موسوعة التفسير

سورةُ القَصَصِ
الآيات (71-75)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ

غَريبُ الكَلِماتِ:

سَرْمَدًا: أي: دائِمًا، وأصلُه مِن (سرد): إذا وَصَلَ -والميمُ فيه زائدةٌ-، فكأنَّه زمانٌ متَّصِلٌ بَعضُه ببَعضٍ [901] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/304)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 266)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/160)، ((المفردات)) للراغب (ص: 408). .

المعنى الإجماليُّ:

يأمُرُ الله تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُذكِّرَ النَّاسَ بمظاهرِ قدرتِه، وعظيمِ نعمتِه، فيقولُ: قُلْ -يا محمَّدُ- لِمُشركي قَومِك: أخبِروني إنْ جعَلَ اللهُ عليكم اللَّيلَ دائِمًا مُستمِرًّا بلا نهارٍ، مَنْ إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيكم بنهارٍ تُبصِرونَ فيه؟ أفلا تَسمَعونَ سَماعَ فَهمٍ وقَبولٍ؟! وقُلْ لهم: أخبِروني إنْ جعَلَ اللهُ عليكم النَّهارَ دائِمًا مستَمِرًّا بلا ليلٍ، مَن إلهٌ غيرُ اللهِ يأتيكم بليلٍ تستَقِرُّونَ فيه وتستريحونَ؟ أفلا تَرَوْنَ ذلك بأبصارِكم فتُوحِّدونَ الله؟!
ومِن رحمةِ اللهِ بكم -أيُّها النَّاسُ- أنْ خلَقَ لكم اللَّيلَ والنَّهارَ يَتعاقَبانِ على الدَّوامِ؛ لمصالِحِكم، فجعَل اللهُ اللَّيلَ مُظلِمًا؛ لِتَسكنوا فيه وتَستريحوا، وجعَل النَّهارَ مُضيئًا؛ لطلَبِ معايشِكم وأرزاقِكم، ولِتَشكروه على إنعامِه عليكم بهما.
ثمَّ يَذكُرُ الله تعالى بعضَ مَشاهِدِ القيامةِ، فيقولُ: واذكُرْ -يا محمَّدُ- يومَ يُنادي اللهُ المُشرِكينَ يومَ القيامةِ فيَقولُ لهم: أين الَّذين كنتُم في الدُّنيا تَزعُمونَهم شُرَكائي في العبادةِ؟
وأحضَرْنا مِن كلِّ قومٍ نبيَّهم؛ لِيَشهَدَ عليهم بالتَّبليغِ، فقُلْنا لكلِّ أُمَّةٍ كذَّبَت نبيَّها: هاتوا حُجَّتَكم على صِحَّةِ إشراكِكم بالله، فعَلِموا حينَئذٍ أنَّ اللهَ هو المستحِقُّ وحْدَه للعبادةِ، وأنَّ ما جاءت به رُسُلُه صِدْقٌ وحَقٌّ، وغاب عنهم ما كانوا يَفتَرونَه على اللهِ في الدُّنيا مِن أنَّ معه شُرَكاءَ، فلَمْ يَنفعوهم في الآخرةِ بشَيءٍ!

تَفسيرُ الآياتِ:

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71).
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: أخْبِروني إنْ جعَلَ اللهُ عليكم اللَّيلَ دائِمًا مُستَمِرًّا بلا نهارٍ يأتي بعْدَه إلى يومِ القيامةِ [902] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/304)، ((الوسيط)) للواحدي (3/406)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252). .
مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ.
أي: مَن مَعبودٌ غيرُ اللهِ يَقدِرُ على أن يأتيَكم بنَهارٍ مُنيرٍ تُبصِرونَ فيه [903] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/305)، ((تفسير القرطبي)) (13/308)، ((تفسير الخازن)) (3/370). ؟
أَفَلَا تَسْمَعُونَ .
أي: أفلا تَسْمَعونَ ذلك سَماعَ فَهمٍ وقَبولٍ وانقيادٍ، وتتفَكَّرونَ فيه فتَتَّعِظونَ، وتَستَدِلُّونَ بذلك على توحيدِ اللهِ واستِحقاقِه للعِبادةِ وَحْدَه [904] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/305)، ((الوسيط)) للواحدي (3/406)، ((تفسير القرطبي)) (13/308)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/170). ؟!
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72).
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- لِمُشرِكي قَومِك: أخبِروني إنْ جعَلَ اللهُ عليكم النَّهارَ دائِمًا مُستَمِرًّا بلا لَيلٍ يأتي بعْدَه إلى يومِ القيامةِ [905] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/305)، ((الوسيط)) للواحدي (3/406)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252). .
مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ.
أي: مَن مَعبودٌ غيرُ اللهِ يَقدِرُ على أنْ يأتيَكم بلَيلٍ تَستَقِرُّونَ فيه وتَستريحونَ [906] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/305)، ((تفسير القرطبي)) (13/308)، ((تفسير الشوكاني)) (4/213). ؟
أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
أي: أفلا تَرَونَ ذلك بأبصارِكم، فتَعلَمونَ أنَّ اللهَ هو المُستَحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه، وأنَّ عِبادةَ مَنْ سِواه ضَلالٌ مُبينٌ [907] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/305)، ((الوسيط)) للواحدي (3/406)، ((تفسير القرطبي)) (13/308). ؟!
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73).
وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
أي: ومِن رَحمةِ اللهِ بكم -أيُّها النَّاسُ- أنْ خَلَقَ لكم اللَّيلَ والنَّهارَ مختلِفَينِ بالظُّلمةِ والضِّياءِ، يَتعاقَبانِ على الدَّوامِ لِمَصالحِكم [908] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/306)، ((تفسير الخازن)) (3/370)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252). .
كما قال تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم: 33] .
لِتَسْكُنُوا فِيهِ.
أي: جعَلَ اللهُ اللَّيلَ مُظلِمًا؛ لِتَسكُنوا فيه، وتَستريحوا مِن تَعَبِ أعمالِكم في النَّهارِ [909] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/306)، ((الوسيط)) للواحدي (3/406)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/171). .
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ.
أي: وجعَلَ اللهُ النَّهارَ مُضيئًا؛ لِطَلَبِ مَعايِشِكم وأرزاقِكم [910] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/306)، ((تفسير ابن عطية)) (4/297)، ((تفسير القرطبي)) (13/308)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/171). .
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
أي: وجعَلَ اللهُ لكم اللَّيلَ والنَّهارَ؛ لِتَشكُروه على إنعامِه عليكم بهما، وتَعبُدوه وَحْدَه فيهما [911] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/306)، ((الوسيط)) للواحدي (3/406)، ((تفسير القرطبي)) (13/308)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 62] .
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا هجَّنَ طريقةَ المُشرِكين أوَّلًا، ثُمَّ ذَكَر التَّوحيدَ ودلائِلَه ثانيًا؛ عاد إلى تَهجينِ طريقتِهم مرَّةً أخرى، وشَرَحَ حالَهم في الآخرةِ، فقال [912] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/13). :
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74).
أي: واذكُرْ -يا مُحمَّدُ- يومَ يُنادي اللهُ المُشرِكينَ، فيقولُ لهم يومَ القيامةِ: أين شُرَكائيَ الَّذين كُنتُم في الدُّنيا تدَّعُونَ كَذِبًا أنَّهم شُرَكائي في العبادةِ، وأنَّهم يَنفَعونَكم ويَنصُرونَكم [913] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/306)، ((تفسير ابن عطية)) (4/297)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/345، 346)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623). ؟
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75).
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا.
أي: وأخرَجْنا وأحضَرْنا مِن كلِّ قَومٍ نبيَّهم؛ لِيَشهَدَ على أمَّتِه بالتَّبليغِ وبما أجابَتْه في دَعوتِه إلى الحَقِّ [914] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/306)، ((الوسيط)) للواحدي (3/407)، ((تفسير القرطبي)) (13/309)، ((تفسير ابن جزي)) (2/118)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/346، 347). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالشَّهيدِ هنا: النَّبيُّ أو الرَّسولُ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحدي، والسمعاني، والقرطبي، وابن جُزَي، والبِقاعي. يُنظر: المصادر السابقة، و((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/355)، ((تفسير السمعاني)) (4/154). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، ومُجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/307)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (9/3004). وقال الواحدي: (شهيدُها: رسولُها الَّذي يَشهدُ عليها بالبلاغِ، وبما كان منها؛ في قولِ ابنِ عبَّاسٍ والمفسِّرينَ)). ((البسيط)) (17/445). وقيل: هم الشُّهداءُ الَّذين يَشهَدون على النَّاسِ في كلِّ زمانٍ، ويَدخُلُ في جُملتِهِمُ الأنبياءُ، قال الرازيُّ: (وهذا أقرَبُ؛ لأنَّه تعالى عَمَّ كلَّ أُمَّةٍ وكلَّ جماعةٍ بأن يَنزِعَ منهم الشَّهيدَ، فيَدخُلُ فيه الأحوالُ الَّتي لم يوجَدْ فيها النَّبيُّ، وهي أزمنةُ الفَتراتِ، والأزمنةُ الَّتي حصلَتْ بعدَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّمَ). ((تفسير الرازي)) (25/13). وقيل: المرادُ بالشُّهَداءِ هنا: رُؤساءُ مُنتخَبونَ مِن رُؤساءِ المكَذِّبينَ يَتصَدَّونَ للمُجادَلةِ نيابةً عن إخوانِهم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: السعديُّ، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 623)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 333). .
كما قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] .
فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ.
أي: فقُلْنا لكلِّ أمَّةٍ كذَّبَت نبيَّها: هاتُوا حُجَّتَكم على صِحَّةِ إشراكِكم باللهِ [915] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/307)، ((تفسير القرطبي)) (13/309)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623). .
فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ.
أي: فعَلِموا حينَئذٍ أنَّ اللهَ هو المُستَحِقُّ وَحْدَه للعبادةِ، وأنَّ ما جاءت به رُسُلُه صِدقٌ وحَقٌّ مِن عِندِه [916] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/308)، ((معاني القرآن)) للزجاج (4/153)، ((الوسيط)) للواحدي (3/407)، ((تفسير القرطبي)) (13/309)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252). .
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ.
أي: وغاب عن المُشرِكينَ واضمَحَلَّ ما كانوا يَختَلِقونَه على اللهِ في الدُّنيا مِن أنَّ معه شُرَكاءَ، فلَمْ يَنفَعوهم في الآخِرةِ بشَيءٍ [917] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/308)، ((الوسيط)) للواحدي (3/407)، ((تفسير القرطبي)) (13/309)، ((تفسير ابن كثير)) (6/252)، ((تفسير السعدي)) (ص: 623). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- في قَولِه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إلى قَولِه: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تَنبيهٌ إلى أنَّ العَبدَ ينبغي له أنْ يَتدبَّرَ نِعَمَ اللهِ عليه، ويَستبصِرَ فيها، ويَقيسَها بحالِ عَدَمِها؛ فإنَّه إذا وازَنَ بيْنَ حالةِ وُجودِها وبينَ حالةِ عَدَمِها، تَنَبَّه عَقلُه لِمَوضعِ المِنَّةِ، بخِلافِ مَن جرى مع العوائِدِ، ورأى أنَّ هذا أمرٌ لم يَزَلْ مُستمِرًّا ولا يزالُ، وعَمِيَ قلْبُه عن الثَّناءِ على اللهِ بنِعَمِه، ورُؤْيةِ افتِقارِه إليها في كلِّ وقتٍ؛ فإنَّ هذا لا يُحْدِثُ له فِكرةَ شُكرٍ ولا ذِكْرٍ [918] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 623). .
2- الحَثُّ على التَّبَصُّرِ في آياتِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ لِقَولِه: أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ لأنَّ هذا يُفيدُ حَثَّ الإنسانِ أن يتبَصَّرَ فيما جعَلَه اللهُ عزَّ وجَلَّ في هذه الآياتِ؛ حتَّى يَستَدِلَّ بها على كَمالِ قُدرةِ الخالِقِ [919] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 322). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُه تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا ... هو مِن أبدَعِ الاستِدلالِ؛ حيثُ اختِيرَ للاستِدلالِ على وحدانيَّةِ اللهِ هذا الصُّنعُ العَجيبُ المتكرِّرُ كلَّ يومٍ مرَّتينِ، والَّذي يَستوي في إدراكِه كلُّ مميِّزٍ، والَّذي هو أجلَى مَظاهِرِ التَّغَيُّرِ في هذا العالَمِ؛ فهو دَليلُ الحُدوثِ، وهو ممَّا يَدخُلُ في التَّكيُّفِ به جميعُ الموجوداتِ في هذا العالَمِ حتَّى الأصنامُ؛ فهي تُظْلِمُ وتَسْوَدُّ أجسامُها بظَلامِ اللَّيلِ، وتُشْرِقُ وتُضيءُ بضياءِ النَّهارِ، وكان الاستِدلالُ بتعاقُبِ الضِّياءِ والظُّلمةِ على النَّاسِ أقوى وأوضَحَ مِنَ الاستِدلالِ بتَكوينِ أحدِهما لو كان دائِمًا؛ لأنَّ قُدرةَ خالقِ الضِّدَّينِ، وجاعلِ أحدِهما يَنْسَخُ الآخَرَ كلَّ يومٍ: أظهَرُ منها لو لم يَخلُقْ إلَّا أقواهما وأنفعَهما، ولأنَّ النِّعمةَ بتَعاقُبِهما دومًا أشدُّ مِن الإنعامِ بأفضَلِهما وأنفَعِهما؛ لأنَّه لو كان دائِمًا لكان مَسؤومًا [920] أي: مُمَلًّا، يقالُ: سَئِم مِن الشَّيءِ، أي: مَلَّهُ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) لأبي عبد الله الرازي (ص: 140). ، ولحَصَلتْ منه طائِفةٌ مِن المنافِعِ وفُقِدَت مَنافِعُ ضِدِّهِ؛ فالتَّنَقُّلُ في النِّعَمِ مَرغوبٌ فيه، ولو كان تنَقُّلًا إلى ما هو دُونٌ [921] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/168). .
2- في قَولِه تعالى: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أنَّه لا يستطيعُ أحدٌ أنْ يُغَيِّرَ سُنَّةَ اللهِ في الكَونِ، فلو جَعَله سَرْمَدًا ما استطاع أحدٌ أنْ يُزيلَه [922] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 321). .
3- في قَولِه تعالى: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ بيانُ نِعمةِ اللهِ على العبادِ بضياءِ النَّهارِ، فكم تَستَهلِكُ الأُمَّةُ مِن طاقةٍ في إضاءةِ اللَّيلِ الَّذي لا يكونُ مثلَ إضاءةِ النَّهارِ؟ وبهذا نَعرِفُ قدْرَ نِعمةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى بهذا الضِّياءِ الَّذي يَصِلُ إلى النَّاسِ بكَمِّيَّاتٍ كبيرةٍ [923] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 321). .
4- في قَولِه تعالى: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أنَّ نَومَ اللَّيلِ أفيَدُ للجِسمِ مِن نَومِ النَّهارِ؛ حيثُ جَعَلَ اللهُ اللَّيلَ محَلَّ سَكَنٍ ووَقْتَه، وهذا أمرٌ مُشاهَدٌ [924] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 322). .
5- قَولُه تعالى: أَفَلَا تَسْمَعُونَ، وقَولُه: أَفَلَا تُبْصِرُونَ إنَّما قاله؛ لأنَّ الغرَضَ مِن ذلك الانتِفاعُ بما يَسمَعونَ ويُبصِرونَ مِن جِهةِ التَّدَبُّرِ، فلمَّا لم يَنتَفِعوا نُزِّلوا مَنزِلةَ مَن لا يَسمَعُ ولا يُبصِرُ [925] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/12). .
6- في قَولِه تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أنَّه وإنْ كان السُّكونُ في النَّهارِ مُمكِنًا، وابتغاءُ فَضلِ اللهِ باللَّيلِ مُمكِنًا، فإنَّ الألْيَقَ بكلِّ واحدٍ منهما ما ذَكَرَه اللهُ تعالى به؛ فلِهذا خَصَّه به [926] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (25/13). .
7- في قَولِه تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أنَّ اللَّيلَ للسَّكَنِ، والنَّهارَ لطَلَبِ المعاشِ؛ فقَولُه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ في اللَّيلِ، وقَولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في النَّهارِ، وتتفَرَّعُ على هذه المسألةِ فائِدةٌ في القِسمةِ بيْنَ الزَّوجَتَينِ: إذا كانت للإنسانِ زَوجتانِ، وأراد أنْ يَقْسِمَ بيْنَهما؛ فإنَّ مدارَ القَسْمِ على اللَّيلِ لِمَن معاشُه في النَّهارِ، والنَّهارِ لِمَن معاشُه في اللَّيلِ، فإذا أَشْكَلَ علينا الأمرُ فالعِمادُ هو اللَّيلُ؛ لأنَّه محَلُّ السَّكَنِ [927] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 328). .
8- قولُه تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فيه إثباتُ الأسبابِ؛ حيثُ قال: وَلِتَبْتَغُوا أي: لِتَطلُبوا؛ فالرِّزقُ لا يأتي مِن السَّماءِ ويَنزِلُ، بل لا بُدَّ فيه مِن طَلَبٍ، وإذا لم تفعَلْ هذا السَّبَبَ الذي تحصُلُ به على الرِّزقِ، لم يَحصُلِ الرِّزقُ؛ لأنَّ اللهَ تبارك وتعالى حكيمٌ رَبَطَ الأسبابَ بمُسَبَّباتِها [928] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 329). .
9- في قَولِه تعالى: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أنَّ الرِّزقَ هو مِن اللهِ عزَّ وجلَّ وفَضْلِه وعَطائِه؛ فليس حاصِلًا بمجَرَّدِ كَدِّ الإنسانِ وكَدْحِه؛ فكم مِن إنسانٍ يَكُدُّ ويَكدَحُ، ومع ذلك يكونُ رِزقُه ضَيِّقًا! وكم مِن إنسانٍ يَفْعَلُ أسبابًا أقَلَّ ممَّا فَعَله الأوَّلُ، ثمَّ يُوَسَّعُ له في الرِّزقِ [929] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 329). !

بلاغةُ الآياتِ:

1- قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ انتِقالٌ مِن الاستِدلالِ على انفِرادِه تعالَى بالإلهيَّةِ بصِفاتِ ذاتِه، إلى الاستِدلالِ على ذلكَ ببَديعِ مَصْنوعاتِه، وفي ضِمْنِ هذا الاستِدلالِ إدماجُ الامْتِنانِ على النَّاسِ، وللتَّعريضِ بكُفرِ المُشركينَ جَلائلَ نِعَمِه. وسِيقَ إليهم هذا الاستِدلالُ بأُسلوبِ تَلقينِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَقولَه لهم؛ اهتمامًا بهذا التَّذكيرِ لهذا الاستِدلالِ، ولاشْتِمالِه على ضِدَّينِ مُتعاقِبَيْنِ، حتَّى لو كانتْ عُقولُهم قاصِرةً عن إدراكِ دَلالةِ أحَدِ الضِّدَّينِ لَكانَ في الضِّدِّ الآخرِ تَنْبِيهٌ لهم، ولو قَصَّرُوا عن حِكمةِ كُلِّ واحدٍ منهما كان في تعاقُبِهما ما يَكْفي للاستدلالِ. وجِيءَ في الشَّرطَينِ بحرفِ (إن)؛ لأنَّ الشَّرطَ مَفْروضٌ فرضًا مُخالفًا للواقعِ، وعُلِمَ أنَّه قَصَد الاستِدلالَ بعِبْرةِ خَلْقِ النُّورِ؛ فلِذلكَ فُرِضَ استِمرارُ اللَّيلِ، والمقصودُ ما بَعْدَه، وهو قولُه: مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ [930] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/168، 169). .
- والاستِفهامُ في قولِه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ تَقريريٌّ، والاستِفهامُ في مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ إنكاريٌّ، وهم مُعتَرِفونَ بهذا الانتفاءِ، وأنَّ خالِقَ اللَّيلِ والنَّهارِ هو اللهُ تعالى لا غيرُه [931] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/169). .
- قولُه: يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ صِفةٌ أُخرى لـ إِلَهٌ، عليها يَدورُ أمْرُ التَّبْكيتِ والإلزامِ؛ كما في قولِه تعالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [يونس: 31] ، وقولِه تعالَى: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] ونَظائرِهما، غَيرَ أنَّه قُصِدَ بيانُ انتِفاءِ المَوصوفِ بانتِفاءِ الصِّفةِ، ولم يُقَلْ: (هل إلَهٌ... إلخ)؛ لإيرادِ التَّبكيتِ والإلزامِ على زَعْمِهم [932] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/184)، ((تفسير أبي السعود)) (7/23). .
- قولُه: أَفَلَا تَسْمَعُونَ الهَمزةُ للاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّوبيخيِّ [933] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/368). .
2- قولُه تعالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.
- قولُه: قُلْ أَرَأَيْتُمْ كرَّرَ الأمرَ بالقَولِ في مَقامِ التَّقريرِ؛ لأنَّ التَّقريرَ يُناسِبُه التَّكريرُ، مِثْلَ مَقامِ التَّوبيخِ ومَقامِ التَّهويلِ [934] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/170). .
- ووَصْفُ اللَّيلِ بـ   تَسْكُنُونَ فِيهِ إدماجٌ [935] الإدماجُ: هو أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجَتِ المبالغةُ في المطابقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواه- مبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمدِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). للمِنَّةِ في أثناءِ الاستِدلالِ؛ للتَّذكيرِ بالنِّعْمةِ المُشتَمِلةِ على نِعَمٍ كثيرةٍ، وتلكَ هي نِعمةُ السُّكونِ فيه؛ فإنَّها تَشْملُ لَذَّةَ الرَّاحةِ، ولَذَّةَ الخَلاصِ مِن الحَرِّ، ولَذَّةَ استعادةِ نشاطِ المَجموعِ العَصبيِّ الَّذي به التَّفكيرُ والعملُ، ولَذَّةَ الأمنِ مِن العدوِّ. ولم يُوصَفِ الضِّياءُ بشَيءٍ؛ لكثرةِ مَنافعِه، واختِلافِ أنواعِها [936] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/170). ، فلمْ يَقُلْ: (بنَهارٍ تَتَصَرَّفونَ فيه)، كما قيلَ: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، بل ذَكَرَ الضياءَ -وهو ضَوْءُ الشَّمسِ-؛ لأنَّ المنافعَ الَّتي تَتَعَلَّقُ به مُتكاثِرةٌ، ليس التَّصرُّفُ في المَعاشِ وَحْدَه، والظَّلامُ ليس بتلكَ المنزلَةِ، ومِن ثَمَّةَ قَرَنَ بالضِّياءِ أَفَلَا تَسْمَعُونَ؛ لأنَّ السَّمعَ يُدرِكُ ما لا يُدْرِكُه البصرُ مِنْ ذِكْرِ مَنافعِه، ووَصْفِ فوائدِه، وقَرَنَ باللَّيلِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ لأنَّ غيرَكَ يُبْصِرُ مِن مَنفعةِ الظلامِ ما تُبْصِرُه أنتَ مِنَ السُّكونِ ونحوِه [937] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/428، 429)، ((تفسير أبي حيان)) (8/321). .
- وعَبَّرَ بالضِّياءِ دونَ النهارِ؛ لأنَّ ظُلمةَ اللَّيلِ قد تَخِفُّ قليلًا بنورِ القَمرِ؛ فكانَ ذِكْرُ الضِّياءِ إيماءً إلى ذلك [938] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/170). .
- وفيه احتِباكٌ [939]  الاحتِباكُ: هو الحذفُ مِنَ الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِنَ الأواخرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ حيثُ ذَكَرَ الضِّياءَ أوَّلًا دليلًا على حذفِ الظَّلامِ ثانيًا؛ واللَّيْلَ والسُّكونَ ثانيًا دليلًا على حذفِ النهارِ والانتشارِ أوَّلًا [940] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/344). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ خَتَمَ آيةَ اللَّيلِ بقولِه: أَفَلَا تَسْمَعُونَ، وآيةَ النَّهارِ بقولِه: أَفَلَا تُبْصِرُونَ؛ لمُناسَبةِ اللَّيلِ المُظْلِمِ السَّاكنِ للسَّماعِ، ومُناسَبَةِ النهارِ النَّيِّرِ للإبصارِ [941] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 433). .
- وقُدِّمَ اللَّيلُ على النَّهارِ؛ ليَسْتَريحَ الإنسانُ فيه، فيَقومَ إلى تَحصيلِ ما هو مُضطَرٌّ إليه مِن عبادةٍ وغيرِها بنَشاطٍ وخِفَّةٍ، ألَا تَرَى أنَّ الجنةَ نهارُها دائمٌ؛ إذْ لا تَعَبَ فيها يحتاجُ إلى لَيْلٍ يَستريحُ أهلُها فيه [942] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 433). ؟ ولأنَّ ذَهابَ اللَّيلِ بطُلوعِ الشَّمسِ أكثرُ فائِدةً مِن ذَهابِ النَّهارِ بدُخولِ اللَّيلِ [943] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 196). ، ولأنَّ تَقديمَ اللَّيلِ على النَّهارِ جارٍ على ما بَنَتِ العَرَبُ عليه حِسابَ شُهورِها مِن تقديمِ اللَّيلِ، وجَعْلِ النَّهارِ تابِعًا له، ولم يَرِدْ في كتابِ اللهِ تعالى على كثرةِ تَردادِه إلَّا ذلك [944] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (2/386). ، ولأنَّ آيةَ اللَّيلِ عَدَميَّةٌ، وهي أسبَقُ [945] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (14/342). .
- وفي تَعْدِيةِ فِعْلِ يَأْتِيكُمْ في المَوضعَيْنِ إلى ضميرِ المُخاطَبينَ؛ إيماءٌ إلى أنَّ إيجادَ الضِّياءِ وإيجادَ اللَّيلِ نِعمةٌ على النَّاسِ، وهذا إدماجٌ للامتنانِ في أثناءِ الاستدلالِ على الانْفِرادِ بالإلهيَّةِ، وإذْ قدِ استَمَرَّ المُشركونَ على عِبادةِ الأصنامِ بعدَ سُطُوعِ هذا الدَّليلِ، وقد عَلِموا أنَّ الأصنامَ لا تَقْدِرُ على إيجادِ الضِّياءِ؛ جُعِلُوا كأنَّهم لا يَسْمَعُونَ هذه الآياتِ الَّتي أقامتِ الحُجَّةَ الواضحةَ على فَسادِ مُعتَقَدِهم، ففُرِّعَ على تلكَ الحُجَّةِ الاستفهامُ الإنكاريُّ عن انتفاءِ سَماعِهم بقولِه: أَفَلَا تَسْمَعُونَ، أي: أفلا تَسْمَعُونَ الكلامَ المُشتَمِلَ على التَّذكيرِ بأنَّ اللهَ هو خالِقُ اللَّيلِ والضِّياءِ، ومِنه هذه الآيةُ، وليس قولُه: أَفَلَا تَسْمَعُونَ تَذْييلًا [946] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/170). .
- وتَفَرَّعَ على هذا الاستدلالِ أيضًا تَنْزيلُهم مَنزِلةَ مَن لا يُبْصرونَ الأشياءَ الدَّالَّةَ على عظيمِ صُنْعِ اللهِ وتفرُّدِه بصُنْعِها، وهي منهم بمَرأَى الأعيُنِ، وناسَبَ السَّمعَ دَليلُ فَرْضِ سَرْمَدَةِ اللَّيلِ؛ لأنَّ اللَّيلَ لو كانَ دائمًا لم تكُنْ للنَّاسِ رُؤيةٌ؛ فإنَّ رُؤيةَ الأشياءِ مَشْروطةٌ بانتشارِ شَيءٍ مِن النورِ على سَطْحِ الجسمِ المَرئيِّ؛ فالظُّلْمةُ الخالصةُ لا تُرى فيها المَرْئيَّاتُ؛ ولذلكَ جِيءَ في جانِبِ فَرْضِ دَوامِ اللَّيلِ بالإنكارِ على عدَمِ سَماعِهم، وجِيءَ في جانِبِ فَرْضِ دوامِ النَّهارِ بالإنكارِ على عدَمِ إبصارِهم، وليس قولُه: أَفَلَا تُبْصِرُونَ تَذْيِيلًا [947] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/170، 171). .
3- قولُه تعالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تَصريحٌ بنِعمةِ تعاقُبِ اللَّيلِ والنَّهارِ على النَّاسِ بقولِه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وذلكَ ممَّا دلَّتْ عليه الآيةُ السَّابقةُ بطريقِ الإدماجِ بقولِه: يَأْتِيكُمْ، وبقولِه: تَسْكُنُونَ فِيهِ [948] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/171). .
- قولُه: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (مِنْ) هنا للسَّببِ، أي: وبسببِ رحمتِه إيَّاكُم جَعَل لكمُ اللَّيلَ والنَّهارَ، ثمَّ علَّلَ جَعْلَ كلِّ واحدٍ منهُما؛ فبَدَأَ بعلَّةِ الأوَّلِ، وهو اللَّيلُ، وهو لِتَسْكُنُوا فِيهِ، ثمَّ بعلَّةِ الثَّاني وهو: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، ثمَّ بما يُشْبِهُ العلَّةَ لِجَعْلِ هذَينِ الشَّيئينِ وهو: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، أي: هذه الرَّحمةَ والنِّعمةَ، وهذا النَّوعُ مِن عِلْمِ البديعِ يُسمَّى التَّفسيرَ، وهو أنْ تَذْكُرَ أشياءَ ثم تُفسِّرَها بما يُناسِبُها [949] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/321، 322)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/371). .
- وقدَّمَ المَجرورَ (مِنْ رَحْمَتِهِ) على عامِلِه جَعَلَ؛ للاهتِمامِ بمِنَّةِ الرحمةِ [950] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/171). .
- والضَّميرُ في فِيهِ عائدٌ على اللَّيلِ، وفي فَضْلِهِ يَجوزُ أنْ يكونَ عائدًا على اللهِ، والتَّقديرُ: مِنْ فَضْلِه، أي: مِن فَضْلِ اللهِ فيه، أي: في النهارِ، وحُذِف لِدَلالةِ المَعنى، ولدَلالةِ لفظِ فِيهِ السَّابقِ عليه. ويَحتَمِلُ أن يَعودَ على النَّهارِ، أي: مِن فَضْلِ النهارِ، ويكونَ أضافَه إلى ضَميرِ النَّهارِ لَمَّا كانَ الفضلُ حاصلًا فيه أُضيفَ إليه [951] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/322). .
- وسَلَك في قولِه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ طريقةَ اللَّفِّ والنَّشْرِ المرَتَّبِ [952] اللَّف والنَّشْر: هو أن يُذكرَ شَيئانِ أو أشياءُ، إمَّا تفصيلًا -بالنَّصِّ على كلِّ واحدٍ، أو إجمالًا -بأن يُؤتى بلفظٍ يَشتمِلُ على مُتعدِّدٍ- ثمَّ يُذكَرُ أشياءُ على عدَد ذلك، كلُّ واحدٍ يَرجِعُ إلى واحدٍ مِن المتقدِّمِ، ويُفَوَّضُ إلى عقلِ السَّامِعِ ردُّ كلِّ واحدٍ إلى ما يَليقُ به. فاللَّفُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ الَّذي يُؤتى به أوَّلًا، والنَّشرُ يُشارُ به إلى المتعدِّدِ اللَّاحِقِ الَّذي يَتعلَّقُ كلُّ واحدٍ منه بواحدٍ مِن السَّابقِ دُونَ تعيينٍ؛ مِثلُ قولِه تعالى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة: 111] ، أي: وقالت اليهودُ: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا اليهودُ، وقالت النَّصارى: لن يَدخُلَ الجنَّةَ إلَّا النَّصارى. وهذا لفٌّ ونَشْرٌ إجماليٌّ. واللَّفُّ والنَّشرُ إمَّا مُرتَّبٌ، وإمَّا غيرُ مُرتَّبٍ؛ فاللَّفُّ والنَّشرُ المُرتَّبُ هو: أن يأتيَ النَّشرُ على وَفْقِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ فيُؤتَى بما يُقابِلُ الأشياءَ المذكورةَ ويُضافُ إلى كلٍّ ما يَليقُ به على التَّرتيبِ، كما في قولِه تعالى هنا: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وغيرُ المرتَّب -وقد يُعَبَّرُ عنه بـ «اللَّفِّ والنَّشرِ المُشَوَّشِ»، أو «المعكوس»-: هو أن يأتيَ النَّشرُ على غَيرِ ترتيبِ اللَّفِّ؛ مثالُه قولُه تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى [الضحى: 6 - 8] ، فهذه الجُمَلُ لفٌّ مُفَصَّلٌ، وجاء بعْدَها نَشْرٌ غَيرُ مُرَتَّب؛ فجُملةُ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الأُولى ومتعلِّقةٌ بها، وجملةُ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّالثةِ ومُتعلِّقةٌ بها، وجملةُ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ملائمةٌ للجملةِ الثَّانيةِ ومتعلِّقةٌ بها. يُنظر في تفصيلِ أقسامِه وأمثلةٍ على ذلك: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 425)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/320)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 330، 331)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/403- 406). ؛ فإنَّ قولَه: لِتَسْكُنُوا فِيهِ يَعودُ إلى اللَّيْلَ، ويَعودُ قولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إلى (النَّهَارِ)، والتَّقديرُ: ولِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه فيه؛ فحُذِفَ الضَّميرُ وجارُه إيجازًا؛ اعتمادًا على المُقابَلةِ [953] يُنظر: ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/149)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/171)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/370). .
- قولُه: وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ الابتغاءُ مِن فَضْلِ اللهِ كنايةٌ عنِ العملِ والطَّلبِ لتحصيلِ الرِّزْقِ؛ قال تعالَى: وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [954] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/171). [المزمل: 20] .
- قولُه: وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عُطِفَ على العِلَّتَينِ رجاءُ شُكْرهِم على هاتينِ النِّعمتينِ اللَّتين هُما مِن جملةِ رحمتِه بالناسِ؛ فالشأنُ أنْ يَتَذَكَّروا بذلكَ مَظاهرَ الرَّحمةِ الرَّبَّانيَّةِ، وجلائلَ النِّعَمِ، فيَشكُروه بإفرادِه بالعبادةِ، وهذا تعريضٌ بأنَّهم كَفَروا فلمْ يَشْكُروا [955] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/172). .
- وفي هذه الآيةِ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ما يُعرَفُ بصِحَّةِ المُقابَلاتِ [956] صِحَّة المُقابلاتِ: عِبارةٌ عن توخِّي المتكلِّمِ ترتيبَ الكلامِ على ما يَنبغي، فإذا أَتَى بأشياءَ في صَدْرِ كلامِه قابَلَها في عَجُزِه بأَضْدادِها أو بأَغْيارِها مِن المُخالِفِ والمُوافِقِ على التَّرتيبِ؛ بحيثُ يُقابَلُ الأوَّلُ بالأوَّلِ، والثَّاني بالثَّاني، ولا يَخْرِمُ مِن ذلك شيئًا في المُخالِفِ والمُوافِقِ، ومتى أَخَلَّ بالتَّرتيبِ كان الكلامُ فاسِدَ المُقابَلةِ، وهذه الآيةُ مِن مُعجِزِ هذا البابِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 179)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/129)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/370). ، حيثُ جاءَ اللَّيلُ والنَّهارُ في صَدْرِ الكلامِ، وهما ضِدَّانِ، وجاء السُّكونُ والحركةُ في عَجُزِه، وهما ضِدَّانِ، ومُقابَلةُ كلِّ طَرَفٍ منه بالطَّرَفِ الآخَرِ على التَّرتيبِ، وعَبَّرَ سُبحانَه عن الحركةِ بلفظِ الإردافِ [957] الإرداف: هو أنْ يُريدَ المُتكلِّمُ معنًى، فلا يُعبِّرُ عنه بلَفظِه الموضوعِ له، ولا بلفظِ الإشارةِ الدَّالِّ على المعاني الكثيرةِ، بلْ بِلَفظٍ هو رِدفُ المعْنى الخاصِّ وتابِعُه، قَريبٍ مِن لَفظِ المعْنى الخاصِّ قُرْبَ الرَّديفِ مِن الرِّدفِ. ومثالُه قولُه تعالى: وَقُضِيَ الْأَمْرُ مِنَ الآيةِ الكريمةِ: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] ، وحقيقةُ ذلك: وهلَكَ مَن قضَى اللهُ هلاكَه، ونجا مَن قضى نجاتَه، وإنَّما عُدِل عن هذه الحقيقةِ إلى لفظِ الإردافِ مِن الإيجازِ، والتَّنبيهِ على أنَّ هلاكَ الهالكِ ونجاةَ النَّاجي كان بأمرِ آمرٍ مُطاعٍ، وقضاءِ مَن لا يُرَدَّ قضاؤُه، والأمرُ يَستلزِمُ آمرًا، وقضاؤُه يدُلُّ على قدرةِ الآمِرِ به، وطاعةُ المأمورِ تدُلُّ على قدرةِ الآمِرِ وقَهرِه، وأنَّ الخَوفَ مِن عِقابِه ورجاءَ ثَوابِه يَحُضَّانِ على طاعةِ الآمِرِ، ولا يَحصُلُ ذلك كلُّه مِنَ اللَّفظِ الخاصِّ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 207)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/309)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/362)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/480). ؛ فاسْتَلْزَمَ الكلامُ ضَرْبًا مِن المَحاسِنِ زائدًا على المُقابَلةِ، والَّذي أَوْجَب العُدولَ عن لفظِ الحركةِ إلى لفظِ ابتغاءِ الفضلِ: كَوْنُ الحركةِ تكونُ لِمَصلحةٍ ولِمَفْسَدةٍ، وابتغاءُ الفضلِ حَركةٌ للمَصلحةِ دونَ المَفْسدةِ، والآيةُ سِيقَتْ للاعتدادِ بالنِّعَمِ؛ فوَجَب العُدولُ عن لَفظِ الحركةِ إلى لفظٍ هو رِدْفُه وتابعُه؛ لِيَتمَّ حُسْنُ البيانِ، فتَضَمَّنَتْ هذه الكلماتُ -الَّتي هي بَعْضُ آيةٍ- عِدَّةً مِن المنافعِ والمصالحِ، الَّتي لو عُدِّدَتْ بألفاظِها المَوضوعةِ لها لاحْتاجَتْ في العبارةِ عنها إلى ألفاظٍ كثيرةٍ؛ فحَصَل بهذا الكلامِ بهذا السَّببِ عِدَّةُ ضُروبٍ مِن المَحاسِنِ؛ فقد جَعَل سُبحانَه العِلَّةَ في وُجودِ اللَّيلِ والنَّهارِ حُصولَ مَنافعِ الإنسانِ، حيث قال: لِتَسْكُنُوا و(لِتَبْتَغُوا) بلامِ التَّعليلِ؛ فجَمَعَتْ هذه الكَلِماتُ المُقابَلةَ والتَّعليلَ، والإشارةَ والإردافَ، والائْتِلافَ [958] الائتلاف: هو أن يكونَ اللَّفظُ مع اللَّفظِ المُجاوِرِ له في الكلامِ مؤتلِفَينِ، وهذا يَلزَمُ منه أن تكونَ الألفاظُ في الكلامِ مُتآلِفةً يُلائمُ بعضُها بعضًا، بحيثُ تكونُ كلُّ لفظةٍ لا يَصلُحُ مكانَها غيرُها. يُنظر: ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/445)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (5/356)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/520). وحُسْنَ النَّسَقِ [959] حُسْنُ النَّسَقِ: هو عبارةٌ عن أن يأتيَ المتكلِّمُ بالكلِماتِ مِن النَّثرِ والأبياتِ مِن الشِّعرِ مُتتالياتٍ مُتلاحِماتٍ تلاحُمًا سليمًا مُستحسَنًا، لا مَعيبًا مُستهجَنًا، وأن تكونَ كلُّ واحدةٍ منها قابِلةً لِأنْ تَستقِلَّ بنفْسِها لو أُفرِدَتْ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 425)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/388)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/364)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/462). وحُسْنَ البيانِ [960] حُسْنُ البيانِ: حقيقتُه: إخراجُ المعنى في أحسَنِ الصُّورِ الموضحةِ له، وإيصالُه إلى فَهْمِ المُخاطَبِ بأقرَبِ الطُّرقِ وأسهلِها، وقد تأتي العبارةُ عنه مِن طريقِ الإيجازِ، وقد تأتي مِن طريقِ الإطنابِ؛ بحسَبِ ما تقتضيه الحالُ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 489)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/482)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/236). ؛ لمَجيءِ الكلامِ فيها مُتلاحِمًا، آخِذَةً أعناقُ بعضِه بأعناقِ بعضِه، ثمَّ أخْبَر بالخبَرِ الصَّادقِ أنَّ جميعَ ما عدَّدَه مِن النِّعَمِ الَّتي هي مِن لَفْظَيِ الإشارةِ والإردافِ بعضُ رحمتِه؛ حيثُ قال بحرفِ التبْعيضِ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ، وكلُّ هذا في بَعضِ آيةٍ عِدَّتُها إحْدَى عَشْرةَ لفظةً، فالْحَظْ هذه البلاغةَ الظَّاهرةَ، والفصاحةَ المُتظاهِرةَ [961] يُنظر: ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/129، 130)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (7/370، 371). !
4- قولُه تعالَى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تَقْريعٌ بعدَ تَقْريعٍ، وَسَلَكَتْ هذه الآيةُ طَريقةَ اللَّفِّ في تَكريرِ التَّوبيخِ باتِّخاذِ الشُّركاءِ؛ للإشعارِ والإيذانِ بأنَّه لا شَيءَ أَجْلَبُ لغضَبِ اللهِ مِن الإشراكِ به، كما لا شَيءَ أَدْخَلُ في مَرْضاتِه مِن توحيدِه سُبحانَه. أو الأوَّلُ لتقريرِ فَسادِ رأيهِم، والثَّاني لبيانِ أنَّه لم يَكُنْ عن سَنَدٍ، وإنَّما كان مَحضَ تَشَهٍّ وهوًى [962] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/429)، ((تفسير البيضاوي)) (4/184)، ((تفسير أبي السعود)) (7/24)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/172). . أو كُرِّرَ هنا على جهةِ الإبلاغِ والتَّأكيدِ [963] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (8/322). . وقيل: كُرِّرَتْ جُملةُ (يَوْمَ يُنَادِيهِمْ) مرَّةً ثانيةً؛ لأنَّ التَّكريرَ مِن مُقتضياتِ مَقامِ التَّوبيخِ؛ فلذلكَ لم يقُلْ: (ويومَ نَنْزِعُ مِنْ كلِّ أُمَّةٍ شهيدًا)، فأُعيدَ ذِكْرُ أنَّ اللهَ يُناديهِم بهذا الاستفهامِ التَّقريعيِّ، ويَنْزِعُ مِن كلِّ أمَّةٍ شهيدًا، فظاهرُ الآيةِ أنَّ ذلكَ النِّداءَ يُكرَّرُ يومَ القيامةِ. ويَحتَمِلُ أنَّه إنَّما كُرِّرَتْ حِكايتُه، وأنَّه نِداءٌ واحدٌ يقَعُ عقِبَه جوابُ الَّذينَ حَقَّ عليهم القولُ مِن مُشركي العربِ، ويَقَعُ نَزْعُ شهيدٍ مِن كلِّ أمةٍ عليهم؛ فهو شاملٌ لمُشركي العربِ وغيرِهم مِن الأُممِ [964] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/172). .
5- قولُه تعالَى: وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
- جِيءَ بفعلِ المُضِيِّ في (نَزَعْنَا)؛ إمَّا للدَّلالةِ على تَحقيقِ وُقوعِه، حتَّى كأنَّه قد وَقَعَ، وإمَّا لأنَّ الواوَ للحالِ، فهو حالٌ مِن فاعِلِه بإضمارِ (قد) [965] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/24)، ((تفسير ابن عاشور)) (20/172). .
- والالْتِفاتُ إلى نونِ العظَمةِ في قولِه: وَنَزَعْنَا؛ لإبرازِ كَمالِ الاعتِناءِ بشأنِ النَّزعِ وتَهْويلِه [966] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/24). ، أو لإظهارِ عَظَمةِ التَّكلُّمِ [967] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/173). .
- وعُطِفْ فَقُلْنَا على وَنَزَعْنَا؛ لأنَّه المَقْصودُ [968] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/173). .
- قولُه: هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ الأمرُ مُستَعْمَلٌ في التَّعجيزِ؛ فهو يَقتضي أنَّهم على الباطلِ فيما زَعَمُوه مِن الشُّركاءِ [969] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/173). .
- قوله: فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ عَنْهُمْ مُتعلِّقٌ بفعلِ (ضَلَّ)، والمرادُ: ضَلَّ عن عقولِهم وعن مقامِهم، وعُلِّقَ بالضَّلالِ ضميرُ ذواتِهم؛ ليَشْمَلَ ضَلالَ الأمْرَينِ، فيُفيدَ أنَّهم لم يَجِدُوا حُجَّةً يُرَوِّجُونَ بها زَعْمَهم إلهيَّةَ الأصنامِ، ولم يَجِدوا الأصنامَ حاضرةً للشَّفاعةِ فيهم، فوَجَموا عن الجوابِ، وأيْقَنُوا بالمُؤاخَذةِ [970] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (20/173). .