موسوعة التفسير

سورةُ الزُّخرُفِ
الآيات (66-73)

ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ

غريب الكلمات:

بَغْتَةً: أي: فَجأةً، والبَغْتُ: مُفاجأةُ الشَّيءِ مِن حيثُ لا يُحتَسَبُ [708] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 153)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 120)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/272)، ((المفردات)) للراغب (ص: 135)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 252). .
الْأَخِلَّاءُ: جمعُ خَليلٍ، وهو الصَّديقُ، مِنَ الخُلَّةِ، وهي: الصَّداقةُ والمَودَّةُ؛ لأنَّها تَتخَلَّلُ النَّفْسَ، أي: تَتوسَّطُها، وأصلُ (خلل): يدُلُّ على فُرجةٍ بينَ شَيئَينِ [709] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/155)، ((المفردات)) للراغب (ص: 291)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 144)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 39، 398). .
تُحْبَرُونَ: أي: تُكرَمونَ وتُنَعَّمون وتُسَرُّونَ، والحَبْرةُ: السُّرورُ، وأصلُ (حبر): يدُلُّ على الأثَرِ في حُسنٍ وبَهاءٍ [710] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 340)، ((تفسير ابن جرير)) (18/472)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 536)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/127)، ((البسيط)) للواحدي (20/73). .
بِصِحَافٍ: جَمعُ صَحْفةٍ، وهي القَصْعةُ العَريضةُ، وأصلُ (صحف): يدُلُّ على انبِساطٍ في شَيءٍ وسَعةٍ [711] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/643)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/334)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 347)، ((تفسير القرطبي)) (16/113)، ((تفسير ابن كثير)) (7/238). .
وَأَكْوَابٍ: جَمعُ كُوبٍ، وهو الإناءُ المستديرُ الرَّأسِ، لا عُرْوةَ له (وهي ما يُمسَكُ منها) ولا خُرطومَ [712] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/37، 123)، ((تفسير ابن جرير)) (20/644)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/145)، ((المفردات)) للراغب (ص: 728)، ((عمدة الحفاظ)) للسمين الحلبي (1/183) و(3/436). قال ابن عطية: (الأكوابُ: ضربٌ مِن الأواني كالأباريقِ، إلَّا أنَّها لا آذانَ لها ولا مقابضَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/63). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا حُسنَ عاقبةِ المؤمنينَ، وسوءَ عاقبةِ المكذبينَ: هل يَنتَظِرُ هؤلاء إلَّا القيامةَ تأتيهم فَجأةً وهم غافِلونَ؟! الأصدِقاءُ المُتخالُّونَ على معاصي اللهِ في الدُّنيا بَعضُهم أعداءٌ لِبَعضٍ يومَ القيامةِ إلَّا الذين اتَّقَوا رَبَّهم، فيقولُ اللهُ لهم: يا عبادِي لا خَوفٌ عليكم اليَومَ، ولا أنتم تَحزَنونَ على ما مضى، وهؤلاءِ العِبادُ هم الذين آمَنوا بآياتِ اللهِ وعَمِلوا بها، وكانوا مُنقادينَ للهِ تعالى.
يُقالُ لهم: ادخُلوا الجنَّةَ أنتم وأزواجُكم، فتُكرَمونَ فيها وتَسعَدونَ. ويُطافُ عليهم في الجنَّةِ بقِصاعٍ مِن ذَهَبٍ وأكوابٍ، فيها ما يَشتَهونَه مِن ألوانِ الطَّعامِ والشَّرابِ، وفي الجنَّةِ ما تَشتَهيه أنفُسُهم وتَلْتَذُّ برُؤيتِه أعيُنُهم، وهم في الجنَّةِ خالِدونَ أبدًا.
ويُقال لهم: تلك هي الجنَّةُ التي أورَثَكم اللهُ إيَّاها؛ بما كُنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِن الصَّالحاتِ، لكم فيها فواكِهُ كَثيرةٌ تأكُلونَ منها ما تَشتَهونَه.

تفسير الآيات:

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66).
أي: ما يَنتَظِرونَ إلَّا يومَ القيامةِ الذي يأتيهم فَجأةً وهم غافِلونَ [713] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/639)، ((تفسير القرطبي)) (16/109)، ((تفسير ابن كثير)) (7/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/251)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/139). قيل: المرادُ بهم: الأحزابُ المُختَلِفونَ في شأنِ عيسى عليه السَّلامُ. وممَّن قال بهذا المعنى: ابن جرير، ومكي، والقرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/639)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6695)، ((تفسير القرطبي)) (16/109)، ((تفسير الشوكاني)) (4/644). وقيل: المرادُ بهم: كُفَّارُ قريش. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتل بن سليمان، وابن الجوزي، وابن عطية، والعليمي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/801)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/82)، ((تفسير ابن عطية)) (5/63)، ((تفسير العليمي)) (6/232)، ((تفسير القاسمي)) (8/398). وممَّن ذهب إلى العُمومِ: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/475). قال البقاعي: (لَمَّا عَمَّ الظَّالِمينَ بالوَعيدِ بذلك اليومِ، فدَخَل فيه قُرَيشٌ وغَيرُهم؛ أتبَعَه ما هو كالتَّعليلِ مُبْرِزًا له في سياقِ الاستِفهامِ؛ لأنَّه أهوَلُ). ((نظم الدرر)) (17/475). .
كما قال تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف: 187] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد نشَرَ الرَّجُلانِ ثَوبَهما بينَهما فلا يَتبايَعانِه ولا يَطويانِه! ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد انصرَفَ الرَّجُلُ بلَبَنِ لِقحَتِه [714] اللِّقْحَةُ: النَّاقةُ الحَلوبُ. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (23/92). فلا يَطعَمُه! ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وهو يَليطُ حَوضَه [715] يَليطُ حَوضَه: أي: يُطَيِّنُه ويُصلِحُه. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (23/92)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3407). فلا يَسقي فيه! ولَتَقومَنَّ السَّاعةُ وقد رَفَع أحَدُكم أُكلَتَه إلى فيه فلا يَطعَمُها! )) [716] رواه البخاري (6506) واللَّفظُ له، ومسلم (2954). .
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً [الزخرف: 66] ؛ ذَكَر عَقيبَه بَعضَ ما يَتعلَّقُ بأحوالِ القيامةِ [717] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/641). .
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67).
أي: الأصدِقاءُ المتصاحِبونَ على الكُفرِ والمعاصي في الدُّنيا يكونُ بَعضُهم أعداءً لِبَعضٍ يومَ القيامةِ، ويَتبَرَّأُ بَعضُهم مِن بَعضٍ إلَّا الذين اتَّقَوا اللهَ، فتآخَوا في الدُّنيا، وتَصاحَبوا على تَوحيدِ الله وطاعتِه ومَحبَّتِه [718] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/639)، ((تفسير القرطبي)) (16/109)، ((تفسير ابن كثير)) (7/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). .
كما قال الله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166] .
وقال سُبحانَه: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 25] .
وقال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: 38] .
وعن مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((قال اللهُ عزَّ وجَلَّ: المتحابُّونَ في جَلالي لهم مَنابِرُ مِن نُورٍ، يَغبِطُهم [719] يَغبِطُهم: مِنَ الغِبْطةِ، وهي تَمنِّي نِعمةٍ على ألَّا تتحَوَّلَ عن صاحِبِها، بخِلافِ الحَسَدِ؛ فإنَّه تَمنِّي زوالِها عن صاحِبِها. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3137). النَّبيُّونَ والشُّهَداءُ)) [720] أخرجه الترمذي (2390)، وأحمد (22080). قال الترمذي: حسنٌ صحيحٌ. وصَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2390)، وصحَّح إسنادَه شُعَيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (36/399، 400). .
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68).
أي: يَقولُ اللهُ تعالى يومَ القيامةِ لأولئك المتَّقينَ: يا عِبادي لا خَوفٌ عليكم في هذا اليَومِ مِن أمرٍ مُستَقبَلٍ؛ فإنِّي أُؤَمِّنُكم مِن الأهوالِ والعَذابِ، ولا أنتم تَحزَنونَ على ما مضى؛ فأنتم مُقدِمونَ على ما يَسُرُّكم [721] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/641)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/476، 477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/253)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/140). .
كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62 - 64] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 101 - 103] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11] .
الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69).
الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا.
أي: الذين آمَنوا بآياتِ اللهِ، وعَمِلوا بما جاءَتْهم به رسلُهم [722] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/641)، ((تفسير ابن كثير)) (7/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). قال الواحدي: (قال مُقاتِلٌ: إذا وَقَع الخَوفُ يومَ القيامةِ نادى مُنادٍ: يا عبادي لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ يعني: مِنَ العذابِ الْيَوْمَ فإذا سُمِعَ النِّداءُ رَفَع الخلائِقُ رُؤوسَهم، فيُقالُ: الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ، فيُنَكِّسُ أهلُ الأديانِ رُؤوسَهم غيرَ المُسلِمينَ. قال أبو إسحاق [الزَّجَّاج] الَّذِينَ آَمَنُوا في مَوضِعِ نَصبٍ على النَّعتِ لـ «عِبَادِي» ... وقيل: الَّذِينَ آَمَنُوا ابتِداءٌ وخَبَرُه مُضمَرٌ على تقديرِ: يُقالُ لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، أو يكونُ الخَبَرُ يُطَافُ عَلَيْهِمْ، ويجوزُ أن يكونَ التَّقديرُ: هم الَّذين آمَنوا بآياتِنا). ((البسيط)) للواحدي (20/73). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/802)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/419). .
وَكَانُوا مُسْلِمِينَ.
أي: وكانوا دَومًا خاضِعينَ لله، مُنقادينَ لِشَرعِه [723] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/641)، ((تفسير ابن كثير)) (7/238)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). .
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى ما للمُؤمِنينَ؛ بِشارةً لهم، وترغيبًا لِغَيرِهم في اللَّحاقِ بهم على وَجهٍ فيه إجمالٌ؛ شَرَح ذلك بقَولِه [724] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/477). :
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70).
أي: ادخُلوا الجنَّةَ أنتم وأزواجُكم [725] قال الماوَرْدي: (قَولُه عزَّ وجَلَّ: أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ فيه ثلاثةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: هم وأزواجُهم المؤمِناتُ في الدُّنيا. الثَّاني: وَمن يُزَوَّجُونَ مِن الحُورِ في الآخِرةِ. الثَّالثُ: هم وقُرَناؤُهم في الدُّنيا). ((تفسير الماوردي)) (5/238). وممَّن ذهب إلى القولِ الأوَّلِ: القرطبيُّ، والبيضاوي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/111)، ((تفسير البيضاوي)) (5/95)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/478). قال الشنقيطي: (قولُه تعالى في هذه الآيةِ: وَأَزْوَاجُكُمْ فيه لعُلماءِ التَّفسيرِ وجهانِ: أحدُهما: أنَّ المرادَ بأزواجِهم: نُظراؤُهم وأشباهُهم في الطَّاعةِ وتقوى الله. واقتصر على هذا القولِ ابنُ كثير. والثَّاني: أنَّ المرادَ بأزواجِهم: نساؤُهم في الجنَّةِ؛ لأنَّ هذا الأخيرَ أبلَغُ في التَّنعُّمِ والتَّلذُّذِ مِن الأوَّلِ؛ ولذا يَكثُرُ في القرآنِ ذِكرُ إكرامِ أهلِ الجنَّةِ بكَونِهم مع نسائِهم، دونَ الامتِنانِ عليهم بكَونِهم مع نُظرائِهم وأشباهِهم في الطَّاعةِ). ((أضواء البيان)) (7/142). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/238). وممَّن ذهب إلى العُمومِ: السعدي. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 769). قال السعدي: (أي: مَن كان على مِثْلِ عَمَلِكم مِن كُلِّ مُقارِنٍ لكم؛ مِن زَوجةٍ، ووَلَدٍ، وصاحِبٍ، وغَيرِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 769). ، فتُكرَمونَ فيها، وتُسَرُّونَ سُرورًا بالِغًا [726] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/642)، ((تفسير ابن عطية)) (5/63)، ((تفسير القرطبي)) (16/111)، ((تفسير البيضاوي)) (5/95)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/478)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/142، 143). قال الشنقيطي: (قَولُه: تُحْبَرُونَ أقوالُ العُلَماءِ فيه راجِعةٌ إلى شَيءٍ واحِدٍ، وهو أنَّهم يُكرَمونَ بأعظَمِ أنواعِ الإكرامِ وأتَمِّها). ((أضواء البيان)) (7/143). .
كما قال الله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الرعد: 23].
وقال سُبحانَه: فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم: 15] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 55 - 57] .
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71).
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ.
أي: يُطافُ عليهم في الجنَّةِ بقِصاعٍ مِن ذَهَبٍ فيها أنواعٌ مِن الطَّعامِ، وبأوعيةٍ للشُّربِ فيها أنواعٌ مِنَ الشَّرابِ [727] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/643 - 645)، ((تفسير القرطبي)) (16/111)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 193)، ((تفسير ابن كثير)) (7/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). ذهب بَعضُ المفَسِّرين إلى أنَّ الأكوابَ مِن فِضَّةٍ؛ قال تعالى: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [الإنسان: 15، 16]. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: مقاتلُ بن سليمان، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/802)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). وذهب بَعضُهم إلى أنَّ الأكوابَ مِن ذَهَبٍ، كالصِّحافِ. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/645)، ((تفسير ابن كثير)) (7/238). .
كما قال الله سبحانه وتعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: 17 - 21].
وقال سُبحانَه: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا [الإنسان: 15، 16].
وعن حُذيفةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا تَلبَسوا الحَريرَ ولا الدِّيباجَ [728] الدِّيباجُ: هو نَوعٌ مِن الحريرِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (7/2749). ، ولا تَشرَبوا في آنيةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ولا تأكُلوا في صِحافِها؛ فإنَّها لهم في الدُّنيا، ولنا في الآخِرةِ )) [729] رواه البخاري (5426) واللفظ له، ومسلم (2067). .
وعن جابرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنهما، قال: سَمِعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إنَّ أهلَ الجنَّةِ يأكُلونُ فيها ويَشرَبونَ، ولا يَتفِلونَ ولا يَبولونَ، ولا يَتغوَّطونَ ولا يَمتَخِطونَ. قالوا: فما بالُ الطَّعامِ؟ قال: جُشَاءٌ ورَشْحٌ كرَشْحِ المِسكِ، يُلهَمونَ التَّسبيحَ والتَّحميدَ كما تُلهَمونَ النَّفَسَ [730] النَّفَسُ: أي: التَّنَفُّسُ، والمعنى: لا يَتعَبونَ مِن التَّسبيحِ والتَّهليلِ كما لا تَتعَبون أنتم مِن النَّفَسِ؛ بحيث يصيرُ الذِّكرُ صِفةً لازِمةً لا ينفكُّونَ عنها كالنَّفَسِ اللَّازِمِ للحيوانِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3582). ) [731] رواه مسلم (2835). .
وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ.
أي: وفي الجنَّةِ ما تَشتَهيه أنفُسُهم مِن المأكولاتِ والمَشروباتِ والمَلبوساتِ، والمَسموعاتِ والمَرئيَّاتِ، والمساكِنِ والمناكِحِ، وغيرِ ذلك مِن أنواعِ المَلَذَّاتِ والمَسرَّاتِ [732] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/645)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1439)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/479)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). .
كما قال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق: 35].
وقال سُبحانَه: وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الطور: 22].
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((قال اللهُ: أعدَدْتُ لعِباديَ الصَّالِحينَ ما لا عَينٌ رأَت، ولا أُذُنٌ سَمِعَت، ولا خَطَر على قَلبِ بَشَرٍ، فاقرَؤوا إن شِئتُم: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] )) [733] رواه البخاري (3244) واللفظ له، ومسلم (2824). .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَومًا يُحَدِّثُ وعِندَه رجُلٌ مِن أهلِ الباديةِ: أنَّ رَجُلًا مِن أهلِ الجنَّةِ استأذَنَ رَبَّه في الزَّرعِ، فقال له: ألَسْتَ فيما شِئتَ؟! قال: بلى، ولكِنِّي أُحِبُّ أن أزرَعَ! قال: فبَذَرَ فبادَرَ الطَّرْفَ نباتُه [734] فبادَرَ الطَّرفَ نباتُه: أي: فسابَقَه نباتُه وحَصَل في الحالِ. والطَّرْفُ: هو امتِدادُ لَحْظِ الإنسانِ حيث أدرَكَ. وقيل: طَرْفُ العَينِ: حَرَكتُها، أي: تحَرُّكُ أجفانِها. يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (15/297)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3600). واستِواؤُه واستِحصادُه، فكان أمثالَ الجِبالِ! فيَقولُ اللهُ: دُونَك [735] دُونَك يا ابنَ آدَمَ: أي: خُذْ ما تمنَّيتَه. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (9/3600). يا ابنَ آدَمَ؛ فإنَّه لا يُشبِعُك شَيءٌ! فقال الأعرابيُّ: واللهِ لا تَجِدُه إلَّا قُرَشيًّا أو أنصاريًّا؛ فإنَّهم أصحابُ زَرعٍ! وأمَّا نحن فلَسْنا بأصحابِ زَرعٍ. فضَحِكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم )) [736] رواه البخاري (2348). .
وعن زَيدِ بنِ أرقَمَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ الرَّجُلَ مِن أهلِ الجنَّةِ يُعطى قُوَّةَ مِئةِ رجُلٍ في الأكلِ والشُّربِ والشَّهوةِ والجِماعِ! فقال رجُلٌ مِن اليَهودِ: فإنَّ الذي يأكُلُ ويَشرَبُ تكونُ له الحاجةُ. فقال له رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حاجةُ أحَدِهم عَرَقٌ يَفيضُ مِن جِلدِه، فإذا بَطنُه قد ضَمُرَ [737] ضَمُرَ: أي: ذَهَب رَهَلُه، واشتَدَّ لَحْمُه. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/99). ) [738] أخرجه النسائي في ((السنن الكبرى)) (11478)، وأحمد (19314) واللفظ له. صَحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (1627)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (350)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (32/65). .
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ.
أي: وفي الجنَّةِ ما تَلْتَذُّ برُؤيتِه أعينُهم؛ لحُسنِه وجمالِه [739] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/114)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/143). قال البقاعي: (وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ مِنَ الأشياءِ المُبصَرةِ التي أعلاها النَّظَرُ إلى وَجهِه الكريمِ تعالى!). ((نظم الدرر)) (17/479). ويُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/341). .
وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: وأنتم في الجنَّةِ ماكِثونَ، لا يَنقَطِعُ نَعيمُها عنكم، ولا أنتم منها تُخرَجونَ [740] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/645)، ((تفسير ابن كثير)) (7/239)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا [الكهف: 107، 108].
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72).
أي: يُقالُ لهم: وتلك هي الجنَّةُ العاليةُ المقامِ التي أعطاكم اللهُ إيَّاها؛ بسَبَبِ ما كنتُم تَعمَلونَه في الدُّنيا مِنَ الأعمالِ الصَّالحةِ [741] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/647)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/194)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/8)، ((تفسير ابن كثير)) (7/239)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (17/ 479، 480)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/256)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/471، 472) و (7/146). قال الرازي: (أُورِثْتُمُوهَا فيه قولانِ: القَولُ الأوَّلُ، وهو قولُ أهلِ المعاني: أنَّ معناه: صارت إليكم كما يصيرُ الميراثُ إلى أهلِه، والإرثُ قد يُستعمَلُ في اللُّغةِ ولا يرادُ به زوالُ المُلكِ عن الميِّتِ إلى الحَيِّ، كما يُقالُ: هذا العَمَلُ يُورِثُك الشَّرَفَ، ويُورِثُك العارَ، أي: يُصيِّركُ إليه، ومنهم من يقولُ: إنَّهم أُعطُوا تلك المنازِلَ مِن غيرِ تَعَبٍ في الحالِ؛ فصار شبيهًا بالميراثِ. والقولُ الثاني: أنَّ أهلَ الجنَّةِ يُورَثونَ مَنازِلَ أهلِ النَّارِ). ((تفسير الرازي)) (14/244). وممَّن قال بالمعنى الأوَّلِ في الجملةِ: الزمخشريُّ، والشوكاني، وابن عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/263)، ((تفسير الشوكاني)) (4/645)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/256)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/471، 472). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/647)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6701). قال الشنقيطي: (معنى إيراثِهم الجنَّةَ: الإنعامُ عليهم بالخُلودِ فيها في أكمَلِ نَعيمٍ وسُرورٍ). ((أضواء البيان)) (3/471، 472). .
كما قال تعالى: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43].
وقال سُبحانَه: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم: 63] .
وقال تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ما مِنكم مِن أحَدٍ إلَّا له مَنزِلانِ: مَنزِلٌ في الجنَّةِ، ومَنزِلٌ في النَّارِ، فإذا مات فدَخَل النَّارَ وَرِثَ أهلُ الجنَّةِ مَنزِلَه، فذلك قَولُه تعالى: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون: 10] )) [742] أخرجه ابن ماجه (4341)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (377) واللفظ لهما، والبزار (9152) مختَصَرًا. صَحَّح إسنادَه القرطبيُّ المفَسِّر في ((التذكرة)) (435)، والبوصيري في ((مصباح الزجاجة)) (4/266) وقال: (على شرط الشيخينِ)، وابنُ حجر في ((فتح الباري)) (11/451)، وذكر الشوكاني في ((تفسيره)) (3/673) أنَّ له شاهِدًا في مسلم. وصحَّح الحديثَ الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4341). .
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى الطَّعامَ والشَّرابَ فيما تَقَدَّم، ذكَرَ هاهنا حالَ الفاكِهةِ [743] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/642). .
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73).
أي: لكم فيها فَواكِهُ كَثيرةٌ مُتنَوِّعةٌ تَأكُلونَ منها ما اشتَهيتُم واختَرتُم [744] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (20/647)، ((تفسير ابن كثير)) (7/240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 769). .
كما قال تعالى: لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس: 57] .
وقال سُبحانَه: يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ [الدخان: 55] .

الفوائد التربوية:

قَولُ الله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ فيه أنَّ الخُلَّةَ إذا كانت على المَعصيةِ والكُفرِ صارت عَداوةً يومَ القيامةِ، أمَّا المتَّقونَ المُوحِّدونَ الَّذين يُخالِلُ بَعضُهم بعضًا على الإيمانِ والتَّقوى، فإنَّ خُلَّتَهم لا تَصيرُ عَداوةً [745] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/641). ، فكُلُّ صَداقةٍ وصَحابةٍ لغيرِ اللهِ فإنَّها تَنقَلِبُ يومَ القيامةِ عَداوةً إلَّا ما كان لله عزَّ وجَلَّ؛ فإنَّه دائِمٌ بدَوامِه [746] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/237). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ أنَّ المُتَحابِّينَ في الدُّنيا إذا كانوا مِن أهلِ الجنَّةِ ومِن المتَّقينَ، فإنَّهم يَتلاقَونَ في الآخِرةِ، ولا تَزولُ المَوَدَّةُ بيْنَهم [747] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/699). .
2- قَولُ الله تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ فيه أنواعٌ كَثيرةٌ مِمَّا يُوجِبُ الفَرَحَ:
أوَّلُها: أنَّ الحَقَّ سُبحانَه وتعالى خاطَبَهم بنَفْسِه مِن غيرِ واسِطةٍ.
وثانيها: أنَّه تعالى وصَفَهم بالعُبوديَّةِ، وهذا تَشريفٌ عَظيمٌ، بدَليلِ أنَّه لَمَّا أراد أن يُشَرِّفَ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم ليلةَ المعراجِ قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] .
وثالثُها: قَولُه: لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فأزال عنهم الخَوفَ في يومِ القيامةِ بالكُلِّيَّةِ، وهذا مِن أعظَمِ النِّعَمِ.
ورابِعُها: قَولُه: وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، فنفى عنهم الحُزنَ بسَبَبِ فَوتِ الدُّنيا الماضيةِ [748] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/642). .
3- قَولُ الله تعالى: الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ظاهِرُه المُغايَرةُ بينَ الإيمانِ والإسلامِ، وقد دَلَّت بعضُ الآياتِ على اتِّحادِهما، كقَولِه تعالى: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35، 36]، ولا مُنافاةَ في ذلك؛ فإنَّ الإيمانَ يُطلَقُ تارةً على جميعِ ما يُطلَقُ عليه الإسلامُ مِن الاعتِقادِ والعَمَلِ، كما ثَبَت في الصَّحيحِ في حديثِ وَفدِ عبدِ القَيسِ [749] الحديث أخرجه البخاري (53)، ومسلم (17) من حديث ابن عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما. ، والأحاديثُ بمِثلِ ذلك كثيرةٌ جِدًّا. ومِن أصرَحِها في ذلك قَولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: ((الإيمانُ بِضعٌ وسَبعونَ )) [750] أخرجه مسلم (35) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وفي بعض الرِّواياتِ الثَّابتةِ في الصَّحيحِ: ((بِضعٌ وسِتُّونَ شُعبةً، فأفضلها قول: لَا إلهَ إلَّا اللهُ، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطَّريقِ )) [751] أخرجه البخاري (9) مختصرًا، ومسلم (35) واللَّفظُ له من حديث أبي هُريرةَ رضيَ الله عنه. ؛ فقد سَمَّى صلَّى الله عليه وسلَّم إماطةَ الأذى عن الطَّريقِ إيمانًا، فالإيمانُ الشَّرعيُّ التَّامُّ والإسلامُ الشَّرعيُّ التَّامُّ: مَعناهما واحِدٌ.
وقد يُطلَقُ الإيمانُ إطلاقًا آخَرَ على خُصوصِ رُكنِه الأكبَرِ الذي هو الإيمانُ بالقَلبِ، كما في حديثِ جِبريلَ الثَّابِتِ في الصَّحيحِ: ((ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً إذا صلَحَت صَلَح الجَسَدُ كُلُّه، وإذا فسَدت فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القَلبُ )) [752] أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النُّعمانِ بنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما. فغَيرُه تابِعٌ له، وعلى هذا تَحصُلُ المغايَرةُ في الجُملةِ بين الإيمانِ والإسلامِ. فالإيمانُ على هذا الإطلاقِ اعتِقادٌ، والإسلامُ شامِلٌ للعَمَلِ [753] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/140، 141). .
4- قَولُه تعالى: مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ قد عمَّ كلَّ ما تتَعَلَّقُ الشَّهواتُ النَّفسِيَّةُ بنَوالِه وتَحصيلِه، واللهُ يَخلُقُ في أهلِ الجَنَّةِ الشَّهَواتِ اللَّائِقَةَ بعالَمِ الخُلودِ والسُّمُوِّ [754] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/255). .
5- قولُه تعالى: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ بِشارَةٌ لهم بعَدَمِ انقِطاعِ الحَبَرَةِ، وسَعَةِ الرِّزقِ، ونَيلِ الشَّهواتِ، وإتمامٌ للنِّعمَةِ، وإكمالٌ للسُّرورِ؛ فإنَّ كُلَّ نَعيمٍ له زَوالٌ بالآخِرَةِ مُقارِنٌ لخَوفِه لا مَحالَةَ، مُوجِبٌ لِكُلْفَةِ الحِفظِ، وخَوفِ الزَّوالِ، ومُستَعقِبٌ للتَّحَسُّرِ في ثاني الحالِ [755] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/96)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/174)، ((تفسير أبي السعود)) (8/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/256). .
6- في قَولِه تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ دَليلٌ على أنَّ الأعمالَ سبَبٌ لدُخولِ الجنَّةِ [756] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/136). .
7- قال تعالى: أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فأثبَتَ اللهُ تعالى دُخولَ الجنَّةِ بالأعمالِ في قَولِه: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بيْنَما نفى رَسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم دُخولَها بالأعمالِ، بقَولِه: ((لا يدخلُ أحدٌ منكم الجنَّةَ بعملِه)) [757] أخرجه البخاري (5673)، ومسلم (2816)، وأحمد (7473) واللَّفظُ له من حديث أبي هُريرةَ رضيَ الله عنه. ، ولا تنافيَ بينهما؛ وذلك لوجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الباءَ الَّتي نَفَت الدُّخولَ هي باء المُعاوَضةِ الَّتي يكونُ فيها أحَدُ العِوَضَينِ مُقابِلًا للآخَرِ، والباءَ التي أثبَتَت الدُّخولَ هي باءُ السَّبَبيَّةِ التي تَقتَضي سَبَبيَّةَ ما دخَلَت عليه لِغَيرِه، وإنْ لم يكُنْ مُستَقِلًّا بحُصولِه [758] يُنظر: ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) لابن القيم (ص: 87). .
الثَّاني: ما ذكَرَه سُفيانُ وغَيرُه، قال: كانوا يقولونَ: (النَّجاةُ مِن النَّارِ بعَفوِ اللهِ، ودُخولُ الجنَّةِ برَحمتِه، واقتِسامُ المنازِلِ والدَّرَجاتِ بالأعمالِ).
الثَّالِثُ: أنَّ دُخولَ الجنَّةِ بسَبَبِ الأعمالِ، ثمَّ التَّوفيقُ للأعمالِ والهدايةُ للإخلاصِ فيها وقَبولُها: برَحمةِ اللهِ تعالى وفَضلِه؛ فيَصِحُّ أنَّه لم يدخُلْ بمُجَرَّدِ العَمَلِ، وهو مرادُ الأحاديثِ، ويَصِحُّ أنَّه دخَلَ بالأعمالِ، أي: بسَبَبِها، وهي مِنَ الرَّحمةِ [759] يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/161). .
الرَّابعُ: يُحمَلُ الحَديثُ على أنَّ العَمَلَ مِن حيثُ هو عَمَلٌ لا يَستفيدُ به العامِلُ دُخولَ الجنَّةِ ما لم يكُنْ مَقبولًا، وإذا كان كذلك فأمْرُ القَبولِ إلى اللهِ تعالى، وإنَّما يَحصُلُ برَحمةِ اللهِ لِمن يُقبَلُ منه، وعلى هذا فمَعنى قَولِه: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل: 32]، أي: تَعمَلونَه مِن العَمَلِ المَقبولِ، ولا يَضُرُّ بعد هذا أن تكونَ الباءُ للمُصاحَبةِ، أو للإلصاقِ، أو المقابَلةِ، ولا يَلزَمُ مِن ذلك أن تكونَ سَببيَّةً [760] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/296، 297). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ بتَنزيلِ سامِعِ قَولِه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] مَنزِلَةَ مَن يَطلُبُ البَيانَ، فيَسأَلُ: مَتَى يَحُلُّ هذا اليَومُ الأَليمُ؟ وما هو هذا الوَيلُ؟ فوَرَدَت جُملةُ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً جَوابًا عن الشِّقِّ الأوَّلِ مِن السُّؤالِ، وسَيجيءُ الجَوابُ عن الشِّقِّ الثَّاني في قَولِه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: 67] ، وفي قَولِه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74] الآياتِ [761] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/251). .
- وقد جرَى الجَوابُ في قَولِه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ ... على طَريقةِ الأُسلوبِ الحَكيمِ [762] الأسلوبُ الحكيمُ: هو تلقِّي المخاطَبِ بغيرِ ما يترقَّبُ بحملِ كلامِه على غيرِ مُرادِه؛ تنبيهًا على أنَّه هو الأَولَى بالقصدِ، وكذلك أيضًا تلقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يتطلَّبُ؛ تنبيهًا على ما هو الأَولى بحالِه وبالسُّؤالِ عنه، وهو مِن خلافِ مقتضَى الظاهرِ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 327)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (4/42، 43)، ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (1/132). ، والمعنى: أنَّ هذا العَذابَ واقِعٌ لا مَحالةَ، سَواءٌ قَرُبَ زَمانُ وُقوعِه أمْ بَعُدَ؛ فلا يَرِيبُكُم عَدَمُ تَعجيلِه، وقد أشعَرَ بهذا المَعنَى تَقيِيدُ إتيانِ السَّاعَةِ بقَيدِ بَغْتَةً؛ فإنَّ الشَّيءَ الَّذي لا تَسبِقُه أمارَةٌ لا يُدرَى وَقتُ حُلولِهِ [763] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/251). .
- والاستِفهامُ في قولِه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ إنكارِيٌّ، أي: لا يَنتَظِرون بعْدَ أنْ أَشرَكوا لحُصولِ العَذابِ إلَّا حُلولَ السَّاعةِ، وعبَّر عن اليَومِ بالسَّاعَةِ؛ تَلميحًا لِسُرعَةِ ما يَحصُلُ فيه [764] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/251). .
- وفائِدةُ ذِكْرِ جُملةِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بعْدَ قَولِه: بَغْتَةً -أي: فَجأَةً-: أنَّ السَّاعَةَ تَأتِيهِم وهم غافِلُون، مَشغُولُون بأُمورِ دُنياهُم؛ فلَولا قَولُه: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ لَجازَ أنْ تَأتِيَهُم بَغتَةً وهم يَقِظُون حَذِرُون مُستَعِدُّون لها، ولَمَّا كان مَدلولُ بَغْتَةً يَقتَضِي عَدَمَ الشُّعورِ بوُقُوعِ السَّاعَةِ حين تَقَعُ عليهم؛ كانت جُملَةُ الحالِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ مُؤَكِّدَةً للجُملَةِ التي قَبلَها [765] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/263)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/171)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 514)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/251). .
- ويَجوزُ أن يُرادَ بـ لَا يَشْعُرُونَ الإثباتُ؛ لأنَّ الكلامَ وارِدٌ على الإنكارِ، كأنَّه قيل: هل تَزعُمون أنَّها تَأتيهم بَغتَةً وهم لا يَشعُرون؟ أي: لا يَكونُ ذلك، بلْ تَأتيهِم وهم فَطِنون [766] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/263)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/171). .
2- قولُه تعالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ
- قَولُه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ إلى قَولِه: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ استِئنافٌ يُفيدُ أمْرَينِ؛ أحدُهُما: بَيانُ بَعضِ الأهوالِ الَّتِي أشارَ إليها إجمالُ التَّهديدِ في قَولِه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: 65] . وثانيهُما: مَوعِظَةُ المُشرِكِين بما يَحصُلُ يَومَ القِيامَةِ مِن الأهوالِ لأمثالِهِم، والحَبْرَةِ للمُؤمِنين [767] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/252). .
- وقدْ أُوثِرَ بالذِّكرِ هنا مِن الأَهوالِ ما له مَزيدُ تَناسُبٍ لحالِ المُشرِكين في تَأَلُّبِهم على مُناوأَةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ودِينِ الإسلامِ؛ فإنَّهم ما ألَّبَهم إلَّا تَناصُرُهم وتَوادُّهم في الكُفرِ والتَّباهِي بذلك بيْنَهم في نَوادِيهم وأسمارِهم؛ قال تعالى حِكايةً عن إبراهيمَ: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا [العنكبوت: 25] ، وتلك شنْشَنةُ أهلِ الشِّركِ مِن قبْلُ، أي: عادتُهم المستمِرَّةُ [768] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/252). .
- والمُضافُ إليه (إذ) مِن قَولِه: يَوْمَئِذٍ هو المُعَوَّضُ عنه التَّنوينُ؛ دلَّ عليه المَذكورُ قَبلَه في قَولِه: مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [769] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/252). [الزخرف: 65] .
- وتَعريفُ (الأخِلَّاءِ) تَعريفُ الجِنسِ، وهو مُفيدٌ استِغراقًا عُرفِيًّا، أي: الأخِلَّاءُ مِن فَريقَيِ المُشرِكين والمُؤمِنين، أو الأخِلَّاءُ مِن قُرَيشٍ المُتَحَدَّثِ عنهم [770] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/252). .
3- قولُه تعالَى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ مَقولَةٌ لقَولٍ مَحذوفٍ دلَّت عليه صِيغَةُ الخِطابِ، أي: نَقولُ لهم، أو: يَقولُ اللهُ لَهُم؛ تَشريفًا لهم، وتَطيِيبًا لقُلوبِهِم [771] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/95)، ((تفسير أبي السعود)) (8/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/253). .
- ومُفاتَحةُ خِطابِهم بنَفيِ الخَوفِ عنهم تَأْنيسٌ لهم، ومِنَّةٌ بإنْجائِهم مِن مِثلِه، وتَذكيرٌ لهم بسَبَبِ مُخالَفَةِ حالِهم لحالِ أهلِ الضَّلالَةِ؛ فإنَّهم يُشاهِدون ما يُعامَلُ به أهلُ الضَّلالَةِ والفَسادِ [772] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/253). .
- وقولُه: لَا خَوْفٌ مَرفوعٌ مُنَوَّنٌ في جَميعِ القِراءاتِ المَشهورَةِ، وإنَّما لم يُفتَحْ؛ لأنَّ الفَتْحَ على تَضمينِ (مِن) الزَّائِدَةِ المُؤَكِّدَةِ للعُمومِ، وإذ قد كان التَّأكيدُ مُفيدًا التَّنصيصَ على عَدَمِ إرادَةِ نَفْيِ الواحِدِ، وكان المَقامُ غَيرَ مَقامِ التَّرَدُّدِ في نَفْيِ جِنسِ الخَوفِ عنهم؛ لأنَّه لم يَكُنْ واقِعًا بهم حِينَئِذٍ مع وُقوعِه على غَيرِهم، فأمارَةُ نَجاتِهِم منه واضِحَةٌ -لم يُحْتَجْ إلى نَصبِ اسمِ (لا) [773] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/253). .
- وجِيءَ في قَولِه: وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ بالمُسنَدِ إليه مُخبَرًا عنه بالمُسنَدِ الفِعلِيِّ؛ لإفادَةِ التَّقَوِّي في نَفيِ الحُزنِ عنهم؛ فالتَّقَوِّي أفاد تَقَوِّيَ النَّفيِ لا نَفْيَ قُوَّةِ الحُزنِ الصَّادِقِ بحُزنٍ غَيرِ قَوِيٍّ، هذا هو طَريقُ الاستِعمالِ في نَفسِ صِيَغِ المُبالَغَةِ؛ تَطمينًا لأنفُسِهم بانتِفاءِ الحُزنِ عنهم في أزمِنَةِ المُستَقبَلِ؛ إذ قد يَهجِسُ بخَواطِرِهم: هل يَدومُ لهم الأمنُ الَّذي هم فيه؟ [774] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/254).
- وفي قَولِه: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إيجازٌ؛ وذلك في نِداءِ اللهِ تعالى لعِبادِه؛ فقد اشتَمَل هذا النِّداءُ على أُمورٍ أربَعَةٍ: نَفَى عنهم الخَوفَ، ونَفَى عنهم الحُزنَ، وأمَرَهم بدُخولِ الجَنَّةِ، وبَشَّرَهم باستِحواذِ السُّرورِ على أنفُسِهِم [775] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/105). .
4- قولُه تعالَى: الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ
- جُملةُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا ... نعْتٌ لِلمُنادى مِن قولِه: يَا عِبَادِ، جِيءَ فيها بالموصولِ؛ لِدَلالةِ الصِّلةِ على عِلَّةِ انتفاءِ الخَوفِ والحُزْنِ عنهم [776] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/254). .
- وقَولُه: وَكَانُوا مُسْلِمِينَ حالٌ مِن الواوِ في قولِه: آَمَنُوا، أي: الَّذين آمَنُوا مُخلِصِين، غَيرَ أنَّ هذه العِبارَةَ آكَدُ وأبلَغُ [777] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/95). .
5- قولُه تعالَى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ عَطْفُ أزواجِهم عليهم في الإذنِ بدُخولِ الجَنَّةِ مِن تَمامِ نِعمَةِ التَّمَتُّعِ بالخُلَّةِ التي كَانَت بيْنَهم وبيْنَ أزواجِهم في الدُّنيَا [778] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/254). . على قولٍ في التَّفسيرِ.
6- قولُه تعالَى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- قَولُه: وَأَكْوَابٍ حُذِفَ وَصْفُ الأكوابِ؛ لدَلالَةِ وَصفِ صِحافٍ عليه، أي: وأكوابٍ مِن ذَهَبٍ [779] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/255). ، وذلك على قولٍ في التفسيرِ.
- ولَذَّةُ الأَعيُنِ في رُؤيَةِ الأشكالِ الحَسَنَةِ والألوانِ التي تَنشَرِحُ لها النَّفسُ؛ فلَذَّةُ الأَعيُنِ وَسيلَةٌ لِلَذَّةِ النُّفوسِ؛ فعَطْفُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ على مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ عَطْفُ ما بيْنه وبيْن المَعطوفِ عليه عُمومٌ وخُصوصٌ، وذلك تَعميمٌ بعْدَ تَخصيصِ ما يُعَدُّ مِن الزَّوائِدِ في التَّنَعُّمِ والتَّلَذُّذِ؛ فقد تَشتَهي الأنفُسُ ما لا تَراهُ الأَعيُنُ؛ كالمُحادَثَةِ مع الأصحابِ، وسَماعِ الأصواتِ الحَسَنَةِ، وقد تُبصِرُ الأعيُنُ ما لم تَسبِقْ للنَّفسِ شَهوَةُ رُؤيَتِه، أو ما اشتَهَت النَّفسُ طَعْمَه أو سَمْعَه، فيُؤتَى به في صُوَرٍ جَميلَةٍ إكمالًا للنِّعمَةِ [780] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/96)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/255). .
- والْأَعْيُنُ فاعِلُ (تَلَذُّ)، وحُذِفَ المَفعولُ لظُهورِهِ مِن المَقامِ [781] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/256). .
- وفي قَولِه: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ إيجازٌ؛ فقَد حَصَر أنواعَ النِّعَمِ؛ لأنَّها لا تَعدُو أمْرَين اثنَينِ: إمَّا مُشتَهاةٌ في القُلوبِ، وإمَّا مُستَلَذَّةٌ في العُيونِ [782] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/263)، ((تفسير أبي حيان)) (9/387)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/105). .
- وفي قَولِه: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ الْتفاتٌ مِن الغائِبِ للمُتَكَلَّمِ، وهو الْتِفاتٌ للتَّشريفِ [783] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/54). .
- وجِيءَ بالجُملةِ الاسمِيَّةِ الدَّالَّةِ على الدَّوامِ والثَّباتِ؛ تَأكيدًا لحَقيقَةِ الخُلودِ؛ لِدَفعِ تَوَهُّمِ أنْ يُرادَ به طُولُ المُدَّةِ فحَسْبُ [784] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/256). .
- وتَقديمُ المَجرورِ فِيهَا؛ للاهتِمامِ [785] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/256). .
- وفي الخِطابِ والالْتِفاتِ، وتَقديمِ الظَّرفِ في قَولِه: وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ما لا يَكتَنِهُه الوَصفُ [786] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/175). .
7- قولُه تعالَى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ عُطِفَ على بَعضِ ما يُقالُ لهم مَقولٌ آخَرُ قُصِدَ منه التَّنويهُ بالجَنَّةِ وبالمُؤمِنِين؛ إذْ أُعطُوها بسَبَبِ أعمالِهِمُ الصَّالِحَةِ، فأُشيرَ إلى الجَنَّةِ باسمِ إشارَةِ البَعيدِ؛ تَعظيمًا لشَأنِها، وإلَّا فإنَّها حاضِرَةٌ نُصبَ أعيُنِهِم؛ وهو تَذيِيلٌ للقَولِ [787] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/256). .
- ودلَّ قَولُه: كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على أنَّ عَمَلَهُم أمْرٌ كائِنٌ مُتَقَرِّرٌ، وأنَّ عَمَلَهم ذلك مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدٌ، أي: غَيرُ مُنقَطِعٍ إلى وَفاتِهِم [788] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/256). .
8- قولُه تعالَى: لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ
- قَولُه: مِنْهَا تَأْكُلُونَ (مِن) للتَّبعيضِ، أي: لا تَأكلُون إلَّا بَعضَها؛ لكَثرَتِها ودَوامِ نَوعِها، وأَعقابُها باقِيَةٌ في شَجَرِها؛ فهي مُزَيَّنَةٌ بالثِّماِر أبدًا مُورِقَةٌ بها، لا تَرَى شَجَرَةً عُريانَةً مِن ثَمَرِها كما في الدُّنيا [789] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/263)، ((تفسير البيضاوي)) (5/96)، ((تفسير أبي السعود)) (8/55). .
- ووَجْهُ تَكريرِ الامتنانِ بنَعيمِ المأْكلِ والمشْرَبِ في الجنَّةِ: أنَّ ذلك مِن النَّعيمِ الذي لا تَختَلِفُ الطِّباعُ البَشَرِيَّةُ في استِلذاذِهِ؛ ولذلك قال: منها تأكلون [790] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/257). ، وقيل غير ذلك [791] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/96). .