موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيات (60-63)

ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ

غريب الكلمات:

رِبَاطِ الْخَيْلِ: أي: ربطُها وحَبْسُها، واقتِناؤُها للجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى [816] قال الواحديُّ: (وأكثرُ المفسرين على أنَّ المرادَ برباطِ الخيلِ هاهنا: ربطُها واقتناؤُها للغزوِ). ((البسيط)) (10/217). ، وقيل: الرباط هي  الخَيل التي تُربَطُ في سَبيلِ اللهِ، وقيل: الرباطُ جمعُ ربيطٍ، وفرسٌ ربيطٌ: أي: مربوطٌ في سبيلِ الله،  وأصلُ المرابطةِ والرِّباطِ: أن يربطَ هؤلاء خيولَهم، ويربطَ هؤلاء خيولَهم في الثَّغرِ، كلٌّ يُعِدُّ لصاحبِه، وأصلُ (ربط): يدلُّ على شَدٍّ وثَباتٍ، والخيلُ معروفٌ، وقيل: هي في الأصلِ اسمٌ للأفراسِ والفرسانِ جميعًا [817] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 117)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/478)، ((المفردات)) للراغب (ص: 338)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 132)، ((لسان العرب)) لابن منظور (7/302)، ((العذب النمير) للشنقيطي (5/157). .
جَنَحُوا لِلسَّلْمِ: أي: مالُوا إلى الصُّلحِ؛ مِن قولهم: جَنَحتِ السَّفينةُ، أي: مالَت إلى أحَدِ جانِبَيها، وأصلُ (جنح): يدلُّ على مَيلٍ، والسَّلمُ: الصلحُ [818]  وقيل: أصلُ (سلم) مِن الانقيادِ، وسُمِّي الصلحُ سلمًا؛ لأنَّ عندَ الصلحِ ينقادُ كلُّ واحدٍ لصاحبِه، ولا ينازعُه فيه. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/352). ، وتركُ الحربِ [819] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 180)، ((تفسير ابن جرير)) (11/251)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/484)، ((المفردات)) للراغب (ص: 207)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 219). .
حَسْبَكَ اللَّهُ: أي: كافيكَ، وأصْلُ (حسب): كفايةٌ [820] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/255)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 234)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 398). .
وَأَلَّفَ: أي: جمَع، وأوْقَع الإلفَ بينَ القلوبِ، وأصلُ (ألف): اجتماعٌ معَ التئامٍ، ويدلُّ كذلك على انضمامِ الشيءِ إلى الشيءِ [821] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/256)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/131)، ((المفردات)) للراغب (ص: 81)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 19). .

المعنى الإجمالي:

يأمُر اللهُ عِبادَه أن يُعِدُّوا لأعدائِهم الكفَّارِ ما استطاعوا مِن قُوَّةٍ رادعة، ومِن الخَيلِ المربوطةِ المُعَدَّةِ للقتالِ عليها في سبيلِ الله تعالى؛ يُخيفونَ بها عدوَّ الله وأعداءَهم، وآخرينَ لا يَعلَمونَهم، لكنَّ اللهَ يَعلَمُهم، وبيَّن لهم أنَّ ما يُنفِقونَه مِن شَيءٍ في سبيلِه تعالى، فإنَّه يُعطِيهم ثوابَه يومَ القِيامةِ وافيًا غيرَ مَنقوصٍ.
ثم أمرَ اللهُ نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَميلَ للمُصالحةِ، إنْ مال الكُفَّارُ المُحارِبونَ لها، وأنْ يُفَوِّضَ أمْرَه إلى اللهِ؛ إنَّه هو السَّميعُ العليمُ، وأعلَمَه أنَّهم إن يُريدُوا خِداعَه بِطَلَبِهم الصُّلحَ؛ فإنَّ اللهَ- وَحدَه- كافِيه وناصِرُه عليهم، هو سُبحانه الذي أيَّدَه بنَصرِه وبأصحابِه الذين آمَنوا، وجمَعَ بين قلوبِهم، لو أنفقَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما في الأرضِ جميعًا؛ لِيَجمَعَ بين قُلوبِهم- ما استطاعَ، ولكنَّ اللهَ فعل ذلك؛ إنَّه عزيزٌ حَكيمٌ.

تفسير الآيات:

وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أوجَبَ على رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يُشَرِّدَ مَن صَدَرَ منه نقضُ العَهدِ، وأن يَنبِذَ العَهدَ إلى مَن خاف منه النَقضَ- أمَرَه في هذه الآيةِ بالإعدادِ لهؤلاءِ الكُفَّارِ [822] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/499). .
وأيضًا لَمَّا اتَّفقَ في قصَّةِ بَدرٍ أنْ قَصَدوا الكُفَّارَ بلا تكميلِ آلةٍ ولا عُدَّةٍ، وأمَرَه تعالى بالتَّشريدِ وبِنَبذِ العَهدِ للنَّاقضينَ، كان ذلك سبيلًا للأخذِ في قتالِه، والتَّمالُؤ عليه- فأمَرَه تعالى والمؤمنينَ بإعدادِ ما قَدَروا عليه من القُوَّةِ للجهادِ [823] يُنظر: ((تفسير ابن حيان)) (5/343). .
وأيضًا لَمَّا كان ربَّما أدَّى الاعتمادُ على الوَعدِ الصَّادِقِ المُؤَيَّدِ بما وقع لهم في بَدرٍ مِن عظيمِ النَّصرِ، مع نَقصِ دَعوى العِدَّة والعُدَّة، إلى تركِ المُناصبة والمُحارَبة والمُغالبةِ- أتبَعَه ما يُبَيِّنُ أنَّ اللَّازِمَ ربطُ الأسبابِ بِمُسَبِّباتِها، ولِيَتبيَّنَ الصَّادِقُ في دعوى الإيمانِ مِن غَيرِه [824] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/314-315). .
وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ.
أي: وأعِدُّوا- أيُّها المُسلِمونَ- لأعدائِكم الكُفَّارِ- الذين يَسعَونَ في هلاكِكم- كُلَّ ما أمكَنَكم أنْ تُعِدُّوه لِقتالِهم، مِن جميعِ أنواعِ الأسلحةِ، والرأيِ والتَّدبيرِ [825] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/244، 249)، ((تفسير ابن عطية)) (2/545)، ((تفسير ابن كثير)) (4/80)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324). .
عن عُقبةَ بنِ عامرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو على المنبرِ، يقول: (((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ)، ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، ألَا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ )) [826] رواه مسلم (1917). .
وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ.
أي: وأعِدُّوا للكُفَّارِ ما تَستطيعونَ إعدادَه مِن الخَيلِ المربوطةِ، المُعَدَّةِ للقتالِ عليها في سبيلِ الله تعالى [827] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/250)، ((البسيط)) للواحدي (10/218)، ((تفسير البغوي)) (2/306)، ((تفسير الرازي)) (15/499)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/157، 158). .
عن أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((الخَيلُ لثلاثةٍ: لِرَجلٍ أجرٌ، ولرَجُلٍ سِترٌ، وعلى رَجُلٍ وِزرٌ؛ فأمَّا الذي له أجرٌ: فرجُلٌ رَبَطها في سبيلِ اللهِ، فأطال في مَرْجٍ [828] المَرْجُ: مَوضِعُ الكَلَأ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (5/74). أو رَوضةٍ، فما أصابَت في طِيَلِها [829] طِيَلِها: هو الحَبلُ الذي تُربَطُ به، ويُطَوَّلُ لها لِتَرعى، ويقالُ له (طِوَلٌ) أيضًا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/64). ذلك من المَرجِ أو الرَّوضةِ، كانت له حَسَناتٍ، ولو أنَّها قَطَعَت طِيَلَها فاستنَّتْ شَرَفًا أو شَرَفينِ [830] فاستنَّتْ شَرَفًا أو شَرَفينِ: عَدَتْ بمَرَحٍ ونَشاطٍ، شوطًا أو شَوطينِ، فبَعُدت عن الموضِعِ الذي ربَطَها صاحِبُها فيه ترعى، ورَعَت في غَيرِه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/410)، ((شرح البخاري)) للقسطلاني (5/74). ، كانت أرواثُها وآثارُها حسناتٍ له، ولو أنَّها مَرَّت بنهرٍ فَشَرِبتْ منه، ولم يُرِدْ أن يَسقِيَها، كان ذلك حسناتٍ له، ورجلٌ رَبَطَها فخرًا ورِئاءً، ونِواءً [831] نِواء: مُعاداةً. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (5/74)، ((فتح الباري)) لابن حجر (6/65). لأهلِ الإسلامِ؛ فهي وِزرٌ على ذلك )) [832] رواه البخاري (2860) واللفظ له، ومسلم (987). .
وعن عُروةَ البارقيِّ رَضيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الخَيلُ مَعقودٌ في نَواصيها الخَيرُ إلى يومِ القِيامةِ: الأجرُ والمَغنَمُ )) [833] رواه البخاري (2852)، ومسلم (1873). .
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ.
أي: تُخيفونَ باستعدادِكم للجهادِ الذين تَعلمونَهم مِن أعداءِ اللهِ تعالى، وأعدائِكم مِن الكُفَّار [834] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/244)، ((تفسير ابن كثير)) (4/82)، ((تفسير السعدي)) (ص: 325)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/56)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/158). .
وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ.
أي: وتُخيفونَ باستعدادِكم للجِهادِ أعداءً لكم آخرينَ، لا تَعلمونَهم، لكِنَّ اللهَ يَعلَمُهم [835] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/499، 500)، ((تفسير أبي حيان)) (5/345)، ((تفسير ابن كثير)) (4/82، 83)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/158). قيل: المرادُ بهم: المُنافقون. وهذا اختيارُ الرازي، وابنِ جُزي، وأبي حيانَ، وابنِ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/500)، ((تفسير ابن جزي)) (1/328)، ((تفسير أبي حيان)) (5/345)، ((تفسير ابن كثير)) (4/82، 83). قال ابنُ كثير: (ويَشهدُ له قولُه: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: 101] ). وقيل: المرادُ بـ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ: الجِنُّ، وهذا اختيارُ ابنِ جريرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/249-250). وقيل غيرُ ذلك. واختار القرطبيُّ التوقُّفَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى صرَّحَ بأنَّ المؤمنينَ لا يعلمونَهم، وإنَّما الذي يعلَمُهم هو الله تعالى وَحدَه، ولم يَرِدْ في بيانِ ذلك حديثٌ يصِحُّ عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/38)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/159). .
  وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا أمرَ اللهُ تعالى بإعدادِ القوَّةِ المُستطاعةِ كائنةً ما كانت، وكان إعدادُها يحتاجُ إلى مادَّةٍ- رغَّبَ سبحانَه المؤمنينَ في الإنفاقِ في سبيلِه؛ لِيُنفِقوا، ويُعينوا على إعدادِ القُوَّةِ، فقال تعالى [836] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/159). :
وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ.
أي: وما تُعطُوه- أيُّها المؤمنونَ- مِن نفقاتٍ قليلةً كانت أو كثيرةً، في جهادِ أعداءِ الله، يُعطِكم اللهُ ثوابَه يومَ القيامةِ، وافيًا غيرَ مَنقوصٍ [837] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/250)، ((تفسير ابن كثير)) (4/83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 325)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/58)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/159). وقال ابنُ عاشور: (وتدُلُّ التَّوفِيَةُ على أنَّه يشملُ الأجرَ في الدُّنيا مع أجرِ الآخِرَةِ، ونُقِل ذلك عن ابنِ عبَّاسٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (10/58). .
كما قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 261، 262].
وقال سُبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 40].
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بيَّنَ ما يُرهَبُ به العَدوُّ مِن القوَّةِ؛ بيَّنَ بعدَه أنَّهم عند هذا الإرهابِ إذا مالوا إلى المُصالحةِ، فالحُكمُ قَبولُ المُصالحةِ [838] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/500). .
وأيضًا لَمَّا كان ضَمانُ النَّصرِ والخَلَفِ في النَّفقةِ مُوجِبًا لِدَوامِ المُصادمةِ، والبُعدِ مِن المُسالَمةِ؛ أتبَعَه الأمرَ بالاقتصادِ في ذلك [839] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/316). .
وأيضًا لَمَّا كان السَّلمُ هو المقصودَ الأوَّلَ- كما أفاد مفهومُ الآيةِ السَّابقةِ- أكَّدَه بمنطوقِ الآيةِ اللَّاحقةِ، فقال جلَّتْ حِكمَتُه، وسبَقَت رَحمَتُه [840] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/59). :
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا.
أي: وإنْ مال الكفَّارُ المُحارِبونَ إلى المُصالحةِ والمُسالَمةِ فأجِبْهم- يا مُحمَّدُ- إليها [841] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/251)، ((تفسير ابن كثير)) (4/83)، ((تفسير السعدي)) (ص: 325)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/161). قال ابنُ كثير: (وقولُ ابنِ عبَّاسٍ، ومجاهدٍ، وزيدِ بنِ أسلمَ، وعطاءٍ الخراسانيِّ، وعكرمةَ، والحسنِ، وقتادةَ: إنَّ هذه الآيةَ منسوخةٌ بآيةِ السَّيفِ في براءة: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ... الآيةَ [التوبة: 29] - فيه نظرٌ؛ لأنَّ آيةَ براءة فيها الأمرُ بقِتالِهم إذا أمكَنَ ذلك، فأمَّا إذا كان العدوُّ كثيفًا، فإنَّه تجوزُ مُهادَنتُهم، كما دلَّت عليه هذه الآيةُ الكريمةُ، وكما فعل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومَ الحُدَيبية، فلا منافاةَ، ولا نَسخَ، ولا تخصيصَ. واللهُ أعلم). ((تفسير ابن كثير)) (4/84). وهذا الذي ذهب إليه ابنُ كثيرٍ- أنَّ هذه الآيةَ غيرُ منسوخةٍ- هو اختيارُ ابنِ جريرٍ والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/253، 254)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/163). .
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ.
أي: صالِحْهم، وفَوِّضْ أَمرَك إلى اللهِ، ولا تخَفْ ممَّا قد يدبِّرونَه مِن مَكرٍ وغَدرٍ في مُدَّةِ المُصالحةِ [842] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/254)، ((تفسير ابن كثير)) (4/84)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/162). .
إنه هو السميع العليم.
أي: إنَّ الله الذي تتوكَّلُ عليه، هو السَّميعُ لأقوالِك، وأقواِل أعدائِك، العليمُ بما في قُلوبِكم، لا يَخفَى عليه شيءٌ، فإن كان الأعداءُ يُضمِرونَ المَكرَ والغَدرَ بك- يا مُحمَّدُ- أثناء مدَّةِ المُصالحةِ؛ فهو سبُحانه لن يَفوتَه شيءٌ ممَّا يَنوُونَ ويقولونَ ويُدَبِّرون؛ لأنَّه مُطَّلِعٌ عليهم، وسيَكفيكَهم [843] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/254)، ((تفسير أبي السعود)) (4/33)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/59)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/162). .
وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى في الآيةِ المتقدمةِ بالصُّلحِ، وكان طلَبُ السَّلمِ والهُدنةِ من العَدُوِّ، قد يكونُ خديعةً حربيَّةً؛ لِيَغُرُّوا المُسلمينَ بالمُصالحة، ثم يأخذوهم على غِرَّةٍ؛ ذكَر في هذه الآيةِ حكمَ الصُّلح، إن صالحوا على سبيلِ المخادعةِ، وأنَّه يجبُ قبولُ ذلك الصلحِ، وأن يأخُذَ الأعداءَ على ظاهرِ حالِهم، ويحمِلَهم على الصِّدقِ؛ لأنَّه الخُلقُ الإسلاميُّ، وشأنُ أهلِ المُروءةِ، ولا تكونُ الخَديعةُ بمِثلِ نَكْثِ العهدِ، فإذا بَعثَ العَدُوَّ كُفْرُهم على ارتكابِ مثلِ هذا التسَفُّلِ؛ فإنَّ اللهَ تكفَّلَ للوفيِّ بِعَهدِه، أن يَقِيَه شَرَّ خيانةِ الخائِنينَ [844] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/501)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/61). .
وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ.
أي: وإنْ يُرِدِ الكُفَّارُ خِداعَك بطَلَبِ الصُّلحِ- يا مُحمَّدُ- بأن يُظهِروا المُسالَمةَ، ويُبطِنوا الخِيانةَ والغَدرَ؛ ليتمَكَّنوا في مدَّةِ المُصالحةِ مِن تَدبيرِ المكائِدِ؛ لِيَضُرُّوك بها؛ فإنَّ اللهَ وَحدَه كافيك، وناصِرُك عليهم [845] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/255)، ((تفسير ابن عطية)) (2/548)، ((تفسير ابن كثير)) (4/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 325)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/163، 164). .
كما قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129] .
وقال سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] .
هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
أي: اللهُ هو الَّذي قوَّاك بنَصرِه إيَّاك على الكفَّارِ، وقوَّاك بأصحابِك [846] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/255)، ((تفسير ابن عطية)) (2/548)، ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/200)، ((تفسير السعدي)) (ص: 325)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/164، 165). وقصَرَ بعضُ المفَسِّرينَ المرادَ بالمؤمنينَ المذكورينَ على الأنصارِ، وممَّن اختار ذلك: ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، وابنُ عطيةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/255)، ((الوسيط)) (2/469)، ((تفسير ابن عطية)) (2/548). وممَّن ذهَب إلى أنَّهم المهاجرونَ والأنصارُ: ابنُ تيميةَ، وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (7/200)، ((تفسير ابن كثير)) (4/84). قال ابنُ عطيةَ: (تظاهَرَت أقوالُ المُفَسِّرينَ أنَّها في الأَوْسِ والخَزْرجِ... ولو ذُهِبَ إلى عمومِ المُؤمِنينَ في المُهاجِرينَ والأنصارِ، وجُعِلَ التَّأليفُ ما كان مِن جَميعِهم من التَّحابِّ، حتى تكونَ أُلفةُ الأوسِ والخزرجِ جزءًا مِن ذلك- لساغ ذلك). ((تفسير ابن عطية)) (2/548). .
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63).
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ.
أي: واللهُ تعالى هو الذي جمعَ بين قُلوبِ أصحابِك المؤمنينَ على الحَقِّ، إيمانًا به ومناصرةً له، فأصبَحوا بنِعمَتِه إخوانًا مُتحابِّينَ مُؤتَلِفينَ، بعد أن كانوا أعداءً مُتنافرينَ مُتفرِّقينَ [847] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/256)، ((تفسير ابن عطية)) (2/548، 549)، ((تفسير ابن كثير)) (4/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 325)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/165، 166). قال القرطبي: (وألَّفَ بين قُلوبِهم أي: جمَعَ بين قُلوبِ الأوسِ والخَزرجِ... وقيل: أراد التَّأليفَ بين المهاجرينَ والأنصارِ. والمعنى مُتقارِبٌ). ((تفسير القرطبي)) (8/42). وقال الشَّوكاني: (ظاهِرُه العمومُ، وأنَّ ائتلافَ قُلوبِ المؤمنينَ هو من أسبابِ النَّصرِ التي أيَّدَ اللهُ بها رَسولَه. وقال جمهورُ المُفَسِّرين: المراد: الأوسُ والخَزرج؛ فقد كان بينهم عصبيَّةٌ شديدةٌ، وحروبٌ عظيمةٌ، فألَّفَ اللهُ بين قلوبِهم بالإيمانِ بِرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقيل: أراد التَّأليف بين المُهاجرين والأنصار. والحَملُ على العمومِ أَوْلى؛ فقد كانت العرَبُ قبل البَعثةِ المُحمديَّةِ يأكُلُ بعضُهم بعضًا، ولا يَحترِمُ مالَه ولا دَمَه، حتى جاء الإسلامُ، فصاروا يدًا واحدةً، وذهب ما كان بينهم من العصبيَّةِ). ((تفسير الشوكاني)) (2/368). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/548). .
لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ
أي: لو بَذَلْتَ- يا مُحمَّدُ- جميعَ ما في الأرضِ؛ مِن ذهبٍ وفِضَّةٍ وأموالٍ وغَيرِ ذلك؛ لِتَجمَعَ بينَ قلوبِ أصحابِك- لَما استطَعْتَ أبدًا أن تجمَعَ بينها؛ لِشدَّةِ العَداواتِ التي كانت مُستحكِمةً بينهم، ولكِنَّ اللهَ بقُدرَتِه الباهرةِ- وَحْدَه- جمَعَ بينهم على الهُدى [848] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/256)، ((البسيط)) للواحدي (10/229)، ((تفسير ابن كثير)) (4/84)، ((تفسير أبي السعود)) (4/33)، ((تفسير السعدي)) (ص: 325)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/166). .
كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَمَّا فتح حُنينًا قسَمَ الغَنائِمَ، فأعطى المؤلَّفةَ قُلوبُهم، فبلَغَه أنَّ الأنصارَ يُحبُّونَ أن يُصيبوا ما أصاب النَّاسُ، فقام رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فخطَبَهم، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثمَّ قال: يا مَعشَرَ الأنصارِ، ألم أجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي؟ وعالةً فأغناكم الله بي؟ ومُتَفرِّقينَ فجَمَعَكم الله بي؟ ويقولون: اللهُ ورسولُه أمَنُّ، فقال: ألا تجيبوني؟! فقالوا: اللهُ ورَسولُه أمَنُّ، فقال: أمَا إنَّكم لو شِئتُم أن تقولوا كذا وكذا، وكان من الأمر كذا وكذا- لأشياءَ عَدَّدَها-، فقال: ألَا تَرضَونَ أن يذهَبَ النَّاسُ بالشَّاءِ والإبِلِ، وتذهبونَ برَسولِ اللهِ إلى رحالِكم؟! الأنصارُ شِعارٌ [849] الشِّعَارُ: هو الثَّوبُ الذي يلي شَعْرَ البَدَنِ. والمعنى أنَّ الأنصارَ أقرَبُ النَّاسِ إليه- صلى الله عليه وسلم- مَرتبةً وأولاهم منه مَنزِلةً. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (9/4009). والنَّاسُ دثارٌ [850] الدِّثارُ: هو الثَّوبُ الذي فَوقَ الشِّعارِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (9/4009). ولولا الهجرةُ لكُنتُ امرأً مِن الأنصارِ، ولو سلَكَ النَّاسُ واديًا وشِعبًا، لسلكْتُ واديَ الأنصارِ وشِعبَهم، إنَّكم ستَلْقونَ بعدي أثَرةً [851] أثَرَةً: أَيِ: استِئثارًا؛ يستأثِرُ عليكم أُمَراؤُكم بأمورِ الدُّنيا مِنَ المَغانِمِ والفَيءِ ونَحوِهما. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (9/4009). ، فاصبِرُوا حتى تلقَوني على الحَوضِ )) [852] رواه البخاري (4330)، ومسلم (1061)، واللفظ له. .
إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ الذي ألَّف بقُدرتِه بين قلوبِ المُؤمنينَ، عزيزٌ لا يقهَرُه ولا يَغلِبُه شيءٌ، ولا يَرُدُّ قَضاءَه أحدٌ، ومن ذلك قَهرُه للكُفَّارِ الجانحينَ للسَّلمِ، الذين يُريدونَ بذلك الخِداعَ، حكيمٌ في أفعالِه وشَرعِه وتدبيرِ خَلقِه، فيضَعُ الأشياءَ في مواضِعِها اللَّائقةِ بها، ومن ذلك تأليفُه قلوبَ المؤمنينَ؛ لِيَجتمِعوا على نُصرةِ الحقِّ [853] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/259)، ((تفسير ابن كثير)) (4/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 325)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/167). .

الفوائد التربوية:

1- قَوْله تَعَالَى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى بإعدادِ القُوَّةِ للأعداءِ، مع أنَّ الله تعالى لو شاءَ لَهَزَمهم، ولكنَّه أراد أنْ يُبلِيَ بعضَ النَّاسِ بِبَعضٍ، بِعِلمِه السَّابِقِ وقَضائِه النَّافِذِ؛ فأمَرَ بإعدادِ القُوى والآلةِ في فُنونِ الحَربِ، التي تكونُ لنا عُدَّةً، وعليهم قُوَّةً، ووعَدَ على الصَّبرِ والتَّقوى بأمدادِ الملائكةِ العُليا [854] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (2/421). .
2- إِذا طلبت الصُّلح والإِصلاحَ بينَ قومٍ لا تتوسَّل إِلى ذلك إلَّا بالتَّوكُّل، قال الله تعالى: وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله [855] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (2/313). .
3- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ نبَّه اللهُ تعالى بِقَولِه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على الزَّجرِ عن نَقضِ العَهدِ؛ لأنَّه عالِمٌ بما يُضمِرُ العبدُ، سميعٌ لِما يقولُه [856] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (9/558). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فيه أنَّ النَّصرَ يُنالُ بالأسبابِ، وأنَّ ذلك يتوقَّفُ على التآلُفِ والاتِّحادِ، وكلُّ ذلك بفَضلِ مُقَدِّرِ الأسبابِ، ورَحمتِه بالعبادِ [857] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/61). .
5- قال الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هذا بيانٌ عمَّا ينبغي أن يكونَ عليه المُحِقُّ مِن الثِّقةِ باللهِ- إذا خاف مَكرَ المُبطِل به- في أن يَكفِيَه شَرَّ كَيدِه؛ لئلَّا يضطرِبَ أمرُه في تدبيرِه [858] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (10/228). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ يدلُّ على أنَّ الاستعدادَ للجهادِ- بالنَّبْلِ والسِّلاحِ، وتعليمِ الفُروسيَّةِ والرَّميِ، وكلِّ ما يحصلُ به تخويفُ العدوِّ وردعُه مِن مستحدثاتِ الأسلحةِ بأنواعِها الجويةِ والبريةِ والبحريةِ وغيرِها- فريضةٌ، إلَّا أنَّه مِن فُروضِ الكِفاياتِ [859] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/499). .
2- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ دخلَ فيه كُلُّ ما يدخُلُ تحت قُدرةِ النَّاسِ اتِّخاذُه مِن العُدَّةِ، فاتِّخاذُ السُّيوفِ والرِّماحِ والأقواسِ والنِّبالِ، مِن القُوَّةِ في جُيوشِ العُصورِ الماضيةِ، واتِّخاذُ الدَّبَّاباتِ والمدافِعِ والطَّيَّاراتِ والصَّواريخِ، مِن القُوَّةِ في جُيوشِ عَصْرِنا [860] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/55). .
3- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ يدلُّ على جَوازِ وَقفِ الخَيلِ والسِّلاحِ، واتِّخاذِ الخَزائِنِ والخُزَّانِ لها؛ عُدَّةً للأعداءِ [861] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (9/554). .
4- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ أصلٌ في المُناضَلةِ [862] المُناضَلةُ: الرَّميُ. يُقال: ناضَلَه مُناضَلةً ونِضالًا ونِيضالًا: باراهُ في الرَّميِ. وتناضَلَ القَومُ: تَرامَوْا للسَّبْقِ. يُنظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/665)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/610). ، والمُسابقةِ [863] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 136). .
5- قَولُ الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ التَّقييدُ لإعدادِ المُستَطاعِ مِن القُوَّةِ، وِمن رباطِ الخَيلِ، بقَصدِ إرهابِ الأعداءِ المُجاهرينَ، والأعداءِ المُستَخْفينَ وغيرِ المَعروفينَ؛ دليلٌ على تفضيلِ جَعلِه سببًا لِمَنعِ الحَربِ، على جَعلِه سببًا لإيقادِ نارِها، فهو يقولُ: استَعِدُّوا لها لِيَرهَبَكم الأعداءُ؛ عسى أن يمتَنِعوا عن الإقدامِ على قتالِكم، وهذا عينُ ما يُسمَّى في عُرفِ دُوَلِ هذه الأيَّامِ بـ السَّلام المُسَلَّح، بناءً على أنَّ الضَّعفَ يُغرِي الأقوياءَ بالتَّعدِّي على الضُّعَفاءِ [864] يُنظر: ((تفسر المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/57). .
6- قوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ فيه دليلٌ على أنَّ التحَرُّزَ، وأعمالَ الواسِطاتِ غيرُ مُؤثِّرةٍ في توكُّلِ المُؤمِنينَ، ألَا ترى أنَّه جلَّ جَلالُه قد قال في هذه السُّورةِ بِعَينِها: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وقال تعالى: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ، ثم أمَرَ بإعدادِ القُوَّةِ؛ لإرهابِ العَدُوِّ [865] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/473). .
7- قال الله تعالى: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ الكُفَّارُ إذا عَلِموا كَونَ المُسلمينَ مُتأهِّبينَ للجِهادِ، ومُستعِدِّينَ له مُستكمِلينَ لِجَميعِ الأسلحةِ والآلاتِ؛ خافُوهم، وذلك الخَوفُ يُفيدُ أمورًا كثيرةً:
أوَّلُها: أنَّهم لا يَقصِدونَ دُخولَ دارِ الإسلامِ.
ثانيها: أنَّه إذا اشتَدَّ خَوفُهم فربَّما التَزَموا مِن عند أنفُسِهم جزيةً.
ثالثها: أنَّه ربما صار ذلك داعيًا لهم إلى الإيمانِ.
رابعُها: أنَّهم لا يُعينونَ سائِرَ الكُفَّارِ [866] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/499). .
8- في قَولِه تعالى: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ بَعدَ قَولِه سُبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ إرشادٌ إلى إنفاقِ المالِ في سَبيلِ اللهِ لإعدادِ ما ذُكِرَ؛ إذ لا يتِمُّ بدونِ المالِ شَيءٌ منه [868] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/126). .
9- دلَّ قولُه تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا على تَفضيلِ السَّلْمِ على الحَربِ- إذا جنَحَ العَدُوُّ لها- إيثارًا لها على الحَربِ التي لا تُقصَدُ لِذاتِها، بل هي ضَرورةٌ مِن ضَروراتِ الاجتماعِ تُقَدَّرُ بِقَدَرِها [869] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/126)). .
10- قال اللهُ تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي: أجِبْهم إلى ما طَلَبوا متوكِّلًا على ربِّك؛ فإنَّ في ذلك فوائِدَ كثيرةً:
منها: أنَّ طلَبَ العافيةِ مَطلوبٌ كُلَّ وَقتٍ، فإذا كانوا هم المُبتدِئينَ في ذلك، كان أَوْلى لإجابَتِهم.
ومنها: أنَّ في ذلك إجمامًا لِقُوى المؤمنينَ، واستعدادًا منهم لقتالِهم في وقتٍ آخَرَ، إن احتِيجَ لذلك.
ومنها: أنَّهم إذا اصطلَحُوا، وأمِنَ بعضُهم بعضًا، وتمكَّنَ كلٌّ مِن معرفةِ ما عليه الآخَرُ؛ فإنَّ الإسلامَ يعلو ولا يُعلَى عليه، فكلُّ مَن له عقلٌ وبصيرةٌ إذا كان معه إنصافٌ، فلا بدَّ أن يُؤثِرَه على غيرِه من الأديانِ؛ لِحُسنِه في أوامِرِه ونواهيه، وحُسنِه في معامَلتِه للخَلقِ والعَدلِ فيهم، وأنَّه لا جَورَ فيه، ولا ظُلمَ بوجهٍ، فحينئذٍ يكثُرُ الرَّاغبونَ فيه، والمُتَّبِعونَ له، فصار هذا السَّلْمُ عونًا للمُسلمينَ على الكافرينَ، ولا يُخافُ مِن السَّلمِ إلَّا خَصلةٌ واحدةٌ، وهي أن يكونَ الكُفَّارُ قَصدُهم بذلك خَدْعُ المُسلمينَ، وانتهازُ الفُرصةِ فيهم، فأخبَرَهم اللهُ أنَّه حَسبُهم وكافيهم خِداعَهم، وأنَّ ذلك يعودُ عليهم ضَرَرُه [870] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 325). .
11- في قَولِه تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ بُرهانٌ على أنَّ الإسلامَ دينُ السَّلامِ- لكِنْ عن قُدرةٍ وعِزَّةٍ، لا عن ضَعفٍ وذِلَّةٍ- لأنَّه لَمَّا كان جنوحُ العَدُوِّ للسَّلمِ قد يكون خديعةً لنا لنكُفَّ عن القتالِ- رَيثَما يستعِدُّون هُم له، أو لغيرِ ذلك من ضروبِ الخِداعِ- وكان من المصلحةِ في هذه الحالِ ألَّا نَقبَلَ الصُّلحَ منهم ما لم نستَفِدْ كلَّ ما يُمَكِّنُنا منه تَفوُّقُنا عليهم- لم يَعُدَّ الشَّارعُ احتمالَ ذلك مانعًا من ترجيحِ السَّلمِ [871] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/126). .
12- قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ إن قيل: لَمَّا قال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ فأيُّ حاجةٍ مع نَصرِه إلى المؤمنينَ حتى قال: وَبِالْمُؤْمِنِينَ؟! قلنا: التأييدُ ليس إلَّا مِن اللهِ، لكنَّه على قِسمينِ: أحدهما: ما يحصُلُ مِن غَيرِ واسطةِ أسبابٍ مَعلومةٍ مُعتادةٍ. والثاني: ما يحصُلُ بواسطةِ أسبابٍ معلومةٍ مُعتادةٍ. فالأوَّلُ: هو المرادُ مِن قَولِه: أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ والثَّاني: هو المرادُ من قَولِه: وَبِالْمُؤْمِنِينَ [872] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/501). .
13- قَولُ الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ يدلُّ على أنَّ أحوالَ القُلوبِ؛ مِن العقائِدِ والإراداتِ والكَراهاتِ، كُلُّها مِن خَلْقِ اللهِ تعالى [873] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/502). .
14- قَولُ الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ فيه ثناءٌ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ على صحابةِ رَسولِه، تُفَنِّدُ مطاعِنَ الرَّافضةِ الضَّالةِ الخاسِرةِ فيهم [874] يُنظر: ((تفسر المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/62). .
15- قَولُ الله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ حرفُ الاستعلاءِ في هذا مُعلِمٌ بأنَّه يفعَلُ مع المُتوكِّلِ فِعلَ الحامِلِ لِما وُكِلَ إليه، المُطيقِ لِحَملِه [875] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/316). .
16- قال الله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ أعلَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ تأليفَ قُلوبِ المُؤمنينَ، مِن الآياتِ العِظامِ؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بُعِثَ إلى قومٍ أنَفَتُهم شديدةٌ، ونُصرةُ بَعضِهم بعضًا ومعاونَتُه، أبلغُ نُصرةٍ ومُعاونةٍ؛ كان يُلطَمُ مِن القبيلةِ لَطمةً، فيُقاتَلُ عنه حتى يُدرَكَ ثأرُه، فألَّفَ الإيمانُ بين قُلوبِهم، حتى قاتَلَ الرَّجُلُ أباه وأخاه وابنَه، فأعلَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ أنَّ هذا ما تولَّاه منهم إلَّا هو سُبحانَه [876] يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (2/423)، ((تفسير القرطبي)) (8/42). .
17- في قوله تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ حجةٌ على قَبُولِ الإجماعِ، ولزومِه لزومَ نصِّ القرآنِ؛ إذ مُحالٌ أنْ تتفقَ الألْسُنُ على شيءٍ إلَّا وقد ائتلفتْ قلوبُ الناطقين به- لأنَّ الألْسِنَةَ مترجِمةٌ عن الضمائرِ ما حَوَتْها- وقد أخبر اللهُ تعالى أنه مُؤَلِّفُها [877] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/474). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ
- عطفُ جملةِ وَأَعِدُّوا... على جملةِ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ أو على جملةِ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا تُفيدُ مَفادَ الاحتراسِ عن مُفادِها، لأنَّ قولَه: وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا يفيدُ توهينًا لشأنِ المشركينَ، فتعقيبُه بالأمرِ بالاستعدادِ لهم؛ لئلا يحسبَ المسلمونَ أنَّ المشركينَ قد صاروا في مُكنتِهم، ويلزمُ مِن ذلك الاحتراسِ أنَّ الاستعدادَ لهم هو سببُ جعلِ الله إيَّاهم لا يُعجزونَ الله ورسولَه؛ لأنَّ الله هيَّأ أسبابَ استئصالِهم ظاهرَها وباطنَها [878] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/55). .
- وقوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ، قولُه: مِنْ قُوَّةٍ يعمُّ كُلَّ مَا يُتقوَّى بِهِ عَلَى حَرْبِ الْعَدُوِّ [879] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/545)، ((تفسير أبي حيان)) (5/343). ، وعَطْفُ رِبَاطِ الْخَيْلِ على القُوَّةِ، وهو مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ للاهتمامِ بذلك الخَاصِّ [880] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/55). ، والتنصيصِ على فضله؛ إذ إنَّ رباطَ الخيلِ هي أصلُ الحُروبِ، والخيرُ معقودٌ بنواصيها، وهي مراكبُ الفرسانِ الشُّجعانِ [881] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/343). .
- والرِّباطُ صِيغةُ مُفاعَلة؛ أُتي بها هنا للمُبالغةِ؛ لتدلَّ على قَصْد الكثرة مِن رَبْط الخيل للغزوِ، أي: احتباسِها ورَبْطِها؛ انتظارًا للغزوِ عليها [882] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/55). .
- وقولُه: تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ مُستأنَفٌ استئنافًا بيانيًّا ناشئًا عن تَخصيصِ الرِّباطِ بالذِّكرِ بعدَ ذِكر ما يَعمُّه- وهو القوَّةُ- أو في مَوضِعِ الحالِ من ضَميرِ وَأَعِدُّوا [883] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/56). .
- وفيه ذِكْرُ عَدُوَّ اللَّهِ أولًا؛ تَعظيمًا لِمَا هم عليه من الكُفْر، وتقويةً لذَمِّهم، وأنَّه يجِبُ لأجْلِ عَداوتِهم للهِ أنْ يُقاتَلوا ويُبغضَوا، ثم قال: وَعَدُوَّكُمْ على سَبيلِ التَّحريضِ على قِتالِهم؛ إذ في الطَّبْعِ أن يُعادِيَ الإنسانُ مَن عاداه، وأنْ يُريدَ له الغوائِلَ [884] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/345). .
- وفي قولِه: اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ تَعريضٌ بالتَّهديدِ لهؤلاء الآخَرين- فالخبرُ هنا مُستعمَلٌ في معناه الكِنائيِّ، وهو تَعقُّبُهم والإغراءُ بهم- وتَعريضٌ بالامتنانِ على المسلِمينَ بأنَّهم بمَحلِّ عِنايةِ اللهِ؛ فهو يُحصي أعداءَهم، ويُنبِّهُهم إليهم [885] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/57). .
- قوله: اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أيضًا فيه تقديمُ المسنَدِ إليه اللَّهُ على الخبرِ الفِعليِّ يَعْلَمُهُمْ- حيثُ لم يَقُل: (يَعْلَمُهُمُ اللَّهُ)-؛ للتقوِّي، أي: لتَحقيقِ الخَبَر وتأكيدِه، والمقصودُ تأكيدُ لازم معناه، أمَّا أصل المعنى فلا يحتاج إلى التأكيد؛ إذ لا يُنكِرُه أحدٌ [886] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/57). .
2- قَولُه تعالى: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
- عبَّرَ عن جُنوحِهم بـ (إِنْ) التي يُعبَّرُ بها عن المَشكوكِ في وُقوعِه، أو ما مِن شأنِه ألَّا يقَعَ؛ للإشارةِ إلى أنَّهم لَيسُوا أهلًا لاختيارِه لِذَاتِه، وأنَّه لا يُؤمَنُ أن يكونَ جُنوحُهم إليه كيدًا وخِداعًا [887] يُنظر: ((تفسر المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/57). .
- اللَّامُ في قولِه: لِلسَّلْمِ واقعةٌ موقِعَ (إلى)؛ لتقويةِ التَّنبيهِ على أنَّ مَيْلَهم إلى السَّلمِ مَيلُ حقٍّ، أي: وإنْ مالوا لأجْل السَّلمِ، ورغبةً فيه، لا لغرَضٍ آخَرَ غيرِه [888] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/59). .
- وإنَّما قال: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا ولم يَقُلْ: (وإنْ طَلَبوا السَّلْم فأَجِبْهم إليه)؛ للتَّنبيهِ على أنَّه لا يُسعِفُهم إلى السَّلمِ حتَّى يَعلمَ أنَّ حالَهم حالُ الرَّاغبِ؛ لأنَّهم قد يُظهِرون المَيلَ إلى السَّلمِ كيدًا [889] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/59). .
- قولُه: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ صِيغةُ قَصْرٍ، وطَريقُ القَصرِ فيه أفادَ قَصْرَ معنى الكَمالِ في السَّمعِ والعِلمِ، أي: فهو سميعٌ منهم ما لا تَسمعُ، ويَعلمُ ما لا تَعلمُ، وقصرُ هذَينِ الوَصفينِ بهذا المعنى على اللهِ تعالى عَقِبَ الأمرِ بالتوكُّلِ عليه، يُفضي إلى الأمرِ بقَصرِ التوكُّلِ عليه، لا على غيرِه [890] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/59). .
3- قَولُه تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
- قوله: فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أُريد منه الكِنايةُ عن عَدمِ مُعاملتِهم بهذا الاحتِمالِ، وألَّا يَتوجَّسَ مِن هذا الاحتِمالِ خِيفةً، وأنَّ ذلك لا يَضرُّه، وتَأكيدُ الخبر بـ(إنَّ) مُراعًى فيه تأكيدُ معناه الكِنائيِّ؛ لأنَّ معناه الصَّريحَ ممَّا لا يَشكُّ فيه أحدٌ [891] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/62). .
- قولُه: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ مُستأنفٌ مَسوقٌ مساقَ الاستدلالِ على أنَّه حَسْبُه، وعلى المعنى التعريضيِّ، وهو عدمُ التحرُّجِ من احتمالِ قَصدِهم الخيانةَ، والتوجُّسِ مِن ذلك الاحتِمالِ خِيفةً، أي: فإنَّ اللهَ قد نَصرَك مِن قبلُ، وأنت أضعفُ مِنكَ اليومَ، فنَصَرَك على العَدوِّ وهو مُجاهِرٌ بعُدوانِه؛ فنَصْرُه إيَّاكَ عليهم مع مُخاتلتِهم، ومع كَونِك في قُوَّةٍ من المؤمنِينَ الذين معَكَ، أَوْلَى وأقربُ [892] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/33)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/62). .
- وقولُه: بِنَصْرِهِ في إضافةِ النَّصرِ إلى اللهِ تَنبيهٌ على أنَّه نصْرٌ خارقٌ للعادةِ [893] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/63). .
4- قَولُه تعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
- قولُه: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ استِئنافٌ بيانيٌّ؛ لأنَّه ناشئٌ عن مَساقِ الامتِنانِ بهذا الائتلافِ، أي: لو حاولتَ تأليفَهم ببذلِ المالِ العَظيمِ، ما حَصَل التآلُفُ بينهم، وهو مُقرِّرٌ لِمَا قَبْله، ومُبيِّنٌ لعزَّة المَطْلَب، وصعوبةِ المأخَذِ، أي: تَناهي التَّعادِي فيما بينَهم [894] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/33)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/64). .
- وقولُه: مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فيه مبالغةٌ حَسَنةٌ؛ لوقوعِها مع حَرْفِ (لو) الدَّالِّ على عدمِ الوقوعِ [895] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/64). .
- والتَّأكيدُ بـ(إنَّ) في قولِه: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لمجرَّدِ الاهتمامِ بالخَبَر، باعتبارِ جعْلِه دليلًا على بديعِ صُنْعِ الله تعالى [896] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/64). .
- ومَوقِعُ الاستدراكِ في قَولِه: وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ لأجلِ ما يُتوَهَّمُ مِن تعذُّرِ التَّأليفِ بينهم، في قَولِه: لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أي: ولكِنَّ تَكوينَ اللهِ يَلينُ به الصُّلبُ، ويحصُلُ به المتعَذِّرُ [897] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/64). .
- ولَمَّا كان هذا التَّكوينُ صُنعًا عَجيبًا، ذيَّلَ اللهُ الخبَرَ عنه بِقَولِه: إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي: قَوِيُّ القُدرةِ، فلا يُعجِزُه شَيءٌ، مُحكِمُ التَّكوينِ، فهو يُكَوِّنُ المُتَعذِّر، ويجعَلُه كالأمرِ المَسنونِ المألوفِ [898] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/64). .
- وقيل: بل خَتَم اللهُ تعالى هذه الآيةَ بِقَولِه: إِنَّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ؛ لأنَّه تعليلٌ لِكفايةِ اللهِ لِرَسولِه شَرَّ خِداعِ الأعداءِ، وتأييدِه بِنَصرِه وبالمؤمنينَ، لا للتَّأليفِ بين المؤمنينَ وَحدَه؛ إذْ لو كان تعليلًا للتَّأليفِ بين المؤمنينَ وَحدَه، لكانَ الأنسَبُ أن يُعَلَّلَ بِقَولِه: إِنَّهُ رَؤوفٌ رحيمٌ، على أنَّ هذا التَّأليفَ في هذا المقامِ، ما كان إلَّا بِعزَّةِ اللهِ وحِكمَتِه في إقامةِ هذا الدِّينِ [899] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/63). .