موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (36-39)

ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ

غريب الكلمات:

يَعْشُ: أي: يَعْمَ ويُعْرِضْ، وأصلُ (عشو): يدُلُّ على ظَلامٍ وقِلَّةِ وُضوحِ الشَّيءِ [411] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 397)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 523)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/322)، ((المفردات)) للراغب (ص: 568)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 345)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 990). .
نُقَيِّضْ: أي: نُهَيِّئْ ونُسَبِّبْ، يُقالُ: قَيَّض اللهُ فُلانًا لِفُلانٍ، أي: جاءَه به، وأتاحَه له [412] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 687)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 338)، ((تفسير القرطبي)) (15/354)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 368). .
قَرِينٌ: أي: صاحِبٌ مُلازِمٌ، وأصلُ (قرن) هنا: يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [413] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 371)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((تفسير القرطبي)) (16/90). .
فَبِئْسَ: بئسَ: كلمةٌ موضوعةٌ لإنشاءِ الذَّمِّ، مُستوفيةٌ لجميعِه [414] يُنظر: ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (1/134)، ((المفردات)) للراغب (ص: 153)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 86). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ
يَنْفَعَكُمُ: فِعلٌ مُضارِعٌ مَنصوبٌ، والكافُ: في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به مُقَدَّمٌ، والمصدَرُ المُؤَوَّلُ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ فاعِلُ (ينفع) مُؤَخَّرٌ، والتَّقديرُ: لن يَنفعَكم اليومَ اشتِراكُكم في العذابِ. أو الفاعِلُ ضَميرٌ مُستَتِرٌ يعودُ على التَّمَنِّي المدلولِ عليه بقَولِه: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: 38] ، أي: لن يَنفَعَكم تَمنِّيكم البُعدَ، وعلى هذا الوَجهِ يكونُ المصدَرُ المُؤَوَّلُ أَنَّكُمْ ... في محَلِّ نَصبٍ أو جَرٍّ على نَزعِ الخافِضِ (لامِ العِلَّة)، أي: لن يَنفَعَكم تَمنِّيكم البُعدَ؛ لاشتِراكِكم في العَذابِ، والجارُّ والمجرورُ مُتعَلِّقانِ بـ يَنْفَعَكُمُ، ويُقَوِّي إضمارَ الفاعِلِ قِراءةُ مَن قرأ: (إنَّكُمْ) بالكَسرِ [415] قرأ بها ابنُ عامرٍ في روايةِ التَّغْلِبيِّ عن ابنِ ذَكْوانَ، وقرأ الباقون وابنُ عامرٍ في روايةِ الأخفَشِ، وأحمدَ بنِ أنسٍ، وابنِ المُعَلَّى، وابنِ موسى الصُّوري عن ابنِ ذَكْوانَ بفَتحِها. يُنظر: ((جامع البيان في القراءات السبع)) لأبي عمرو الداني (4/1575). ؛ فهي استِئنافٌ مُفيدٌ للتَّعليلِ.
الْيَوْمَ: ظَرفُ زمانٍ مَنصوبٌ مُتعَلِّقٌ بـ (يَنفَع).
إِذْ: ظرفٌ مَبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ نَصبٍ على البَدلِ مِن الْيَوْمَ، أي: إذْ تبيَّنَ أنَّكم ظلَمْتُم في الدُّنيا، وفُسِّر ذلك بالتَّبَيُّنِ لئَلَّا يُشكِلَ جَعلُ إِذْ -وهو ظَرفٌ ماضٍ- بدَلًا مِن الْيَوْمَ وهو ظَرفٌ مُستقبَلٌ؛ لأنَّ تبَيُّنَ كَونِهم ظالِمينَ عندَ أنفُسِهم إنَّما يكونُ يومَ القيامةِ، فاليومُ وزَمانُ التَّبَيُّنِ مُتَّحِدانِ، وإذا كان تَبَيُّنُ الحالِ في الاستِقبالِ اندفَعَ الإشكالُ. ويجوزُ أن يكونَ إِذْ بدَلًا مِن الْيَوْمَ بالنَّظَرِ إلى أنَّ الدُّنيا والآخِرةَ مُتَّصِلَتانِ، وهما في حُكمِ اللهِ تعالى وعِلمِه سواءٌ. وقيل: إِذْ هنا ليست ظَرفًا، بل هي حَرفٌ للتَّعليلِ كاللَّامِ [416] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/412)، ((الخصائص)) لابن جني (2/174)، ((تفسير أبي حيان)) (9/375)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/590)، ((تفسير الألوسي)) (13/82). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مُبيِّنًا حالَ الَّذينَ يُعرِضونَ عن ذِكرِه وعقوبتَهم: ومَن يُعرِضْ عن القُرآنِ الَّذي أنزَلَه الرَّحمنُ يُسلِّطِ اللهُ تعالى عليه شَيطانًا يَصِيرُ قَرينًا له لا يُفارِقُه، وإنَّ أولئك الشَّياطينَ لَيَمنعونَهم مِن الطَّريقِ الموصِلِ إلى اللهِ، ويَحسَبُ قُرَناءُ الشَّيطانِ أنَّهم مُهتَدونَ وعلى الحَقِّ! حتَّى إذا جاءنا هذا المُعرِضُ عن ذِكرِ رَبِّه قال لِقَرينِه مِن الشَّياطينِ: يا لَيْتَ بيْني وبيْنَك بُعدَ ما بينَ المَشرِقِ والمَغرِبِ، فبِئسَ الصَّاحِبُ لي أنت! فيُقالُ لهم: ولن يُخَفِّفَ عنكم العَذابَ في هذا اليَومِ اشتِراكُكم فيه؛ مِن أجْلِ ظُلمِكم.

تفسير الآيات:

وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
هذه الآيةُ تتَّصِلُ بقَولِه تعالى أوَّلَ السُّورةِ: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا [الزخرف: 5] ، أي: نُواصِلُ لكم الذِّكرَ، فمَن يَعْشُ عن ذلك الذِّكرِ بالإعراضِ عنه إلى أقاويلِ المُضِلِّينَ وأباطيلِهم، نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا، أي: نُسَبِّبْ له شَيطانًا؛ جزاءً له على كُفْرِه [417] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/89). .
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا.
أي: ومَن يُعرِضْ عن القُرآنِ الَّذي أنزَلَه الرَّحمنُ يُسلِّطِ اللهُ تعالى عليه شَيطانًا؛ جزاءَ إعراضِه عنه [418] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 94)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/428)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/209). وممَّن نصَّ على أنَّ المرادَ بذِكرِ الرَّحمنِ هنا: القُرآنُ: الواحدي، وابن القيِّم، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/72)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 94)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/209). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: محمَّدُ بنُ كعبٍ القُرَظيُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (8/334)، ((تفسير البغوي)) (4/161). قال ابن تيميَّة: (ويَعْشُ رُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ: «يَعمَى»، وكذلك قال عَطاءٌ وابنُ زَيدِ بنِ أسْلَمَ، وكذلك أبو عُبَيدةَ، قال: «تُظلِمْ عينُه»، واختاره ابنُ قُتَيْبةَ ورجَّحه على قولِ مَن قال: «يُعْرِض». والعَشا: ضَعفٌ في البَصَرِ؛ ولهذا قيل فيه: يَعْشُ. وقالت طائفةٌ: يُعْرِضْ، وهو روايةُ الضَّحَّاكِ عن ابنِ عبَّاسٍ، وقاله قَتادةُ، واختاره الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ، وهذا صَحيحٌ مِن جهةِ المعنى؛ فإنَّ قوله: يَعْشُ ضُمِّنَ معنى «يُعْرِض»؛ ولهذا عُدِّيَ بحرف الجرِّ «عن»، كما يقالُ: أنت أعمى عن محاسِنِ فلانٍ: إذا أعرَضْتَ فلم تَنظُرْ إليها. فقَولُه: يَعْشُ أي: يكُنْ أعشى عنها، وهو دونَ العمى، فلم ينظُرْ إليها إلَّا نظَرًا ضَعيفًا، وهذا حالُ أهلِ الضَّلالِ الَّذين لم يَنتَفِعوا بالقرآنِ؛ فإنَّهم لا يَنظُرونَ فيه كما يَنظُرونَ في كلامِ سَلَفِهم؛ لأنَّهم يَحسَبونَ أنَّه لا يُحصِّلُ المقصودَ، وهم الَّذين عَشَوا عنه فقُيِّضَت لهم الشَّياطينُ تَقَترِنُ بهم وتصُدُّهم عن السَّبيلِ، وهم يَحسَبونَ أنَّهم مُهتَدون؛ ولهذا لا تجِدُ في كلامِ مَن لم يتَّبِعِ الكتابَ والسُّنَّةَ بيانَ الحَقِّ عِلمًا وعَمَلًا أبدًا؛ لِكَثرةِ ما في كلامِه مِن وَساوِسِ الشَّياطينِ). ((منهاج السنة النبوية)) (5/432، 433). ويُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/204)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 397، 398)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/32)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/411). وقال ابنُ عاشور: (معنى وَمَنْ يَعْشُ: مَن يَنظُرْ نظَرًا غيرَ مُتمَكِّنٍ في القُرآنِ، أي: مَن لا حَظَّ له إلَّا سَماعُ كَلِماتِ القُرآنِ، دونَ تدَبُّرٍ وقَصدٍ للانتِفاعِ بمعانيه). ((تفسير ابن عاشور)) (25/209). وقال القاسمي: (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا جنيًّا؛ فيغويه بالتَّسويلِ والتَّزيينِ لما انهَمَك فيه مِن اللَّذاتِ، وحرَص عليه مِن الزَّخارفِ. أو: بالشُّبهِ والأباطيلِ المغويةِ لما اعتَكف عليه بهواه مِن دينِه. أو إنسيًّا يغويه ويشاركُه في أمرِه ويجانِسُه في طريقِه ويُبعِدُه عن الحقِّ). ((تفسير القاسمي)) (8/390). وقال ابن عثيمين: (الإنسانُ إذا أعرَض عن ذكرِ الله قيَّض الله له الشَّيطانَ مِن الإنسِ أو مِن الجنِّ فهو له قرينٌ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 154). .
قال تعالى: وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [فصلت: 25] .
فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.
أي: فيَصيرُ الشَّيطانُ قَرينًا له لا يُفارِقُه [419] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/595)، ((تفسير القرطبي)) (16/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766). .
كما قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] .
وقال سُبحانَه: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ [ق: 27] .
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37).
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ.
أي: وإنَّ الشَّياطينَ لَيَمنَعونَهم مِن طَريقِ الحَقِّ الموصِلِ إلى اللهِ تعالى وإلى جنَّتِه، ويَصرِفونَهم عنه [420] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/596)، ((تفسير القرطبي)) (16/90)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 94). قال ابن المُنَيِّرِ: (الضَّميرُ في قَولِه: وَإِنَّهُمْ عائدٌ إلى الشَّيطانِ قَولًا واحِدًا). ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المنير)) (4/250). وقال الألوسي: (وفي كَونِ ضَميرِ وَإِنَّهُمْ عائِدًا على الشَّيطانِ قَولًا واحِدًا نَظَرٌ؛ فقد قال أبو حيَّان: الظَّاهِرُ أنَّ ضَميرَ النَّصبِ في وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عائِدٌ على «مَنْ» على المعنى، وهو أَولى مِن عودِ ضَميرِ «إنَّهم» على الشَّيطانِ كما ذهب إليه ابنُ عطيَّةَ؛ لِتَناسُقِ الضَّمائِرِ في وَإِنَّهُمْ وما بَعدَه). ((تفسير الألوسي)) (13/82). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/55)، ((تفسير أبي حيان)) (9/373). .
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ.
أي: ومع ذلك يَحسَبُ قُرَناءُ الشَّيطانِ هؤلاء أنَّهم على الحَقِّ والصَّوابِ [421] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/596)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 974)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766). قال الشوكاني: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أي: يَحْسَبُ الكفَّارُ أنَّ الشَّياطينَ مُهْتَدونَ فيُطِيعونَهم، أوْ يَحْسَبُ الكفَّارُ بسببِ تلك الوَسْوسةِ أنَّهم في أنْفُسِهم مُهْتَدونَ). ((تفسير الشوكاني)) (4/ 637). !
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38).
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ.
أي: حتَّى إذا جاءَنا يومَ القيامةِ هذا المُعرِضُ عن ذِكرِ الرَّحمنِ، قال لِقَرينِه الشَّيطانِ: وَدِدتُ أنَّ بيْني وبيْنَك بُعدَ ما بيْنَ المَشرِقِ والمَغرِبِ [422] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/597، 598)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/44)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((تفسير الشوكاني)) (4/637)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 151- 153). قال الألوسي: (يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي: في الدُّنيا، وقيل: في الآخرةِ). ((تفسير الألوسي)) (13/82). ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/374). قال الماوَرْدي: (وفي المَشرِقَينِ قَولانِ؛ أحدُهما: أنَّه المَشرِقُ والمَغرِبُ، فغُلِّبَ أحَدُهما على الآخَرِ، كما قيل: سُنَّةُ العُمَرَينِ [أي: أبي بكرٍ وعُمَرَ رضيَ الله عنهما]... الثَّاني: أنَّه مَشرِقُ الشِّتاءِ ومَشرِقُ الصَّيفِ). ((تفسير الماوردي)) (5/226). وممَّن قال بالقَولِ الأوَّلِ: ابنُ جرير، وابنُ كثير، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/598)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((تفسير الشوكاني)) (4/637)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/213). وممَّن قال بالقَولِ الثَّاني: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقُرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/795)، ((تفسير القرطبي)) (16/90). .
كما قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا [الفرقان: 27 - 29].
وقال سُبحانَه وتعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] .
فَبِئْسَ الْقَرِينُ.
أي: فبِئسَ الصَّاحِبُ لي أنت -أيُّها الشَّيطانُ [423] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/73)، ((تفسير القرطبي)) (16/91)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 94)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/ 234). !
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39).
أي: يُقالُ لهم: ولن يُخَفِّفَ عنكم العذابَ في هذا اليَومِ -بسببِ ظُلمِكم [424] مِن المفسِّرينَ مَن فسَّر الظُّلْمَ بالشِّركِ؛ إِذْ ظَلَمْتُمْ أي: إذ أشرَكْتُم. ومنهم: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، وابن أبى زَمَنين، والواحدي، والبغوي، وابن الجوزي، والقرطبي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/191)، ((تفسير ابن جرير)) (20/599)، ((تفسير ابن أبى زمنين)) (2/148)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 975)، ((تفسير البغوي)) (7/214)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/78)، ((تفسير القرطبي)) (16/91)، ((تفسير الجلالين)) (9/375). - اشتِراكُكُم في هذا العذابِ [425] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/599)، ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 95)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/590)، ((تفسير ابن كثير)) (7/228)، ((تفسير السعدي)) (ص: 766)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/214، 215). المَقولُ لهم هم الكُفَّارُ الَّذين عَشَوا عن ذِكرِ الرَّحمنِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ جرير، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/599)، ((تفسير القرطبي)) (16/91). وقال ابنُ عاشورٍ: (الخِطابُ موَجَّهٌ لِلَّذين عشَوا عن ذِكرِ الرَّحمنِ ولِشياطينِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (25/214). وقال الشوكاني: (قال المفَسِّرون: لا يُخفَّفُ عنهم -بسَبَبِ الاشتراكِ- شَيءٌ مِن العذابِ؛ لأنَّ لكُلِّ أحدٍ مِن الكُفَّارِ والشَّياطينِ الحَظَّ الأوفَرَ منه. وقيل: إنَّها للتَّعليلِ لِنَفيِ النَّفعِ، أي: لأنَّ حَقَّكم أن تَشترِكوا أنتم وقُرَناؤكم في العذابِ، كما كُنتُم مُشترِكينَ في سَبَبِه في الدُّنيا). ((تفسير الشوكاني)) (4/637). وقال السعدي: (ولا يَنفَعُكم يومَ القيامةِ اشتِراكُكم في العذابِ أنتم وقُرَناؤُكم وأخِلَّاؤُكم؛ وذلك لأنَّكم اشتركتُم في الظُّلمِ، فاشترَكتُم في عِقابِه وعَذابِه، ولن يَنفَعَكم أيضًا رُوحُ التَّسَلِّي في المُصيبةِ؛ فإنَّ المصيبةَ إذا وقَعَت في الدُّنيا، واشتَرَك فيها المُعاقَبونَ؛ هان عليهم بعضَ الهَونِ، وتسَلَّى بعضُهم ببَعضٍ، وأمَّا مُصيبةُ الآخِرةِ فإنَّها جَمَعَت كلَّ عِقابٍ، ما فيه أدنى راحةٍ، حتَّى ولا هذه الرَّاحةُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 766). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ التَّحذيرُ مِن الغَفلةِ عن ذِكْرِ اللهِ تعالى؛ لأنَّك إذا غَفَلْتَ عن ذِكْرِ اللهِ تعالى حَلَّ مَحَلَّ ذِكْرِ اللهِ وَساوِسُ الشَّيطانِ [426] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 153). . فترتيبُه قولَه: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا على قولِه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ترتيبَ الجزاءِ على الشَّرطِ يدُلُّ على أنَّ سببَ تقييضِه له هو غفلتُه عن ذِكْرِ الرَّحمنِ [427] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/27). ، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أي: مَشدودٌ به كما يُشَدُّ الأسيرُ، مُلازِمٌ له، فلا يُمكِنُه التَّخلُّصُ منه ما دام مُتعامِيًا عن ذِكرِ اللهِ؛ فذِكرُ اللهِ حِصنٌ حَصينٌ مِن الشَّيطانِ، متى خرَج العبدُ منه أسَرَه العدُوُّ [428] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/428). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أنَّ كلَّ مَن أعرَضَ عن عُبوديَّةِ اللهِ تعالى وطاعتِه ومحبَّتِه، بُلِيَ بعُبوديَّةِ المخلوقِ ومَحبَّتِه وخِدمَتِه [429] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 84). .
3- قَولُ الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، المقصودُ مِن حِكايةِ هذا: تَفظيعُ عواقِبِ هذه المُقارَنةِ الَّتي كانت شغَفَ المُتقارِنَيْنِ، وكذلك شأنُ كُلِّ مُقارَنةٍ على عَمَلٍ سَيِّئِ العاقبةِ. وهذا مِن قَبيلِ قَولِه تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] ، والمقصودُ تحذيرُ النَّاسِ مِن قَرينِ السُّوءِ، وذَمُّ الشَّياطينِ؛ لِيَعافَهم النَّاسُ [430] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/214). . فالشياطينُ ليس اسمًا خاصًّا لشياطينِ الجِنِّ! بل حتَّى الإنسُ لهم شياطينُ، فالَّذي يُلازِمُك ويَبقَى قَرينًا معك هو أشدُّ تأثيرًا مِن العابِرِ، فيَنبغي الحذَرُ مِن قُرَناءِ السوءِ، والبُّعدُ عنهم [431] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 154). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قولِه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ نُكتةٌ بَديعةٌ، وهي أنَّ النَّكِرةَ الواقِعةَ في سِياقِ الشَّرطِ تُفيدُ العُمومَ؛ ولذلك أعادَ عليه الضَّميرَ مَجموعًا في قَولِه: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ [432] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/86). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري - حاشية ابن المنير)) (4/250)، ((حاشية الجمل على الجلالين)) (4/86). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُعَاقِبُ العبدَ بما يَقتضيه الذَّنْبُ، وهذا كقَولِه تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ [العنكبوت: 40] ؛ فلَمَّا أَخْلَى قلبَه مِن ذِكْرِ اللهِ عُوقِبَ بأنْ يَحُلَّ مَحَلَّه الشَّيطانُ [433] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الزخرف)) (ص: 153). .
3- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ رَدٌّ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ المُنكِرينَ أنَّ الهدايةَ والإضلالَ بيَدِ اللهِ تعالى؛ حيث قَيَّضَ اللهُ -سُبحانَه- الشَّيطانَ للعاشِي عن ذِكْرِ الرَّحمنِ، وصَيَّرَه قَرينَه [434] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/129). .
4- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أنَّ مَنِ ابتلاه اللهُ بقَرينِه مِن الشَّياطينِ وضَلالِه به فإنَّما كان بسَبَبِ إعراضِه وعَشْوِه عن ذِكرِه الَّذي أنزَلَه على رَسولِه؛ فكان عُقوبةُ هذا الإعراضِ أنْ قَيَّضَ له شَيطانًا يُقارِنُه فيَصُدُّه عن سَبيلِ ربِّه وطريقِ فلاحِه، وهو يَحسَبُ أنَّه مُهتَدٍ! حتَّى إذا وافى ربَّه يومَ القيامةِ مع قرينِه، وعايَنَ هلاكَه وإفلاسَه قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، وكلُّ مَن أعرَضَ عنِ الاهتداءِ بالوحيِ الَّذي هو ذِكْرُ اللهِ فلا بُدَّ أنْ يقولَ هذا يومَ القيامةِ. فإنْ قيلَ: فهل لهذا عُذرٌ في ضَلالِه إذا كان يَحسَبُ أنَّه على هُدًى، كما قال تعالى: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ؟ قيل: لا عُذرَ لهذا وأمثالِه مِن الضُّلَّالِ الَّذين مَنشَأُ ضَلالِهم الإعراضُ عن الوَحيِ الَّذي جاء به الرَّسولُ، ولو ظَنَّ أنَّه مُهتَدٍ؛ فإنَّه مُفَرِّطٌ بإعراضِه عن اتِّباعِ داعي الهُدى، فإذا ضَلَّ فإنَّما أُتِيَ مِن تَفريطِه وإعراضِه، وهذا بخِلافِ مَن كان ضلالُه لعَدَمِ بُلوغِ الرِّسالةِ، وعَجزِه عن الوُصولِ إليها، فذاك له حُكمٌ آخَرُ، والوَعيدُ في القرآنِ إنَّما يَتناولُ الأوَّلَ، وأمَّا الثَّاني فإنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ أحدًا إلَّا بعدَ إقامةِ الحُجَّةِ عليه، كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [435] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/44). [الإسراء: 15] .
5- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فيه رَدٌّ على مَن يَقولُ: إنَّه ليس أحَدٌ يُفارِقُ الحَقَّ إلَّا وهو يَعلَمُ أنَّه ضالٌّ، وإن كَفَر فعلى وَجهِ العِنادِ [436] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 232). .
6- قَولُ الله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فيه رَدٌّ على مَن يَزعُمُ أنَّ المعارِفَ اضطِراريَّةٌ [437] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 232). .
7- قال الله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ لَمَّا كان المُصابُ إذا شارَكَه غَيرُه في مُصيبةٍ حَصَل له بالتَّأسِّي نَوعُ تَخفيفٍ وتَسليةٍ، أخبَرَ الله سُبحانَه أنَّ هذا غيرُ مَوجودٍ وغيرُ حاصِلٍ في حَقِّ المُشتَرِكينَ في العَذابِ، وأنَّ القَرينَ لا يَجِدُ راحةً ولا أدنى فَرَحٍ بعَذابِ قَرينِه معه، وإن كانت المصائِبُ في الدُّنيا إذا عَمَّت صارت مَسلاةً، كما قالت الخَنساءُ في أخيها صَخرٍ:
ولولا كَثرةُ الباكينَ حَوْلي         على إخوانِهم لَقَتَلْتُ نفْسي
وما يَبكُونَ مِثلَ أخي ولكِنْ               أُعَزِّي النَّفسَ عنه بالتأسِّي [438] يُنظر: ((ديوان الخنساء)) (ص: 68)، ((الكامل في اللغة والأدب)) للمُبَرِّد (1/16).
فمنَع اللهُ سُبحانَه هذا القَدْرَ مِن الرَّاحةِ على أهلِ النَّارِ، فقال: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [439] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 95). .
8- إذا قُرِنَ أحَدُهم بمن أضَلَّه في العذابِ كان أشَدَّ لعَذابِه؛ فإنَّ المكانَ المُتَّسِعَ يَضيقُ على المُتباغِضَينِ، فكيف باقتِرانِهما في المكانِ الضَّيِّقِ [440] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/234). ؟!

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ
- ابتُدِئَت هذه السُّورةُ بالتَّنويهِ بالقُرآنِ، ووَصفِه بأنَّه ذِكرٌ وبيَانٌ للنَّاسِ، ووَصْفِ عِنادِ المُشرِكين في الصَّدِّ عنه والإعراضِ، وأُعلِمُوا بأنَّ اللهَ لا يَترُكُ تَذكيرَهم ومُحاجَّتَهم؛ لأنَّ اللهَ يَدعو بالحَقِّ ويَعِدُ به، وأُطنِبَ في وَصفِ تَناقُضِ عَقائِدِهم؛ لَعَلَّهُم يَستَيقِظون مِن غِشاوَتِهم، وفي تَنبيهِهم إلى دَلائِلِ حَقِّيَّةِ ما يَدعُوهم إليه الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا القُرآنِ، وفُضِحَتْ شُبُهاتُهم بأنَّهم لا تَعويلَ لهم إلَّا على ما كان عليه آباؤُهُم الأوَّلون الضَّالُّون، وأُنذِرُوا باقتِرابِ انتِهاءِ تَمتيعِهم وإمهالِهم، وتَقَضَّى ذلك بمَزيدِ البَيانِ، وأفضَى الكَلامُ إلى ما قالُوه في القُرآنِ ومَن جاء به بقَولِه: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ إلى قولِه: عَظِيمٍ [الزخرف: 30، 31]، وما أُلحِقَ به مِن التَّكَمُّلاتِ -عاد الكَلامُ هنا إلى عَواقِبِ صَرفِهم عُقولَهم عن التَّدبُّرِ في الدَّعوةِ القُرآنيَّةِ؛ فكان انصِرافُهم سببًا لِأَنْ يُسَخِّرَ اللهُ شَياطينَ لهم تُلازِمُهم؛ فلا تَزالُ تَصرِفُهم عن النَّظرِ في الحقِّ وأدِلَّةِ الرُّشدِ؛ فجُملةُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ عطْفٌ على جُملةِ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ [الزخرف: 30] الآيةَ [441] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/207، 208). . وقيل: هي كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسُوقٌ لسَردِ مآلِ المُعرِضين عن ذِكْرِ اللهِ [442] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/84). .
- وجُملَةُ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ تَمثيلٌ لحالِهم في إظهارِهم عَدَمَ فَهمِ القُرآنِ بحالِ مَن يَعشُو ويَعمَى عن الشَّيءِ الظَّاهِرِ للبَصَرِ؛ فمعنى: وَمَنْ يَعْشُ، أي: مَن لا حَظَّ له إلَّا سَماعُ كَلِماتِ القُرآنِ دُونَ تَدَبُّرٍ وقَصدٍ للانتِفاعِ بمَعانِيهِ؛ فشَبَّهَ سَماعَ القُرآنِ مع عَدَمِ الانتِفاعِ به بنَظَرِ النَّاظِرِ دُونَ تَأَمُّلٍ [443] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/208، 209). .
- وعُدِّيَ يَعْشُ بحَرفِ (عن) المُفيدِ للمُجاوَزةِ؛ لأنَّه ضُمِّنَ مَعنَى الإعراضِ عن ذِكْرِ الرَّحمنِ [444] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/209). .
- قَولُه: ذِكْرِ الرَّحْمَنِ إضافةُ الذِّكْرِ إلى اسمِ الرَّحمنِ إضافةُ تَشريفٍ؛ وهذا ثَناءٌ على القُرآنِ [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/209). . وفي إضافَتِه إلى اسمِ الرَّحمنِ أيضًا إيذانٌ بنُزولِه رَحمةً للعالَمينَ [446] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/47). .
- وأتَى الضَّميرُ في لَهُ مُفرَدًا؛ لأنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِمَّن تَحَقَّقَ فيهم الشَّرطُ شَيطانًا، وليس لجَميعِهم شَيطانٌ واحِدٌ؛ ولذلك سَيجِيءُ في قَولِه: قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ [الزخرف: 38] بالإفرادِ، أي: قال كلُّ مَن له قَرينٌ لقَرينِه [447] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/209). .
- ولم يُذكَرْ مُتَعَلَّقُ فِعلِ نُقَيِّضْ اكتِفاءً بدَلالةِ مَفعولِه، وهو شَيْطَانًا؛ فعُلِمَ منه أنَّه مُقَيَّضٌ لإضلالِه، أي: هم أعرَضوا عن القُرآنِ لِوَسْوَسةِ الشَّيطانِ لهم [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/210). .
- وفُرِّعَ عن نُقَيِّضْ قَولُه: فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ؛ لأنَّ التَّقْييضَ كان مِن أجْلِ مُقارَنَتِه. وجِيءَ بالجُملةِ المُفَرَّعةِ فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ جُملةً اسميَّةً؛ للدَّلالةِ على الدَّوامِ، أي: فكان قَرينًا مُقارَنةً ثابِتةً دائمةً؛ ولذلك لم يَقُل: نُقَيِّضْ له شَيطانًا قَرينًا له [449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/210). .
- وقُدِّمَ الجارُّ والمَجرورُ (له) على مُتَعَلَّقِه (قرين) في قَولِه: لَهُ قَرِينٌ؛ للاهتِمامِ بضَميرِ (مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ)، أي: قَرينٌ له مُقارَنةً تامَّةً [450] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/210، 211). .
- وأيضًا في قَولِه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ما يُعرَفُ في البلاغةِ بالتَّنكيتِ؛ وهو أنْ يَقصِدَ المُتَكَلِّمُ إلى شَيءٍ بالذِّكرِ دُونَ غَيرِه مِمَّا يَسُدُّ مَسَدَّه؛ مِن أجْلِ نُكتَةٍ في المَذكورِ تُرَجِّحُ مَجيئَه على سِواهُ؛ فإنَّ لقائِلٍ أن يَقولَ: لأيِّ نُكتةٍ عُدِلَ عن لَفظِ (يُعرِض) إلى (يَعْشُ)؛ فلم يَقُلْ: ومَن يُعرِضْ عن ذِكْرِ الرَّحمنِ؛ فيُقالُ: النُّكتةُ في ذلك: أنَّ لَفظَ (يَعْشُ) مُوَفٍّ بالمَعنَى المُرادِ بخِلافِ لفظِ (يُعرِض)؛ فإنَّ الإعراضَ إعراضانِ: إعراضٌ يُرجَى بَعْدَه الإقبالُ؛ لأنَّ المُعرِضَ مُتَمَكِّنٌ مِن الإقبالِ؛ وذلك إعراضُ المُؤمِنِ المُعتقِدِ أحسَنَ مُعتَقَدٍ؛ فيَعرِضُ له مِن المَلاذِّ الَّتي تَستَغرِقُ فِكرَه، وتَشغَلُ قَلبَه وعَقلَه شَغْلًا بتلك اللَّذَّةِ أو ضِدِّها، أو غَيرِها مِن أُمورِ الدُّنيا؛ فيُعرِضُ عن الذِّكرِ في تلك الحالةِ؛ فمُصاحَبةُ الشَّيطانِ لذلك غَيرُ دائِمةٍ؛ لأنَّه يُمكِنُ أنْ يَؤُوبَ إلى اللهِ سُبحانَه ويَتُوبَ عن ذلك؛ فيُقبِلَ على ما كان أعرَضَ عنه مِن الذِّكرِ الَّذي عَرَف قديمًا طَريقَه، واهتَدَى إلى سَبيلِه، ورُبِّيَ عليه، أو مِن أجْلِ عِنايةٍ إلهيَّةٍ اقتَضَتْها سابِقةٌ أزَليَّةٌ تَجذِبُه إليه. وإعراضُ ضَلالٍ عن طَريقِ الرُّشدِ وسَبيلِ الخَيرِ، والمُرادُ بالإعراضِ في الآيةِ إعراضُ الضَّلالِ لا إعراضُ الغَفلةِ؛ فلا جَرَمَ أنَّه حَسُنَ التَّعبيرُ بالعَشا فيها، وهذا المُعرِضُ هو الَّذي يُقَيَّضُ له مُقارَنةُ الشَّيطانِ أين كان وحيثُ كان؛ وبذلك يَتَبَيَّنُ مَوضِعُ النُّكتةِ الَّتي رَجَّحَت العُدولَ عن لَفظِ (الإعراض) إلى لَفظِ (العَشا) [451] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/87). .
2- قولُه تعالَى: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ
- قولُه: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فيه جَمْعُ الضَّميرِ العائِدِ على (مَنْ) وضَميرِ (الشَّيطانِ) في قَولِه: وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ؛ لأنَّ (مَنْ) مُبهَمٌ في جِنسِ العاشِي، وقد قُيِّضَ له شَيطانٌ مُبهَمٌ في جِنسِه؛ فلمَّا جازَ أنْ يَتناوَلَا -لإبهامِهِما- غَيرَ واحِدَين، جاز أنْ يَرجِعَ الضَّميرُ إليهما مَجموعًا [452] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/252). .
- والتَّعبيرُ بصِيغةِ المُضارِعِ في الأفعالِ الأربَعةِ: يَعْشُ ونُقَيِّضْ و(يَصُدُّونَهُمْ) ووَيَحْسَبُونَ؛ للدَّلالةِ على الاستِمرارِ والتَّجديدِ [453] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/47). .
3- قولُه تعالَى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ
- إفرادُ الضَّميرِ في (جاءَ) وما بعدَه؛ لِمَا أنَّ المُرادَ حِكايةُ مَقالةِ كُلِّ واحِدٍ واحِدٍ مِن العاشِينَ لِقَرينِه؛ لِتَهويلِ الأمْرِ، وتَفظيعِ الحالِ، والمَعنَى: يَستَمِرُّ العاشُون على ما ذُكِرَ مِن مُقارَنةِ الشَّياطينِ والصَّدِّ والحِسبانِ الباطلِ، حتَّى إذا جاءَنا كلُّ واحدٍ منهُم مع قَرينِه يومَ القيامةِ قَالَ مُخاطبًا له: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [454] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/47). .
- قولُه: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ حَرفُ (يا) أصلُه للنِّداءِ، وهو هنا للدَّلالةِ على التَّلَهُّفِ والتَّنَدُّمِ [455] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/213). .
- والمَشرِقانِ: المَشرِقُ والمَغرِبُ، غُلِّبَ اسمُ المَشرِقِ؛ لأنَّه أكثَرُ خُطورًا بالأذهانِ؛ لتَشَوُّفِ النُّفوسِ إلى إشراقِ الشَّمسِ بعْدَ الإظلامِ، والمُرادُ بالمشْرقِ والمغرِبِ: إمَّا مكانُ شُروقِ الشَّمسِ وغُروبِها في الأُفقِ، وإمَّا الجِهةُ مِن الأرضِ الَّتي تَبْدو الشَّمسُ منها عِندَ شُروقِها، وتَغيبُ منها عِندَ غُروبِها فيما يَلوحُ لِطائفةٍ مِن سُكَّانِ الأرضِ. وعلى الاحتِمالَينِ فهو مَثَلٌ لشِدَّةِ البُعدِ. وأُضِيفَ بُعْدَ إلى الْمَشْرِقَيْنِ بالتَّثنيةِ، بتَقديرِ بُعدٍ لهما، أي: مُختصٍّ بهما، بتَأويلِ البُعدِ بالتَّباعُدِ؛ وهو إيجازٌ بَديعٌ حَصَل مِن صِيغةِ التَّغليبِ ومِن الإضافةِ، ومُساواتُه أنْ يُقالَ: بُعْدَ المَشرِقِ مِن المَغرِبِ، والمَغرِبِ مِن المَشرِقِ؛ فنابَتْ كَلِمةُ الْمَشْرِقَيْنِ عن سِتِّ كَلِماتٍ [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/213). .
- قَولُه: فَبِئْسَ الْقَرِينُ بعدَ أنْ تَمَنَّى الكافِرُ مُفارَقةَ شَيطانِه فَرَّع عليه ذمًّا؛ فالكافِرُ يَذُمُّ شَيطانَه الَّذي كان قَرينًا، ويُعَرِّضُ بذلك للتَّفَصِّي -أي: للإفلاتِ- مِن المُؤاخَذةِ، وإلقاءِ التَّبِعةِ على الشَّيطانِ الَّذي أضَلَّه [457] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/213). .
- وفي قولِه: فَبِئْسَ الْقَرِينُ مُبالَغةٌ منه في ذمِّ قَرينِه؛ إذ كان سَببَ إيرادِه النَّارَ. والمَخصوصُ بالذَّمِّ مَحذوفٌ، أي: فبِئسَ القَرينُ أنتَ [458] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/374). .
4- قولُه تعالَى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسُوقٌ لِبَسطِ وحِكايةِ ما سيُقالُ لهم حِينَئذٍ في الآخِرةِ مِن جِهةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ تَوبيخًا وتَقريعًا، وهي مَقالةٌ مُوحِشةٌ حَرَمَتْهم رَوحَ التَّأَسِّي؛ لأنَّه وَقَفَهم بها على أنَّه لا يَنفَعُهم التَّأَسِّي؛ لِعِظَمِ المُصيبةِ، وطُولِ العَذابِ، واستِمرارِ مُدَّتِه؛ إذ التَّأَسِّي راحةُ كلِّ مُصابٍ في الدُّنيا في الأغلَبِ [459] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/374)، ((تفسير أبي السعود)) (8/47، 48)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/85). .
- وقيل: هذه الجُملةَ مَعطوفةٌ على جُملةِ قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: 38] ، وهناك قولٌ محذوفٌ دلَّ عليه فِعلُ جَاءَنَا [الزخرف: 38] الدَّالُّ على أنَّ الفَريقَينِ حَضَرَا للحِسابِ، وتلك الحَضرةُ تُؤْذِنُ بالمُقاوَلةِ؛ فإنَّ الفَريقَينِ لَمَّا حَضَرَا وتَبَرَّأَ أحَدُهما مِن الآخَرِ قَصْدًا للتَّفَصِّي- أي: للإفْلَاتِ- مِن المُؤاخَذةِ؛ فيَقولُ اللهُ: ولن يَنفَعَكُم اليَومَ أنَّكُم في العَذابِ مُشتَرِكون، والخِطابُ مُوَجَّهٌ للَّذين عَشَوْا عن ذِكْرِ الرَّحمنِ ولشَياطِينِهم -على قولٍ-، وفي هذا الكَلامِ إشارةٌ إلى كَلامٍ مَطوِيٍّ، والتَّقديرُ: لا تُلْقُوا التَّبِعةَ على القُرَناءِ؛ فأنتُم مُؤاخَذون بطاعَتِهم، وهم مُؤاخَذون بإضلالِكم، وأنتم مُشتَرِكون في العَذابِ، ولن يَنفَعَكُم أنَّكُم في العَذابِ مُشتَرِكُون؛ لأنَّ عَذابَ فَريقٍ لا يُخَفِّفُ عن فَريقٍ، كما قال تعالى: قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/214). [الأعراف: 38] .
- ووُقوعُ فِعلِ يَنْفَعَكُمُ في سِياقِ النَّفيِ يدُلُّ على نَفيِ أنْ يَكونَ الاشتِراكُ في العَذابِ نافِعًا بحالٍ؛ لأنَّه لا يُخَفِّفُ عن الشَّريكِ مِن عَذابِه [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/214). .
- وقيل: قَولُه: أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ تَعليلٌ لنَفيِ النَّفعِ، أي: لنْ يَنفَعَكُم تَمَنِّيكُم؛ لأنَّ حَقَّكُم أنْ تَشتَرِكوا أنتم وقُرَناؤُكُم في العَذابِ كما كُنتُم مُشتَرِكين في سَبَبِه، وهو الكُفرُ، وتُقَوِّيه قِراءَةُ: (إنَّكُمْ) بالكَسرِ [462] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/252)، ((تفسير البيضاوي)) (5/91)، ((تفسير أبي حيان)) (9/374)، ((تفسير أبي السعود)) (8/47، 48)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/214، 215). ويُنظر ما تقدَّم في مشكلِ الإعرابِ (ص: 143). .
- قَولُه: أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ، قدَّم فِي الْعَذَابِ؛ اهتمامًا بالزَّجرِ به، والتَّخويفِ منه [463] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/431). .
- واجتَمَع في هذه الآيةِ ثَلاثُ كَلِماتٍ، تدُلُّ على ثَلاثةِ أزمِنَةٍ؛ وهي: (لن) لنَفيِ المُستَقبَلِ، و(اليَومَ) اسمٌ لزَمنِ الحالِ، و(إذ) اسمٌ لزَمَنِ المُضِيِّ، وثَلاثَتُها مَنوطةٌ بفِعلِ يَنْفَعَكُمُ، ومُقتضياتُها يُنافي بَعضُها بعضًا؛ فالنَّفيُ في المُستقبَلِ يُنافي التَّقيِيدَ بـ (اليَوم) الَّذي هو للحالِ، و(إذ) يُنافي نَفْيَ النَّفعِ في المُستقبَلِ، ويُنافي التَّقيِيدَ بـ (اليَوم)، ويُدفَعُ التَّنافيَ بيْنَ مُقتَضَى (إذ) ومُقتَضَى (اليَوم) بتَأويلِ مَعنى (إذ) بالتَّعليلِ؛ شُبِّهَت عِلَّةُ الشَّيءِ وسَببُه بالظَّرفِ في اللُّزومِ له. ويجوزُ أنْ تكونَ (إذ) بَدلًا مِن (اليوم)، وتأْويلُ الكلامِ على جَعلِ فِعلِ ظَلَمْتُمْ، بمعنى: تَبيَّنَ أنَّكم ظَلَمْتُم. ولِدَفعِ التَّنافي بيْنَ مُقتَضَى (اليَومِ) الدَّالِّ على زَمَنِ الحالِ وبيْنَ مُقتَضَى (لن) وهو حُصولُ النَّفيِ في الاستِقبالِ: أنْ يَكونَ اليَومُ ظَرفًا للحُكمِ والإخبارِ، أي: تَقَرَّر اليَومَ انتِفاءُ انتِفاعِكُم بالاشتِراكِ في العَذابِ انتِفاءً مُؤَبَّدًا مِنَ الآنَ، وقد حَصَل مِنِ اجتِماعِ هذه الكَلماتِ الثَّلاثِ الدَّالَّةِ على الأزمنةِ في الآيَةِ طِباقٌ [464] الطِّباق: هو الجمعُ بيْنَ مُتضادَّينِ مع مُراعاةِ التَّقابُلِ؛ كالبياضِ والسَّوادِ، واللَّيلِ والنَّهارِ، وهو قِسْمانِ: لفظيٌّ، ومعنويٌّ؛ فمِنَ الطِّباقِ اللَّفظيِّ: قولُه تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا [التوبة: 82] ؛ طابَقَ بيْن الضَّحِكِ والبُكاءِ، والقليلِ والكثيرِ. ومِن الطِّباقِ المعنويِّ: قولُه تعالى: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15، 16]؛ معناه: ربُّنا يَعلَمُ إنَّا لَصادِقون. ومنه: طِباقٌ ظاهرٌ، وهو ما كان وجهُ الضِّدِّيَّةِ فيه واضحًا. وطباقٌ خفيٌّ: وهو أن تكونَ الضِّدِّيَّةُ في الصُّورةِ متوهَّمةً، فتَبدو المطابقةُ خفيَّةً لِتَعلُّقِ أحدِ الرُّكنَينِ بما يُقابِلُ الآخَرَ تعلُّقَ السَّببيَّةِ أو اللُّزومِ؛ كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25]؛ فإنَّ إدخالَ النَّارِ يَستلزِمُ الإحراقَ المُضادَّ للإغراقِ. ومنه: قولُه تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القِصاصِ القتلُ، فصار القتْلُ سببَ الحياةِ. وهذا مِن أمْلَحِ الطِّباقِ وأخفاهُ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 111)، ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) للبهاء السبكي (2/225)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/455 - 457)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/377-381)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 567). عَزيزٌ بيْنَ ثَلاثةِ مَعانٍ مُتَضادَّةٍ في الجُملةٍ [465] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/253)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/215، 216). .