مُجازَيْنَ على أعْمالِكم يكونُ وَجْهُ إعادةِ هذا الشَّرطِ مع أنَّه ممَّا استُفِيدَ بقولِه: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ هو الإيماءَ إلى فرْضِ الشَّرطِ في قولِه: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ بالنِّسبةِ لِما في نفْسِ الأمْرِ، وأنَّ الشَّرطَ في قولِه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ هو فرْضُ وتَقديرُ -لا وُقوعَ له- نفْيِ البعثِ، وعلى أن معْنى مَدِينِينَ أي: مَرْبوبينَ يَرجِعُ قولُه: إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ إلى ما أفادَه التَّحضيضُ، ومَوقعُ فاءِ التَّفريعِ مِن إرادةِ أنَّ قبْضَ الأرواحِ لتَأخيرِها إلى يومِ الجزاءِ، أي: إنْ كُنتم صادِقينَ في نفْيِ البَعثِ والجزاءِ [582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/345). .
- قولُه: فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فيه إشكالٌ في جَعْلِ تَرْجِعُونَهَا مِن جُملةِ جَوابِ شَرطِ (إنْ)؛ إذ لا يَلزَمُ مِن عدَمِ قُدرتِهم على صَدِّ الأرواحِ عن الخروجِ أنْ يكونَ خُروجُها لإجراءِ الحسابِ. ودفْعُ هذا الإشكالِ: وُجوبُ تأْويلِ تَرْجِعُونَهَا بمعْنى: تُحاوِلون إرجاعَها، أي: عدَمُ مُحاولتِكم إرجاعَها منذُ العصورِ الأُولى دليلٌ على تَسليمِكم بعدَمِ إمكانِ إرجاعِها، وما ذلك إلَّا لوجوبِ خُروجِها مِن حياةِ الأعمالِ إلى حَياةِ الجزاءِ، وأصلُ تَركيبِ هذه الجُملةِ: فإذا كُنتم صادقينَ في أنَّكم غيرُ مَدينِين، فلولا حاوَلْتُم عندَ كلِّ مُحتضَرٍ إذا بلَغَت الرُّوحُ الحُلْقومَ أنْ تَرجِعوها إلى مَواقعِها مِن أجزاءِ جَسَدِه، فما صَرَفَكم عن مُحاولةِ ذلك إلَّا العلمُ الضَّروريُّ بأنَّ الرُّوحَ ذاهبةٌ لا مَحالةَ. فإذا علِمْتَ هذا اتَّضَحَ لك انتظامُ الآيةِ الَّتي نُظِمَت نظْمًا بَديعًا مِن الإيجازِ، وأُدمِجَ في دَليلِها ما هو تَكملةٌ للإعجازِ [583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/343). .
4- قولُه تعالَى: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ
- قولُه: فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى قولِه: فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ، لَمَّا اقْتَضى الكلامُ بحَذافِرِه أنَّ الإنسانَ صاحبَ الرُّوحِ صائرٌ إلى الجزاءِ، فُرِّعَ عليه إجمالُ أحوالِ الجزاءِ في مَراتبِ النَّاسِ، إجمالًا لِما سبَقَ تَفصيلُه بقولِه: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً إلى قولِه: لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ [الواقعة: 7-44] ؛ لِيَكونَ هذا فَذْلَكةً [584] الفَذْلَكةُ: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أولًا وخُلاصتَه. و(الفَذْلكةُ) كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملة) و(الحوقلة)، من قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحِسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). للسُّورةِ، ورَدًّا لعَجُزِها على صَدْرِها؛ فضَميرُ إِنْ كَانَ عائدٌ إلى ما عاد إليه ضَميرُ إِلَيْهِ مِن قولِه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [585] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/347). [الواقعة: 85] .
- وجَوابُ (إِنْ) مَحذوفٌ؛ لدَلالةِ جَوابِ (أمَّا) المذكورِ عليه، وحذْفُ جَوابِ (إنْ) شائعٌ كثيرًا [586] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/348)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/450). .
- وقد ذُكِرَ لكلِّ صِنفٍ جَزاءٌ لم يُذكَرْ له فيما تَقدَّمَ؛ ليُضَمَّ إلى ما أُعِدَّ له فيما تقدَّمَ على طَريقةِ القرآنِ في توزيعِ القصَّةِ [587] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/347). .
5- قولُه تعالَى: فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ فيه تَخصيصُ الرَّيحانِ بالذِّكرِ قبْلَ ذِكرِ الجنَّةِ الَّتي تَحْتوي عليه؛ للإيماءِ إلى كَرامتِهم عِندَ اللهِ سُبحانَه [588] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/348). .
- ولَمَّا كانت جِنانُ الدُّنيا قد يكونُ فيها نَكَدٌ، أضاف هذه الجَنَّةَ إلى المرادِ بهذه الجِنانِ؛ إعلامًا بأنَّها لا تَنفَكُّ عنه، فقال: نَعِيمٍ، أي: ليس فيها غيرُه، بل هي مقصورةٌ عليه [589] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/246). .
6- قولُه تعالَى: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ الكلامُ إجمالٌ للتَّنويهِ بهم، وعُلوِّ مَرتبتِهم، وخَلاصِهم مِن المُكدِّراتِ؛ لتَذهَبَ نفْسُ السَّامعِ كلَّ مَذهبٍ [590] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/348). .
- قولُه: فَسَلَامٌ لَكَ الخطابُ لكلِّ مَن هو مِن هذا الضَّرْبِ، فهو خطابٌ للجنسِ، أي: فسلامٌ لك يا مَن هو مِن أصحابِ اليمينِ، ولهذا أَتى بحرف «مِن» في قَولِه: مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، والجارُّ والمجرورُ في موضعِ حالٍ؛ أي: سلامٌ لك كائنًا مِن أصحابِ اليمينِ [591] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/146). .
وقيل: كافُ الخِطابِ في قولِه: فَسَلَامٌ لَكَ مُوجَّهةٌ لغيرِ مُعيَّنٍ، أي: لكلِّ مَن يَسمَعُ هذا الخبرَ، والمعْنى: أنَّ السَّلامةَ الحاصِلةَ لأصحابِ اليَمينِ تَسُرُّ مَن يَبلُغُه أمْرُها، وهذا كما يُقالُ: ناهيكَ به، وحسْبُك به. و(مِن) ابتدائيَّةٌ، واللَّفظُ جَرى مَجرَى المثَلِ؛ فطُوِيَ منه بَعضُه، وأصْلُه: فلهمُ السَّلامةُ؛ سَلامةٌ تَسُرُّ مَن بلَغَه حَديثُها.
وقيل: الخِطابُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُسَرُّ بما يَنالُه أهلُ الإسلامِ مِن الكرامةِ عندَ اللهِ، وهم ممَّن شَمِلَهم لفظُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
وقيل: الكلامُ على تَقديرِ القَولِ، أي: فيُقالُ له: سلامٌ لك، أي: تقولُ له الملائكةُ، ومِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ خَبرُ مُبتدَأٍ مَحذوفٍ، أي: أنت مِن أصحابِ اليمينِ، و(مِن) على هذا تَبعيضيَّةٌ؛ فهي بِشارةٌ للمُخاطَبِ عندَ البعثِ.
وقيل: الكافُ خِطابٌ لِمَن كان مِن أصحابِ اليمينِ على طَريقةِ الالتِفاتِ، ومُقْتضى الظَّاهرِ أنْ يُقال: فسلامٌ له؛ فعُدِلَ إلى الخِطابِ لاستِحضارِ تلك الحالةِ الشَّريفةِ، أي: فيُسلِّمُ عليه أصحابُ اليمينِ، على نحْوِ قولِه تعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ [يونس: 10] ، أي: يُبادِرونَه بالسَّلامِ، وهذا كِنايةٌ عن كَونِه مِن أهلِ مَنزلتِهم، و(مِن) على هذا ابتدائيَّةٌ. فهذه مَحاملُ لهذه الآيةِ يُستخلَصُ مِن مَجموعِها معْنى الرِّفعةِ والكَرامةِ [592] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/348، 349). .
7- قولُه تعالَى: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ
- فيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى هنا: وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ؛ فقدَّمَ هنا (الْمُكَذِّبِينَ) على (الضَّالِّينَ)، وقال في أوَّلِ السُّورةِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ؛ فقدَّمَ (الضَّالُّونَ) على (الْمُكَذِّبُونَ)؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّهم في أوَّلِ السُّورةِ أصَرُّوا على الحِنْثِ العظيمِ، فضَلُّوا عن السَّبيلِ، ثمَّ كذَّبوا الرَّسولَ، وقالوا: أَئِذَا مِتْنَا؛ فقُدِّمَ وصْفُ الضَّالُّونَ على وصْفِ الْمُكَذِّبُونَ؛ مُراعاةً لتَرتيبِ الحُصولِ؛ لأنَّهم ضلُّوا عن الحقِّ فكذَّبوا بالبَعثِ؛ ليَحذَروا مِن الضَّلالِ، ويَتدبَّروا في دَلائلِ البعثِ، وذلك مُقْتضى خِطابِهم بهذا الإنذارِ بالعذابِ المُتوقَّعِ.
وأمَّا هنا في آخِرِ السُّورةِ فقدَّمَ «المكذِّبينَ» بالحَشرِ على «الضَّالِّينَ» عن طَريقِ الخَلاصِ.
أو يُقالُ: إنَّ الكلامَ في الأوَّلِ معَ الكُفَّارِ، وهم ضلُّوا أوَّلًا، وكذَّبوا ثانيًا، وفي آخِرِ السُّورةِ الكَلامُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ فقدَّمَ التَّكذيبَ به إظهارًا للعِنايةِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [593] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/409)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/309). .
وقيل: قُدِّمَ هنا وَصْفُ التَّكذيبِ على وصْفِ الضَّلالِ، عكْسَ ما تَقدَّمَ في قولِه: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة: 51] ؛ لِمُراعاةِ سَببِ ما نالَهم مِن العذابِ، وهو التَّكذيبُ؛ لأنَّ الكَلامَ هنا على عَذابٍ قد حانَ حِينُه، وفات وقْتُ الحَذَرِ منه؛ فبُيِّنَ سبَبُ عَذابِهم، وذُكِّروا بالَّذي أوْقَعَهم في سَببِه؛ ليَحصُلَ لهم ألَمُ التَّندُّمِ [594] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/184)، ((تفسير أبي السعود)) (8/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/349). .
8- قولُه تعالَى: فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ النُّزُلُ: هو ما يُقدَّمُ للضَّيفِ مِن القِرَى، وإطلاقُه هنا تَهكُّمٌ. والتَّصليةُ: مَصدرُ الفِعلِ (صلَّاهُ) المُشدَّدِ، إذا أحْرَقَه وشَواهُ، وهو هنا مِن الكَلامِ المُوجَّهِ (أي: يصلحُ لاحتِمالِ معنيَينِ)؛ لإيهامِه أنَّه يُصلَّى له الشِّواءُ في نُزُلِه على طَريقةِ التَّهكُّمِ، أي: يُحرَّقُ بها [595] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/349، 350). .
9- قولُه تعالَى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ تَذييلٌ لجَميعِ ما اشتَمَلَت عليه السُّورةُ مِن المعاني المُثبَتةِ، والإشارةُ إلى ذلك بتأويلِ المذكورِ مِن تَحقيقِ حقٍّ، وإبطالِ باطلٍ [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/350). .
- وأيضًا قدِ اشتَمَلَ هذا التَّذييلُ على أربعةِ مُؤكِّداتٍ؛ وهي: (إنَّ)، ولامُ الابتداءِ، وضَميرُ الفصْلِ، وإضافةُ شِبهِ المُترادِفَينِ [597] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/350). .
- وإضافةُ حَقُّ إلى الْيَقِينِ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، أي: لَهو اليقينُ الحقُّ؛ وذلك أنَّ الشَّيءَ إذا كان كاملًا في نَوعِه، وُصِفَ بأنَّه حقُّ ذلك الجنسِ، ومآلُ هذا الوصفِ إلى تَوكيدِ اليقينِ؛ فهو بمَنزلةِ ذِكرِ مُرادفِ الشَّيءِ، وإضافةُ المُترادفَينِ تُفيدُ معْنى التَّوكيدِ والمُبالَغةِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ الإضافةُ بَيانيَّةً على معْنى (مِن)، وحَقيقتُه على معْنى اللَّامِ، بتَقديرِ: لهو حقُّ الأمْرِ اليقينِ. وقيل: هو مِن إضافةِ الموصوفِ إلى صِفَتِه؛ جُعِلَ الحقُّ مُبايِنًا لليقينِ، أي: الثَّابتُ المُتيقَّنُ [598] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/96)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/350). .
10- قولُه تعالَى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ
- هو تَفريعٌ على تَحقيقِ أنَّ ما ذُكِرَ هو اليقينُ حقًّا؛ فإنَّ ما ذُكِرَ يَشتمِلُ على عَظيمِ صِفاتِ اللهِ، وبَديعِ صُنْعِه وحِكمتِه وعدْلِه، ويُبشِّرُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأُمَّتَه بمَراتبَ مِن الشَّرفِ والسَّلامةِ على مَقاديرِ دَرجاتِهم، وبنِعمةِ النَّجاةِ ممَّا يَصيرُ إليه المُشرِكون مِن سُوءِ العاقبةِ؛ فلا جَرَمَ كان حَقيقًا بأنْ يُؤمَرَ بتَسبيحِ اللهِ تَسبيحًا استَحقَّه لعَظَمتِه، والتَّسبيحُ ثَناءٌ؛ فهو يَتضمَّنُ حمْدًا لنِعمتِه، وما هَدَى إليه مِن طُرقِ الخَيرِ [599] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/351). .