موسوعة التفسير

سورةُ الأنْبياءِ
الآيات (101-105)

ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ

غريب الكلمات :

الْحُسْنَى: أي: الجنَّةُ أو السَّعادةُ، تأنيثُ الأحسنِ، والحُسْنُ ضِدُّ القُبحِ، وهو عبارةٌ عن كلِّ مُبهجٍ مرغوبٍ فيه [1045]  يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/57)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/445)، ((المفردات)) للراغب (ص: 235)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/248). .
حَسِيسَهَا : أي: صَوْتَها وحَرَكةَ تلَهُّبِها، والحَسيسُ والحسُّ: الحَرَكةُ والصَّوتُ تَسمَعُه مِنَ الشَّيءِ الذي يمُرُّ قريبًا منك، وأصلُه مِنَ الحِسِّ، وهو مُطلَقُ الصَّوتِ، أو الخَفِيُّ منه [1046] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 195)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/9)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 241)، ((تفسير القرطبي)) (11/345)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 299)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/486). .
نَطْوِي: الطَيُّ: ضِدُّ النَّشرِ، وهو ثَنْيُ الشَّيءِ، أو ردُّ بَعضِه على بَعضٍ، وأصلُ (طوي): يَدُلُّ على إدراجِ شَيءٍ حتى يُدرَجَ بَعضُه في بَعضٍ [1047] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/429)، ((المفردات)) للراغب (ص: 533)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 242)، ((تفسير البغوي)) (5/358)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/159). .
السِّجِلِّ: أي: الصَّحيفةِ التي فيها الكِتابُ، يعني: المكتوبَ، والسِّجِلُّ: اسمٌ مُشتَقٌّ مِن المُساجَلةِ، وهي: المُكاتَبةُ [1048] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 288)، ((تفسير ابن جرير)) (16/425)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 281)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/136)، ((البسيط)) للواحدي (15/221)، ((تفسير البغوي)) (5/358). .
الزَّبُورِ: أي: الكُتُبِ المُنَزَّلةِ مِن السَّماءِ، ويُطلَقُ الزَّبورُ على الكِتابِ المنزَّلِ على داودَ عليه السَّلامُ، وأصلُ (زبر): يدُلُّ على قِراءةٍ وكتابةٍ [1049] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 243)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/495)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/44)، ((المفردات)) للراغب (ص: 377)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 56)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/133). .

المعنى الإجمالي:

يَقولُ اللهُ تعالى: إنَّ الذين سَبَق لهم في عِلْمِنا أنَّهم مِن أهلِ السَّعادةِ بدُخولِ الجَنَّةِ، أولئك عن النَّارِ مُبعَدونَ، فلا يَدخُلونَها ولا يَقرَبونَ منها، لا يَسمَعونَ صَوَت لَهيبِها واحتراقِ الأجسادِ فيها؛ لِبُعدِهم عنها، وهم فيما تَشتَهيه نُفوسُهم مِن نَعيمِ الجنة ولَذَّاتِها مُقِيمونَ إقامةً دائِمةً، لا يَحْزُنُهُمُ الفزعُ الأكبرُ والهَولُ العَظيمُ يومَ القيامةِ عِندَ النَّفخِ في الصُّورِ للحَشرِ، وتَستَقبِلُهم ملائِكةُ الرَّحمنِ تُبَشِّرُهم وتُهنِّئُهم، قائلينَ لهم: هذا يومُكم الذي وُعِدتُم فيه الكَرامةَ مِن اللهِ وجَزيلَ الثَّوابِ. يومَ نطوي السَّماءَ كما تُطْوَى الصَّحيفةُ على ما كُتِبَ فيها، كما قدَرْنا على إيجادِ الخلقِ أوَّلَ مرةٍ، كذلك نقدرُ على إعادتِهم، فنبعثُهم أحياءً مِن قبورِهم، ونحشُرُهم على مِثلِ هَيئَتِهم حينَ خَرَجوا مِن بُطونِ أُمَّهاتِهم؛ حُفاةً، عُراةً، غَيرَ مَختونينَ، وَعَدْناكم ذلك وَعدًا لا يتخَلَّفُ، إنَّا كُنَّا فاعلينَ ما نَعِدُ به. ولقَدْ كَتَبْنا في الكُتُبِ المنَزَّلةِ بعدَ اللَّوحِ المحفوظِ الذي كتَب اللهُ فيه كلَّ ما هو كائنٌ: أنَّ الأرضَ يَرِثُها عِبادُ اللهِ الصَّالِحونَ.

تفسير الآيات:

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ عادةَ اللهِ تعالى أنَّه متى شَرَح عِقابَ الكُفَّارِ، أردَفَه بشَرحِ ثوابِ الأبرارِ؛ فلهذا السَّبَبِ ذَكَر هذه الآيةَ عَقِيبَ تلك [1050] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/189). ، فلمَّا بَيَّن سبحانَه حالَ هؤلاءِ الأشقياءِ؛ شَرَع في بيانِ حالِ السُّعداءِ [1051]  يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/506). .
وأيضًا فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى حالَ الكافرينَ وحالَ مَعبوديهم بغايةِ الوَيلِ، كان مَوضِعُ السُّؤالِ عَمَّن عَبَدوهم مِنَ الصَّالحينَ؛ مِن نَبيٍّ أو مَلَكٍ وغَيرِهما مِن جَميعِ مَن عَبَدَه سُبحانَه لا يُشرِكُ به شَيئًا، فقال مُبَيِّنًا أنَّهم لَيسوا مُرادِينَ لِشَيءٍ مِن ذلك، على وَجهٍ يَعُمُّهم وغَيرَهم مِن الصَّالِحينَ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [1052] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/484). .
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((آيةٌ في كِتابِ اللهِ لا يَسألُني النَّاسُ عنها، ولا أدري أعَرَفوها فلا يَسألوني عنها، أم جَهِلوها فلا يَسألوني عنها؟! قيل: وما هِيَ؟ قال: آيةٌ لَمَّا نَزَلَت: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] شَقَّ ذلك على أهلِ مَكَّةَ، وقالوا: شَتَمَ مُحمَّدٌ آلهَتَنا، فقام ابنُ الزِّبَعْرَى فقال: ما شأنُكم؟ قالوا: شَتَم مُحمَّدٌ آلهَتَنا، قال: وما قال؟ قالوا: قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء: 98] ، قال: ادعُوه لي، فدُعِيَ مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال ابنُ الزِّبَعْرَى: يا محمَّدُ، هذا شَيءٌ لآلهَتِنا خاصَّةً أم لكُلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ؟ قال: بل لكُلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فقال: خَصَمْناه ورَبِّ هذه البَنِيَّةِ! يا مُحمَّدُ، ألستَ تزعُمُ أنَّ عيسى عَبدٌ صالِحٌ، وعُزَيرًا عَبدٌ صالِحٌ، والملائِكةَ عِبادٌ صالِحونَ؟ قال: بلى، قال: فهذه النَّصارى يَعبُدونَ عيسى، وهذه اليَهودُ تَعبُدُ عُزَيرًا، وهذه بنو مُلَيحٍ تَعبُدُ المَلائِكةَ، قال: فضَجَّ أهلُ مَكَّةَ، فنَزَلَت: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى -عيسى وعُزَيرٌ والملائِكةُ- أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ. قال: ونَزَلت: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] ، وهو الضَّجيجُ)) [1053] أخرجه الطحاويُّ في ((شرح مشكل الآثار)) (986)، والطبراني (12/153) (12739). حَسَّنَه ابن حجر في ((موافقة الخُبْر الخَبَر)) (2/172)، وصحَّح إسنادَه ابنُ القيمِ في ((شفاء العليل)) (1/123). قال ابنُ القيم: (هذا الإيرادُ الذي أورده ابنُ الزِّبَعْرَى... إنَّما كان مِن جهةِ القياسِ والعمومِ المَعنويِّ الذي يعُمُّ الحُكمُ فيه بعمومِ عِلَّتِه، أي: إنْ كان كونُه مَعبودًا يُوجِبُ أن يكونَ حَصَبَ جَهنَّمَ، فهذا المعنى بعَينِه موجودٌ في الملائكةِ وعُزَيرٍ والمسيحِ! فأُجيبَ بالفارِقِ، وذلك مِن وُجوهٍ: أحدُها: أنَّ الملائكةَ والمسيحَ وعُزَيرًا: ممَّن سبَقَت لهم مِن الله الحُسنى؛ فهم سُعداءُ لم يفعَلوا ما يَستوجِبونَ به النَّارَ، فلا يُعذَّبونَ بعبادةِ غيرِهم، مع بُغضِهم ومعاداتِهم لهم... الفرقُ الثاني: أنَّ الأوثانَ حِجارةٌ غيرُ مُكَلَّفةٍ ولا ناطقةٍ، فإذا حُصِبَت بها جهنَّمُ إهانةً لها ولعابِدِيها، لم يكُنْ في ذلك [عذابُ] مَن لا يستَحِقُّ العذابَ، بخِلافِ الملائكةِ والمسيحِ وعُزَيرٍ؛ فإنَّهم أحياءٌ ناطِقونَ، فلو حُصِبَت بهم النَّارُ كان ذلك إيلامًا وتعذيبًا لهم. الثَّالثُ: أنَّ مَن عَبَد هؤلاء بزَعمِه فإنَّه لم يَعبُدْهم في الحقيقةِ؛ فإنَّهم لم يَدْعُوا إلى عبادتِهم، وإنَّما عَبَد المُشركون الشَّياطينَ وتوهَّموا أنَّ العبادةَ لهؤلاء؛ فإنَّهم عَبَدوا بزَعْمِهم مَن ادَّعى أنَّه معبودٌ مع الله، وأنَّه معه إلهٌ، وقد برَّأ اللهُ سُبحانَه ملائكتَه والمسيحَ وعُزيرًا من ذلك، وإنَّما ادَّعى ذلك الشَّياطينُ، وهم بزَعمِهم يعتَقِدونَ أنَّهم يَرضَونَ بأن يكونوا معبودين مع اللهِ تعالى، ولا يرضى بذلك إلَّا الشَّياطينُ؛ ولهذا قال سبُحانَه وتعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41]، وقال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس: 60]). ((شفاء العليل)) (ص: 26). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/381). .
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101).
أي: إنَّ المُؤمِنينَ الذين سَبَق في عِلْمِنا منذُ الأزَلِ أنَّهم من أهلُ السَّعادةِ بدُخولِ الجَنَّةِ، مُبعَدونَ عن جَهَنَّمَ يومَ القيامةِ، فلا يَدخُلونَها، ولا يَقرَبونَ منها، وإنْ عَبَدَهم بَعضُ المُشرِكينَ بغَيرِ رِضاهم واختيارِهم [1054] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/419)، ((تفسير القرطبي)) (11/345)، ((تفسير ابن كثير)) (5/378)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/484)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/155)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/248). .
كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26] .
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102).
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا.
أي: لا يَسمَعُ المُؤمِنونَ وهم في الجَنَّةِ صَوتَ جَهنَّمَ وإحراقِها الأجسادَ؛ لِبُعدِهم الشَّديدِ عنها [1055] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/420)، ((تفسير ابن عطية)) (4/101)، ((تفسير ابن كثير)) (5/378)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/156). قال ابنُ عاشور: (جُملةُ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا بيانٌ لمعنى مُبْعَدُونَ، أي: مُبعَدونَ عنها بُعدًا شَديدًا بحيثُ لا يَلفَحُهم حَرُّها، ولا يُرَوِّعهم مَنظَرُها، ولا يَسمَعونَ صَوتَها، والصَّوتُ يَبلُغُ إلى السَّمعِ مِن أبعَدِ ممَّا يبلُغُ منه المرئيُّ. والحسيسُ: الصَّوتُ الذي يبلُغُ الحِسَّ، أي: الصَّوتُ الذي يُسمَعُ مِن بَعيدٍ، أي: لا يَقرَبونَ مِنَ النَّارِ، ولا تَبلُغُ أسماعَهم أصواتُها، فهم سالِمونَ مِنَ الفَزَعِ مِن أصواتِها، فلا يَقرَعُ أسماعَهم ما يُؤلِمُها). ((تفسير ابن عاشور)) (17/156). .
وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ.
أي: والمُؤمِنونَ فيما تَشتَهيه أنفُسُهم مِن نَعيمِ الجَنَّةِ ماكِثونَ، لا يخافونَ زَوالًا عنه، ولا انتِقالًا منه [1056] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/421)، ((تفسير القرطبي)) (11/346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531). .
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103).
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ.
أي: لا يَحزُنُ المؤمنينَ الفزعُ الأكبَرُ يَومَ القيامةِ عِندَ النَّفخِ في الصُّورِ للحَشرِ [1057] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/422)، ((تفسير القرطبي)) (11/346)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/156). قال ابن عاشور: (الفَزَعُ: نُفرةُ النَّفسِ وانقِباضُها مِمَّا تتوقَّعُ أن يحصُلَ لها مِنَ الألم، وهو قريبٌ مِن الجَزَع. والمرادُ به هنا: فزَعُ الحَشرِ حين لا يَعرِفُ أحَدٌ ما سيؤولُ إليه أمرُه، فيكونونَ في أمنٍ مِن ذلك بطمأنةِ الملائكةِ إيَّاهم، وذلك مُفادُ قَولِه تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فهؤلاء الذين سبقت لهم الحُسنى هم المرادُ مِن الاستثناءِ في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل: 87] ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/156). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [النمل: 87] .
وقال سُبحانَه: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11] .
وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
أي: ويَستَقبِلُ الملائِكةُ المُؤمِنينَ يَومَ القيامةِ، فيُهَنِّئونَهم ويُبَشِّرونَهم برَحمةِ اللهِ، ونَيْلِ كرامتِه؛ يقولونَ لهم: هذا اليومُ الحاضِرُ هو اليَومُ الذي كُنتُم في الدُّنيا تُوعَدونَ أن يُثيبَكم اللهُ فيه على قيامِكم بطاعتِه [1058] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/422)، ((تفسير القرطبي)) (11/346)، ((تفسير ابن كثير)) (5/381)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/157)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/248). قال الشِّنقيطي: (قيل: تَستَقبِلُهم على أبوابِ الجَنَّةِ بذلك. وقيل: عندَ الخروجِ مِن القبورِ). ((أضواء البيان)) (4/248). وممن قال بالقولِ الأوَّلِ: البغوي، والزمخشري، والقرطبي، والنسفي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/319)، ((تفسير الزمخشري)) (3/137)، ((تفسير القرطبي)) (11/346)، ((تفسير النسفي)) (2/422)، ((تفسير الخازن)) (3/245)، ((تفسير الشوكاني)) (3/507). وممن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ زيدٍ، وابنُ السائب، ومجاهد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/423). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/215)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (5/683). وممن قال بالقولِ الثاني: مقاتلُ بنُ سليمان، والواحدي، وابنُ كثير، وجلال الدين المحلي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/96)، ((الوسيط)) للواحدي (3/253)، ((تفسير ابن كثير)) (5/381)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: الحسن. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/349). قال القنوجي: (ولا مانعَ أنَّها تستقبلُهم في الحالينِ). ((تفسير القنوجي)) (8/376). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 30 - 32] .
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104).
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ.
أي: لا يَحزُنُهم الفَزَعُ الأكبَرُ في ذلك اليَومِ الذي نَطْوي فيه السَّمواتِ كما تُطوى الصَّحيفةُ على الكَلامِ المكتوبِ فيها [1059] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/425، 426)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/928)، ((تفسير القرطبي)) (11/347)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/114، 115)، ((تفسير ابن كثير)) (5/383)، ((تفسير الشوكاني)) (3/507)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/249). .
كما قال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] .
كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ.
أي: كما قدَرْنا على إيجادِ الخلقِ أوَّلَ مرةٍ، كذلك نقدرُ على إعادتِهم، فنبعثُهم أحياءً مِن قبورِهم [1060] ممن اختار هذا المعنى: الزجاجُ، والسمعاني، والرسعني، وابنُ كثيرٍ، والسعدي. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (3/406)، ((تفسير السمعاني)) (3/412)، ((تفسير الرسعني)) (4/680)، ((تفسير ابن كثير)) (5/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531). ، ونحشرُهم على مِثلِ هَيئَتِهم حينَ خَرَجوا مِن بُطونِ أُمَّهاتِهم؛ حُفاةً، عُراةً، غَيرَ مَختونينَ [1061] ممَّن اختار هذا المعنى المذكور: ابن جرير، والواحدي، والبغوي، والقرطبي، وابن القيم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/427)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 725)، ((تفسير البغوي)) (3/320)، ((تفسير القرطبي)) (11/347)، ((تحفة المودود بأحكام المولود)) لابن القيم (ص: 207). قال ابنُ جرير: (فالكافُ التي في قَولِه: كَمَا مِن صِلةِ (نُعِيدُ) تقَدَّمت قبلَها، ومعنى الكلامِ: نُعيدُ الخَلْقَ عُراةً حُفاةً غُرْلًا يومَ القيامةِ كما بدَأْناهم أوَّلَ مرَّةٍ في حالِ خلَقْناهم في بُطونِ أمَّهاتهم. على اختلافٍ مِن أهلِ التَّأويلِ في تأويلِ ذلك. وبالذي قُلْنا في ذلك قال جماعةٌ مِن أهل التَّأويلِ، وبه الخبَرُ عن رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فلذلك اختَرتُ القَولَ به على غَيرِه). ((تفسير ابن جرير)) (16/427). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: مجاهدٌ، والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/427)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2470). قال ابنُ عاشور: (وظاهِرُ ما أفاده الكافُ مِن التَّشبيهِ في قَولِه تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ أنَّ إعادةَ خَلقِ الأجسامِ شُبِّهت بابتداءِ خَلقِها، ووَجهُ الشَّبَهِ هو إمكانُ كِلَيهما، والقُدرةُ عليهما، وهو الذي سِيقَ له الكلامُ، على أنَّ التَّشبيهَ صالحٌ للمُماثلةِ في غيرِ ذلك. روى مسلِمٌ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: «قام فينا رسولُ الله بمَوعظةٍ، فقال: يا أيُّها النَّاسُ، إنَّكم تُحشَرونَ إلى اللهِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ» الحديثَ؛ فهذا تفسيرٌ لبَعضِ ما أفاده التَّشبيهُ، وهو مِن طريقِ الوَحي، واللَّفظُ لا يأباه؛ فيَجِبُ أن يُعتبَرَ معنًى للكافِ مع المعنى الذي دَلَّت عليه بظاهِرِ السِّياقِ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/160). وقال أيضًا: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلم: «يُحشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ حُفاةً عُراةً غُرْلًا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» إنَّما هو تشبيهُ الخَلقِ الثَّاني بالخَلقِ الأوَّلِ؛ لِدَفعِ اسِتبعادِ البَعثِ، كقَولِه تعالى: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ، وقَولِه: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27]، فذلك مَورِدُ التَّشبيهِ، غيرَ أنَّ التَّشبيهَ لَمَّا كان صالحًا للحَملِ على تمامِ المُشابهةِ أعلَمَنا النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ ذلك مُرادٌ منه، بأن يكونَ التَّشبيهُ بالخَلقِ الأوَّلِ شامِلًا للتجَرُّد مِن الثِّيابِ والنِّعالِ). ((تفسير ابن عاشور)) (1/95). وقال الملَّا القاري: (قال الطِّيبي رحمه الله: فإنْ قُلتَ: سياقُ الآيةِ في إثباتِ الحَشرِ والنَّشرِ... فكيف يُستشهَدُ بها للمعنى المذكورِ؟ قلتُ: دَلَّ سِياقُ الآيةِ وعِبارتُها على إثباتِ الحَشرِ، وإشارتُها على المعنى المرادِ مِن الحديثِ؛ فهو من بابِ الإدماجِ. قُلتُ: الظَّاهِرُ أنَّ الآيةَ بعبارتِها تدُلُّ على المعنيَينِ وإن كان سياقُ الآيةِ مُختَصًّا لأحَدِهما؛ فإنَّ العِبرةَ لعُمومِ اللَّفظِ لا بخُصوصِ السَّبَبِ). ((مرقاة المفاتيح)) (8/3514). ويُنظر: ((شرح المشكاة)) للطيبي (11/3498). وقال البِقَاعي: (كَمَا أي: مِثلَ ما بَدَأْنَا أي: بما عُلِمَ لنا من العَظَمةِ أَوَّلَ خَلْقٍ أي: تقديرَ أيِّ تقديرٍ كان؛ نَكَّرَه لِيُفيدَ التَّفصيلَ واحِدًا واحِدًا، بمعنى: أنَّ كُلَّ خَلقٍ جَلَّ أو قَلَّ سواءٌ في هذا الحُكمِ، وهو أنَّا نُعِيدُهُ أي: بتلك العَظَمةِ بعَينِها، غيرَ ناسِينَ له ولا غافِلينَ ولا عاجِزينَ عنه، فما كان مُتضامَّ الأجزاءِ فمدَدْناه نضُمُّه بعد امتدادِه، وما كان مَيتًا فأحيَيناه نُميتُه بعد حياتِه، وما كان حيًّا فأمَتْناه نُحيِيه بعد مَوتِه، ونعيدُ منهم مِن الترابِ مَن بدَأْناه منه. والحاصِلُ أنَّ مَن أوجدَ شَيئًا لا يَبعُدُ عليه التصَرُّفُ فيه كيفما كان. روى البخاري في التفسيرِ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما قال: «خطَبَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: إنَّكم محشورونَ إلى الله عُراةً غُرْلًا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الآيةَ»). ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/488). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94].
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّكم مَحشورونَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا [1062] غُرْلًا: أي: غيرَ مَختونينَ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/193). ، ثمَّ قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ)) [1063] رواه البخاري (3349) واللفظ له، ومسلم (2860). .
وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ.
أي: وَعَدْناكم ذلك وَعدًا حَقًّا علينا أنْ نَفِيَ به، فمِن شأنِنا أنَّنا نفعلُ ما نريدُ، وسنفعلُ ما وعَدْنا به لا محالةَ [1064] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/431)، ((تفسير الرازي)) (22/192)، ((تفسير ابن كثير)) (5/383، 384)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/490)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/158). .
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105).
أي: ولقَدْ كَتَبْنا في جميعِ الكُتُبِ المنَزَّلةِ مِن السماءِ [1065] ممن اختار القولَ المذكورَ، وهو أنَّ المرادَ بالزبورِ: جميعُ الكُتُبِ المنَزَّلةِ من السَّماءِ، ولا تختَصُّ بزَبورِ داودَ وحْدَه: ابنُ جريرٍ، والرسعني -ونسَبه لأكثرِ المفسِّرينَ-، وابنُ القيم، والعُليمي، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/434)، ((تفسير الرسعني)) (4/681)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 39)، ((تفسير العليمي)) (4/395)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/249). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/432)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/217). وقيل: المرادُ به: زَبورُ داود. وممَّن قال بذلك: ابنُ جزي، وأبو حيان، والبقاعي، والقاسمي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/30)، ((تفسير أبي حيان)) (7/472)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/490)، ((تفسير القاسمي)) (7/226)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/162). وممن قال بهذا القولِ من السلفِ: عامرٌ الشعبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/433). قال ابنُ جُزي: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ في الزَّبورِ هنا قولان؛ أحدُهما: أنَّه كِتابُ داودَ، والذِّكرُ هنا على هذا: التَّوراةُ التي أنزل اللهُ على موسى، وما في الزَّبورِ مِن ذِكرِ الله تعالى. والقَولُ الثَّاني: أنَّ الزَّبورَ جِنسُ الكُتُبِ التي أنزلها اللهُ على جميع الأنبياء، والذِّكرُ على هذا: هو اللَّوحُ المحفوظُ، أي: كتَبَ اللهُ هذا في الكتابِ الذي أُفرِدَ له بعدما كتَبَه في اللَّوحِ المحفوظِ، حتى قضى الأمورَ كُلَّها. والأوَّلُ أرجَحُ؛ لأنَّ إطلاقَ الزَّبورِ على كِتابِ داودَ أظهَرُ وأكثَرُ استِعمالًا، ولأنَّ الزَّبورَ مُفرَدٌ؛ فدَلالتُه على الواحِدِ أرجَحُ مِن دلالتِه على الجَمعِ، ولأنَّ النَّصَّ قد ورد في زبورِ داودَ بأنَّ الأرضَ يَرِثُها الصَّالحونَ). ((تفسير ابن جزي)) (2/30). وقال الشوكاني: (الزَّبْرُ في الأصلِ: الكَتْبُ، يقال زَبَرْتُ: أي: كتَبْتُ، وعلى هذا يَصِحُّ إطلاقُ الزَّبورِ على التَّوراةِ والإنجيلِ، وعلى كتابِ داودَ المسمَّى بالزَّبورِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/508). بعدَ اللوحِ المحفوظِ الذي كتَب اللهُ فيه كلَّ ما هو كائنٌ [1066] ممن اختار أنَّ المرادَ بالذكرِ: اللَّوحُ المحفوظُ، على معنى: كتَبْنا ذلك في اللَّوحِ المحفوظِ: ابنُ جريرٍ، وابنُ تيميَّة، وابنُ القيمِ، والعُليمي، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/434)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/211)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 39)، ((تفسير العليمي)) (4/395)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/249). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ، وابنُ زيد. وهو معنى ما جاء عن ابنِ عباسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/432)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/217). وقيل: الذِّكرُ هو التوراة. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/217). وممن قال بهذا القولِ من السلفِ: ابنُ عبَّاس في روايةٍ عنه، وعامرٌ الشعبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/433). أنَّ الأرضَ [1067] قيل: المرادُ بالأرضِ هنا: الجنةُ. وممن قال بذلك: ابنُ جرير، والبغوي، والقرطبي، والخازن، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/434)، ((تفسير البغوي)) (3/320)، ((تفسير القرطبي)) (11/349)، ((تفسير الخازن)) (3/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531)، وهذا القولُ نسَبه الرسعني للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/681). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وأبو العاليةِ، ومجاهدٌ، وابنُ زيدٍ، والشعبيُّ، وأبو صالحٍ، والسُّدِّيُّ، والربيعُ بنُ أنسٍ، والثوريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/435)، ((تفسير ابن كثير)) (5/385). وقيل: المرادُ بها: أرضُ الدُّنيا. وممن رجَّح ذلك: الزَّجَّاج، وابن جُزَي، وابن القيم. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/407)، ((تفسير ابن جزي)) (2/31)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 39). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/217). وممن جمع بين المعنيينِ، وذهب إلى عمومِ الأرضِ في الدنيا والآخرةِ: ابنُ كثير، والبِقَاعي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/384)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/491). قال البِقَاعي: (أَنَّ الْأَرْضَ أي: جنسَها الشاملَ لبقاعِ أرضِ الدُّنيا كلِّها، ولأرضِ المحشرِ والجنةِ وغيرِ ذلك مما يعلمُه الله). ((نظم الدرر)) (12/491). وقيل: المراد بها: الأرضُ المقَدَّسة. وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ السائب. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (3/217). يَرِثُها عبادِيَ [1068] قيل: المرادُ بهم: أمَّةُ مُحمَّدٍ صَلَّى الله عليه وسلَّم. وممن قال بذلك: ابن جزي، والخازن، وابنُ القيم، والعُليمي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/31)، ((تفسير الخازن)) (3/246)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 39)، (( تفسير العليمي)) (4/395). ونسَب القرطبيُّ هذا القولَ إلى أكثرِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (11/349). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/437)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/218). قال ابن جزي: (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الأرضُ هنا على الإطلاقِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها... والعبادُ الصالحونَ: أمَّةُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم، ففي الآيةِ ثناءٌ عليهم، وإخبارٌ بظهورِ غيبٍ مِصداقُه في الوجودِ؛ إذ فتَح الله لهذه الأمةِ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها). ((تفسير ابن جزي)) (2/31). وقيل: المرادُ بهم : بنو إسرائيلَ. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/682). قال البيضاوي: (يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ يعني عامَّةَ المؤمنينَ أو الذين كانوا يُستضعَفون مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، أو أمَّةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير البيضاوي)) (4/62). قال السعدي: (يحتملُ أنَّ المرادَ: الاستخلافُ في الأرضِ، وأنَّ الصالحين يمكِّنُ الله لهم في الأرضِ، ويُولِّيهم عليها؛ كقولِه تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الآية). ((تفسير السعدي)) (ص: 531). العامِلونَ بطاعَتي، الذين قاموا بالمأموراتِ، واجتَنَبوا المَنهيَّاتِ [1069] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/434، 437)، ((تفسير القرطبي)) (11/349)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/211)، ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (1/594)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 39)، ((تفسير ابن كثير)) (5/384)، ((تفسير السعدي)) (ص: 531)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/162)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/249، 250). .
كما قال تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] .
وقال سُبحانه: أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 10، 11].
وقال عزَّ وجلَّ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور: 55- 56].
وقال تبارك وتعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر: 74] .
وقال سُبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] .
وعن ثَوبانَ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ زَوى [1070] زَوَى: أي: جَمَعَ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/13). ليَ الأرضَ، فرأيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنَّ أُمَّتي سيَبلُغُ مُلكُها ما زُوِيَ لي مِنها) ) [1071]  رواه مسلم (2889). .

الفوائد التربوية :

في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ أنَّ أرضَ الشامِ كُتِبتْ للصَّالحينَ، ورِثها بنو إسرائيلَ مِن الجبَّارينَ؛ لأنَّهم كانوا أهلَ الحقِّ، ثم ورِثها النَّصارَى مِن اليهودِ؛ لأنَّهم أهلُ الحقِّ، ثم ورِثها المسلمون مِن النَّصارَى؛ لأنَّهم أهلُ الحقِّ. وعلى هذا فاليهودُ الآنَ لا حقَّ لهم في فلسطينَ ولا غيرِها مِن أرضِ الله، ليس لهم حقٌّ في الأرضِ أبدًا -لا هم، ولا أي كافرٍ-؛ لأنَّ الأرضَ إنَّما يستحقُّها عبادُ الله الصالحونَ -وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ-، لكن إن صلحَ المسلمونَ ورجَعوا إلى دينِهم الحقيقيِّ -الذي يُورثُهم الله به أرضَه- فإنَّنا نجزمُ جزمًا بأنَّهم سوف يَسترجِعون الأرضَ؛ قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور: 55] ، لكن ما دام المسلمونَ على هذا الوصفِ؛ فإنَّه حسَبَ القواعدِ الشرعيَّةِ والنُّصوصِ لا يستحقُّون النصرَ؛ لأنَّهم لم يقوموا بجهادِ أنفسِهم؛ فكيف يقومونَ بجهادِ غيرِهم ليُدخِلوه في الإسلامِ؟! الآنَ أقيموا الإسلامَ فيما بيْنَكم؛ أقيموا دينَ الله فيما بينَكم؛ ثم بعد ذلك سوف ينصرُ الله دينَه إذا قُمْتُم به؛ لأنَّ الله لا ينصرُ فلانًا لأنَّه فلانٌ! أو ينصرُ هذه الطائفةَ لأنَّهم عربٌ! أو ينصرُ هذه الطائفةَ لأنَّهم فُرسٌ! بل ينصرُ مَن قام بهذا الدينِ [1072] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النور)) (ص: 355). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ حُجَّةٌ على المُعتَزِلةِ والقَدَريَّةِ [1073] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/312). .
2- قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ مَن سَبَقَت له مِنَ اللهِ الحُسنى، فلا بُدَّ أن يَصيرَ مُؤمِنًا تَقِيًّا، فمَن لم يكُنْ مِنَ المُؤمِنينَ لم يَسبِقْ له مِنَ اللهِ حُسنى، ولكِنْ إذا سَبَقَت للعَبدِ مِن اللهِ سابِقةٌ استعمَلَه بالعَمَلِ الذي يَصِلُ به إلى تلك السَّابِقةِ، كمَن سَبَق له مِنَ اللهِ أن يُولَدَ له وَلَدٌ، فلا بُدَّ أن يَطَأَ امرأةً يُحبِلُها؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه قَدَّرَ الأسبابَ والمُسَبَّباتِ، فسَبَق منه هذا وهذا، فمَن ظَنَّ أنَّ أحدًا سَبَق له مِنَ اللهِ حُسنى بلا سَبَبٍ، فقد ضَلَّ، بل هو سُبحانَه مُيَسِّرُ الأسبابِ والمُسَبَّباتِ، وهو قد قَدَّرَ فيما مضى هذا وهذا [1074] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/266). .
3- قولُه تعالى : أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ إن قيل: كيف يَكونونَ مُبعَدينَ عنها، وقد قال تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، ووُرودُها يقتَضي القُربَ منها؟!
الجوابُ: أنَّ معناه: مُبعَدونَ عن ألَمِها وعَنَاها، مع وُرودِهم لها. أو معناه: مُبعَدونَ عنها بعدَ وُرودِها، بالِإنجاءِ المذكورِ بعد الوُرودِ [1075] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 379). .
4- إنْ قيلَ: هل يَتنافى قَولُه تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ مع قَولِه: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ [هود: 108] ؟
فالجوابُ مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ طوائِفَ مِن العُلَماءِ قالوا: إنَّ قَولَه: مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أراد بها سماءَ الجنَّةِ وأرضَ الجنَّةِ، كما ثبَت عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إذا سألتُمُ اللهَ الجنَّةَ فاسْألوه الفِردَوسَ؛ فإنَّه أعلى الجنَّةِ وأوسَطُ الجَنَّةِ، وسَقفُه عَرْشُ الرَّحمنِ )) [1076] أخرجه البخاري (2790)  من حديث أبي هريرة. ، وعلى هذا فلا مُنافاةَ بين انطِواءِ هذه السَّماءِ وبَقاءِ السَّماءِ التي هي سَقفُ الجنَّة؛ إذ كُلُّ ما علا فإنَّه يُسمَّى في اللُّغةِ سَماءً، كما يُسَمَّى السَّحابُ سَماءً، والسَّقفُ سَماءً.
الثاني: أنَّ السَّمَواتِ وإن طُوِيَت وكانت كالمُهلِ، واستحالَت عن صُورَتِها، فإنَّ ذلك لا يُوجِبُ عَدَمَها وفَسادَها، بل أصلُها باقٍ، بتَحويلِها مِن حالٍ إلى حالٍ، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم: 48] ، وإذا بُدِّلَت فإنَّه لا يَزالُ سَماءٌ دائِمةً، وأرضٌ دائمةً، واللهُ أعلم [1077]  يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/109، 110). .
5- في قَولِه تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ دَلالةٌ عَقليَّةٌ على إمكانيَّةِ إحياءِ الموتى منه سُبحانَه؛ فإنَّ القادِرَ على ابتداءِ الخَلْقِ لا يَعجِزُ عن إعادتِه [1078] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (5/133). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ فيه سؤالٌ: ما بالُ خَلْقٍ مُنَكَّرًا؟ الجوابُ: هو كقَولِك: هو أوَّلُ رَجُلٍ جاءني، تريدُ أوَّلَ الرِّجالِ، ولكِنَّك وَحَّدْتَه ونكَّرْتَه؛ إرادةَ تَفصيلِهم رَجُلًا رجُلًا، فكذلك معنى أَوَّلَ خَلْقٍ أي: أوَّلَ الخلائِقِ [1079] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/138). . فنكَّرَ خَلْقٍ لِيُفيدَ التَّفصيلَ واحِدًا واحِدًا، بمعنى: أنَّ كُلَّ خَلقٍ -جَلَّ أو قَلَّ- سواءٌ في هذا الحُكمِ [1080] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/489). .
7- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ عَلَمٌ مِن أعلام نُبُوَّةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فإنَّه أخبرَ بذلك بمكَّةَ -وأهلُ الأرضِ كلُّهم كُفَّارٌ أعداءٌ له ولأصحابِه- والمُشرِكونَ قد أخرَجوهم مِن ديارِهم ومَساكِنِهم، وشَتَّتوهم في أطرافِ الأرضِ، فأخبَرَهم ربُّهم تبارك وتعالى أنَّه كَتَبَ في الذِّكْرِ الأوَّلِ أنَّهم يَرِثونَ الأرضَ مِن الكُفَّارِ، ثم كَتَبَ ذلك في الكُتُبِ التي أنزَلَها على رُسُلِه [1081] يُنظر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 39). ، وذلك على أحدِ الأقوالِ في تَفسيرِ الآيةِ.
8- قال تعالى: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ وفي إطلاقِ اسمِ الأرضِ ما يصلُحُ لإرادةِ أنَّ سلطانَ العالمِ سيكونُ بيدِ المسلمينَ ما استقاموا على الإيمانِ والصلاحِ، وقد صدقَ الله وعدَه في الحالينِ وعلى الاحتمالينِ؛ في أنَّ الأرضَ هي أرضُ الجنَّةِ، أو أرضٌ مِن الدُّنيا [1082] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/162). .
9- في قَولِه تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ دلالةٌ على أنَّ المُسلِمينَ أحقُّ النَّاسِ بأرضِ اللهِ [1083] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/378). .
10- قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ الكِتابةُ هنا الكِتابةُ القَدَريَّةُ -التي لا بُدَّ أنْ تقَعَ- ويُقابِلُها الكِتابةُ الشَّرعيَّةُ -التي قد تقَعُ مِن بني آدَمَ، وقد لا تَقَعُ- كما في قَولِه تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [1084] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 186). [البقرة: 216] .
11- في قولِه تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ سؤالٌ؛ أنَّه قد يَعترضُ الذين يأسرُهم الزمانُ الذي يعيشونَ فيه، ولا تنفذُ بصائرُهم إلى ما وراءَه؛ بأنَّ المفسدينَ في الأرضِ ظاهرونَ، وهم الذين اتَّخذوا مِن العلمِ بالكونِ وسائلَ تخريبٍ في الأرضِ، وتمكينٍ للظُّلمِ، وأنَّ أهلَ الحقِّ الصالحينَ مغلوبٌ عليهم، مستضعفونَ؟!
الجواب: أنَّ ذلك حُكمُ حِقبةٍ مِن الزمانِ هي التي نعيشُ، ولكنَّ الله تعالى أخبَر أنَّ المآلَ للصالحينَ -والله أعلمُ بالمفسدينَ-، وإنَّ خبرَه صادقٌ، والمستقبلَ غيبٌ؛ لا يعلمُه إلَّا هو [1085] يُنظر: ((زهرة التفاسير)) لأبي زهرة (9/4927). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ استئنافٌ ابتِدائيٌّ، شرَعَ في بَيانِ حالِ المُؤمِنينَ إثْرَ شَرْحِ حالِ الكَفرةِ، حَسَبَما جَرَتْ به سُنَّةُ التَّنزيلِ مِن شَفْعِ الوعْدِ بالوعيدِ، وإيرادِ التَّرغيبِ مع التَّرهيبِ؛ فالجُملةُ مع ما بعْدَها تَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في قولِه تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء: 94] ، كما أنَّ ما قبْلَها مِن قولِه تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ... إلخ، تَفصيلٌ لِمَا أُجْمِلَ في قولِه تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ ... إلخ [1086] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/155). .
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ذكَرَ الموصولَ في تَعريفِهم؛ لأنَّ الموصولَ للإيماءِ إلى أنَّ سبَبَ فَوزِهم هو سَبْقُ تَقديرِ الهِدايةِ لهم [1087] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/156). .
- قولُه: أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ذكَرَ اسمَ الإشارةِ؛ لتَمييزِهم بتلك الحالةِ الحَسَنةِ، وما فيه من مَعنى البُعْدِ؛ للتَّنبيهِ على أنَّهم أحرياءُ بما يُذْكَرُ بعْدَ اسمِ الإشارةِ؛ مِن أجْلِ ما تَقدَّمَ على اسمِ الإشارةِ مِن الأوصافِ، وهو سَبْقُ الحُسْنى مِن اللهِ، وللإيماءِ إلى رِفْعةِ مَنزِلَتِهم [1088] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/156). .
2- قوله تعالى: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ
- قولُه: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا بَيانٌ لِمَعنى مُبْعَدُونَ؛ سِيقَ للمُبالَغةِ في إنقاذِهم منها [1089] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/61)، ((تفسير أبي السعود)) (6/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/156). .
- قولُه: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ بَيانٌ لفَوزِهم بالمَطالِبِ إثْرَ بَيانِ خَلاصِهم مِن المَهالِكِ والمَعاطِبِ، وتَقديمُ الظَّرفِ للقصْرِ والاهتمامِ به، وجِيءَ فيه بما يدُلُّ على العُمومِ، وهو فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ، وما يدُلُّ على الدَّوامِ، وهو خَالِدُونَ [1090] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/61)، ((تفسير أبي السعود)) (6/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/156). .
3- قوله تعالى: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ
- قولُه: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ بَيانٌ لِنَجاتِهم مِن الأفزاعِ بالكُلِّيَّةِ بعْدَ بَيانِ نَجاتِهم من النَّارِ؛ لأنَّهم إذا لم يَحْزُنْهم أكبَرُ الأفزاعِ لا يَحزُنُهم ما عداهُ بالضَّرورةِ [1091] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/87). .
- وصِيغةُ وَتَتَلَقَّاهُمُ تُشعِرُ بتَكلُّفِ لِقائِه، وهو تكلُّفُ تَهيُّؤٍ واستعدادٍ [1092] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/157). .
- قولُه: هَذَا يَوْمُكُمُ فيه إيجازٌ بالحَذْفِ، تَقديرُه: قائلينَ: هذا اليومُ يَومُكم [1093] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/61)، ((تفسير أبي السعود)) (6/87)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/157). .
- والإشارةُ في قولِه: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ باسمِ إشارةِ القريبِ هَذَا؛ لتَعيينِ اليومِ وتَمييزِه بأنَّه اليومُ الحاضِرُ. وإضافةُ (يوم) إلى ضَميرِ المُخاطَبينَ؛ لإفادةِ اختصاصِه بهم، وكَونِ فائدتِهم حاصِلةً فيه [1094] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/157). .
4- قوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ
- جُملةُ: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ مُستأنَفةٌ؛ قُصِدَ منها إعادةُ ذِكْرِ البَعْثِ، والاستدلالِ على وُقوعِه وإمكانِه؛ إبطالًا لإحالةِ المُشرِكين وُقوعَه. وقد رُتِّبَ نَظْمُ الجُملةِ على التَّقديمِ والتَّأخيرِ لأغراضٍ بَليغةٍ، وأصْلُ الجُملةِ: نُعِيدُ الخَلْقَ كما بدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ يومَ نَطْوي السَّماءَ كطَيِّ السِّجِلِّ للكِتابِ وعْدًا علينا؛ فحُوِّلَ النَّظمُ، فقُدِّمَ الظَّرفُ بادِئَ ذِي بَدْءٍ؛ للتَّشويقِ إلى مُتعلَّقِه، ولِمَا في الجُملةِ الَّتي أُضِيفَ إليها الظَّرفُ مِن الغَرابةِ والطِّباقِ؛ إذ جُعِلَ ابتداءُ خَلْقٍ جَديدٍ -وهو البَعْثُ- مُؤَقَّتًا بوَقْتِ نَقْضِ خَلْقٍ قَديمٍ، وهو طَيُّ السَّماءِ، وقُدِّمَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ -وهو حالٌ مِن الضَّميرِ المنصوبِ في نُعِيدُهُ -؛ للتَّعجيلِ بإيرادِ الدَّليلِ قبْلَ الدَّعوى؛ لِتَتمكَّنَ في النَّفسِ فَضْلَ تَمكُّنٍ، وكلُّ ذلك وُجوهٌ للاهتمامِ بتَحقيقِ وُقوعِ البَعْثِ، وعُقِّبَ ذلك بما يُفِيدُ تَحقُّقَ حُصولِ البَعْثِ مِن كَونِه وَعْدًا على اللهِ بتَضمينِ الوعْدِ مَعنى الإيجابِ، فعُدِّيَ بحَرْفِ (على) في قولِه تعالى: وَعْدًا عَلَيْنَا، أي: حَقًّا واجِبًا [1095] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/157، 158). .
- قولُه: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ تَشبيهٌ لِطَيِّ السَّماءِ بِطَيِّ الكاتِبِ للصَّحيفةِ عندَ انتهاءِ كِتابَتِها. وتَعريفُ السِّجِلِّ وتَعريفُ (الكتاب) تَعريفُ الجِنْسِ؛ فاسْتوى في المُعرَّفِ الإفرادُ والجَمْعُ؛ فأمَّا قِراءةُ (الكُتب) بصِيغَةِ الجَمْعِ [1096] قرأ بها حمزةُ، والكسائيُّ، وحفصٌ. يُنظر: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 251)، ((تفسير أبي حيان)) (7/472). مع كَونِ (السِّجِلِ) مُفْرَدًا، ففيها حُسْنُ التَّفنُّنِ بالتَّضادِّ، وأمَّا قِراءةُ (الكتاب) بصِيغَةِ الإفرادِ [1097] قرأ بها الباقونَ. يُنظر: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 251)، ((تفسير أبي حيان)) (7/472). ، ففيها مُحسِّنُ مُراعاةِ النَّظيرِ في الصِّيغةِ [1098] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/159). .
- قولُه: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ تَشبيهٌ للإعادةِ بالإبداءِ في تَناوُلِ القُدرةِ لهما على السَّواءِ [1099] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/137)، ((تفسير البيضاوي)) (4/62)، ((تفسير أبي حيان)) (7/472)، ((تفسير أبي السعود)) (6/88)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/160). .
- وجُملةُ: إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ مُؤكَّدةٌ بحَرْفِ التَّوكيدِ (إنَّ)؛ لتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ قُدرةَ اللهِ؛ لأنَّهم لمَّا نَفَوُا البَعْثَ بعِلَّةِ تَعذُّرِ إعادةِ الأجسامِ بعْدَ فَنائِها، فقدْ لَزِمَهم إحالَتُهم ذلك في جانبِ قُدرةِ اللهِ. وفي ذِكْرِ فِعْلِ الكونِ كُنَّا: إفادةُ أنَّ قُدرتَه قد تَحقَّقَت بما دَلَّ عليه دليلُ قولِه: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [1100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/158). .