موسوعة التفسير

سورةُ المُزَّمِّلِ
الآية (20)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ

غريب الكلمات:

وَطَائِفَةٌ: أي: جماعةٌ، والطَّائِفةُ: جماعةٌ مِن النَّاسِ؛ وتُطلَقُ على الواحدِ فما فَوْقَه، وأصلُ (طوف): دَوَرانُ الشَّيءِ على الشَّيءِ، قيل: سُمِّيَت الجماعةُ بذلك؛ لِتَصَرُّفِها في الإقبالِ والإدبارِ كأنَّها تَطوفُ [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/149)، ((الصَّحاح)) للجوهري (4/1397)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/432)، ((البسيط)) للواحدي (5/340، 341)، ((المفردات)) للراغب (ص: 531، 532). .
يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ: أي: يَعلَمُ مَقاديرَهما على الحقيقةِ، أو: يَخلُقُهما مُقدَّرَينِ، ويَجعَلُهما على مَقاديرَ يَجريانِ عليها، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبْلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايَتِه [200] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((الوسيط)) للواحدي (4/377)، ((تفسير القرطبي)) (19/53)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (4/244)، ((تفسير القاسمي)) (9/344). .
لَنْ تُحْصُوهُ: أي: لن تُطيقوه؛ قيل: لن تُطيقوا قِيامَه، وقيل: لن تَقدِروا على تقديرِ الأوقاتِ، ولن تَستطيعوا ضبطَ السَّاعاتِ، وأصلُه هنا: العَدُّ والإطاقةُ [201] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 494)، ((تفسير ابن جرير)) (23/394)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/69)، ((تفسير أبي السعود)) (9/53). .
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ: أي: يَسِيرونَ في الأرضِ، ويُسافِرونَ للتِّجارةِ وغَيرِها، والضَّرْبُ في الأَرضِ: الذَّهابُ فيها، وضَربُها بالأرجُلِ [202] يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/398)، ((البسيط)) للواحدي (22/387)، ((المفردات)) للراغب (ص: 505)، ((تفسير البغوي)) (8/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/286). .
وَأَقْرِضُوا: أي: تَصَدَّقوا وأنْفِقوا، والقَرْضُ: ما يُدفَعُ مِن المالِ بشَرْط ردِّ بَدَلِه، وأصلُ القَرْضِ: القَطْعُ؛ ومنه سُمِّيَ القَرْض؛ فكأنَّه شيءٌ قد قَطَعْتَه مِن مالِكَ [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/398)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/71، 72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 666). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا
قَولُه: هُوَ خَيْرًا هُوَ: توكيدٌ للهاءِ في تَجِدُوهُ، أو ضَميرُ فَصلٍ لا محَلَّ له مِن الإعرابِ، وإنْ لم يقَعْ بيْنَ معرفتَينِ؛ فإنَّ أفعَلَ -خَيْر- في حُكْمِ المعرفةِ. خَيْرًا: مَفعولٌ به ثانٍ لـ (تجِدُ) [204] يُنظَر: ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1248)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/531)، ((تفسير الألوسي)) (15/126). .

المعنى الإجمالي:

يبيِّنُ الله تعالى أنَّ نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم وطائفةً مِن المؤمنينَ قد امتثلَوا ما أمَرهم به مِن قيامِ اللَّيلِ، فيقولُ: إنَّ ربَّك -يا مُحمَّدُ- يَعلَمُ أنَّك تُصَلِّي في اللَّيلِ وجَماعةٌ مِن أصحابِك المؤمِنينَ: أقَلَّ مِن ثُلُثَيِ اللَّيلِ، وتارةً تُصَلِّي نِصْفَه، وتارةً أُخرى تصَلِّي ثُلُثَه، واللهُ وَحْدَه هو الَّذي يُقدِّرُ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ، ويَعلَمُ مقاديرَهما، عَلِمَ اللهُ سُبحانَه -أيُّها المؤمِنونَ- أنَّكم لن تَستطيعوا تقديرَ ساعاتِه تقديرًا دقيقًا؛ فتاب عليكم وخفَّف عنكم في أمرِ القيامِ؛ فصَلُّوا ما تيسَّرَ لكم مِنَ اللَّيلِ دونَ تَحديدٍ.
ثمَّ يذكُرُ سُبحانَه بعضَ الأسبابِ المُناسِبةِ للتَّخفيفِ، فيقولُ: عَلِمَ اللهُ أنَّه سيَكونُ مِنكم مَرْضَى يَضعُفونَ عن الصَّلاةِ في اللَّيلِ، وآخَرونَ يُسافِرونَ في الأرضِ؛ طَلَبًا للرِّزقِ، وآخَرونَ يُجاهِدونَ الكُفَّارَ؛ نُصْرةً لدِينِ اللهِ تعالى؛ فصَلُّوا ما تيسَّرَ لكم مِن اللَّيلِ.
ثمَّ يأمُرُ سبحانَه المؤمنينَ بإقامةِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وعُمومِ فعلِ الخَيرِ، فيقولُ: وحافِظُوا على إقامةِ الصَّلَواتِ المفروضةِ عليكم، وأَعطوا الزَّكاةَ لِمُستَحِقِّيها مِن الفُقَراءِ والمساكينِ، وتَصَدَّقوا مِن طَيِّبِ أموالِكم بإخلاصٍ للهِ تعالى، وما تَفعَلوه في الدُّنيا مِن خَيرٍ تَجِدوا ثوابَه عِندَ اللهِ تعالى يومَ القيامةِ مُضاعَفًا، واستَغفِروا اللهَ؛ إنَّ اللهَ غَفورٌ رَحيمٌ.

تفسير الآية :

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
ذَكَر اللهُ تعالى في أوَّلِ هذه السُّورةِ أنَّه أمَرَ رَسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بقيامِ نِصفِ اللَّيلِ أو ثُلُثِه أو ثُلُثَيه، والأصلُ أنَّه أُسوةٌ لأُمَّتِه في الأحكامِ، وذكَرَ في هذا الموضِعِ أنَّه امتَثَل ذلك هو وطائِفةٌ معه مِن المؤمِنينَ [205] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 894). .
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قَولِه تعالى: وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ قِراءتانِ:
1- قراءةُ: وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أي: تقومُ نِصفَ اللَّيلِ وثُلُثَه [206] قرأ بها ابنُ كثير، والكوفيُّون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/393). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 355)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/100، 101)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 731). .
2- قراءةُ: وَنِصْفِهِ وَثُلُثِهِ عَطفًا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، والمعنى: تقومُ أقَلَّ مِن نِصفِه، وأقَلَّ مِن ثُلُثِه [207] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/393). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 355)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/101)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 731). .
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ.
أي: إنَّ ربَّك -يا مُحمَّدُ- يَعلَمُ أنَّك تُصَلِّي في اللَّيلِ تارةً أقَلَّ مِن ثُلُثَيه، وتارةً تصَلِّي نِصْفَه، وتارةً أُخرى تصَلِّي ثُلُثَه، ويُصَلِّي ذلك المِقدارَ أيضًا جَماعةٌ مِن أصحابِك المؤمِنينَ [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/393)، ((البسيط)) للواحدي (22/383)، ((تفسير الزمخشري)) (4/643)، ((تفسير القرطبي)) (19/52)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/29، 30)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/281). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقومُ مِنَ اللَّيلِ حتَّى تتفَطَّرَ [209] تتفَطَّرَ: أي: تتشقَّقَ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (7/347). قَدَماه، فقالت عائِشةُ: لِمَ تصنَعُ هذا يا رَسولَ اللهِ، وقد غَفَر اللهُ لك ما تقَدَّمَ مِن ذَنْبِك وما تأخَّرَ؟! قال: أفلا أُحِبُّ أن أكونَ عَبدًا شَكُورًا؟!)) [210] رواه البخاري (4837) واللفظ له، ومسلم (2820). .
وعن زَيدِ بنِ خالِدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لَأَرْمُقَنَّ [211] لأَرمُقَنَّ: أي: لأنظُرَنَّ وأتأمَّلَنَّ وأحفَظَنَّ وأرقُبَنَّ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (3/906). صَلاةَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اللَّيلةَ، فصَلَّى ركعتينِ خفيفتَينِ، ثمَّ صلَّى ركعتينِ طويلتينِ طويلتينِ طويلتينِ، ثمَّ صلَّى ركعتينِ، وهما دونَ اللَّتَينِ قَبْلَهما، ثمَّ صلَّى ركعتينِ، وهما دونَ اللَّتينِ قَبْلَهما، ثمَّ صلَّى ركعتينِ، وهما دونَ اللَّتَينِ قَبْلَهما، ثمَّ صلَّى ركعتينِ، وهما دونَ اللَّتَينِ قَبْلَهما، ثمَّ أوتَرَ، فذلك ثلاثَ عَشْرَةَ رَكعةً )) [212] رواه مسلم (765). .
وعن حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((صلَّيتُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ ليلةٍ، فافتَتَح البَقَرةَ، فقُلتُ: يركَعُ عند المئةِ! ثمَّ مضَى، فقُلْتُ: يصَلِّي بها في رَكعةٍ! فمضَى، فقُلتُ: يركَعُ بها! ثمَّ افتَتَح النِّساءَ فقَرَأَها، ثمَّ افتَتَح آلَ عِمرانَ فقَرَأها، يَقرَأُ مُترَسِّلًا [213] مُترَسِّلًا: أي: مرتلًا بتبيينِ الحروفِ وأداءِ حقِّها، يُقالُ: ترسَّلَ الرجُلُ في كلامِه ومَشْيِه: إذا لم يَعجَلْ. يُنظر: ((شرح السيوطي لسنن النسائي)) (3/219)، ((دليل الفالحين)) لابن علان (2/320). ؛ إذا مَرَّ بآيةٍ فيها تسبيحٌ سَبَّح، وإذا مَرَّ بسؤالٍ سألَ، وإذا مرَّ بتعَوُّذٍ تعَوَّذَ، ثمَّ ركَعَ، فجَعَل يقولُ: سُبحانَ رَبِّيَ العَظيمِ، فكان رُكوعُه نَحوًا مِن قِيامِه! ثمَّ قال: سَمِعَ اللهُ لِمَن حَمِدَه، ثمَّ قام طويلًا قريًبا مِمَّا ركَعَ! ثمَّ سَجَد، فقال: سُبحانَ رَبِّيَ الأعلى، فكان سجودُه قَريبًا مِن قيامِه )) [214] رواه مسلم (772). .
وعن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((صلَّيْتُ مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأطال حتَّى همَمْتَ بأمرِ سَوْءٍ! قيل: وما همَمْتَ به؟ قال: همَمْتُ أن أجلِسَ وأدَعَه!)) [215] رواه البخاريُّ (1135)، ومسلمٌ (773) واللفظ له. .
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان تحريرُ الوَقتِ المأمورِ به مَشَقَّةً على النَّاسِ؛ أخبَرَ أنَّه سَهَّل عليهم في ذلك غايةَ التَّسهيلِ، فقال: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أي: يَعلَمُ مَقاديرَهما وما يَمضي منهما ويَبقَى [216] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 894). .
وأيضًا لَمَّا كان القيامُ -على هذا التَّفاوتِ مع الاجتهادِ في السَّبقِ في العبادةِ- دالًّا على عدمِ العِلمِ بالمقاديرِ ما هي عليه، قال تعالى [217] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/31). :
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
أي: واللهُ وَحْدَه هو الَّذي يُقدِّرُ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ وأوقاتَهما، ويَعلَمُ مقاديرَهما [218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/394)، ((الوسيط)) للواحدي (4/377)، ((تفسير القرطبي)) (19/53)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 894). قال الواحدي: (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قال عَطاءٌ: يريدُ: لا يَفوتُه عِلْمُ ما يَفعلونَ، أي: أنَّه يعلَمُ مقاديرَ اللَّيلِ والنَّهارِ، فيَعلَمُ القَدْرَ الَّذي يَقومونَه مِنَ اللَّيلِ). ((الوسيط)) (4/377). وقال القرطبيُّ: (أي: يَعلَمُ مَقاديرَ اللَّيلِ والنَّهارِ على حقائقِها، وأنتم تَعلَمونَ بالتَّحَرِّي والاجتهادِ الَّذي يقعُ فيه الخطأُ). ((تفسير القرطبي)) (19/53). .
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ.
أي: عَلِمَ اللهُ سُبحانَه -أيُّها المؤمِنونَ- أنَّكم لن تُطيقوا تقديرَ ما طُلِبَ منكم عِلمًا وعَمَلًا مِن غيرِ زيادةٍ ولا نَقصٍ، فذاك يَستدعي انتباهًا وعَناءً زائِدًا؛ فلذا تاب عليكم لعَجزِكم وضَعْفِكم، وخفَّف عنكم بالتَّرخيصِ في تركِ القيامِ المقَدَّرِ أوَّلَ السُّورةِ، ورَفَع عنكم التَّبِعةَ في ذلك، وأمَرَكم بفِعلِ ما تيسَّرَ لكم منه، سَواءٌ زاد على الوَقتِ المقدَّرِ أو نَقَصَ [219] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/478، 479)، ((تفسير ابن جرير)) (23/394)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 894). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ: لن تُطيقوا قيامَ اللَّيلِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والثعلبيُّ، وابنُ عطية. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/478)، ((تفسير ابن جرير)) (23/394)، ((تفسير الثعلبي)) (10/65)، ((تفسير ابن عطية)) (5/390). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى: لن تُطيقوا تقديرَ الأوقاتِ، ولن تستطيعوا ضبطَ السَّاعاتِ: السمعاني، والزمخشري، والقرطبي، والبيضاوي، وابن جُزَي، والعُلَيمي، وأبو السعود، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (6/84)، ((تفسير الزمخشري)) (4/643)، ((تفسير القرطبي)) (19/ 53)، ((تفسير البيضاوي)) (5/257)، ((تفسير ابن جزي)) (2/425)، ((تفسير العليمي)) (7/199)، ((تفسير أبي السعود)) (9/53)، ((تفسير الشوكاني)) (5/385). قال الزمخشري: (والضَّميرُ في لَنْ تُحْصُوهُ لِمَصدرٍ يُقدَّرُ، أي: عَلِم أنَّه لا يصحُّ منكم ضبطُ الأوقاتِ، ولا يتأتَّى حِسابُها بالتَّعديلِ والتَّسويةِ، إلَّا أن تأخُذوا بالأوسَعِ للاحتياطِ، وذلك شاقٌّ عليكم، بالِغٌ منكم فَتَابَ عَلَيْكُمْ عبارةٌ عن التَّرخيصِ في تركِ القيامِ المُقدَّرِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/643). وقال السمعاني: (المعنى: أنَّه يَشُقُّ عليكم مَعرِفةُ مِقدارِ المفروضِ، والقيامُ بالأمرِ؛ وذلك لأنَّ الإنسانَ إذا نام ثمَّ استيقظ، لا يَدري: كم نام، وكم بَقِيَ مِنَ اللَّيلِ، وقد كان اللهُ تعالى فَرَض قيامَ اللَّيلِ على مِقدارٍ معلومٍ، وهو لا يَنقُصُ عن الثُّلُثِ، ويَبلُغُ الثُّلُثَينِ إن أراد). ((تفسير السمعاني)) (6/84). وقال القرطبي: (أي: لن تُطيقوا معرفةَ حقائقِ ذلك، والقيامَ به. وقيل: أي: لن تُطيقوا قيامَ اللَّيلِ. والأوَّلُ أصحُّ؛ فإنَّ قيامَ اللَّيلِ ما فُرِض كلُّه قطُّ). ((تفسير القرطبي)) (19/53). وقال ابن جُزَي: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ الضَّميرُ يعودُ على ما يُفهَمُ مِن سياقِ الكلامِ، أي: لن تُحصوا تقديرَ اللَّيلِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/425). وقال النَّسَفي: (لن تُطيقوا قيامَه على هذه المقاديرِ إلَّا بشِدَّةٍ ومشَقَّةٍ، وفي ذلك حرَجٌ). ((تفسير النسفي)) (3/559). وقال القرطبي: (قولُه تعالى: فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي: فعاد عليكم بالعفوِ، وهذا يدُلُّ على أنَّه كان فيهم مَن ترَكَ بعضَ ما أُمِر به. وقيل: أي: فتاب عليكم مِن فرضِ القيامِ إذ عجَزْتُم. وأصلُ التَّوبةِ: الرُّجوعُ...، فالمعنى: رجَع لكم مِن تثقيلٍ إلى تخفيفٍ، ومِن عُسْرٍ إلى يُسرٍ، وإنَّما أُمِروا بحِفظِ الأوقاتِ على طريقِ التَّحَرِّي، فخَفَّف عنهم ذلك التَّحَرِّيَ). ((تفسير القرطبي)) (19/53). تقدَّم ذكر الخِلافِ في النَّسخِ (ص: 14)، فإن حُمِلَ أوَّلُ السُّورةِ على التَّطوُّعِ أو على النَّدبِ، وآخِرُها على تركِ المؤاخَذةِ بالمِقدارِ؛ كانت الآيتانِ مُحْكَمتَينِ. وإنْ حُمِل أوَّلُها على الوُجوبِ؛ كان آخِرُها ناسِخًا لأوَّلِها، وكانوا في آخِرها مأمورينَ بأن يُصَلُّوا ما تيسَّر لهم، ثمَّ كان آخِرُها أيضًا منسوخًا بالصَّلَواتِ الخَمْسِ. يُنظر: ((جمال القراء)) للسخاوي (2/882). .
كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة: 185] .
وقال سُبحانَه: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: 28] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 78] .
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ.
أي: فصَلُّوا -أيُّها المؤمِنونَ- ما تيسَّرَ لكم مِنَ اللَّيلِ دونَ تَحديدٍ [220] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/334، 335)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/32)، ((تفسير السعدي)) (ص: 894)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/283، 284). قال ابن العربي: (قولُه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ فيه قولان: أحدُهما: أنَّ المرادَ به نفْسُ القراءةِ. الثَّاني: أنَّ المرادَ به الصَّلاةُ). ((أحكام القرآن)) (4/334). وممَّن رجَّح أنَّ المرادَ: الصَّلاةُ، أي: فصَلُّوا ما تيسَّر لكم مِن صلاةِ اللَّيلِ: ابنُ العربي، والرَّسْعَنيُّ، وأبو حيَّان، وابنُ كثير، والبِقاعي، وأبو السعود، والألوسي، وإليه ذهب ابن عاشور. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/334، 335)، ((تفسير الرسعني)) (8/343)، ((تفسير أبي حيان)) (10/321)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/32)، ((تفسير أبي السعود)) (9/53)، ((تفسير الألوسي)) (15/123)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/283، 284). قال ابن العربي: (لأنَّه عن الصَّلاةِ أخبر، وإليها رجَع القولُ). ((أحكام القرآن)) (4/335). وقال الرَّسْعَني: (وعبَّر عن الصَّلاةِ بالقراءةِ؛ لاشتِمالِها عليها، كما عبَّر عنها بالرُّكوعِ والسُّجودِ). ((تفسير الرسعني)) (8/343). وقال ابن كثير: (كما قال في سورةِ سُبْحانَ: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ أي: بقِراءتِك، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء: 110] ). ((تفسير ابن كثير)) (8/258). قال الماوَرْدي: (فعلى هذا يحتملُ في المراد بما تيسَّر مِن الصَّلاةِ وجهان: أحدُهما: ما يتطوَّعُ به مِن نوافِلِه؛ لأنَّ الفرضَ المقدَّرَ لا يُؤْمَرُ فيه بما تيسَّر. الثَّاني: أنَّه محمولٌ على فُروضِ الصَّلَواتِ الخَمسِ؛ لانتقالِ النَّاسِ مِن قيامِ اللَّيلِ إليها، ويكونُ قولُه: مَا تَيَسَّرَ محمولًا على صفةِ الأداءِ في القوَّةِ والضَّعفِ، والصِّحَّةِ والمرضِ، ولا يكونُ محمولًا على العددِ المقدَّرِ شرعًا). ((تفسير الماوردي)) (6/132). والقولُ الثَّاني: أنَّ المراد: نفْسُ القراءةِ. وذلك حملًا للخِطابِ على ظاهِرِ اللَّفظِ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/53). قال الماوَرْديُّ: (فعلى هذا فيه وجهانِ: أحدُهما: أنَّ المرادَ به: قراءةُ القرآنِ في الصَّلاةِ، فيكونُ الأمرُ به واجبًا؛ لوُجوبِ القراءةِ في الصَّلاةِ. واختُلِف في قَدرِ ما يَلزَمُه أن يَقرأَ به مِن الصَّلاةِ... والوجهُ الثَّاني: أنَّ المرادَ به: قراءةُ القرآنِ من غيرِ الصَّلاةِ، فعلى هذا يكونُ مُطلَقُ هذا الأمرِ محمولًا على الوُجوبِ أو على الاستِحبابِ؟ على وجهَينِ؛ أحدُهما: أنَّه محمولٌ على الوُجوبِ؛ لِيَقِفَ بقِراءتِه على إعجازِه، ودلائلِ التَّوحيدِ فيه، وبعثِ الرُّسلِ، ولا يَلزَمُه إذا قرأه وعرَف إعجازَه ودلائلَ التَّوحيدِ منه أن يَحفَظَه؛ لأنَّ حِفظَ القرآنِ مِن القُرَبِ المُستحَبَّةِ دونَ الواجبةِ. الثَّاني: أنَّه محمولٌ على الاستحبابِ دونَ الوُجوبِ، وهذا قولُ الأكثَرينَ؛ لأنَّه لو وجَب عليه أن يَقرأَه وجَب عليه أن يَحفظَه). ((تفسير الماوردي)) (6/132). ذَهبَ مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ والبَغَويُّ إلى أنَّ المرادَ: قراءةُ القرآنِ في الصَّلاةِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/479)، ((تفسير البغوي)) (5/170). قال الرَّسْعَنيُّ: (وذهب كثيرٌ مِن المفسِّرينَ إلى أنَّ المعنى: فاقرَؤوا في الصَّلاةِ ما تيسَّر مِن القرآنِ). ((تفسير الرسعني)) (8/343). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: قراءةُ القرآنِ في صلاةِ اللَّيلِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والقرطبي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/395)، ((تفسير السمرقندي)) (3/512)، ((تفسير القرطبي)) (19/53)، ((تفسير الشوكاني)) (5/385)، ((تفسير القاسمي)) (9/344). وقال ابن تيميَّةَ: (أمَّا قولُه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ فليس المرادُ به القِراءةَ المفروضةَ في الصَّلاةِ؛ بدَليلِ قَولِه بعدَ ذلك: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ، ولأنَّ هذه السُّورةَ نَزَلَتْ بمكَّةَ في أوَّلِ الأمرِ قبْلَ أنْ تُفْرَضَ الصَّلواتُ الخَمسُ، وكان وُجوبُ الفاتحةِ بالمدينةِ، وإنَّما المرادُ به -واللهُ أعلمُ-: التِّلاوةُ المأمورُ بها عِوَضًا عن قيامِ اللَّيلِ؛ فإنَّ حافِظَ القُرآنِ يَنبغي له أنْ يَتلوَه، وإذا نَسِيَه فإنَّه يجبُ عليه أنْ يَتلوَه بحيثُ لا يَنْساه، وسياقُ الآيةِ يدُلُّ على هذا، حيث قال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ إلى قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى إلى قولِه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ .... وقد قيل: إنَّ المرادَ به قراءةُ ما تيسَّر بعدَ الفاتحةِ). ((شرح العمدة لابن تيمية- كتاب الصلاة)) (ص: 174). ويُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/390). .
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى.
أي: عَلِمَ اللهُ -أيُّها المؤمِنونَ- أنَّه سيكونُ مِنكم مَرْضَى يَضعُفونَ عن الصَّلاةِ في اللَّيلِ [221] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/396)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 894). قال السعدي: (ذَكَر بعضَ الأسبابِ المناسِبةِ للتَّخفيفِ، فقال: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى يشُقُّ عليهم صلاةُ ثُلُثَي اللَّيلِ أو نِصفِه أو ثُلُثِه، فلْيُصَلِّ المريضُ المتسَهَّلَ عليه، ولا يكونُ أيضًا مأمورًا بالصلاةِ قائِمًا عندَ مشقَّةِ ذلك، بل لو شَقَّت عليه الصَّلاةُ النَّافِلةُ فله تَرْكُها، وله أجرُ ما كان يَعمَلُ صحيحًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 894). .
وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
مُناسَبَتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر عُذْرَ المريضِ، وبدأَ به لكَونِه أعَمَّ، ولا قُدرةَ للمَريضِ على دَفْعِه-أتْبَعَه السَّفَرَ للتِّجارةِ؛ لأنَّه يليه في العُمومِ [222] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/33). .
وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
أي: وعَلِمَ اللهُ أنَّه سيَكونُ مِنكم آخَرونَ يُسافِرونَ في الأرضِ؛ طَلَبًا للرِّزقِ، فيَضعُفونَ عن قيامِ اللَّيلِ [223] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/396)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258)، ((تفسير السعدي)) (ص: 894)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/286). قال ابنُ عاشور: (لأنَّ السَّيرَ في الأسفارِ يكونُ في اللَّيلِ كثيرًا، ويكونُ في النَّهارِ، فيَحتاجُ المسافِرُ للنَّومِ في النَّهارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/286). .
وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
أي: وآخَرونَ يُجاهِدونَ الكُفَّارَ؛ نُصْرةً لدِينِ اللهِ تعالى، وإعلاءً لكَلِمتِه، فيَشُقُّ عليهم قيامُ اللَّيلِ [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/396)، ((تفسير القرطبي)) (19/55)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258). .
فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
أي: فصَلُّوا -بعدَ أن خفَّفَ اللهُ عليكم في قيامِ اللَّيلِ- ما تيسَّرَ لكم مِن صلاةِ اللَّيلِ [225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/396)، ((تفسير ابن كثير)) (8/258)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/286). قال الواحدي: (قال المفَسِّرون: كان هذا في صَدْرِ الإسلامِ، ثمَّ نُسِخَ بالصَّلَواتِ الخَمْسِ عن المؤمِنينَ، وثَبَت على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خاصَّةً). ((الوسيط)) (4/378). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/33، 34). .
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ.
أي: وحافِظُوا -أيُّها المسلِمونَ- على إقامةِ الصَّلَواتِ المفروضةِ، بأركانِها وشُروطِها وواجِباتِها، وأعُطوا الزَّكاةَ الواجِبةَ عليكم في أموالِكم أهلَها المستَحِقِّينَ لها [226] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/398)، ((تفسير القرطبي)) (19/58)، ((تفسير ابن كثير)) (8/259)، ((تفسير السعدي)) (ص: 894). .
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.
مُناسَبَتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المرادُ بقولِه: وَآَتُوا الزَّكَاةَ الواجِبَ المعروفَ؛ أتْبَعَه سائِرَ الإنفاقاتِ المفروضةِ والمندوبةِ -على قولٍ-، فقال [227] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/35). :
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا.
أي: وتَصَدَّقوا مِن طَيِّبِ أموالِكم بإخلاصٍ للهِ تعالى، ودونَ مَنٍّ ولا أذًى [228] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/398)، ((تفسير القرطبي)) (19/58)، ((تفسير ابن كثير)) (8/259)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/287، 288). قيل: يَدخُلُ في هذا: الصَّدَقةُ الواجِبةُ والمستحَبَّةُ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 894). وقيل: المرادُ: الصَّدَقاتُ غَيرُ الواجِبةِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/287). وقال العُلَيمي: (هو الإنفاقُ في سُبُلِ الخَيرِ غير المفروضِ). ((تفسير العليمي)) (7/200). وقال أبو حيَّان: (وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا العطْفُ يُشعِرُ بالتَّغايُرِ؛ فقولُه: وَآَتُوا الزَّكَاةَ أمْرٌ بأداءِ الواجبِ، وَأَقْرَضُوا اللَّهَ أمْرٌ بأداءِ الصَّدَقاتِ الَّتي يُتطوَّعُ بها). ((تفسير أبي حيان)) (10/321). قال ابنُ عبَّاسٍ: (يُريدُ: سِوى الزَّكاةِ؛ مِن صِلَةِ الرَّحمِ، وقِرَى الضَّيفِ). يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (22/388). .
كما قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 262] .
وقال سُبحانَه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة: 245] .
وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا.
أي: وما تَفعَلوه في الدُّنيا مِن أيِّ وَجهٍ مِن وُجوهِ الخَيرِ؛ لِنَفعِ أنفُسِكم في الآخِرةِ، فإنَّكم تَجِدونَه يومَ القيامةِ مَحفوظًا لكم عِندَ اللهِ بأفضَلَ مِمَّا قدَّمْتُم، وأعظَمَ ثوابًا ممَّا عَمِلْتُم [229] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/479)، ((تفسير ابن جرير)) (23/398، 399)، ((تفسير السعدي)) (ص: 894)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/288، 289). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46] .
وقال سُبحانَه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فيما يَروي عن ربِّه عزَّ وجلَّ قال: ((إنَّ اللهَ كَتَب الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ، ثمَّ بيَّنَ ذلك، فمَنْ هَمَّ بحَسَنةٍ فلم يَعمَلْها، كتَبَها اللهُ له عندَه حَسَنةً كامِلةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعَمِلَها، كتَبَها اللهُ له عِندَه عَشْرَ حَسَناتٍ، إلى سَبْعِمئةِ ضِعْفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ)) [230] رواه البخاري (6491) واللفظ له، ومسلم (131). .
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ.
أي: واسألوا اللهَ أن يَمحُوَ عنكم ذُنوبَكم؛ عَيْنَها وآثارَها، فيَتجاوَزَ عنها ويَستُرَها [231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/399)، ((تفسير القرطبي)) (19/59)، ((تفسير ابن كثير)) (8/260)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/37)، ((تفسير الشوكاني)) (5/387)، ((تفسير السعدي)) (ص: 895)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 341). .
قال تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 106] .
وعن أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّه قال: ((يا عِبادي، إنَّكم تُخطِئُونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا؛ فاستَغفِروني أغفِرْ لكم )) [232] رواه مسلم (2577). .
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنَّ اللهَ عَظيمُ المغفرةِ لذُنوبِ عِبادِه، بليغُ الرَّحمةِ بهم [233] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/399)، ((الوسيط)) للواحدي (4/378)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/37)، ((تفسير الشوكاني)) (5/387). .
كما قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110] .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((قال اللهُ تبارك وتعالى: يا ابنَ آدمَ، إنَّك ما دعَوْتَني ورَجَوْتَني غفَرْتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابنَ آدَمَ، لو بلَغَت ذُنوبُك عَنانَ السَّماءِ، ثمَّ استَغفَرْتَني، غَفَرْتُ لك ولا أُبالي، يا ابنَ آدَمَ، إنَّك لو أتَيْتَني بقُرابِ الأرضِ خَطايا، ثمَّ لَقِيتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا، لَأَتَيْتُك بقُرابِها مَغفِرةً)) [234] أخرجه الترمذي (3540) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4305)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/231). صحَّحه ابنُ القيِّم في ((أعلام الموقعين)) (1/204)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3540)، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/400): (إسنادُه لا بأسَ به). وحسَّن إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريجِ ((رياض الصالحين)) (442). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ لَمَّا كان رُبَّما تغالى بعضُ النَّاسِ في العبادةِ، وشَقَّ على نَفْسِه، ورُبَّما شَقَّ على غَيرِه؛ أشار سُبحانَه وتعالى إلى الاقتصادِ؛ تخفيفًا لِما يَلحَقُ الإنسانَ مِنَ النَّصَبِ [235] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/28، 29). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَوَّى اللهُ تعالى في هذه الآيةِ بيْنَ دَرَجةِ المجاهِدينَ، والمكتسِبينَ المالَ الحلالَ للنَّفَقةِ على نَفْسِه وعيالِه، والإحسانِ، فكان هذا دليلًا على أنَّ كَسْبَ المالِ بمنزلةِ الجِهادِ؛ لأنَّ جَمْعَه مِن الجهادِ في سَبيلِ اللهِ [236] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/55)، ((تفسير ابن عادل)) (19/486). . وقدْ كان بَعضُ الصَّحابةِ يَتأوَّلُ مِن هذه الآيةِ فَضيلةَ التِّجارةِ والسَّفرِ للتَّجْرِ؛ حيث سوَّى اللهُ بيْن المجاهِدين والمُكتسِبينَ المالَ الحلالَ، يعني أنَّ اللهَ ما ذَكَرَ هذَين السَّببينِ لنسْخِ تَحديدِ القيامِ إلَّا تَنويهًا بهما؛ لأنَّ في غَيرِهما مِن الأعذارِ ما هو أشبَهُ بالمرَضِ، ودَقائقُ القرآنِ ولَطائفُه لا تَنحصِرُ [237] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/285، 286). .
3- قال اللهُ تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ قَولُه عزَّ وجَلَّ: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ هذا تذكيرٌ بأنَّ الصَّلَواتِ الواجِبةَ هي الَّتي تَحرِصونَ على إقامتِها وعدَمِ التَّفريطِ فيها، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوقُوتًا [النساء: 103] ، وفي هذا التَّعقيبِ بعَطفِ الأمرِ بإقامةِ الصَّلاةِ إيماءٌ إلى أنَّ في الصَّلَواتِ الخَمسِ ما يَرفَعُ التَّبِعةَ عن المؤمِنينَ، وأنَّ قيامَ اللَّيلِ نافِلةٌ لهم، وفيه خيرٌ كثيرٌ [238] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/287). .
4- قال الله تعالى: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وصْفُ القَرْضِ بالحُسنِ يُفيدُ الصَّدقةَ المُرادَ بها وَجْهُ اللهِ تعالَى، والسَّالِمةَ مِن المَنِّ والأذى، والحُسنُ مُتفاوِتٌ [239] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/288). .
5- قال تعالى: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا الحَسَنةُ بعَشْرِ أمثالِها إلى سَبْعِمئةِ ضِعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، ولْيُعلَمْ أنَّ مِثقالَ ذَرَّةٍ مِنَ الخَيرِ في هذه الدَّارِ يُقابِلُه أضعافُ أضعافِ الدُّنيا وما عليها في دارِ النَّعيمِ المقيمِ مِنَ اللَّذَّاتِ والشَّهَواتِ، وأنَّ الخيرَ والبِرَّ في هذه الدُّنيا مادَّةُ الخيرِ والبِرِّ في دارِ القرارِ، وبَذْرُه وأصلُه وأساسُه، فواأَسَفاه على أوقاتٍ مَضَت في الغَفَلاتِ! وواحَسْرَتاه على أزمانٍ تقَضَّت بغيرِ الأعمالِ الصَّالحاتِ! وواغَوْثاه من قلوبٍ لم يؤثِّرْ فيها وعظُ بارئِها، ولم يَنجَعْ فيها تشويقُ مَن هو أرحَمُ بها منها! فلك اللَّهمَّ الحمدُ، وإليك المشتكى، وبك المستغاثُ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بك [240] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 894). !
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ في الأمرِ بالاستِغفارِ بعدَ الحَثِّ على أفعالِ الطَّاعةِ والخَيرِ: فائِدةٌ كبيرةٌ؛ وذلك أنَّ العَبدَ ما يخلو مِن التَّقصيرِ فيما أُمِرَ به؛ إمَّا ألَّا يَفعَلَه أصلًا، أو يَفعَلَه على وجهٍ ناقِصٍ، فأُمِرَ بترقيعِ ذلك بالاستِغفارِ؛ فإنَّ العبدَ يُذنِبُ آناءَ اللَّيلِ والنَّهارِ، فمتى لم يتغَمَّدْه اللهُ برَحمتِه ومَغفِرتِه فإنَّه هالِكٌ [241] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 894). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ لَمَّا كان أكثَرُ أحوالِ الصَّلاةِ القِيامَ، عَبَّر به عنها [242] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/319). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ فيه وُجوبُ القِيامِ في الصَّلاةِ؛ فإنَّ العبادةَ إذا سُمِّيَتْ بما يُفْعَلُ فيها، دَلَّ على أنَّه واجِبٌ فيها [243] يُنظر: ((شرح العمدة لابن تيمية- كتاب الحج)) (2/542). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ احتَجَّ بَعْضُهم على تكليفِ ما لا يُطاقُ بأنَّه تعالى قال: لَنْ تُحْصُوهُ أي: لن تُطيقُوه، ثمَّ إنَّه كان قد كَلَّفَهم به، ويمكِنُ أن يُجابَ عنه بأنَّ المرادَ صُعوبتُه، لا أنَّهم لا يَقدِرونَ عليه، كقَولِ القائِلِ: ما أُطيقُ أن أنظُرَ إلى فُلانٍ، إذا استثقَلَ النَّظَرَ إليه [244] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/694). .
4- في قَولِه تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ التَّعبيرُ عن النَّسخِ بالتَّوبةِ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّه لولا النَّسخُ لَكان الإنسانُ آثِمًا؛ إمَّا بفِعلِ مُحَرَّمٍ، أو بتركِ واجِبٍ [245] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/347). وقال في قولِه تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187] : (كانوا في أوَّلِ الأمرِ إذا صلَّى أحدُهم العِشاءَ الآخِرةَ، أو إذا نام قبْلَ العِشاءِ الآخرةِ فإنَّه يَحرُمُ عليه الاستِمتاعُ بالمرأةِ والأكلِ والشُّربِ إلى غروبِ الشَّمسِ مِن اليومِ التَّالي؛ فشَقَّ عليهم ذلك مشَقَّةً عظيمةً، حتَّى إنَّ بعضَهم لم يَصبِرْ؛ فبيَّن اللهُ عزَّ وجلَّ حِكمتَه، ورحمتَه بنا، حيث أحلَّ لنا هذا الأمرَ؛ ولهذا قال تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [البقرة: 187] : أي تاب عليكم بنَسخِ الحُكمِ الأوَّلِ الَّذي فيه مشَقَّةٌ؛ والنَّسخُ إلى الأسهلِ تَوبةٌ). ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/347). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ هذه الآيةُ صالِحةٌ لأن تكونَ أصلًا للتَّعليلِ بالمَظِنَّةِ، وصالِحةٌ لأن تكونَ أصلًا تُقاسُ عليه الرُّخَصُ العامَّةُ الَّتي تُراعَى فيها مَشقَّةُ غالِبِ الأُمَّةِ، مِثلُ رُخصةِ بَيعِ السَّلَمِ، دونَ الأحوالِ الفَرديَّةِ والجُزئيَّةِ [246] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/287). .
6- في قَولِه تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ أنَّ قيامَ اللَّيلِ بالصَّلاةِ أفضَلُ مِن مجَرَّدِ قِراءةِ القُرآنِ والذِّكْرِ فيه؛ ولهذا نَقَلَهم سُبحانَه عندَ نَسْخِ وُجوبِ قيامِ اللَّيلِ إلى القِراءةِ [247] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (2/390). . وذلك على قولٍ.
7- قال الله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُؤخَذُ مِن الآيةِ أنَّ المريضَ والمسافِرَ والمجاهِدَ يُكْتَبُ له مِثْلُ ما كان يَعمَلُ [248] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (8/79). ويُنظر ما أخرَجه البخاري (2996). .
8- قال اللهُ تعالى: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِن حِكَمِ نَسخِ تحديدِ الوَقتِ في قيامِ اللَّيلِ -وذلك على قولٍ-: مراعاةُ أحوالٍ طرَأَت على المسلِمينَ مِن ضُروبِ ما تدعو إليه حالةُ الجماعةِ الإسلاميَّةِ، وذكَرَ مِن ذلك ثلاثةَ أضرُبٍ هي أصولُ الأعذارِ:
الضَّربُ الأوَّلُ: أعذارُ اختِلالِ الصِّحَّةِ، وقد شَمِلَها قَولُه تعالى: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى.
الضَّربُ الثَّاني: الأشغالُ الَّتي تدعو إليها ضَرورةُ العَيشِ مِن تجارةٍ وصِناعةٍ وحِراثةٍ وغَيرِ ذلك، وقد أشار إليها قَولُه تعالى: وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ، وفَضْلُ اللهِ هو الرِّزقُ.
 الضَّربُ الثَّالثُ: أعمالٌ لِمَصالحِ الأمَّةِ، وأشار إليها قَولُه تعالى: وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ودخل في ذلك حِراسةُ الثُّغورِ والرِّباطُ بها، وتدبيرُ الجُيوشِ، وما يَرجِعُ إلى نَشرِ دَعوةِ الإسلامِ مِن إيفادِ الوُفودِ، وبَعْثِ السُّفَراءِ، وهذا كُلُّه مِن شُؤونِ الأمَّةِ على الإجمالِ [249] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/285). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أصلٌ في التِّجارةِ [250] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 276). .
10- قال اللهُ تعالى: وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذه الآيةُ -بل السُّورةُ كُلُّها- مَكِّيَّةٌ، ولم يكُنِ القِتالِ شُرِعَ بَعْدُ، فهي مِن أكبَرِ دَلائِلِ النُّبُوَّةِ؛ لأنَّه مِن بابِ الإخبارِ بالمُغَيَّباتِ المُستقبَلةِ [251] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/258). .
11- في قَولِه تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ جوازُ قراءةِ المصلِّي أواخِرَ السُّوَرِ، وأواسِطَها، وأوائِلَها في الفَرضِ والنَّفْلِ [252] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (3/261). قال ابن القيِّم: (وكان مِن هَدْيِه قِراءةُ السُّورةِ كاملةً، ورُبَّما قرأها في الرَّكعتَينِ، ورُبَّما قرأ أوَّلَ السُّورةِ. وأمَّا قِراءةُ أواخِرِ السُّوَرِ وأوساطِها فلم يُحفَظْ عنه). ((زاد المعاد)) (1/208). . وجوازُ قراءةِ المصلِّي بعدَ الفاتحةِ سورتَينِ أو ثلاثًا، وله أنْ يَقْتَصِرَ على سُورةٍ واحدةٍ، أو يَقْسِمَ السُّورةَ إلى نِصفَينِ، وكلُّ ذلك جائزٌ؛ لعُمومِ الآيةِ الكريمةِ [253] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (13/156). . وأنَّه لا بأسَ مِن إعادةِ السُّورةِ مرَّةً أو مرَّتَينِ؛ سواءٌ في ركعةٍ أو في ركعتَينِ، وسواءٌ كان سَهوًا أو عَمدًا؛ لعُمومِ الآيةِ الكريمةِ [254] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (4/441). قال ابن كثير: (وقد استدَلَّ أصحابُ الإمامِ أبي حنيفةَ رحمه الله بهذه الآيةِ، وهي قولُه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ على أنَّه لا يتعيَّنُ قراءةُ الفاتحةِ في الصَّلاةِ، بل لو قرأ بها أو بغيرِها مِن القرآنِ ولو بآيةٍ، أجْزَأَه. واعتضَدوا بحديثِ المُسيءِ صلاتَه الَّذي في الصَّحيحَينِ: «ثمَّ اقرَأْ ما تيسَّر معك مِن القرآنِ». وقد أجابهم الجمهورُ بحديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ، وهو في الصَّحيحَينِ أيضًا: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: «لا صَلاةَ لِمَن لم يَقرَأْ بفاتحةِ الكِتابِ»، وفي صحيحِ مسلمٍ عن أبي هُرَيرةَ أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «كلُّ صلاةٍ لا يُقرأُ فيها بأمِّ الكِتابِ فهي خِداجٌ، فهي خِداجٌ، فهي خِداجٌ، غيرُ تمامٍ». وفي صحيحِ ابنِ خُزَيْمةَ عن أبي هُرَيرةَ مرفوعًا: «لا تُجزئُ صلاةُ مَن لم يَقرَأْ بأمِّ القرآنِ»). ((تفسير ابن كثير)) (8/258). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصَّاص (1/20)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 276). قال ابن عاشور: (لا دَلالةَ في هذه الآيةِ على مِقْدارِ ما يُجزئُ مِن القراءةِ في الصَّلاةِ؛ إذْ ليسَ سِياقُها في هذا المَهْيَعِ، ولَئِنْ سَلَّمْنا، فإنَّ ما تَيسَّر مُجمَلٌ، وقد بَيَّنَه قولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «لا صلاةَ لِمَن لم يَقْرَأْ بفاتحةِ الكتابِ»). ((تفسير ابن عاشور)) (29/284). وقد ذهب المالكيَّةُ والشَّافعيَّةُ والحنابلةُ إلى أنَّ قراءةَ الفاتحةِ ركنٌ مِن أركانِ الصَّلاةِ، وفي قراءةِ المأمومِ خلفَ الإمامِ خلافٌ بينهم. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (33/47، 52). . وذلك على أنَّ المرادَ بالآيةِ قراءةُ ما تيسَّر بعدَ الفاتحةِ.
12- في قَولِه تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ أنَّه ليس على الإمامِ في صلاةِ التَّراويحِ في رمضانَ أنْ يَخْتِمَ القرآنَ؛ لعُمومِ الآيةِ الكريمةِ، ولكِنْ إنْ خَتَمَه مِن أجْلِ أنْ تكونَ الجماعةُ الَّذين وراءَه يَستَمِعونَ إلى كتابِ اللهِ سُبحانَه وتعالى مِن أَوَّلِه إلى آخِرِه، كان خَيرًا، وإنْ لم يَفْعَلْ فلا حَرَجَ [255] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (5/68). ، وأيضًا أنَّه لا حَرَجَ أنْ يَقْرَأَ الإمامُ أجزاءً مُتفَرِّقةً في قيامِ رمضانَ في التَّراويحِ؛ لعُمومِ الآيةِ الكريمةِ [256] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (5/72). . وذلك على أنَّ المرادَ بالآيةِ قِراءةُ ما تيسَّر بعدَ الفاتحةِ.
13- قال اللهُ تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ أي: أقيمُوا صَلاتَكم الواجِبةَ عليكم، وآتُوا الزَّكاةَ المفروضةَ. وهذا يدُلُّ لِمَن قال: إنَّ فَرْضَ الزَّكاةِ نَزَل بمكَّةَ، لكِنَّ مَقاديرَ النُّصُبِ والمُخْرَجِ لم تُبَيَّنْ إلَّا بالمدينةِ. واللهُ أعلمُ [257] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/259). .
14- إذا كانتْ هذه الآيةُ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ ... ممَّا نزَلَ بمكَّةَ ففيها بِشارةٌ بأنَّ أمْرَ المسلمينَ صائرٌ إلى استِقلالٍ وقَتَرةٍ على أعدائِهم، فيُقاتِلون في سَبيلِ اللهِ، وإنْ كانت مَدَنيَّةً فهو عذْرٌ لهم عن صَلاةِ القيامِ بسَببِ ما ابتَدؤوا فيه مِن السَّرايا والغزَواتِ [258] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/285). .

بلاغة الآية :

- قولُه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ جُملةٌ مُستأنَفةٌ مَسوقةٌ لإيضاحِ ما أُجمِلَ في أوَّلِ السُّورةِ [259] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/269). .
- وافتِتاحُ الكلامِ بقولِه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ يُشعِرُ بالثَّناءِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لوَفائِه بحَقِّ القيامِ الَّذي أُمِرَ به، وأنَّه كان يَبسُطُ إليه، ويَهتَمُّ به، ولم يَقتصِرْ على القدْرِ المُعيَّنِ فيه؛ النِّصفِ، أو أنقَصَ منه قليلًا، أو زائدٍ عليه، بلْ أخَذَ بالأقْصى، وذلك ما يَقرُبُ مِن ثُلُثي اللَّيلِ، كما هو شأْنُ أُولي العزْمِ [260] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/280). .
- وتَأكيدُ الخبَرِ بحرْفِ (إنَّ) للاهتمامِ به، وهو كِنايةٌ عن أنَّه أرْضَى ربَّه بذلك، وتَوطئةٌ للتَّخفيفِ الَّذي سيُذكَرُ في قولِه: فَتَابَ عَلَيْكُمْ؛ ليُعلَمَ أنَّه تَخفيفُ رَحمةٍ وكَرامةٍ، ولإفراغِ بَعضِ الوقتِ مِن النَّهارِ للعمَلِ والجِهادِ [261] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/280). .
- وإيثارُ المُضارِعِ في قولِه: يَعْلَمُ؛ للدَّلالةِ على استِمرارِ ذلك العِلمِ وتَجدُّدِه، وذلك إيذانٌ بأنَّه بمَحلِّ الرِّضا منه، وفي ضِدِّه قولُه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب: 18] ؛ لأنَّه في مَعرِضِ التَّوبيخِ، أي: لمْ يَزَلْ عالِمًا بذلك حِينًا فحِينًا، لا يَخْفَى عليه منه حِصَّةٌ [262] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/281). .
- وإنَّما عُبِّرَ بالأدْنى -وهو الأقربُ- عن الأقلِّ؛ لأنَّ المسافةَ إذا دَنَت بيْنَ الشَّيئينِ قلَّ ما بيْنَهما مِن الأحيازِ، وإذا بعُدَت كثُرَ ذلك [263] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/643)، ((تفسير البيضاوي)) (5/257)، ((تفسير أبي حيان)) (10/319)، ((تفسير أبي السعود)) (9/53)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/281)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/269). .
- وقُرِئَ ونِصفِه وثُلثِه بخفْضِهما عطْفًا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، أي: أدْنى مِن نِصفِه، وأدْنى مِن ثُلثِه. وقُرِئَ بنصْبِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ، على أنَّهما مَنصوبانِ على المفعولِ لـ تَقُومُ، أي: تَقومُ ثُلُثَيِ اللَّيلِ، وتَقومُ نِصفَ اللَّيلِ، وتَقومُ ثُلثَ اللَّيلِ، بحيث لا يَنقُصُ عن النِّصفِ وعن الثُّلثِ. وهذه أحوالٌ مُختلِفةٌ في قِيامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باللَّيلِ، تابعةٌ لاختلافِ أحوالِ اللَّيالي والأيَّامِ في طُولِ بَعضِها وقِصَرِ بَعضٍ، وكلُّها داخلةٌ تحتَ التَّخييرِ الَّذي خيَّرَه اللهُ في قولِه: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] إلى قولِه: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 4] ، وبه تَظهَرُ مُناسَبةُ تَعقيبِ هذه الجُملةِ بالجُملةِ المُعترِضةِ، وهي جُملةُ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أي: قدْ عَلِمَها اللهُ كلَّها، وأنْبَأَه بها، فلا يَختلِفُ المقصودُ باختلافِ القراءاتِ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/281). .
- قولُه: وَطَائِفَةٌ عطْفٌ على اسمِ (إنَّ) بالرَّفعِ، وهو وجْهٌ جائزٌ إذا كان بعْدَ ذِكرِ خبَرِ (إنَّ)؛ لأنَّه يُقدَّرُ رفْعُه حِينَئذٍ على الاستِئنافِ، كما في قولِه تعالَى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة: 3] ، وهو مِن اللَّطائفِ إذا كان اتِّصافُ الاسمِ والمعطوفِ بالخبَرِ مُختلِفًا؛ فإنَّ بيْنَ قِيامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقِيامِ الطَّائفةِ الَّتي معه تَفاوُتًا في الحكْمِ والمِقدارِ، وكذلك بَراءةُ اللهِ مِن المُشرِكينَ وبَراءةُ رَسولِه؛ فإنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدْعوهم، ويَقرَأُ عليهم القُرآنَ، ويُعامِلُهم، وأمَّا اللهُ فغاضِبٌ عليهم ولاعِنُهُم، وهذا وجْهُ العُدولِ عن أنْ يقولَ: إنَّ اللهَ يَعلَمُ أنَّكم تَقومون، إلى قولِه: أَنَّكَ تَقُومُ، ثمَّ قولِه: وَطَائِفَةٌ ... إلخ [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/281، 282). .
- وصدْرُ هذه الآيةِ إيماءٌ إلى الثَّناءِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في وَفائِه بقِيامِ اللَّيلِ حقَّ الوفاءِ، وعلى الطَّائفةِ الَّذين تابَعُوه في ذلك؛ فالخبَرُ بأنَّ اللهَ يَعلَمُ أنَّك تَقومُ مُرادٌ به الكِنايةُ عن الرِّضا عنهم فيما فَعَلوا، والمَقصودُ التَّمهيدُ لقولِه: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ إلى آخِرِ الآيةِ، ومِن أجْلِ هذا الاعتبارِ أُعِيدَ فِعلُ (عَلِمَ) في جُملةِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى ... إلخ، ولم يقُلْ: (وأنْ سيَكونُ منكم مَرْضى) بالعطْفِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/282). .
- قولُه: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أي: ولا يَقدِرُ على تَقديرِ اللَّيلِ والنَّهارِ ومَعرفةِ مَقاديرِ ساعاتِهما إلَّا اللهُ وحْدَه. وتَقديمُ اسمِه تعالَى مُبتدأً مَبنيًّا عليه يُقَدِّرُ يُشعِرُ بالاختِصاصِ، ويُؤيِّدُه قولُه: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ، أي: لنْ تُحْصوا تَقديرَ الأوقاتِ، ولن تَستطيعوا ضَبْطَ السَّاعاتِ. أو إنَّما استُفِيدَ الاختِصاصُ مِن سِياقِ الكلامِ، لا مِن تَقديمِ المُبتدأِ. أو إفادةُ الاختِصاصِ مِن خُصوصيَّةِ الاسمِ الجامعِ مع التَّركيبِ؛ لِما تَجِدُ التَّفاوُتَ بيْن ما عليه التِّلاوةُ وقولِنا: يُقدِّرُ اللهُ اللَّيلَ [267] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/643)، ((تفسير البيضاوي)) (5/257)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/103، 104)، ((تفسير أبي حيان)) (10/320)، ((تفسير أبي السعود)) (9/53). .
- وجُملةُ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يَجوزُ أنْ تكونَ خبَرًا ثانيًا عن (إنَّ) بعْدَ الخبَرِ في قولِه: يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ ... إلخ. ويَجوزُ أنْ تكونَ استِئنافًا بَيانيًّا لِما يَنشَأُ عن جُملةِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ؛ مِن تَرقُّبِ السَّامعِ لمَعرفةِ ما مُهِّدَ له بتلكَ الجُملةِ؛ فبعْدَ أنْ شَكَرَهم على عَمَلِهم، خفَّفَ عنْهم منه [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/283). .
- والخِطابُ في قولِه: تُحْصُوهُ وما بَعْدَه مُوجَّهٌ إلى المسلمينَ الَّذين كانوا يَقومونَ اللَّيلَ: إمَّا على طَريقةِ الالْتفاتِ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ بعْدَ قولِه: وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ. وإمَّا على طَريقةِ العامِّ المُرادِ به الخُصوصُ؛ بقَرينةِ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لا يُظَنُّ تعذُّرُ الإحصاءِ عليه، وبقَرينةِ قولهِ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى إلخ [269] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/283). .
- وقولُه: فَتَابَ عَلَيْكُمْ مُفرَّعٌ على قولِه: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ؛ لعدَمِ المُؤاخَذةِ قبْلَ حُصولِ التَّقصيرِ؛ لأنَّ التَّقصيرَ مُتوقَّعٌ، فشابَهَ الحاصلَ، فعُبِّرَ عن عدَمِ التَّكليفِ بما يُتوقَّعُ التَّقصيرُ فيه بفِعلِ (تاب) المُفيدِ رفْعَ المُؤاخَذةِ بالذَّنْبِ بعْدَ حُصولِه [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/283). .
- ومعنى قولِه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ فصَلُّوا ما تيسَّرَ لكم، لَمَّا كانت الصَّلاةُ لا تَخْلو عن قِراءةِ القُرآنِ، عُبِّر عنها بالقِراءةِ؛ لأنَّها بَعضُ أركانِها؛ فقِيل: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ، أي: صَلُّوا، كقولِه تعالى: وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ [الإسراء: 78] ، أي: صلاةَ الفَجرِ [271] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/643)، ((تفسير البيضاوي)) (5/257)، ((تفسير أبي حيان)) (10/321)، ((تفسير أبي السعود)) (9/53)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/283). .
- وفي الكِنايةِ عن الصَّلاةِ بالقُرآنِ جمْعٌ بيْن التَّرغيبِ في القِيامِ، والتَّرغيبِ في تِلاوةِ القُرآنِ فيه بطَريقةِ الإيجازِ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/284). .
- قولُه: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استِئنافٌ يُبيِّنُ حِكمةً أُخرى مُقتضيةً للتَّرخيصِ والتَّخفيفِ، وهي تَعذُّرُ القِيامِ على المَرْضى، والضَّارِبينَ في الأرضِ للتِّجارةِ وللأشغالِ الَّتي تَدْعو إليها ضَرورةُ العَيشِ، والمُجاهِدينَ في سَبيلِ اللهِ؛ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ كُرِّرَ ذلك على سَبيلِ التَّوكيدِ [273] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/257، 258)، ((تفسير أبي السعود)) (9/53). .
- أو استِئنافٌ على تَقديرِ السُّؤالِ عن وَجْهِ النَّسخِ وحِكمتِه [274] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/644)، ((تفسير أبي حيان)) (10/321). .
- وهذه الجُملةُ بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ، وهذا تَخفيفٌ آخَرُ مِن أجْلِ أحوالٍ أُخرى اقتَضَت التَّخفيفَ [275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/285). .
- وقدْ سوَّى اللهُ بيْن المُجاهِدينَ والمسافِرينَ لكسْبِ الحَلالِ؛ وذلك أنَّه أُعِيدَ ذِكْرُ وَآَخَرُونَ، وقُوبِلَ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ بقولِه: يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثمَّ جُمِعَا في قولِه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، لفْظًا مِن حيثُ الضَّميرُ، وحُكمًا في الأمْرِ بالقراءةِ على سَبيلِ التَّيسيرِ، وكان أصلُ الكلامِ: عَلِمَ أنْ سيَكونُ منْكم مَرْضَى ومُسافِرون، فقَسَمَهم قِسمَين: المُبتغينَ مِن فضْلِ اللهِ والمُجاهِدينَ، ولم يَكتَفِ بذلك، بل قدَّمَ المسافرينَ على المجاهِدينَ [276] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/643)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/105، 106). .
- وسُمِّيَ السَّيرُ في الأرضِ ضَرْبًا في الأرضِ؛ لتَضمينِ فِعلِ يَضْرِبُونَ معْنى يَسيرون؛ فإنَّ السَّيرَ ضرْبٌ للأرضِ بالرِّجلَينِ، لكنَّه تُنُوسِيَ منه معْنى الضَّربِ وأُرِيدَ المشْيُ، فلذلك عُدِّيَ بحرْفِ (فِي)؛ لأنَّ الأرضَ ظرْفٌ للسَّيرِ، كما قال تعالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/286). [آل عمران: 137] .
- وفُرِّعَ على الابتغاءِ مِن فضْلِ اللهِ مِثلُ ما فُرِّعَ على الَّذي قبْلَه فقال: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ، أي: مِن القرآنِ، وقد نِيطَ مِقدارُ القيامِ بالتَّيسيرِ على جَميعِ المسلمينَ وإنِ اختَلَفَت الأعذارُ [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/286). .
- وفي قولِه: وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا شُبِّهَ إعطاءُ الصَّدقةِ للفَقيرِ بقرْضٍ يُقرِضُه اللهَ؛ لأنَّ اللهَ وَعَدَ على الصَّدقةِ بالثَّوابِ الجزيلِ، فشابَهَ حالُ مُعْطي الصَّدقةِ مُستجيبًا رَغبةَ اللهِ فيه، بحالِ مَن أقرَضَ مُستقرِضًا في أنَّه حَقيقٌ بأنْ يُرجِعَ إليه ما أقْرَضَه، وذلك في الثَّوابِ الَّذي يُعطاهُ يومَ الجَزاءِ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/286). .
- قولُه: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا تَذْييلٌ لِما سَبَقَ مِن الأمْرِ في قولِه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا؛ فإنَّ قولَه: مِنْ خَيْرٍ يعُمُّ جَميعَ فِعلِ الخيرِ [280] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/288). .
- وفي الكلامِ إيجازُ حَذْفٍ، وتَقديرُ المحذوفِ: وافْعَلوا الخيرَ وما تُقدِّمُوا لأنفُسِكم منه تَجِدوه عندَ اللهِ، فاستُغْنِيَ عن المحذوفِ بذِكرِ الجزاءِ على الخيرِ [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/288). .
- ومعْنى تَقديمِ الخيرِ: فِعلُه في الحياةِ؛ شُبِّهَ فِعلُ الخَيرِ في مُدَّةِ الحياةِ -لرَجاءِ الانتفاعِ بثَوابِه في الحياةِ الآخِرةِ- بتَقديمِ العازمِ على السَّفرِ ثَقَلَه -وهو متاعُ المُسافِرِ وحَشَمُه- وأدواتِه وبَعضَ أهْلِه إلى المحلِّ الَّذي يَرومُ الانتهاءَ إليه؛ ليَجِدَ ما يَنتفِعُ به وقْتَ وُصولِه [282] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/288). .
- ومِنْ خَيْرٍ بَيانٌ لإبهامِ (ما) الشَّرطيَّةِ [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/288). .
- ومعنى تَجِدُوهُ تَجِدوا جَزاءَه وثَوابَه، وهو الَّذي قَصَدَه فاعلُه، فكأنَّه وَجَدَ نفْسَ الَّذي قدَّمَه، وهذا استعمالٌ كَثيرٌ في القرآنِ والسُّنَّةِ؛ أنْ يُعبَّرَ عن عِوَضِ الشَّيءِ وجَزائِه باسمِ المُعوَّضِ عنه والمُجازى به [284] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/288). .
- وأفاد ضَميرُ الفصْلِ (هو) مُجرَّدَ التَّأكيدِ لتَحقيقِه [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/289). .
- ويَجوزُ أنْ تكونَ الواوُ في قولِه: وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للعطْفِ، فيَكونَ مَعطوفًا على جُملةِ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ... إلخ، فيَكونَ لها حُكمُ التَّذييلِ؛ إرشادًا لتَدارُكِ ما عَسى أنْ يَعرِضَ مِن التَّفريطِ في بَعضِ ما أمَرَه اللهُ بتَقديمِه مِن خَيرٍ؛ فإنَّ ذلك يَشملُ الفرائضَ الَّتي يَقْتضي التَّفريطُ في بَعضِها تَوبةً منه. ويَجوزُ أنْ يكونَ استِئنافًا بَيانيًّا ناشئًا عن التَّرخيصِ في ترْكِ بَعضِ القيامِ؛ إرشادًا مِن اللهِ لِما يَسُدُّ مَسدَّ قِيامِ اللَّيلِ الَّذي يَعرِضُ ترْكُه بأنْ يَستغفِرَ المُسلِمُ ربَّه إذا انتَبَهَ مِن أجزاءِ اللَّيلِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/289). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعليلٌ للأمرِ بالاستِغفارِ، أي: لأنَّ اللهَ كَثيرُ المغفرةِ، شَديدُ الرَّحمةِ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/290)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/271). . والمَقصودُ مِن هذا التَّعليلِ التَّرغيبُ والتَّحريضُ على الاستِغفارِ بأنَّه مَرجوُّ الإجابةِ. فقَرْنُ الحُكْمِ بالعِلَّةِ في مِثْلِ هذا يفيدُ الإقدامَ والنَّشاطَ على استِغفارِ اللهِ عزَّ وجلَّ. وفي الإتيانِ بالوصفَينِ الدَّالَّينِ على المُبالَغةِ في الصِّفةِ إيماءٌ إلى الوعْدِ بالإجابةِ [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/290)، ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/431). .