موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيتان (26-27)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ

غريب الكلمات:

وَلَا يَرْهَقُ: أي: لا يَغشَى، ولا يَعلُو، وأصلُ (رهق): غِشْيانُ الشَّيءِ الشَّيءَ [385] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 196)، ((تفسير ابن جرير)) (12/165)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 510)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/451)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 152)، ((تفسير القرطبي)) (8/331). .
قَتَرٌ: أي: غبارٌ وكآبةٌ، وأصلُ (قتر): يدلُّ على تجميعٍ وتَضييقٍ [386] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 196)، ((تفسير ابن جرير)) (12/165)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/55)، ((تفسير القرطبي)) (8/331). .
ذِلَّةٌ: أي: صَغارٌ، وأصْلُ الذُّلِّ: الخُضُوعُ والاستكانةُ [387]  يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 314)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/345)، ((المفردات)) للراغب (ص: 330)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 78). .

المعنى الإجمالي:

يُبَيِّنُ تعالى أنَّ الَّذينَ أحسَنوا في الدُّنيا لهم الجنَّةُ في الآخرةِ، وزيادةٌ على ذلك، ومِن الزيادةِ- بل أعظمُها- النَّظَرُ إلى وَجهِ اللهِ الكريمِ، ولا يغشَى وُجوهَهم غُبارٌ ولا هَوانٌ ولا صَغارٌ، أولئك أصحابُ الجنَّةِ هم فيها ماكِثونَ أبدًا.
والذين عمِلوا السَّيِّئاتِ فعَصَوا وكفَروا بالله ورسولِه، فلهم جزاءٌ يسوؤُهم بحسبِ ما عمِلوا مِن السيئاتِ، دونَ زيادةٍ، ويغشاهم هَوانٌ وذُلٌّ وخِزيٌ، ليس لهم مِن اللهِ مِن مانعٍ يمنَعُ عنهم سَخَطَه وعذابَه، كأنَّما أُلبِسَت وجوهُهم- مِن شِدَّةِ سَوادِها- أجزاءً مِن اللَّيلِ في حالِ ظُلمَتِه، أولئك أصحابُ النَّارِ هم فيها ماكِثونَ أبدًا.

تفسير الآيتين:

لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا دعا اللهُ تعالى عِبادَه إلى دارِ السَّلامِ؛ ذكَرَ السَّعاداتِ التي تحصُلُ لهم فيها [388] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/240). .
وأيضًا لَمَّا أفهم خَتمُ الآيةِ بِقَولِه: وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أنَّ مِن النَّاسِ مَن يهديه، ومنهم مَن يُضِلُّه، وأنَّ الكُلَّ فاعلونَ لِما يَشاءُ، كان موضِعَ أن يُقالَ: هل هم واحِدٌ في جزائِه، كما هم واحِدٌ في الانقيادِ لِمُرادِه؟ فقيل: لا، بل هم فَريقانِ، فذَكَرَهما [389] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/104). .
وأيضًا أنَّه لَمَّا دعا تعالى إلى دارِ السَّلامِ، كأنَّ النُّفوسَ تَشَوَّقَت إلى الأعمالِ المُوجِبةِ لها المُوصِلةِ إليها، فأخبَرَ عنها بقَولِه تعالى [390] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:362). :
لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ.
أي: للَّذين أحسَنوا في الدُّنيا بالإيمانِ، وأحسَنوا في طاعةِ الرَّحمنِ؛ امتثالًا لأمرِه، واجتنابًا لِنَهيِه، على وَجهِ المُراقَبةِ له سُبحانه، وأحسَنوا إلى عبادِ اللهِ تعالى؛ هؤلاء لهم الجنَّةُ، ولهم زيادةٌ على ذلك، وأعظمُ أنواعِها النَّظَرُ إلى وجهِ الله عزَّ وجلَّ [391] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/156، 164)، ، ((البسيط)) للواحدي (11/170)، ((تفسير البغوي)) (2/417)، ((تفسير ابن عطية)) (3/115، 116)،، ((تفسير القرطبي)) (8/330)، ((تفسير آيات أشكلت)) لابن تيمية (1/392)، ((تفسير أبي حيان)) (6/43)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 289)، ((تفسير ابن كثير)) (4/262)، ((تفسير الشوكاني)) (2/498)، ((تفسير السعدي)) (ص: 362). الجمهورُ على أنَّ الْحُسْنَى الجنَّةُ، و(الزيادة) هي النَّظَرُ إلى وجهِ الله عزَّ وجلَّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/115). وذهب بعضُ المفَسِّرينَ- كابن جريرٍ، وابن كثيرٍ- إلى أنَّ المرادَ بالزيادةِ ما هو أعم من النَّظَرِ إلى وجهِ الله تعالى. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/164)، ((تفسير ابن كثير)) (4/262). قال ابنُ جريرٍ: (ومِن الزيادةِ على إدخالِهم الجنةَ أن يكرمَهم بالنظرِ إليه، وأن يُعطيَهم غُرفًا مِن لآلئ، وأن يزيدَهم غفرانًا ورضوانًا؛ كلُّ ذلك مِن زياداتِ عطاءِ الله إيَّاهم على الحسنَى التي جعَلها الله لأهلِ جناتِه، وعمَّ ربُّنا جلَّ ثناؤُه بقولِه: وَزِيَادَةٌ الزياداتِ على الحسنَى، فلم يخصصْ منها شيئًا دونَ شيءٍ، وغيرُ مستنكَرٍ مِن فضلِ الله أن يجمعَ ذلك لهم، بل ذلك كلُّه مجموعٌ لهم إن شاء الله. فأولَى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ أن يعمَّ كما عمَّه عزَّ ذكرُه). ((تفسير ابن جرير)) (12/164) وقال ابنُ كثيرٍ: (وقولُه: وَزِيَادَة هي تضعيفُ ثوابِ الأعمالِ بالحسنةِ عشرَ أمثالِها إلى سبعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وزيادَةٌ على ذلك أيضًا ويشملُ ما يُعْطيهم اللَّهُ في الجِنانِ مِنَ القُصورِ والحُورِ والرِّضا عنهم، وما أخفاه لهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ، وأفضلُ مِنْ ذلك وأعلاهُ النظرُ إِلى وجهِه الكريمِ، فإنَّه زيادةٌ أعظمُ مِنْ جميعِ مَا أُعْطُوه، لا يَسْتَحِقُّونَها بعَمَلِهم، بلْ بفَضْلِه ورَحْمَتِه). ((تفسير ابن كثير)) (4/262). وقال ابنُ القيمِ: (ولما عطَف سبحانَه الزيادةَ على الحسنَى التي هي الجنةُ، دلَّ على أنَّها أمرٌ آخرُ مِن وراءِ الجنةِ، وقدرٌ زائدٌ عليها، ومَن فسَّر الزيادةَ بالمغفرةِ والرضوانِ فهو مِن لوازمِ رؤيةِ الربِّ تبارَك وتعالَى). ((حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح)) (ص: 291). .
كما قال تعالى: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60].
وقال سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23].
وعن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((إذا دخَلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، يَقولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُريدونَ شَيئًا أزيدُكم؟ فيقولون: ألم تُبَيِّضْ وُجوهَنا؟! ألم تُدخِلْنا الجنَّةَ، وتُنْجِنا من النَّارِ؟! قال: فيَكشِفُ الحِجابَ، فما أُعطُوا شَيئًا أحَبَّ إليهم مِن النَّظَرِ إلى رَبِّهم عزَّ وجَلَّ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) [392] رواه مسلم (181). .
وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا شرَحَ اللهُ تعالى ما يحصُلُ لأهلِ الجنَّةِ مِن السَّعاداتِ، شرَحَ بعد ذلك الآفاتِ التي صانَهم اللهُ بفَضلِه عنها، فقال تعالى [393] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/241). :
وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ.
أي: ولا يَغشى وجوهَ أهلِ الجنَّة غُبارٌ ولا كآبةٌ، ولا هوانٌ أو صَغَارٌ [394] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 196)، ((تفسير ابن جرير)) (12/165)، ((البسيط)) للواحدي (11/173)، ((تفسير ابن كثير)) (4/263). .
كما قال تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان: 11].
وقال سبحانه: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس: 38-39] .
وقال عزَّ وجلَّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] .
أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: أولئك- الذين أحسَنوا- أهلُ الجنَّةِ، هم فيها ماكِثونَ أبدًا [395] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/165)، ((تفسير الشوكاني)) (2/499)، ((تفسير القاسمي)) (6/20)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/287). .
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لمَّا أخبَر تعالَى عن حالِ السُّعداءِ؛ عَطَف بذكرِ حالِ الأشقياءِ، فذَكَر عدلَه تعالى فيهم، وأنَّه يُجازيهم على السَّيِّئةِ بمثلِها، لا يزيدُهم على ذلك [396] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/263). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى كما شرحَ حالَ المُسلِمينَ في الآيةِ المتقَدِّمةِ، شَرحَ حال مَن أقدَمَ على السيِّئاتِ في هذه الآيةِ [397] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/242). ، فقال:
وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا.
أي: والَّذين عمِلوا السيِّئاتِ [398] قيل: تعمُّ السيئات هاهنا الكفرَ والمعاصي، وممن قال بذلك: ابنُ جريرٍ، وابنُ عطيةَ، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/166)، ((تفسير ابن عطية)) (3/116)، ((تفسير القاسمي)) (6/20)، ((تفسير السعدي)) (ص: 362). وقيل: المرادُ بها: الشركُ. وممن قال بذلك: الواحديُّ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((الوجيز)) (ص: 496)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/148). وهذا القولُ مرويٌّ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/327). وقيل: المرادُ بها المعاصي. وممَّن قال بذلك: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/332). في الدُّنيا، فعَصَوا وكفَروا بالله ورسولِه، فلهم جزاءٌ يسوؤُهم بحسبِ ما عمِلوا مِن السيئاتِ، دونَ زيادةٍ على ما يستحقُّونَ [399] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/166)، ((تفسير ابن عطية)) (3/116)، ((تفسير القرطبي)) (8/332)، ((تفسير الشوكاني)) (2/499)، ((تفسير القاسمي)) (6/20)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/287)، ((تفسير السعدي)) (ص: 362). .
كما قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] .
وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ.
أي: ويَغشاهم هوانٌ وخِزيٌ [400] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/166)، ((تفسير ابن عطية)) (3/116)، ((تفسير القرطبي)) (8/332). قال السعدي: (وَتَرْهَقُهُمْ أي: تَغشاهم ذِلَّةٌ في قلوبِهم، وخَوفٌ مِن عذابِ اللهِ، لا يدفَعُه عنهم دافِعٌ، ولا يَعصِمُهم منه عاصِمٌ، وتسري تلك الذِّلَّةُ الباطنةُ إلى ظاهِرِهم، فتكونُ سَوادًا في الوُجوهِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 362).
كما قال تعالى: وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى: 45] .
وقال سبحانه: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43].
مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ.
أي: ما لهم مِن اللهِ مِن مانعٍ يمنَعُ عنهم سَخَطَه وعذابَه [401] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/166)، ((البسيط)) للواحدي (11/177)، ((تفسير القرطبي)) (8/332)، ((تفسير ابن كثير)) (4/264)، ((تفسير أبي السعود)) (4/139)، ((تفسير الشوكاني)) (2/499)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/148). .
كما قال تعالى: لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [الرعد: 34].
وقال سُبحانه: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [غافر: 33] .
كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا.
أي: كأنَّما أُلبِسَت وجوهُهُم- مِن شِدَّةِ سَوادِها- أَجزاءً مِن اللَّيلِ في حالِ ظُلمَتِه [402] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/168)، ((البسيط)) للواحدي (11/177 - 179)، ((تفسير الرازي)) (17/243)، ((تفسير القرطبي)) (8/333)، ((تفسير ابن كثير)) (4/264)، ((تفسير القاسمي)) (6/20). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزمر: 60] .
وقال سبحانه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 106] .
أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
أي: أولئك- الموصوفونَ بهذه الصفاتِ الذميمةِ- أهلُ النَّارِ، هم فيها ماكِثونَ أبدًا [403] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/170)، ((تفسير الشوكاني)) (2/499)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/288). .

الفوائد التربوية:

لا عاصِمَ مِن اللهِ لا في الدُّنيا ولا في الآخرةِ؛ فإنَّ قضاءَه مُحيطٌ بِجَميعِ الكائِناتِ، وقدَرَه نافِذٌ في كلِّ المُحدَثاتِ، إلَّا أنَّ الغالِبَ على الطِّباعِ العاصيةِ، أنَّهم في الحياةِ العاجلةِ مُشتَغِلونَ بأعمالِهم ومُراداتِهم، أمَّا بعد الموتِ فكُلُّ أحدٍ يُقِرُّ بأنَّه ليس له مِن اللهِ مِن عاصمٍ، قال تعالى: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ [404] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/242). .

الفوائد العلمية واللطائف:

في قَولِه تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ مُناسبةٌ بينَ الإحسانِ، وبينَ النَّظَرِ إلى وجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ووجهُ ذلك أنَّ الإحسانَ هو أنْ يَعبُدَ المؤمِنُ ربَّه في الدُّنيا على وَجهِ الحُضورِ والمُراقبةِ، كأنَّه يراهُ بقَلبِه، وينظرُ إليه في حالِ عبادَتِه، فكان جزاءُ ذلك النَّظَرَ إلى اللهِ عِيانًا في الآخرةِ، وعكسُ هذا ما أخبَرَ اللهُ تعالى به عن جزاءِ الكفَّارِ في الآخرةِ: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ، وجَعَلَ ذلك جزاءً لحالِهم في الدُّنيا، وهو تَراكُمُ الرَّانِ على قُلوبِهم؛ حتى حُجِبَتْ عن مَعرِفتِه، ومُراقَبتِه في الدُّنيا، فكان جزاؤُهم على ذلك أنْ حُجِبُوا عن رؤيَتِه في الآخرةِ [405] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/125). .

بلاغة الآيتين:

1- قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- قولُه: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ جملةٌ مُستأنَفةٌ؛ لبيانِ أمْنِهم مِن المكارِه، بَعدَ بَيانِ فوزِهم بالمطالِبِ بقولِه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، وإنَّما ذَكرَ أمْنَهم مِن المكارِهِ- مع أنَّ فَوْزَهم بالمطالِبِ يَقتضِيه-؛ تَذكيرًا بما يُنقِذُهم اللهُ تعالى مِنه برحمتِه [406] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /138). .
- وفيه تقديمُ المفعولِ: وُجُوهَهُمْ، على الفاعلِ: قَتَرٌ؛ للاهتمامِ ببيانِ أنَّ المَصونَ مِن الرَّهَقِ أشرفُ أعضائِهم، وللتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ؛ فإنَّ ما حقُّه التَّقديمُ إذا أُخِّر تَبْقَى النَّفسُ مُترقِّبةً لوُرودِه، فعند ورودِه عليها يتَمكَّنُ عندَها فضْلَ تمكُّنٍ، ولأنَّ في الفاعلِ ضرْبَ تَفْصيلٍ [407] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /138). .
- وكنَى بالوجهِ عن جملةِ الجسَدِ؛ لكونِ الوجهِ أشرَفَه، ولِظُهورِ أثرِ السُّرورِ والحزنِ فيه [408] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/44). ، والمرادُ: لا ينالُهم مكروهٌ، بوجهٍ مِن الوجوهِ؛ لأنَّ المكروهَ إذا وقَع بالإنسانِ، تبيَّن ذلك في وجهِه، وتغيَّر وتكدَّر [409] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 362). .
- وفيه تعريضٌ بالَّذين لم يَهدِهِمُ اللهُ إلى صراطٍ مستقيمٍ، وهم الَّذين كسَبوا السَّيِّئاتِ؛ تعجيلًا للمَساءةِ إليهم بطريقِ التَّعريضِ قبلَ التَّصريحِ، الذي يأتي في قولِه: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ إلى قولِه: مُظْلِمًا [410] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/147). [يونس: 27] .
- وجملةُ: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ نتيجةٌ للمقدِّمةِ؛ فبَيْنها وبينَ التي قبلَها كمالُ الاتِّصالِ؛ ولذلك فُصِلَت عنها، ولم تُعطَفْ [411] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/147). .
- واسمُ الإشارةِ أُولَئِكَ فيه تَنبيهٌ على أنَّهم استَحقُّوا الخلودَ لأجلِ إحسانِهم، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإيذانِ بعُلوِّ دَرجتِهم، وسُموِّ طبَقتِهم [412] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4 /138)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/147). .
2- قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
- قولُه: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ عطفٌ على جملةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، وعبَّر في جانبِ المسيئين بفِعلِ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ، دونَ فِعْل (أَساؤوا) كما عبَّر في جانبِ الَّذين أحسَنوا؛ للإشارةِ إلى أنَّ إساءتَهم مِن فِعْلِهم وسعيِهم؛ فما ظلَمَهم اللهُ ولكنْ أنفسَهم يَظلِمون [413] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/147). .
- وفيه تغييرُ السَّبْكِ حيثُ لم يَقُل: (ولِلَّذين كسَبوا السَّيِّئاتِ السُّوأى)، في مقابلةِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى؛ لِمُراعاةِ ما بينَ الفريقينِ مِن كمالِ التَّنائي والتَّبايُن، وإيرادُ (الكَسْبِ)؛ للإيذانِ بأنَّ ذلك إنَّما هو لسوءِ صَنيعِهم، وبسبب جِنايتِهم على أنفُسِهم [414] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/138). .
- وأيضًا قوله: أَحْسَنُوا، وكَسَبُوا السَّيِّئاتِ فيه تنبيهٌ على أنَّ المؤمِنَ لَمَّا خُلِقَ على الفِطرةِ واصَلَها بالإحسانِ، وعلى أنَّ الكافِرَ لَمَّا خُلِقَ على الفطرةِ انتقَلَ عنها، وكسَبَ السَّيِّئاتِ، فجَعلَ ذلك مُحسِنًا، وهذا كاسِبًا للسيِّئاتِ؛ ليدُلَّ على أنَّ المؤمِنَ سلك ما يَنبغي، وهذا سلَك ما لا يَنبغي [415] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/44). .
- قولُه: وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ فيه إسنادُ الرَّهَقِ إلى أنفُسِهم دون وُجوهِهم؛ للإيذانِ بأنَّها محيطةٌ بهم غاشيةٌ لهم جميعًا، وتنكيرُ ذِلَّةٌ للتَّفخيمِ [416] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/139). .
- قولُه: مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ: نفْيُ العاصمِ فيه مُبالغةٌ ظاهرةٌ في نفْيِ العِصمةِ من الله تعالى [417] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/139). .
- في قولِه: كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا مبالغةٌ في سَوادِ الوُجوهِ، ولَمَّا كانت ظُلمةُ اللَّيلِ نهايةً في السَّوادِ شبَّه سَوادَ وُجوهِهم بقِطَعٍ مِن اللَّيلِ حالَ اشتدادِ ظُلمتِه [418] ((تفسير أبي حيان)) (6/47). .