موسوعة التفسير

سُورةُ يُونُس
الآيات (28-30)

ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ

غريب الكلمات:

فَزَيَّلْنَا: أي: فَرَّقْنا. وأصلُ التزايُل: التبايُن [419] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 196)، ((تفسير ابن جرير)) (12/170)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/41)، ((المفردات)) للراغب (ص: 388)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 153). .
تَبْلُو: أي: تَختَبِرُ وتَعلَمُ. وأصلُ (بلو): يدلُّ على اختبارٍ [420] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 196)، ((تفسير ابن جرير)) (2/320)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 62)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/292)، ((تفسير القرطبي)) (8/334). قال أبو حيان: (تختبرُ ما أسلفَتْ من العملِ، فتعرفُ كيف هو أقبيحٌ أم حسنٌ، أنافعٌ أم ضارٌّ، أمقبولٌ أم مردودٌ؟ كما يتعَرَّفُ الرجلُ الشَّيءَ باختبارِه). ((تفسير أبي حيان)) (6/51). .
أَسْلَفَتْ: أي: قَدَّمَت وعَمِلَت، وأصلُ (سلف): يدلُّ على تقدُّمٍ وسَبْقٍ [421] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 196)، ((تفسير ابن جرير)) (12/173)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 62)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/95)، ((تفسير القرطبي)) (8/334). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ
مَكَانَكُمْ اسمُ فِعلِ أمرٍ، مبنيٌّ على الفَتحِ، لا محَلَّ له من الإعرابِ، بمعنى: اثبُتُوا، منقولٌ عن الظَّرفِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مُستَترٌ وُجوبًا، تقديرُه (أنتم)، وأَنْتُمْ ضميرٌ مبنيٌّ في محلِّ رفعٍ توكيدٌ للضَّميرِ المُستَترِ في اسمِ الفِعل، وَشُرَكَاؤُكُمْ معطوفٌ على الضَّميرِ المُستَترِ، مرفوعٌ. وقيل: مَكَانَكُمْ مفعولٌ به منصوبٌ لفِعلٍ محذوفٍ، تَقديرُه (الزموا) [422] يُنظر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/673)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/189)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (11/114). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ اللهُ تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قائلًا له: واذكرْ- يا مُحمَّدُ- يومَ نَجمَعُ الخَلقَ جميعًا لِمَوقفِ الحسابِ يومَ القيامةِ، ثمَّ نقولُ للذينَ أشرَكوا: الزَمُوا مَكانَكم أنتم ومَن زَعَمتُم أنَّهم شُرَكاءُ لله في العبادةِ، وفَرَّقْنا بين المُشرِكينَ وشُرَكائِهم، وقال لهم شُركاؤهم الذين كانوا يعبدونَهم مِن دُونِ اللهِ: ما كُنتم تَعبُدونَنا في الحقيقةِ، بل كُنتُم تعبدونَ أهواءَكم وشَياطينَكم الذين أمَرُوكم بعبادَتِنا، فحَسْبُنا اللهُ شاهِدًا بيننا وبينكم؛ فهو سبحانَه وتعالى قد عَلِمَ أنَّا لم نأمُرْكم بعِبادَتِنا، ولم نكُن نَشعُرُ بعِبادتِكم لنا.
في ذلك المَوقِفِ في أرضِ المَحشَرِ يومَ القيامةِ تعلَمُ كُلُّ نَفسٍ ما قَدَّمَت من خيرٍ أو شَرٍّ، وتَجِدُه مكتوبًا لِتُحاسَبَ عليه، ورُدَّ المُشرِكونَ إلى اللهِ رَبِّهم الحَقِّ؛ لِيُجازيَهم بالعدلِ، وزال عنهم ما كانوا يختَلِقونَه من الكَذِبِ على اللهِ تعالى.

تفسير الآيات:

وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ في الآيتينِ السَّابِقَتينِ ما يختَصُّ به كلُّ فريقٍ مِن الفَريقينِ مِن الجَزاءِ وسِماتِه، (الذين أحْسَنوا والذين كسَبوا السَّيِّئاتِ)؛ جاءت هذه الآيةُ بإجمالِ حالةٍ جامعةٍ للفَريقَينِ، ثمَّ بتَفصيلِ حالةٍ يَمتازُ بها المُشرِكونَ؛ لِيَحصُلَ بذلك ذِكرُ فَظيعٍ مِن أحوالِ الذين بَلَغوا الغايةَ في كَسبِ السَّيِّئاتِ، وهي سَيِّئةُ الإشراكِ الذي هو أكبَرُ الكبائرِ، وبذلك حصَلَت المُناسَبةُ مع الجُملةِ التي قَبلَها المُقتَضيةِ عَطْفَها عليها [423] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/149). .
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا.
أي: واذكُرْ- يا مُحَمَّدُ- يومَ نَجمَعُ جَميعَ الخَلقِ لِمَوقِفِ الحسابِ يومَ القيامةِ؛ الإنسَ والجِنَّ، والمُؤمِنينَ والكافرينَ، والعابدينَ والمَعبودينَ [424] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/170)، ((تفسير ابن كثير)) (4/264)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/150). .
كما قال تعالى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47] .
ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ.
أي: ثمَّ نقولُ للمُشرِكينَ: الزَموا مكانَكم، وقِفوا في مَوضعِكم، أنتم والذين زَعَمتُم أنَّهم شركاءُ لله في عبادتِه [425] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/170)، ((البسيط)) للواحدي (11/180)، ((تفسير ابن عطية)) (3/117)، ((تفسير الرازي)) (17/244)، ((تفسير القرطبي)) (8/333)، ((تفسير ابن كثير)) (4/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/150، 151). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] .
فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ.
أي: ففَرَّقْنا بين المُشرِكينَ العابدينَ، ومَعبُوديهم مِن دونِ اللهِ [426] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/170)، ((البسيط)) للواحدي (11/182، 183)، ((تفسير ابن عطية)) (3/117)، ((تفسير الرازي)) (17/244)، ((تفسير القرطبي)) (8/333)، ((تفسير البيضاوي)) (3/111)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/151). .
كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 166- 167] .
وقال سُبحانه: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [الكهف: 52] .
وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ.
أي: وقال المعبودونَ للمُشرِكينَ الذين عَبَدوهم: ما كُنتُم تعبدونَنا في الحقيقةِ، بل كُنتم تعبدونَ أهواءَكم وشَياطينَكم الذين أمَروكم بعبادَتِنا [427] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/171)، ((تفسير السمعاني)) (2/380)، ((تفسير البغوي)) (2/418)، ((تفسير الزمخشري)) (2/344)، ((تفسير القرطبي)) (8/333)، ((تفسير البيضاوي)) (3/111)، ((تفسير أبي السعود)) (4/140)، ((تفسير الشوكاني)) (2/500)، ((تفسير الألوسي)) (6/101 - 103)، ((تفسير القاسمي)) (6/21)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/151، 152). قال البيضاوي: (قيل: يُنطقُ الله الأصنامَ، فتشافهُهم بذلك مكانَ الشفاعةِ التي يتوقَّعون منها. وقيل: المرادُ بالشركاءِ الملائكةُ والمسيحُ: وقيل: الشياطينُ). ((تفسير البيضاوي)) (3/111). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/333). وممن ذهب إلى أن المراد بالشركاء هنا: الأصنام: البغوي، وابن عطية، والخازن، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/418)، ((تفسير ابن عطية)) (3/117)، ((تفسير الخازن)) (2/441)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/151- 152). وقيل: المرادُ بهم الملائكةُ، وممَّن ذهَب إلى ذلك: القرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/333). وقيل: المرادُ بالشُّركاءِ: جميعُ ما عُبِد مِن دونِ الله تعالى مِن ذَوي العقولِ وغيرِهم. وممَّن قال بذلك: الألوسي. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (6/103). .
كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ [النحل: 86] .
وقال سُبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا * فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ [الفرقان: 17-19] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ [الروم: 12-13] .
وقال جلَّ جلاله: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40-41] .
فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29).
أي: قال المَعبودونَ للذين عَبَدوهم: فحَسْبُنا اللهُ شاهدًا بيننا وبينكم، أيُّها المُشرِكونَ؛ فإنَّه قد عَلِمَ أنَّكم عَبَدتُمونا من غيرِ أن نأمُرَكم، ومِن دونِ أن نَشعُرَ بعِبادتِكم لنا [428] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/172)، ((البسيط)) للواحدي (11/183)، ((تفسير القرطبي)) (8/334)، ((تفسير ابن كثير)) (4/265)، ((تفسير الشوكاني)) (2/500)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363). .
كما قال تعالى: إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] .
وقال سُبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5-6] .
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30).
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ تَتْلُو مِن التِّلاوةِ، أي: تقرأُ كُلُّ نَفسٍ أعمالَها مِن كِتابِها يومَ القيامةِ، وقيل: المعنى: تَتبَعُ كُلُّ نَفسٍ ما قدَّمَتْ مِن خَيرٍ أو شَرٍّ [429] قرأ بها حمزةُ، والكِسائيُّ، وخلفٌ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/283). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (12/174، 175)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/17)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/44)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 331)، ((تفسير ابن كثير)) (4/265، 266). .
2- قِراءةُ تَبْلُو، أي: تَخْبُرُ، فالمعنى: تَعلَمُ كُلُّ نَفسٍ ما قدَّمَت مِن خَيرٍ أو شَرٍّ [430] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/283). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (12/174، 175)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/17)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/44)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 331). .
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ.
أي: في ذلك المَقامِ في أرضِ المَحشَرِ يومَ القيامةِ تَعلَمُ كلُّ نفسٍ ما قدَّمَت مِن خَيرٍ أو شَرٍّ، وتَجِدُه مكتوبًا لِتُحاسَبَ عليه [431] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/173)، ((معاني القرآن)) للنحاس (3/291)، ((البسيط)) للواحدي (11/184)، ((تفسير الرازي)) (17/246)، ((تفسير القرطبي)) (8/334)، ((تفسير البيضاوي)) (3/111)، ((تفسير ابن كثير)) (4/265)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/153). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .
وقال سُبحانه: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13- 14] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف: 49] .
وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ.
أي: ورُجِعَ هؤلاء المُشرِكونَ إلى اللهِ الذي هو ربُّهم ومالِكُهم، والمتولِّي أمرَهم، الحَقُّ لا شكَّ فيه، دُونَ مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ مِن آلهةٍ [432] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/175)، ((البسيط)) للواحدي (11/185)، ((تفسير القاسمي)) (6/21)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (11/290). .
كما قال تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام: 62] .
وقال عزَّ وجلَّ: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج: 62] .
وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ.
أي: وزال عن المُشرِكينَ وبطَلَ ما كانوا يختَلِقونَه مِن الكَذِبِ على اللهِ، بدعواهم أنَّ له شُرَكاءَ يَنفَعونَ مَن عَبَدَهم، ويَدفَعونَ عنه الضُّرَّ، ويُقَرِّبونَه إلى اللهِ [433] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/175)، ((البسيط)) للواحدي (11/186)، ((تفسير القرطبي)) (8/334)، ((تفسير ابن كثير)) (4/266)، ((تفسير السعدي)) (ص: 363)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/154). .
كما قال تعالى: وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ * وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [النحل: 86-87] .
وقال سبحانه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [القصص: 74-75] .

الفوائد التربوية :

قَولُ اللهِ تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ العبادةَ المَشوبةَ لا اعتدادَ بها، وأنَّ مَن استحَقَّ العبادةَ استحَقَّ الإخلاصَ فيها، وأنْ لا يُشرَك به أحدٌ [434] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/109). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا مِن نُكَتِ ذِكرِ حَشرِ الجَميعِ هنا: التَّنبيهُ على أنَّ فظيعَ حالِ المُشرِكينَ، وافتِضاحَهم، يكون بمرأًى ومَسمَعٍ من المؤمِنينَ، فتكونُ السَّلامةُ من تلك الحالةِ زيادةً في النِّعمةِ على المُسلِمينَ، وتقويةً في النِّكايةِ للمُشرِكينَ [435] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/150). .
2- قَولُ الله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ كَلِمةُ فَزَيَّلْنَا جاءت على لفظِ المُضيِّ بعدَ قَولِه: ثُمَّ نَقُولُ وهو مُنتظَرٌ في المُستقَبلِ، والسَّببُ فيه أنَّ الذي حكَمَ اللهُ فيه بأن سيكونُ، صار كالكائنِ الرَّاهِنِ الآن [436] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/244)، ((تفسير الخازن)) (2/441). .
3- قال اللهُ تعالى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ إنَّما أضاف الشُّرَكاءَ إليهم لوجوهٍ:
منها: أنَّه يكفي في الإضافةِ أدنَى تعلُّقٍ، فلمَّا كان الكفارُ هم الذين أثْبَتوا هذه الشركةَ؛ لا جرمَ حسنتْ إضافةُ الشركاءِ إليهم [437] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/244).
وقيل: إنَّه تعالى لما خاطَب العابدينَ والمعبودينَ بقولِه: مَكَانَكُمْ صاروا شركاءَ في هذا الخطابِ [439] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (17/245). .
4- إن قيل: كيف قال: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وقد أخبَرَ تعالى بـ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 11] ، فالجوابُ: لا تناقُضَ بينهما، فالإخبارُ بأنَّه مولاهم؛ ذلك لأنَّه تعالى مَولى عبادِه جَميعًا، على معنى: أنَّه رَبُّهم ومالِكُ أمْرِهم، والمتصَرِّفُ فيهم بما شاء، وهو مَولاهم جميعًا في الرِّزقِ وإدرارِ النِّعَم، وأمَّا النَّفيُ فهو على معنى وِلايةِ المحبَّةِ والتَّوفيقِ والنَّصرِ، فهو مَولى المُؤمِنينَ خاصَّةً، وليس للكافرينِ نصيبٌ فيها [440] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (8/334)، ((تفسير الزمخشري)) (4/319)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 89). .
5- اللهُ سبحانه يَقرِنُ في كتابِه بين الشِّركِ والكَذِب، كما يَقرِنُ بين الصِّدقِ والإخلاصِ، كما في قَولِه تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ إلى قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، وقال تعالى عن الخليلِ: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [441] يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/279). [الصافات: 85 - 86] .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ
- قولُه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا... كلامٌ مستأنَفٌ، مَسُوقٌ لبيانِ بعضٍ آخرَ مِن أحوالِهم الفظيعةِ، وتأخيرُه في الذِّكرِ مع تقدُّمِه في الوجودِ على بعضِ أحوالِهم المحكيَّةِ سابقًا؛ للإيذانِ باستقلالِ كلٍّ مِن السَّابقِ واللَّاحقِ بالاعتبارِ [442] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/139). .
- وقولُه: فَزَيَّلْنَا، الفاءُ للدَّلالةِ على وقوعِ التَّزْييلِ ومَباديه عَقِيبَ الخِطابِ مِن غيرِ مُهلةٍ، وإيثارُ التَّعبيرِ بصيغةِ الماضي؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ الموروثِ؛ لزيادةِ التَّوبيخِ والتَّحسيرِ [443] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/139)، ((تفسير ابن عاشور)) (11/151). .
- وقال: فَزَيَّلْنَا، ولم يَقُلْ: (فَزِلْنا بينَهم)؛ إرادةَ تَكثيرِ الفعلِ، وتكريرِه [444] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (15 /78). .
2- قولُه تعالى: هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، تذييلٌ وفَذْلَكةٌ للجُمَلِ السَّابقةِ، مِن قولِه: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ [يونس: 25] إلى هنا [445] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/153). .
- وقدَّم الظَّرفَ هُنَالِكَ؛ للاهتمامِ به؛ لأنَّه الغرضُ الأهَمُّ مِن الكلامِ؛ لعِظَمِ ما يقَعُ فيه [446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/153). .
- وقولُه: تَبْلُو أي: تَختبِرُ، وهو هنا كنايةٌ عن التَّحقُّقِ وعِلمِ اليقينِ [447] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (11/153). .
- وفي قولِه: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، جُعل الضَّميرُ في رُدُّوا للنُّفوسِ المدلولِ عليها بـ كُلُّ نَفْسٍ على أنَّه معطوفٌ على تَبْلُو، وعُدِل إلى الماضي؛ للدَّلالةِ على التَّحقُّقِ والتَّقرُّرِ، وإيثارُ صيغةِ الجمعِ؛ للإيذانِ بأنَّ ردَّهم إلى اللهِ يكونُ على طريقةِ الاجتماعِ، لا يُلائِمُه التَّعرُّضُ لوصفِ الحقِّيَّةِ في قولِه تعالى: مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ؛ فإنه للتَّعريضِ بالمردودينَ؛ فقولُه عز وجل: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ممَّا لا مجالَ فيه للتَّدارُكِ قطعًا؛ فإنَّ ما فيهِ من الضَّمائرِ الثَّلاثةِ للمُشرِكين، فيَلزَمُ التَّفكيكُ حتمًا، وتخصيصُ كُلُّ نَفْسٍ بالنُّفوسِ المشرِكةِ مع عُمومِ البلوى للكلِّ يأباه مَقامُ تَهويلِ المقامِ [448] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/141). .