موسوعة التفسير

سُورَةُ آل عِمْرانَ
الآيات (102-109)

ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ

غريبُ الكَلِمات:

فَأَلَّفَ: جمَع، وأَوْقَع الأُلْفة، والإلفُ: اجتماعٌ مع التِئام، وأصلُه: انضمامُ الشَّيءِ إلى الشَّيء يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/131)، ((المفردات)) للراغب (ص: 81)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 19). .
شَفَا حُفْرَة: أي: حَرْفِ حُفرة؛ فشفَا الشيءِ: حرْفُه، ومنه: أَشْفَى على كذا: إذا أشْرَف عليه يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 459)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 127). .

المَعنَى الإجماليُّ:

يأمُر الله عبادَه المؤمنين بتقواه قَدْر الاستطاعةِ، وأنْ يُداوِموا على التَّمسُّك بهذا الدِّين إلى أنْ يأتيَهم الموتُ وهم على ذلك.
كما يأمُرُهم سبحانه بالاجتماعِ والأُلْفة على كلمةِ الحقِّ، وألَّا يفعلوا ما يَدْعوهم إلى الفُرْقة.
وأمَرهم أيضًا أن يَذْكروا ما أَنعَم به عليهم من الاجتماعِ على دِين الإسلام، حتى صاروا بهذه النِّعمة إخوانًا، وقد كانوا مِن قَبْلِ اعتناقهم له أعداءً مُتقاتِلين، وذكَّرهم الله سبحانه أيضًا أنَّهم كانوا على وَشْكِ أنْ يقعوا في النَّار فأَنقَذهم منها، كذلك يُوضِّح اللهُ لهم آياتِه؛ لأجْل أنْ تَحصُل لهم الدَّلالةُ على طريقِ الحقِّ والتَّوفيق لسُلوكه.
ثم يأمُر اللهُ عِبادَه المؤمنين أنْ يكون منهم جماعةٌ تقوم بالدَّعوة إلى دِين الله، ويأمرون الناسَ بما أمَرهم به الشَّرع، ويَنْهَوْنهم عن فِعْل ما نهاهم عنه الشَّرع، وأولئك هم المفلِحون.
ونهاهم أنْ يَتفرَّقوا في دِينهم كتَفرُّق الذين من قَبْلهم: كاليهود، والنَّصارى، الذين اختَلَفوا في دِينهم بعد أنْ جاءتهم البيِّناتُ التي تمنعهم مِن التفرُّق، وأولئك لهم عذابٌ من عند الله عظيم، وذلك في يوم تكونُ فيه وُجوه أهلِ السَّعادة بيضاءَ، بينما تَسْودُّ وجوه أهلِ الشَّقاوة. فأمَّا أصحابُ الوجوه المُسودَّة، فيُقال لهم توبيخًا: أَكفَرتم بعد إيمانكم؟! فذوقوا عذابَ الله بسبب كُفْركم، وأمَّا مَن ابيضَّت وجوههم، فهُم في رحمة الله، بما أَعدَّه الله في جنَّاته مِن أنواع النَّعيم، ماكِثين فيه أبدًا.
ثُمَّ خاطَب الله نبيَّه محمدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ تلك الآياتِ التي تقدَّمت نقرؤها عليك بالحقِّ، والله تعالى لا يَظلِم أحدًا مِن خلْقه مُطلَقًا، وله وحده جميعُ ما في السَّموات والأرض، وإليه تُرجَع جميع الأمور.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا حذَّر الله تعالى المُخاطَبِين من الانخداع لوَساوس بعض أهل الكتاب، حرَّضهم على تَمامِ التَّقوى؛ لأنَّ في ذلك زيادةَ صلاحٍ لهم، ورُسوخًا لإيمانِهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/30). ، فقال:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ
أي: يا أيُّها المؤمنون ابذُلوا كلَّ جَهْدكم وطاقتكم؛ لتَمتَثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ وتَجتنِبوا نواهيَه، ولتُحقِّقوا تقوى الله تعالى الاتِّقاءَ الحقَّ الواجبَ الثابتَ بقَدْرِ ما تستطيعون يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/637)، ((تفسير السعدي)) (ص: 141، 142)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/205)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/588). قال ابن أبي حاتم: (عن عبد الله: اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: أنْ يُطاع فلا يُعصى، وأنْ يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر... ورُوي عن مُرَّة الهَمْداني، والربيع بن خُثَيم، وعمرو بن ميمون، والحسن، وطاوس، وقتادة، وإبراهيم النَّخَعي وأبي سِنَان، والسُّدِّي نحو ذلك) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (3/722). .
كما قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] .
وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
أي: داوِموا في حياتِكم على التَّمسُّك بدِين الإسلام، وحافِظوا عليه حتى يأتيَكم الموتُ وأنتم على ذلك يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 141)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 225)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/589). .
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا أمَر الله تعالى عبادَه المؤمنين بالتَّقوى، أمَرَهم بما يُعِينهم عليها وهو الاجتماعُ والاعتصامُ بدِين الله يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 142). ، فقال تعالى:
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا
أي: تَمسَّكُوا بدِينه، وعهْدِه إليكم بالأُلفةِ والاجتماعِ على كلمةِ الحقِّ، ولا تَرتكِبوا ما يُفرِّق جمْعَكم عن هذا الدِّين والعَهْد يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/643، 647)، ((تفسير ابن كثير)) (2/89، 90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 142)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/594- 595). .
قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى: 13] .
وقال جلَّ وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
وعن أبي هُرَيرَةَ رضِي اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((إنَّ اللهَ يرضَى لكم ثلاثًا، ويَكرهُ لكُم ثلاثًا، فيَرضَى لكُم: أنْ تَعبدوهُ، ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأنْ تَعتصِموا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تَفرَّقوا، ويَكرهُ لكم: قيلَ وقالَ، وكثرةَ السُّؤالِ، وإِضاعةَ المالِ )) رواه مسلم (1715). .
عن زيدِ بن أَرْقمَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ألَا وإنِّي تَارِكٌ فيكم ثَقَلَين: أحدُهما كتابُ اللهِ عزَّ وجلَّ، هو حبلُ اللهِ، مَن اتَّبعه كان على الهُدى، ومَن ترَكه كان على ضلالةٍ ..)) الحديث رواه مسلم (2408). .
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
أي: اذكُروا بقلوبِكم وألْسنتِكم- أيُّها المؤمنون- ما أَنعَم الله تعالى به عليكم من الأُلْفةِ والاجتماعِ على دِين الإسلام، فقد كنتُم من قبلِ اعتناقِكم الإسلامَ أعداءً مُتفرِّقين، يُقاتِل بعضُكم بعضًا، في غيرِ طاعةِ الله تعالى، فجَمع الله عزَّ وجلَّ بالإسلامِ قلوبَكم، فجعَل بعضَكم لبعضٍ إخوانًا مُتحابِّين، بلا ضغائنَ ولا أحقادٍ بينكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/649-651، 657)، ((تفسير ابن كثير)) (2/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 142)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/595). .
قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 62-63] .
عن عبدِ الله بن زيد رضِي اللهُ عنه قال: ((لَمَّا أفاءَ اللهُ على رسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ حُنينٍ، قَسَمَ في النَّاسِ في المؤلَّفةِ قلوبُهم، ولم يُعطِ الأنصارَ شيئًا, فكأنَّهم وجَدوا وَجَدوا: أي: غضِبوا. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/155). إذ لم يُصِبْهم ما أصابَ النَّاسَ، فخطَبهم فقال: يا معشرَ الأنصارِ، ألمْ أجِدْكم ضُلاَّلًا فهداكم اللهُ بي، وكنتم مُتفرِّقين فألَّفَكم اللهُ بي، وكنتم عالةً عَالة: جمْع عائِل، وهو الفقيرُ. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/323). فأغْناكم اللهُ بي؟! كلَّما قال شيئًا، قالوا: اللهُ ورسولُه أَمَنُّ ... )) الحديث رواه البخاري (4330). .
وفي روايةٍ أخرى قال عليه الصَّلاة والسَّلام: ((يا معشرَ الأنصارِ، ألمْ أَجِدْكم ضُلَّالًا فهداكم اللهُ بي، وعالةً فأغناكم اللهُ بي، ومُتفرِّقينَ فجمَعكم اللهُ بي؟! )) رواه مسلم (1061). .
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا
أي: كنتُم- أيُّها المؤمنون- قبلَ اجتماع قلوبِكم على الإسلام، على وَشْكِ الوقوع في النَّار، إذ لم يَبقَ بينكم وبينها إلَّا أنْ تموتوا على كُفْركم، فأَنقَذَكم اللهُ تعالى منها بهِدايتِكم إلى الإسلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/657-658)، ((تفسير السعدي)) (ص: 142)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/598). .
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
أي: بمِثْل هذا الوضوحِ الذي بيَّن الله تعالى به ما تَقدَّم من الآيات الدَّالَّات على الحقِّ القويم، يُبيِّن أيضًا بوضوحِ بقيَّة الآيات الأخرى؛ لأجْل أن تَحصُل لكم بها الدَّلالةُ على طريق الحقِّ وتُوفَّقوا لسُلوكه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/660)، ((تفسير السعدي)) (ص: 142، 971)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/599- 600). .
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
في الآياتِ المتقدِّمةِ عاب اللهُ تعالى أهلَ الكتاب على شَيئينِ أحدهما: أنَّه عابَهم على الكُفْر، فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ، ثُمَّ بعد ذلك عابَهم على سَعْيهم في إلْقاء الغيرِ في الكُفْر، فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فلمَّا انتَقَل منه إلى مخاطبة المؤمنين، أمَرَهم أوَّلًا بالتَّقوى والإيمان، فقال: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، ثم أمَرهم بالسَّعي في إلْقاء الغيرِ في الإيمان والطَّاعة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/314). ، فقال:
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
أي: لتوجدْ منكم- أيُّها المؤمنون- فِرْقةٌ مُتصدِّيةٌ للقيام بشأنِ الدَّعوة إلى دِين الله تعالى وبيانِ شرائعِه، وقائمةٌ بواجب أمْر النَّاس بامتِثال ما أمرهم به الشَّرع، ونَهْي النَّاس عن ارتكابِ ما نهاهم عنه الشَّرع؛ فإنَّ المتَّصِفين بهذه الصِّفات هم الفائزون في الدَّارينِ بما يَرْغَبون، والنَّاجون فيهما ممَّا يَرهَبون يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/660-661)، ((تفسير ابن كثير)) (2/91، 91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 142، 971)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/5-8). .
عن حُذيفةَ بن اليَمان رضِي اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((والذي نَفْسي بيدِه لتَأمرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عن المُنكرِ، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعثَ عليكمْ عقابًا منهُ فتدعونهُ فلا يَستجيبُ لكمْ )) أخرجه الترمذي (2169)، وأحمد (23349). حسَّنه الترمذيُّ، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/715)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2169). .
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
مُناسبةُ قوله: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا ... بعدَ قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ... أنَّ الأمَّةَ إذا تَركتِ الدَّعوةَ إلى الخيرِ والأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكر فلا بدَّ أنْ تتفرَّق؛ لأنَّه لا يكونُ لهم في هذه الحالِ كلمةٌ جامعةٌ؛ إذ كلُّ واحدٍ يُريد أنْ يعملَ على هواه، فالنُّفوسُ لها نزعاتٌ متباينةٌ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/8). .
وأيضًا لَمَّا أمَر تعالى بالأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر، وذلك ممَّا لا يَتِمُّ إلَّا إذا كان الآمرُ بالمعروف قادرًا على تنفيذ هذا التَّكليف، ولا تَحصُل هذه القُدْرةُ إلَّا إذا حصلتِ الأُلْفةُ والمحبَّةُ بين أهل الحقِّ والدِّين، لا جَرَم حذَّرهم اللهُ تعالى من الفُرْقة والاختلاف؛ لكي لا يصيرَ ذلك سببًا لعَجْزهم عن القيامِ بهذا التَّكليف يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/316). ، فقال:
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ
أي: لا تكونوا- يا معشرَ المؤمنين- مُتفرِّقين في دِينكم، كما تَفرَّق الذين مِن قبلكم كاليهودِ والنَّصارى الذين اختَلَفوا في دِينهم، فأصبحوا أحزابًا مختلفةً، وذلك مِن بعد ما جاءتْهم دلائلُ الحقِّ الواضحات، وعلِموا الحقَّ المبين، فوقَعوا في مُخالفته عامدين، وعلى اللهِ تعالى مُتجرِّئين يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/662)، ((تفسير ابن كثير)) (2/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 142، 971، 972)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/8-10). .
وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
أي: لهؤلاء عذابٌ من عند الله عظيمٌ؛ فلا تكونوا مِثْلهم فيكونَ لكم من عِقابِ الله مِثْلُ الذي لهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/662)، ((تفسير ابن كثير)) (2/91)، ((تفسير السعدي)) (ص: 142)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/9-10). .
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى العذابَ العظيمَ الذي سيَقَع على مَن تفرَّقوا في دِينهم شيعًا بعد مجيءِ الحقِّ وظهورِه لهم، بيَّن هنا موعدَ مجيء ذلك العذاب يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 972). ، فقال:
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ
أي: إنَّ أولئك لهم عذابٌ عظيمٌ في اليومِ الذي تكونُ فيه وجوهُ أهل السعادةِ بيضاءَ، وهم الذين اعتَصَموا بحبلِ الله جميعًا، وائتلَفوا بينهم، وتكونُ فيه وجوهُ أهلِ الشَّقاوة سوداءَ، وهم الذين تَفرَّقوا بعدَ ظهورِ البيِّنات لهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/663)، ((تفسير ابن كثير)) (2/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 142-143، 972)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/25-27). .
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ
أي: إنَّ الَّذين اسودَّت وجوهُهم، يُقال لهم توبيخًا وتقريعًا: أكفرتُم بعد توحيدِ الله تعالى وعهْدِه الذي أخَذه عليكم بألَّا تُشرِكوا به شيئًا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/664-667)، ((تفسير ابن كثير)) (2/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 972)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/27-28). ؟!
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
أي: فذوقوا إذَنْ عذابَ الله تعالى؛ بسببِ كُفْركم هذا يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/667)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/29-30). .
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
أي: أمَّا أولئك الذين قد ابيضَّتْ وجوهُهم فهُمْ يتقلَّبون في رحمةِ الله تعالى بما أعدَّ لهم في جنَّته من أنواعِ النعيم، ماكثين فيه أبدًا بغير نهاية يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/664-667)، ((تفسير ابن كثير)) (2/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 143). .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ
أي: تلك الآياتُ التي تقدَّمت، ومنها ما ذكره الله تعالى من ثوابِ المؤمنين وعذابِ الكافرين، نقرؤها عليك- يا محمَّدُ- بالصِّدق المُطابقِ للواقع؛ صِدقًا في أخبارها، وعدْلًا في أحكامها يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/667-668)، ((تفسير ابن كثير)) (2/92)، ((تفسير السعدي)) (ص: 143، 972). .
وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ
أي: إنَّ الله تعالى لا يَظلمُ أحدًا مُطلقًا؛ لأنَّه غيرُ مريدٍ للظُّلم سبحانه، ومِن ذلك أنَّه لا ينقص أحدًا شيئًا من الحَسنات، ولا يَزيدُ على أحدٍ شيئًا من السَّيِّئات يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/668)، ((تفسير ابن كثير)) (2/92-93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 143، 972). .
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى أنَّه غيرُ مُريدٍ للظُّلم، بيَّن هنا أنَّه لا يَحتاجُ إلى ظُلْم أحدٍ مِن خلْقه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/669)، ((تفسير ابن كثير)) (2/93). ، فقال:
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
أي: إنَّ اللهَ تعالى هو وحْده المالكُ لِجميع مَا في السَّموات وما في الأرض، والخالقُ الرازقُ المدبِّر يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/669-670)، ((تفسير ابن كثير)) (2/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 143، 972). .
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ
أي: هو الذي يتصرَّفُ في شؤون عبيدِه، والحاكمُ عليهم في الدُّنيا والآخرة، ومن ذلك رجوعُ النَّاس إليه يومَ القيامة؛ ليُجازيَهم بأعمالهم؛ إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشرٌّ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (5/671)، ((تفسير ابن كثير)) (2/93)، ((تفسير السعدي)) (ص: 143، 972). .

الفَوائِد التربويَّة:

1- في قوله تعالى: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أنَّ على العبادِ البقاءَ على الإسلام والتَّمسُّكَ به، والمحافظةَ عليه في حال الصِّحَّة والسَّلامة حتى يُوافيَهم الموتُ وهم عليه؛ فالمَدار على الخاتِمة يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/285)، ((تفسير ابن كثير)) (2/87)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/591). .
2- وجوبُ الاجتماعِ على شَرْع الله تعالى؛ فقد وضَعَ الله تعالى لنا بفضله ورحْمته قاعدةً نَرجِع إليها عند تَفرُّقِ الأهواءِ واختلافِ الآراء، وهي الاعتصامُ بحبله، بالتَّحاكمِ إلى شرْعِه؛ قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/600). .
3- تذكير العبادِ نعمةَ الله تعالى في الأمور الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، بقلوبِهم وألْسنتهم؛ ليَزدادوا شكرًا له ومحبَّة، وليَزيدَهم من فضْله وإحسانه، قال سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ... يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:141). ، والتَّذكير بنِعْمة الله تعالى طريقٌ من طُرُق مواعظ الرُّسل يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/32-33). .
4- في قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا... الحرصُ على الاجتماع والحَذَر من التَّفرُّق؛ فمِن أكبر نِعَم الله على الأُمَّة أنْ يؤلِّف بين قلوبِها بالاجتماعِ وعدم الفُرْقة؛ فاجتماعُ الأُمَّة الإسلاميَّة عِصمةٌ لها، وفي التَّفرُّقِ زوالُ الوَحْدة التي هي مَعقِدُ العزَّة والقوَّة يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/317)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/17-18، 22)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/603). .
5- الدَّعوةُ إلى سبيلِ الله تعالى وإرشادُ الخَلْقِ إلى دِينه وظيفةٌ ضروريَّة لإقامةِ منهجِ الله في الأرض، ولتغليبِ الحقِّ على الباطل، والمعروفِ على المُنكَر، والخيرِ على الشرِّ؛ فلا بدَّ من جماعةٍ تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكَر، وإنْ كان ذلك واجبًا على كلِّ فردٍ من الأُمَّة بحسَبه، وهؤلاء هم المفلحون الرَّابِحون إذا خسِر النَّاسُ؛ قال سبحانه وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ... يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/91)، ((تفسير السعدي)) (ص:142)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/10). .

الفوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِف:

1- قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه، توجيه النِّداء إلى المؤمنين يُشير إلى أنَّ التَّقوى من مقتضيات الإيمان؛ لأنَّه إذا نُودي الإنسانُ بوصْف، فإنَّه يزدادُ وصْفُه هذا بحسب زِيادتِه فيما وُجِّه إليه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/590). .
فالموت لا يُنهى عنه؛ لأنَّه غيرُ داخلٍ تحتَ قُدرة المكلَّف، فيتعيَّن حمْلُه على السببِ الذي يَقتضي حصولَ الموت على الإسلام، وهو تقديمُ الإسلامِ قبلَ ذلك، والثباتُ عليه، فيأتي الموت حينئذٍ والعبدُ على الإسلام، والقاعدةُ في مِثل هذا تقول: إذا كان مُتعلِّقُ الخطابِ مقدورًا حُمِلَ عليه، وإنْ كان غيرَ مقدورٍ عليه صُرِفَ الخطابُ إلى ثمرتِه أو سببِه، وهنا حُمِل على السَّبب ينظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (2/784). .
2- قوله الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، في الآية دليلٌ على أنَّ الأمْرَ بالشَّيء يَستلزِمُ النَّهيَ عن ضدِّه يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/32)، ((قواعد التفسير)) للسبت (2/482).
3- قول الله تعالى: بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ولم يَقُل (بينكم)؛ لأنَّ الائتلافَ في القلوب، وهذا هو الذي عليه المدارُ؛ فكم مِن أُمَّةٍ ائتلفتْ بأجسامها وقلوبها مُتفرِّقةٌ! كما قال الله تعالى عن اليهود: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/596). .
4- في قول الله تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الردُّ على أهلِ البِدع الذين حرَّفوا نُصوصَ الكتاب والسُّنَّة إلى معانٍ لا يدلُّ عليها ظاهرُها، فيكون القرآنُ ليس هدًى ولا بيانًا للنَّاس، وهو خلافُ ما تدلُّ عليه هذه الآيةُ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/606). .
5- في قول الله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إثبات العِللِ في أفعال الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ (لعلَّ) للتَّعليل يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/607). .
6- قول الله تعالى: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ لا إلى أنفسِهم؛ ففيه ملاحظةُ الإخلاص؛ لأنَّ بعضَ النَّاس يدعو إلى نَفْسه لا إلى الخيرِ يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/10). .
7- قول الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا، فيه أنَّ الاختلافَ المنهيَّ عنه هو ما كان ناشئًا عن التَّفرُّق لا كلُّ اختلافٍ يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/40). .
8- في قول الله تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا قُدِّم الافتراقُ على الاختلاف؛ للإيذانِ بأنَّ الاختلافَ عِلَّةُ التَّفرُّق، وهذا من المفادات الحاصلةِ من ترتيب الكلامِ وذِكْر الأشياء مع مُقارناتها يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/43). .
9- قول الله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ يُفيد أنَّ الإنسان لا يُؤاخَذ على تَرْك الحقِّ، أو اتِّباع الباطل إلَّا إذا بُيِّن له ذلك حتى يَتبيَّن، أو صار بحيث تَبيَّن له لو نظَر فيه، والجهلُ ليس بعُذْر بعدَ البيان يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/41). .
10- قوله سبحانه: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا فيه تمثيلُ حال التَّفرُّق في أبشعِ صُورِه المعروفةِ لديهم من مطالعة أحوالِ اليهود، وفيه إشارةٌ إلى أنَّ تَرْك الأمْر بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر يُفضي إلى التَّفرُّق والاختلاف؛ إذ تَكثُر النَّزَعات والنَّزَغات، وتَنشقُّ الأُمَّة بذلك انشقاقًا شديدًا يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/42) . .
11- قوله الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، فيه أنَّ المكلَّف إمَّا مؤمن وإمَّا كافر، وأنَّه ليس هاهنا مَنزِلةٌ بين المنزِلتين كما يذهب إليه المُعتزِلة، فإنَّ الله تعالى قسَّم أهلَ القيامة إلى قِسْمين: منهم مَن يَبيضُّ وجهُه وهم المؤمنون، ومنهم مَن يسودُّ وجهُه وهم الكافرون، ولم يذكر ثالثًا، فلو كان هاهنا قِسْمٌ ثالث لذكَره الله تعالى يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/318). .
12- قوله الله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ لم يَنصَّ تعالى على خُلُود أهل النَّار في هذه الآية، مع أنَّه نصَّ على خُلُود أهل الجنَّة؛ وذلك إشعارًا بأنَّ جانب الرَّحمة أغلب يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/320)، ((تفسير أبي حيان)) (3/296). .
13- قول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ لَمَّا ذكَر العذابَ لم يُضِفْه إلى نَفْسه، وذكَر الرحمة مُضافةً إلى نَفْسه، وذلك يُشعِر بأنَّ جانب الرحمة مُغلَّب يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/320)، ((تفسير أبي حيان)) (3/296). .
14- قول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ؛ لَمَّا ذكَر العذابَ علَّله بفِعْلهم، ولَمَّا ذكَّر الثوابَ علَّله برحمتِه، وذلك يُشعِر بأنَّ جانبَ الرحمة مُغلَّب يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/320). .
15- قول الله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ؛ لو لم يَذكُر ذلك لكان الوعيدُ مختصًّا بمَن كفَر بعد إيمانِه، فلمَّا ذكَر هذا ثبَتَ الوعيدُ لِمَن كفَر بعد إيمانه، ولِمَن كان كافرًا أصليًّا يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/320)، ((تفسير ابن كثير)) (2/92). .
16- قول الله تعالى: فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ؛ (في) للظَّرفية، فرحمةُ الله هنا ليستِ الرَّحمة المذكورة في قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ؛ لأنَّ هذه صِفة الله، أمَّا في قوله تعالى فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ فهي مخلوقُ الله، والمُراد بها: الجنَّة، فالرَّحمةُ تُطلَق على غير صِفة الله، بل على مخلوقاتِه، ويَمتنِع أنْ يكون المراد بها الصِّفة؛ لأنَّ الصِّفة لا تكون ظرفًا للبشر، وإذا امتنع أنْ تكون ظرفًا للبشر امتنع أنْ يُراد بالرحمة هنا الرَّحمة التي هي صفةٌ لله تعالى، بل هي الرَّحمةُ المخلوقة لله، وأُطلِق عليها اسمُ الرَّحمة؛ لأنها كانت برحمة الله يَرحَم الله بها مَن يشاء من عباده يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/34). .
17- قول الله تعالى: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ؛ فيه أنَّ مَن كان وكيلًا عن الغير، فله حُكْمُ ذلك الذي وكَّله؛ لأنَّ الله أضاف التِّلاوة إليه مع أنَّ التَّالي رسوله، فدلَّ هذا على أنَّ حُكْم ما نفَّذه الرَّسول بما أُرسِل به حُكْم ما قاله المُرسِل يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/42). .
18- قول الله تعالى: آيَاتُ اللَّهِ؛ فيه أنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى؛ لأنَّ الله تعالى أضافه إلى نَفْسه، وما أُضيفَ إلى الله ولم يكُن عينًا قائمةً بنَفْسها، فهو من صفاتِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/42). .
19- قولُ الله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ يُفيد أنَّ مَن حاوَل أن يُشرِّع للخَلْق شيئًا سِوى ما شَرَعه الله، فقد جعَل نَفْسَه شريكًا مع الله، ووجْه ذلك: أنَّ الله حصَر مَرجِع الأمور إليه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/46). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ:
- فيه تكريرُ الخِطابِ بعُنوان الإيمانِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وهو تشريفٌ إثرَ تَشريفٍ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/65). .
- وتصديرُ الآية بالنِّداءِ يُشعِر بالعِناية والاهتمام بالتَّقوى يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/590). .
- وقوله: وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: فيه النَّهيُ عن شيءٍ وإرادةُ النَّهيِ عن لازِمه؛ إذ النَّهيُ عن الموتِ على حالةٍ في الدِّين إلَّا على حالة الإسلام، مقصودٌ منه النَّهيُ عن مُفارَقة الدِّين بالإسلام مدَّةَ الحياة؛ لأنَّ ساعة الموت أمرٌ غير معلوم؛ فالنَّهيُ عن الموت على غير الإسلام، يَستلزِم النَّهيَ عن مُفارَقة الإسلام في سائرِ أحيان الحياة، ولو كان المرادُ به معناه الأصلي، لكان ترخيصًا في مُفارَقة الإسلام إلَّا عندَ حضورِ الموت، وهو معنى فاسدٌ يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/285)، ((تفسير أبي السعود)) (2/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/30-31). .
- ومجيءُ جملة إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ اسميَّةً أبلغُ؛ لتَكرُّر الضَّمير، وللمُواجهة فيها بالخِطاب يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/285). .
2- قوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا: فيه تمثيلٌ لهيئة اجتماعِهم والتفافِهم على دِين الله ووصاياه وعهوده بهيئةِ استمساكِ جماعةٍ بحبل أُلقي إليهم من مُنقِذٍ لهم مِن غرَقٍ أو سقوطٍ، فشبَّه الوثوقَ بالله، والاعتمادَ على حمايتِه، بحالِ مَن يُمسِك بحبلٍ وثيقٍ، وقد تدلَّى من مكانٍ عالٍ، فهو آمنٌ مِن انقطاعِه وانبتاتِه يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/31)، ((تفسير أبي السعود)) (2/66)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/30- 32)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/12). .
- قوله: وَلَا تَفَرَّقُوا: تأكيدٌ لمضمون (اعتصموا جميعًا) ... وقد يكون قوله: وَلَا تَفَرَّقُوا أمرًا ثانيًا؛ للدَّلالة على طلبِ الاتحاد في الدِّين، وقد يُؤكَّد الشيءُ بنفْي ضِدِّه كما في قوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [الأنعام: 140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/32) . .
3- قوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ:
- فيه تصويرٌ لحَالِهم التي كانوا عليها؛ ليَحصُل من استفظاعها انكشافُ فائدةِ الحالة التي أُمِروا بأنْ يكونوا عليها، وهي الاعتصامُ جميعًا بجامعةِ الإسلام الذي كان سببَ نَجاتهم من تلك الحالة، وفي ضِمنِ ذلك تذكيرٌ بنِعمة الله تعالى، الذي اختارَ لهم هذا الدِّين، وفي ذلك تحريضٌ على إجابةِ أمْره تعالى إيَّاهم بالاتِّفاق يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/32-33). .
- وقوله: شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ:
- فيه تمثيلُ حياتِهم التي يُتوقَّع بعدَها الوقوعُ في النَّار بالقعودِ على حرْفها مُشفِين على الوقوع فيها؛ إذ لو ماتوا على ما كانوا عليه مِن الكُفْرِ، لوقعوا في النَّار يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/395-396)، ((تفسير أبي حيان)) (3/288)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/35). .
- وفيه تنبيهٌ على تَحقير مُدَّة الحياة؛ فإنَّه ليس بين الحياةِ وبين الموتِ المُستلِزم للوقوعِ في الحُفْرة إلَّا ما بين طرف الشَّيء وبين ذلك الشيء يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/313). .
- وقوله: كَذَلِكَ: إشارةٌ إلى مصدرِ الفعل الذي بعده (يُبيِّن)، أي: مِثْل ذلك التَّبيينِ الواضحِ، وما فيه من معنى البُعد؛ للإيذانِ بعُلُوِّ درجة المُشارِ إليهِ، وبُعدِ منزلتِه في الفضل، وكمالِ تميُّزِه به عمَّا عداه، وانتظامِه بسببه في سَلكِ الأمورِ المُشاهَدة، والكافُ لتأكيدِ ما أفادَه اسمُ الإشارةِ من الفخامة يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/67). .
4- قوله: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ:
- صيغة وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ صِيغةُ وجوب، وهو لتأكيدِ ما كانوا يَفعلونه ووجوبِه؛ لأنَّ ذلك كان حاصلًا بينهم من قبلُ، كما يدلُّ عليه قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] ، وفيه زيادةُ الأمرِ بالدَّعوة إلى الخير، وقد كان الوجوب مُقرَّرًا من قَبلُ بآيات أُخرى، أو بأوامر نبويَّة؛ فالأمرُ لتأكيدِ الوجوب أيضًا؛ للدَّلالة على الدَّوام والثَّبات عليه يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/14-15). .
- وفيه عطْف الخاصِّ على العامِّ- حيث عطَف الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المُنكَر على الدَّعوةِ إلى الخيرِ، مع اندراجِهما فيها؛ لمزيدِ العِناية بهما، ولإظهارِ فضْلِهما على سائرِ الخيراتِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/67)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/14-15). .
- وفيه: حذْفُ المفعولِ الصريحِ من الأفعال الثلاثة (يَدْعُون- ويأمرون- ويَنْهون)؛ للإيذانِ بظهوره، أي: يدْعون الناسَ ويأمُرونهم وينهَوُنهم، أو لقصْد إيجاد نفْسِ الفِعْل كما في قولك: فلانٌ يُعطِي ويَمنعُ، أيْ: يفعلون الدعاءَ إلى الخير والأمرَ بالمعروف والنَّهي عن المُنكَر، أو لقَصْد التَّعميم، أي يَدْعون كلَّ أحد يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/67- 68)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/32). .
- قوله: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ: التَّعريف في (الخير- والمعروف- والمُنكَر)- تعريفُ الاستغراق، وهو يُفيد العمومَ في المعاملات بحسب ما يَنتهي إليه العِلْم والمقدِرة، فيُشْبِه الاستغراقَ العُرْفيَّ يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/40-41). .
- وقوله: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: الإشارة بـأُولِئَكَ وما فيه مِن معنى البُعد؛ للإشعارِ بعلوِّ طبقتِهم، وبُعدِ منزلتِهم في الفضلِ، والإفرادُ في كاف الخطابِ؛ لأنَّ المخاطَب كلُّ مَن يَصلُح للخطاب، أو لأنَّ التعيينَ غيرُ مقصودٍ، أي: أولئك الموصوفون بتلك الصِّفاتِ الكاملة يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/68). .
5- قوله: وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ: فيه تأكيدٌ ومبالغةٌ في وعيد المُتفرِّقين، وتشديد في تهديدِ المُتشبِّهين بهم يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/32)، ((تفسير أبي السعود)) (2/68). ؛ حيث جاءَ التَّعبيرُ بالجملةِ الاسميَّة التي تُفيد تأكيدَ الخبر، وتعريف المُسنَد إليه باسم الإشارة أُولِئَكَ لتَعيُّنه، وبُعد مَنزِلته في الشرِّ والفساد يُنظر: ((دليل البلاغة القرآنية)) للدبل (ص: 506). ، مع ما في تنكيرِ عَذَاب من التَّهويل، والتَّأكيد بوصْفِه بصيغةِ المبالغة فعيل عَظِيم.
6- قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
- في تعريفِ هذا اليومِ بحُصولِ بياضِ وجوهٍ وسوادِ وجوهٍ فيه: تهويلٌ لأمْره، وتشويقٌ لِمَا يرِدُ بعدَه من تفصيلِ أصحابِ الوجوهِ المبيضَّة، والوجوه المُسودَّة؛ ترهيبًا لفريق، وترغيبًا لفريق آخر يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/44). .
- وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ: فيه تفصيلٌ لأحوالِ الفَريقينِ بعدَ الإشارةِ إليها إجمالًا، وتقديمُ بيانِ هؤلاء؛ لأنَّ المَقام مقامُ التَّحذيرِ عن التَّشبُّه بهم، مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتَّفصيلِ، والإفضاءِ إلى ختْم الكلامِ بحُسن حال المؤمنين، كما بُدِئ بذلك عند الإجمالِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/69). .
- وقول الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ... يُسمِّي علماءُ البلاغةِ هذا النَّوعَ من السِّياق لفًّا ونَشرًا غير مُرتَّب؛ إذ جُعِل النَّشرُ في الآية على غيرِ ترتيبِ اللَّفِّ: فذكَر في اللَّفِّ الابيضاضَ قبل الاسوداد، وذكَر في النَّشرِ حُكْمَ مَن اسودَّت وجوهُهم قبل حُكْم مَن ابيضَّت وجوهُهم، فجعل مَطلَع الكلام ومَقطَعه حليةَ المؤمنين وثوابهم، وأَدمَج ذِكْر الآخرين في الأثناء، ونُكْتةُ ذلك: بيان أنَّ المقصودَ من الخَلْقِ الرحمةُ دون العذاب، والتنبيهُ على أنَّ إرادةِ الرَّحمة أكثرُ من إرادةِ الغضبِ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (8/319)، ((تفسير الشربيني)) (1/239)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (4/46)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/45). .
- وقدَّم عندَ وصْف اليومِ ذِكْرَ البياض، الذي هو شعارُ أهل النَّعيم؛ تشريفًا لذلِك اليوم بأنَّه يومُ ظهورِ رحمةِ الله ونِعْمته، ولأنَّ رحمةَ الله سبَقتْ غضبَه، ولأنَّ في ذِكر سِمَة أهلِ النَّعيم عقِب وعيدِ بالعذاب، حسرةً عليهم؛ إذ يَعلم السامعُ أنَّ لهم عذابًا عظيمًا في يومٍ فيه نعيمٌ عظيمٌ، ثم قدَّم في التَّفصيلِ ذِكرَ سِمَة أهل العذاب؛ تَعجيلًا بمساءتِهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/44). .
- وفيه: تلوينُ الخِطاب، وهو أحدُ أنواعِ الالتفات؛ لأنَّ قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ غَيبة، وأ َكَفَرْتُمْ مُواجَهة يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/296). .
- قوله: فَذُوقُوا الْعَذَابَ: جاءَ على صِيغة الأمْرِ، والغرَضُ منه الإهانةُ لهم يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/32). .
- قوله: بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ: فيه الجمعُ بين صِيغتي الماضي كُنْتُمْ والمستقبل تَكْفُرُونَ؛ للدَّلالة على استمرارِ كُفرِهم، أو على مُضيِّه في الدُّنيا يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/69). .
7- قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ: فيه تفاوتٌ بديعٌ بين التَّقسيمين؛ حيث جمَع لِمَن اسودَّت وجوهُهم بين التَّعنيفِ بالقولِ والعذاب، وهنا جعَلَهم مُستقرِّين في الرَّحمة، فالرَّحمة ظرْفٌ لهم، وهي شاملتُهم، ولَمَّا أخْبَر تعالى أنَّهم مُستقِرُّون في رحمة الله، بيَّن أنَّ ذلك الاستقرارَ هو على سبيلِ الخُلُود لا زوالَ منه ولا انتقال، وأشار بلفظ (الرَّحمة) إلى سابق عِنايتِه بهم، وأنَّ العبدَ وإنْ كَثُرت طاعته لا يدخُل الجنَّة إلَّا برحمة الله تعالى، وذَكَر الخُلُودَ للمؤمن ولم يَذكُر ذلك للكافر؛ إشعارًا بأنَّ جانبَ الرَّحمة أغلبُ، وأضاف الرَّحمة هنا إليه، ولم يُضِف العذابَ إلى نفْسِه سبحانه، بل قال: فَذُوقُوا الْعَذَابَ، ولَمَّا ذكر العذابَ علَّله بفِعلهم، ولم يَنصَّ هنا على سببِ كونهم في الرَّحمة يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (3/296). .
- وقوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ: استئنافٌ وقع جوابًا عن سؤالٍ نشأ مِن السِّياق، كأنَّه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هُمْ فِيهَا خالدون، لا يَظعَنون عنها ولا يَموتون، وتقديمُ الظرفِ (فيها)؛ للمُحافظة على رؤوس الآي يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/32)، ((تفسير أبي السعود)) (2/69). .
8- قوله: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ:
- قوله: تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ إشارةٌ إلى الآيات المُشتمِلةِ على تنعيمِ الأبرارِ، وتعذيبِ الكفَّارِ، ومعنى البُعدِ في تِلْكَ؛ للإيذان بعُلُوِّ شأنِها، وسُموِّ مكانِها في الشَّرف يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/69). .
- وقوله: نَتْلُوهَا: فيه التفاتٌ من الغَيبة إلى التَّكلُّم يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/69- 70). ، والتَّعبير بنون العظمةِ في نَتْلُوهَا- مع كون التِّلاوةِ على لِسانِ جبريلَ عليهِ السَّلام- هذا على قِراءة مَن قرأ نَتْلُوهَا بنون العظمة، وأمَّا على قراءة (يَتلوها) يالياء، فليس فيها هذانِ الوجهان. ؛ لإبرازِ كمالِ العناية بالتِّلاوة يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/69- 70). .
- قوله: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ: تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله على أبلغِ وجهٍ وآكَدِه؛ فإنَّ تَنكيرَ الظُّلمِ، وتوجيهَ النفيِ إلى إرادتِه بصِيغةِ المضارعِ دونَ نفْسِه، حيث قال:  وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا ولم يقل: (والله لا يظلم)، وتَعليقَ الحكمِ بآحادِ الجَمْع المعرَّف (للعالمين)، والالْتِفاتَ إلى الاسم الجليل (الله)، حيث لم يَقُل: (وما نُريد)؛ إشعارًا بعِلَّة الحُكم- كلُّ ذلك بيانٌ لكمالِ نزاهتِه عزَّ وجلَّ عن الظُّلمِ بما لا مزيدَ عليهِ، أي: ما يُريد فردًا من أفراد الظُّلم لفردٍ من أفراد العالَمين، في وقتٍ من الأوقاتِ، فضلًا عن أنْ يَظلِمَهم؛ فإنَّ المضارعَ كما يُفيد الاستمرارَ في الإثبات يُفيده في النَّفي بحسبِ المقامِ، كما أنَّ الجملةَ الاسميَّة تدلُّ بمعونةِ المقامِ على دوامِ الثُّبوتِ، وعند دخولِ حرفِ النَّفي تدلُّ على دوامِ الانتفاءِ لا على انتفاءِ الدَّوامِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/70). .
- وفي سِياق هذه الجُملةِ نوعُ إيماءٍ إلى التَّعريض بأنَّ الكفرَةَ هم الظالِمون؛ حيث ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ الخالد، كما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس: 44] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/70). .
9- قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ: عطْفٌ على التَّذييل؛ لأنَّه إذا كان له ما في السَّموات وما في الأرض، فهو يُريد صلاحَ حالهم، ولا حاجةَ له بإضرارهم إلَّا للجزاءِ على أفعالهم؛ فلا يريد ظُلمَهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/47). .
- وفي قول الله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ؛ تقديمُ الخبر؛ لإفادةِ الحَصْرِ والتَّخصيص، فالآية تُفيدُ انفرادَ مُلْك الله تعالى بذلك، أي: إنَّ الله وحده هو المالكُ لها، لا غيره يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/45). .
- وأتى (بما) التي لغيرِ العاقل؛ لأنَّهم الأكثرُ فغُلِّبوا، ومِن وجهٍ آخَر أنَّه إذا أُريدت الصِّفة، فإنَّه يُعبِّر (بما) بدَلَ (مَن) ولو في العاقل، مِثْل قوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ولم يَقُل: (مَن طاب)؛ لأنَّه لم يَقصِد عينَ الشَّخص العاقل، بل قصَد الوصفَ والجِنسَ والكمَّ، أي: انكحوا ما طابَ مِن جميلٍ وقبيحٍ وواحدٍ ومُتعدِّدٍ من النِّساء يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/38). .
- وتكريرُ اسم الجلالة (الله) ثلاثَ مرَّات في الجُمَل الثلاث: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ بدون إضمار؛ للقصدِ إلى أنْ تكون كلُّ جُملة مُستقِلَّةَ الدَّلالة بنَفْسها، غير مُتوقِّفة على غيرها، حتى تَصلُح لأنْ يُتَمثَّل بها، وتَستحضِرها النُّفوسُ، وتَحْفظها الأسماع يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/47- 48). .
- قول الله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ؛ الأمور: جمع أمر، وهو مُحلَّى (بأل) فيُفيد العُمُوم، ففيه بيانُ سَعةِ الله تعالى، حيث كانت جميعُ الأمور الدَّقيقة والجليلة تُرجَع إليه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/46). .
- وفيه تقديمُ الجارِّ والمجرور وَإِلَى اللهِ على المُتعلِّق تُرجَعُ؛ لإفادةِ الحَصْر يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (2/39). .