موسوعة التفسير

سورةُ المُزَّمِّلِ
الآيات (1-9)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ

غريب الكلمات:

الْمُزَّمِّلُ: أي: المتَلَفِّفُ في ثيابِه، وأصلُه: المتَزَمِّلُ: أُدغِمَت التَّاءُ في الزَّايِ، والتَّزَمُّلُ: الالتِفافُ في الثِّيابِ بضَمٍّ وتشميرٍ، وأصلُ التَّزَمُّلِ مُشتَقٌّ مِنَ الزَّمْلِ: وهو الإخفاءُ، وقيل: المزَّمِّلُ: الَّذي زُمِّلَ أمْرًا عظيمًا هو أمرُ النُّبوَّةِ، أي: حُمِّلَه، والزِّمْلُ: الحِمْلُ، وازْدَمَلَه أي: احتمَلَه، وأصلُ (زمل) على ذلك: يدُلُّ على حَمْلِ ثِقْلٍ مِن الأثْقالِ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 493)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/25)، ((المفردات)) للراغب (ص: 383)، ((تفسير البغوي)) (8/246)، ((تفسير الزمخشري)) (4/636)، ((تفسير ابن عطية)) (5/386)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/256). .
وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا: أي: بَيِّنْه تبيينًا، واقرَأْهُ على تمهُّلٍ، والتَّرتيلُ في القراءةِ: التَّبْيينُ لها، وإشباعُ الحرَكاتِ، وبيانُ الحروفِ، كأنَّه يَفْصِلُ بيْنَ الحرفِ والحرفِ، ومنه قيل: ثَغْرٌ رَتِلٌ ورَتَلٌ، إذا كان مُفَلَّجًا لا يَركَبُ بعضُه بعضًا، والرَّتَلُ: اتِّساقُ الشَّيءِ وانتِظامُه على استِقامةٍ، والتَّرتيلُ: إرسالُ الكلمةِ مِن الفَمِ بسُهولةٍ واستِقامةٍ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 262)، ((تفسير ابن جرير)) (23/362)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 242)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (3/712)، ((المفردات)) للراغب (ص: 341)، ((البسيط)) للواحدي (22/351)، ((تفسير ابن جزي)) (2/423)، ((تفسير ابن كثير)) (8/250). .
نَاشِئَةَ اللَّيْلِ: أي: آناءَ اللَّيلِ وساعاتِه، مأخوذةٌ مِن: نَشَأَتْ نَشْأً، أي: ابتَدَأَتْ، وأقبَلَت شيئًا بعدَ شَيءٍ. وقيل: النَّاشِئةُ: القيامُ، مَصدَرٌ جاء على فاعِلةٍ، كالعافيةِ بمعنى العَفوِ. فهي بمعنى: قيامِ اللَّيلِ، والنَّاشِئةُ إنَّما تكونُ بعدَ النَّومِ، يُقالُ: نشَأَ: إذا قام بعدَ النَّومِ، وأصلُ (نشأ): يدُلُّ على ارتفاعٍ في شَيءٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 493)، ((تفسير ابن جرير)) (23/366)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/428)، ((البسيط)) للواحدي (22/355)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/495)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/11). .
وَطْئًا: أي: كُلْفةً ومَشَقَّةً، مِن قَولِك: اشتَدَّت على القَومِ وَطْأةُ سُلْطانِهم: إذا ثَقُل عليهم ما يُلزِمُهم ويأخُذُهم به. وقيل: أي: أوطَأُ للقيامِ، وأسهَلُ للمُصَلِّي مِن ساعاتِ النَّهارِ، وأصلُ (وطأ): يدُلُّ على تمهيدِ شَيءٍ وتَسهيلِه [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 493)، ((تفسير ابن جرير)) (23/370)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/120)، ((البسيط)) للواحدي (22/360)، ((تفسير البغوي)) (8/254)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/11). .
وَأَقْوَمُ قِيلًا: أي: أصْوَبُ قِراءةً، وأصحُّ قولًا، وأسَدُّ مقالًا، وقيل: أخلَصُ للقَولِ وأسمَعُ له، وأصل (قوم) هنا: يدُلُّ على انْتِصابٍ أو عَزْمٍ [9] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/373)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/43)، ((تفسير البغوي)) (5/169)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 423)، ((تفسير الرسعني)) (8/ 334)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 739). .
سَبْحًا: أي: تصَرُّفًا وتقلُّبًا في مُهمَّاتِك وحَوائجِك وأشغالِك، أو: فراغًا طويلًا، وسَعةً لتصَرُّفِك، وقضاءِ حوائجِك، قيل: أصلُ السَّبْحِ: سُرعةُ الذَّهابِ، وقيل: السَّبْحُ: التَّباعُدُ، فالمعنى: مُتباعَدًا في المَذهبِ والمُدَّةِ لِما تُريدُ مِن قضاءِ حوائجِك، وأصلُ (سبح) هنا: جِنْسٌ مِن السَّعْيِ [10] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 494)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 270)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/125)، ((المفردات)) للراغب (ص: 392)، ((البسيط)) للواحدي (13/246) و(22/364)، ((تفسير البغوي)) (5/169)، ((تفسير الرسعني)) (8/335). .
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا: أي: انقَطِعْ إليه في العبادةِ انقِطاعًا، والتَّبَتُّلُ: الانقِطاعُ، وهو تفَعُّلٌ مِنَ البَتلِ: وهو القَطعُ، ومِنه سُمِّيَت مَريمُ: البَتُولَ؛ لانقِطاعِها عن الأزواجِ، وأصلُ (بتل): يدُلُّ على إبانةِ الشَّيءِ مِن غَيرِه [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/377)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/195، 196)، ((المفردات)) للراغب (ص: 107)، ((تفسير البغوي)) (8/255). .
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا: أي: حافِظًا ومُدَبِّرًا لأمورِك كلِّها، قائمًا بها، ففَوِّضْها إليه، والوكيلُ هو القائمُ بالأمورِ، والَّذي تُوكَلُ إليه الأشياءُ، فَعيلٌ بمعنى المفعولِ، والتَّوكيلُ: أن تَعتمِدَ على غيرِك وتَجعَلَه نائبًا عنك، وأصلُ (وكل): يدُلُّ على اعتِمادِ غيرِك في أمرِك [12] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/136)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/2031)، ((المفردات)) للراغب (ص: 882)، ((تفسير البغوي)) (5/169)، ((تفسير ابن جزي)) (2/424)، ((تفسير الشوكاني)) (5/381)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893). .

المعنى الإجمالي:

افتتح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بنِداءِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِداءً مِلْؤُه التَّلَطُّفُ والتَّحَبُّبُ إليه، قائِلًا له: يا أيُّها الَّذي التَفَّ بالثِّيابِ وضَمَّها عليه، قُمْ كلَّ اللَّيلِ للصَّلاةِ فيه إلَّا قَليلًا منه، أو قُمْ نِصْفَ اللَّيلِ، أو انقُصْ مِنَ النِّصفِ قَليلًا، أو زِدْ على نِصفِ اللَّيلِ؛ فلا حَرَجَ عليك فيما فعَلْتَ، واقرَأِ القُرآنَ بتمَهُّلٍ وتُؤَدَةٍ وتَبيينٍ لحُروفِه؛ إنَّا سنُنزِلُ عليك قُرآنًا عظيمًا ثقيلًا لرَزانةِ ألفاظِه؛ لامتِلائِها بالمعاني مع جلالتِها، ولِما فيه مِن التَّكاليفِ الشَّاقَّةِ على النَّفْسِ -لِمُخالَفتِها هواها-، ولِما له مِن قَدْرٍ عَظيمٍ، وهو ثقيلٌ في الميزانِ، ولا يَقدِرُ الكافرُ على رَدِّه، أو الطَّعنِ فيه بوجهٍ.
ثمَّ يُبيِّنُ -سُبحانَه- الحِكمةَ مِن أمْرِه النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقيامِ اللَّيلِ إلَّا قليلًا منه، فيقولُ: إنَّ ساعاتِ اللَّيلِ بعدَ القيامِ مِنَ النَّومِ: أثْقَلُ على المصَلِّي وأشَقُّ مِن صلاةِ النَّهارِ -لأنَّ اللَّيلَ وقتُ النَّومِ والرَّاحةِ والسُّكونِ- وأصْوَبُ قِراءَةً وأصحُّ قَولًا؛ لهدوءِ النَّاسِ، وسُكونِ الأصواتِ.
 ثمَّ يقولُ تعالى مقرِّرًا للأمرِ بقيامِ اللَّيلِ إلَّا قليلًا منه: إنَّ لك -يا محمَّدُ- في النَّهارِ سَعَةً مِنَ الوَقتِ وفَراغًا طويلًا تتقلَّبُ فيه في شُؤونِ حَياتِك.
ثمَّ يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم بالإكثارِ مِن ذِكْرِه، والانقطاعِ إليه، والتَّوكُّلِ عليه، فيقولُ: واذْكُرِ اسمَ ربِّك في كُلِّ وَقتٍ، وانقَطِعْ على عِبادتِه انقِطاعًا تامًّا، هو سُبحانَه ربُّ المشرِقِ والمغرِبِ، لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا هو سُبحانَه؛ فاتَّخِذْه قائمًا بأمورِك، وفَوِّضْها إليه وَحْدَه.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1).
أي: يا أيُّها الَّذي التَفَّ بالثِّيابِ وضَمَّها عليه، يعني: النَّبيَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [13] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/475)، ((تفسير ابن كثير)) (8/249)، ((تفسير السعدي)) (ص: 892)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/256). قال البِقاعي: (مَدلولُه التَّلَفُّفُ في الثَّوبِ على جميعِ البدَنِ، والاختفاءُ ولُزومُ مكانٍ واحِدٍ). ((نظم الدرر)) (21/2). قيل: المرادُ بنِدائِه بالمزَّمِّلِ: طلَبُ تَركِ التَّزَمُّلِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزمخشريُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/634)، ((تفسير ابن كثير)) (8/249). قال ابنُ كثير: (يأمُرُ تعالى رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يترُكَ التَّزَمُّلَ، وهو: التَّغَطِّي في اللَّيلِ، ويَنهَضَ إلى القيامِ لرَبِّه عزَّ وجَلَّ، كما قال تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة: 16] ، كذلك كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ممتَثِلًا ما أمَرَه اللهُ تعالى به مِن قيامِ اللَّيلِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/249). وقيل: المرادُ وَصْفُه بالتَّزَمُّلِ بالثِّيابِ للصَّلاةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الفَرَّاءُ، وابنُ جرير. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/196)، ((تفسير ابن جرير)) (23/358). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/49). قال الزمخشري: (وقيل: كان متزَمِّلًا في مِرْطٍ لعائِشةَ يُصَلِّي، فهو... ثَناءٌ عليه، وتحسينٌ لحالِه الَّتي كان عليها، وأَمْرٌ بأن يَدومَ على ذلك ويواظِبَ عليه). ((تفسير الزمخشري)) (4/636). وقال ابنُ عطيَّةَ: (قال قَتادةُ: كان تزمَّلَ في ثيابِه للصَّلاةِ واستعَدَّ، فنُوديَ على معنى: يا أيُّها المُستَعِدُّ للعبادةِ المتزَمِّلُ لها. وهذا القَولُ مدحٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عطية)) (5/386). وقال ابنُ عطيَّةَ أيضًا: (وقال جمهورُ المفسِّرينَ والزُّهْريُّ بما في البخاريِّ [«3، 4» ومسلم «160، 161»] مِن أنَّه عليه السَّلامُ لَمَّا جاءه الملَكُ في غارِ حِراءٍ وحاوَرَه بما حاوره، رجَع رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى خديجةَ فقال: زَمِّلوني زَمِّلوني: فنزلتْ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1]، وعلى هذا نزَلَت: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/386). قال السَّخاوي: (والعلماءُ على أنَّه إنَّما نزَل عليه مِن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] إلى قولِه: عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5] ، ثمَّ نَزَل باقيها بعدَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ويَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. وقال جابرُ بنُ عبدِ الله: «يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أوَّلُ القرآنِ نُزولًا». والأكثرُ على ما قدَّمْتُه، وليس في قولِ جابرٍ ما يُناقِضُه؛ لأنَّ المُدَّثِّرَ مِن جملةِ ما نزَل أوَّلَ القرآنِ). ((جمال القراء وكمال الإقراء)) (1/105). ويُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (2/199، 207-208). وقال السيوطي: (وقد ذُكِر عن ابنِ عبَّاسٍ في ترتيبِ نُزولِ السُّورِ: أنَّ المُدَّثِّرَ نزلتْ عَقِبَ المُزَّمِّلِ [كذا] أخرجه ابنُ الضُّرَيْسِ، وأخرجه غيرُه عن جابرِ بنِ زَيدٍ). ((أسرار ترتيب القرآن)) (ص: 149). يُنظر: ((فضائل القرآن)) لابن الضُّرَيْسِ (17) (ص: 33). وقال ابن عاشور: (الأصَحُّ الَّذي تَضافَرَتْ عليه الأخبارُ الصَّحيحةُ: أنَّ أوَّلَ ما نَزَل سورةُ العَلَقِ، واختُلِفَ فيما نَزَل بعدَ سورةِ العَلَقِ؛ فقيل: سورةُ ن والقلمِ، وقيل: نَزَل بعدَ العَلَقِ سورةُ المدَّثِّرِ، ويَظهَرُ أنَّه الأرجحُ. ثُمَّ قيل: نَزَلتْ سورةُ المزَّمِّلِ بعدَ القلمِ، فتكونُ ثالثةً، وهذا قولُ جابرِ ابنِ زيدٍ في تَعدادِ نُزولِ السُّوَرِ. وعلى القولِ بأنَّ المدَّثِّرَ هي الثَّانيةُ يحتمِلُ أنْ تكونَ القلمُ ثالثةً والمزَّمِّلُ رابِعةً، ويحتمِلُ أنْ تكونَ المزَّمِّلُ هي الثَّالثةَ والقلمُ رابِعةً، والجمهورُ على أنَّ المدَّثِّرَ نَزَلتْ قبْلَ المُزَّمِّلِ، وهو ظاهرُ حديثِ عُروةَ بنِ الزُّبَيْرِ عن عائشةَ في بَدْءِ الوحيِ مِن «صحيح البُخاريِّ»[3]). ((تفسير ابن عاشور)) (29/254). وقال ابن حجر: (نُزولُها [أي: المزَّمِّلِ] تأخَّر عن نُزولِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بالاتِّفاقِ؛ لأنَّ أوَّلَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الأمرُ بالإنذارِ، وذلك أوَّلَ ما بُعِث، وأوَّلَ المُزَّمِّلِ الأمرُ بقيامِ اللَّيلِ وترتيلِ القرآنِ، فيَقتضي تقَدُّمَ نُزولِ كثيرٍ مِن القرآنِ قبْلَ ذلك). ((فتح الباري)) (8/722). .
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2).
أي: قُمْ -يا محمَّدُ- كلَّ اللَّيلِ للصَّلاةِ فيه إلَّا قَليلًا منه، فاجعَلْه للرَّاحةِ والنَّومِ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/358)، ((الوسيط)) للواحدي (4/371)، ((تفسير القرطبي)) (19/35)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/4)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/259). قال الماوَرْدي: (في فَرْضِه [أي: قيامِ اللَّيلِ] على مَنْ سِواه مِن أُمَّتِه قولان: أحدُهما: فُرِض عليه دونَهم؛ لتوَجُّهِ الخِطابِ إليه، ويُشبِهُ أن يكونَ قَولَ سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ. الثَّاني: أنَّه فُرِض عليه وعليهم، فقاموا حتَّى وَرِمَت أقدامُهم. قاله ابنُ عبَّاسٍ وعائشةُ. وقال ابنُ عبَّاسٍ: كانوا يقومون نحوَ قيامِه في شهرِ رمضانَ، ثمَّ نُسِخَ فَرضُ قيامِه على الأمَّةِ. واختُلِفَ بماذا نُسِخَ عنهم؛ على قولَينِ: أحدُهما: بالصَّلَواتِ الخَمسِ، وهو قولُ عائشةَ. الثَّاني: بآخِرِ السُّورةِ. قاله ابنُ عبَّاسٍ). ((تفسير الماوردي)) (6/125). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 353). والقَولُ بأنَّ أوَّلَ السُّورةِ مَنسوخٌ بآخرِها نسَبَه ابنُ سلامةَ إلى مُعظَمِ المفسِّرينَ، وهو ظاهرُ اختيارِ: ابنِ جرير، وابنِ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/358)، ((الناسخ والمنسوخ)) لابن سلامة (ص: 188)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/255). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وسعيدٌ، وعِكْرِمةُ، والحسَنُ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/360). قال السخاوي: (قلتُ: إنَّ ذلك ليس بنَسخٍ، وإنَّما هو تخفيفٌ مِن المِقْدارِ؛ لأنَّهم لا يُحصُونَه). ((جمال القراء وكمال الإقراء)) (2/879). وقال الشنقيطي: (الأخيرُ ناسخٌ للأوَّلِ، ثمَّ نُسِخ الأخيرُ أيضًا بالصَّلَواتِ الخَمْسِ). ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) (ص: 246). وممَّن قال بأنَّ فَرْضَ قيامِ اللَّيلِ مَنسوخٌ بالصَّلَواتِ الخَمسِ: الواحديُّ. يُنظر: ((الوجيز)) (ص: 1144). وقيل: نُسِخَ قيامُ اللَّيلِ في حَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقَولِه عزَّ وجلَّ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79]، ونُسِخَ في حقِّ المؤمنينَ بالصَّلَواتِ الخَمسِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/353). وقال ابن تيميَّةَ: (نقَلَهم عندَ نَسخِ وُجوبِ قيامِ اللَّيلِ إلى القِراءةِ، فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ الآيةَ [المزمل: 20] ، واللهُ أعلَمُ). ((مجموع الفتاوى)) (23/60). وقال أيضًا: (لَمَّا نسَخَ ما كان افترَضَه مِن قيامِ اللَّيلِ، فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20] ، فأمَرهم بقِراءةِ ما تيسَّر مِن القُرآنِ؛ فإنَّ مِن المُسلِمينَ المعذورَ بالمرَضِ، ومنهم التَّاجرَ الضَّارِبَ في الأرضِ يَطلُبُ فضْلَ اللهِ، ومنهم المقاتِلَ في سبيلِ الله). ((مجموع الفتاوى)) (23/84). وقال السَّخاوي: (وقيل: كان [أي: قيامُ اللَّيلِ] نَدْبًا، وهو الصَّوابُ إن شاء اللهُ تعالى، والقولُ بأنَّه كان تطَوُّعًا أوضَحُ منه. وقولُه عزَّ وجلَّ: قُمِ اللَّيْلَ: أي دُمْ على ما تطَوَّعْتَ به؛ مدحًا لحالِه، وتحسينًا لها). ((جمال القراء وكمال الإقراء)) (2/879). .
كما قال الله تبارك وتعالى: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17، 18].
وقال سُبحانَه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان: 26].
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3).
أي: قُمْ نِصْفَ اللَّيلِ، أو انقُصْ مِنَ النِّصفِ قَليلًا، فتُصَلِّي نحوَ ثُلُثِ اللَّيلِ [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/358)، ((الوسيط)) للواحدي (4/371)، ((تفسير ابن كثير)) (8/250)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893). .
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4).
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ.
أي: أو زِدْ في صَلاتِك على نِصفِ اللَّيلِ، فتُصَلِّي ثُلُثَيْه؛ فلا حَرَجَ عليك في قيامِ نِصفِ اللَّيلِ، أو أقَلَّ مِنَ النِّصفِ بقَليلٍ، أو أكثَرَ مِنَ النِّصفِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/358)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/259). قال الواحدي: (قال المفسِّرونَ: أو انقُصْ مِنَ النِّصفِ قليلًا إلى الثُّلُثِ، أو زِدْ على النِّصفِ قليلًا إلى الثُّلُثَينِ، جَعَل له سَعةً في مدَّةِ قيامِه في اللَّيلِ، وخَيَّرَه في السَّاعاتِ للقيامِ). ((الوسيط)) (4/371). .
عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقومُ مِنَ اللَّيلِ حتَّى تتفَطَّرَ قَدَماه، فقالت عائِشةُ: لِمَ تَصنَعُ هذا يا رَسولَ اللهِ، وقد غَفَر اللهُ لك ما تقَدَّمَ مِن ذَنْبِك وما تأخَّرَ؟! قال: أفلا أُحِبُّ أن أكونَ عَبدًا شَكورًا؟!)) [17] رواه البخاري (4837) واللفظ له، ومسلم (2820). .
وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا.
أي: واقرَأِ القُرآنَ بتمَهُّلٍ وتُؤَدَةٍ وتَبيينٍ لحُروفِه بلا عَجَلةٍ؛ فيَكونَ ذلك عَونًا على التَّفَكُّرِ فيه، وفَهْمِ مَعانيه [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/362)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/240)، ((تفسير ابن عطية)) (5/387)، ((تفسير القرطبي)) (19/37)، ((تفسير ابن كثير)) (8/250)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/8)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893). قال الداني: (أي: تلَبَّثْ في قراءتِه، وافصِلِ الحَرفَ مِنَ الحَرفِ الَّذي بعْدَه، ولا تَستَعجِلْ؛ فتُدخِلَ بَعضَ الحُروفِ في بَعضٍ). ((التحديد في الإتقان والتجويد)) (ص: 71). ويُنظر: ((الأم)) للشافعي (1/132)، ((التمهيد في علم التجويد)) لابن الجزري (ص: 48، 49)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/260). .
عن حَفْصةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرَأُ بالسُّورةِ فيُرَتِّلُها حتَّى تكونَ أطْوَلَ مِن أطْوَلَ مِنها )) [19] رواه مسلم (733). .
وعن قَتادةَ، قال: ((سألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ عن قِراءةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: كان يَمُدُّ مَدًّا)) [20] أخرجه البخاري (5045). .
وعن عبدِ الله بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُقالُ لصاحِبِ القُرآنِ: اقرَأْ وارتَقِ، ورَتِّلْ كما كُنتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيا؛ فإنَّ مَنزِلَتَك عندَ آخِرِ آيةٍ تَقرَأُ بها)) [21] أخرجه أبو داودَ (1464)، والترمذيُّ (2914) واللَّفظُ له، والنسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (8056)، وأحمدُ (6799). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ). وكذا قال الألبانيُّ في ((صحيح سنن الترمذي)) (2914). وصَحَّحَه ابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (766)، وصحَّحَه لغيرِه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (1464)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تخريج ((مسند أحمد)) (11/55). .
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
وَجهُ النَّظْمِ أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَه بصَلاةِ اللَّيلِ، فكأنَّه قال: إنَّما أمَرْتُك بصلاةِ اللَّيلِ؛ لأنَّا سنُلْقي عليك قولًا ثَقِيلًا، فلا بدَّ أن تَسعى في صَيرورةِ نَفْسِك مُستَعِدَّةً لذلك القَولِ الثَّقيلِ، ولا يَحصُلُ ذلك الاستِعدادُ إلَّا بصلاةِ اللَّيلِ [22] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/683، 684). ، فالجملةُ كالعلةِ لقيامِ الليلِ؛ فإنَّ الطاعةَ -سيَّما في اللَّيلِ- تُعينُ الرَّجلَ على نوائبِه، وتُسهِّلُ عليه المصائبَ [23] يُنظر: ((تفسير الإيجي)) (4/396). .
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5).
أي: إنَّا سنُنزِلُ عليك -يا محمَّدُ- قُرآنًا ثقيلًا لِما فيه مِن التَّكاليفِ الشَّاقَّةِ، ورَزانةِ ألفاظِه؛ لامتلائِها بالمعاني مع جلالتِها، وما له مِن قَدْرٍ عَظيمٍ، وهو ثقيلٌ في الميزانِ، ولا يَقدِرُ الكافرُ على رَدِّه، أو الطَّعنِ فيه بوجهٍ [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/366)، ((تفسير السمرقندي)) (3/509)، ((تفسير ابن عطية)) (5/387)، ((تفسير الرازي)) (30/683)، ((تفسير ابن كثير)) (8/251)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/10)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/ 261، 262). اختلَف المفسِّرونَ في معنى تسميةِ القرآنِ بالقَولِ الثَّقيلِ؛ فقيل: المرادُ: ثقيلٌ لِما فيه مِن الأوامرِ والنَّواهي، والحدودِ، والتَّكاليفِ الشَّاقَّةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والزمخشري، وأبو حيَّان، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/475)، ((تفسير ابن جرير)) (23/366)، ((تفسير السمرقندي)) (3/ 509)، ((تفسير الزمخشري)) (4/637، 638)، ((تفسير أبي حيان)) (10/314)، ((تفسير العليمي)) (7/193). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والحسَنُ في روايةٍ عنه، وأبو العاليةِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/365)، ((تفسير الثعلبي)) (10/60)، ((تفسير ابن كثير)) (8/251). وقيل: المرادُ: كَونُه رَصينًا رزينًا، ليس بالسَّفسافِ والخفيفِ؛ لأنَّه كلامُ اللهِ تعالى. وممَّن قال بهذا القولِ: الفرَّاءُ، والواحديُّ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/197)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1145). وقيل: المرادُ مِن كَونِه ثقيلًا: عِظَمُ قَدْرِه، وجلالةُ خَطَرِه. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الرازيُّ. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/683). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السعدي)) (ص: 893). قال ابنُ جُزَي: (واختُلِف في وَصفِه بالثِّقَلِ؛ على خمسةِ أقوالٍ: أحدُها: أنَّه سُمِّيَ ثقيلًا؛ لِما كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم يَلْقاه مِن الشِّدَّةِ عندَ نُزولِ الوَحيِ عليه، حتَّى إنَّ جَبينَه لَيَتفَصَّدُ عَرَقًا في اليومِ الشَّديدِ البَردِ، وقد كان يَثقُلُ جِسمُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بذلك، حتَّى إنَّه إذا أُوحِيَ إليه وهو على ناقتِه برَكَت به، وأُوحيَ إليه وفَخِذُه على فَخِذِ زَيدِ بنِ ثابتٍ، فكادت أن تَرُضَّ فَخِذَ زَيدٍ، والثِّقلُ على هذا حقيقةٌ. الثَّاني: أنَّه ثقيلٌ على الكُفَّارِ بإعجازِه ووعيدِه. الثَّالثُ: أنَّه ثقيلٌ في الميزانِ. الرَّابعُ: أنَّه كلامٌ له وَزنٌ ورُجحانٌ. الخامسُ: أنَّه ثقيلٌ لِما تضَمَّن مِن التكاليفِ والأوامِرِ والنَّواهي). ((تفسير ابن جزي)) (2/423). وقد ذهب البِقاعي إلى العُمومِ، فقال: (ثَقِيلًا أي: لِما فيه مِن التَّكاليفِ الشَّاقَّةِ مِن جِهةِ حَمْلِها وتحميلِها للمَدعُوِّينَ؛ لأنَّها تُضادُّ الطَّبعَ، وتُخالِفُ النَّفْسَ، ومِن جهةِ رَزانةِ لَفظِه؛ لامتِلائِه بالمعاني مع جلالةِ معناه، وتَصاعُدِه في خفاءٍ، فلا يَفهَمُه المتأمِّلُ ويَستَخرِجُ ما فيه مِن الجواهِرِ إلَّا بمَزيدِ فِكرٍ، وتصفيةِ سِرٍّ، وتجريدِ نَظَرٍ؛ فهو ثقيلٌ على الموافقِ مِن جميعِ هذه الوجوهِ وغَيرِها، وعلى المخالِفِ مِن جِهةِ أنَّه لا يَقدِرُ على رَدِّه، ولا يتمكَّنُ مِن طَعنٍ فيه بوجهٍ، مع أنَّه ثقيلٌ في الميزانِ، وعندَ تلَقِّيه، وله وزنٌ وخطرٌ وقَدْرٌ عَظيمٌ). ((نظم الدرر)) (21/10). .
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قراءةُ: وِطَاءً أي: أشَدُّ مُوافَقةً، والمعنى: أنَّ القراءةَ في اللَّيلِ يَتواطَأُ فيها قَلبُ المصَلِّي ولسانُه وسَمعُه على التَّفَهُّمِ والأداءِ أكثَرَ ممَّا يتواطَأُ عليه ذلك في النَّهارِ [25] قرأ بها أبو عَمرٍو، وابنُ عامرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/393). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/99)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 730). .
2- قِراءةُ: وَطْئًا قيل: المعنى: أشدُّ مُكابَدةً؛ فقيامُ اللَّيلِ أشَدُّ على الإنسانِ وأثقَلُ مِنَ القيامِ بالنَّهارِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جعَلَ اللَّيلَ سكنًا وراحةً. وقيل: معناه: أبيَنُ في القَولِ. وقيل: أثبَتُ في الحِفظِ. وقيل: معناه: أبلَغُ في الثَّوابِ [26] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/393). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/99، 100)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 730، 731). .
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6).
أي: إنَّ ساعاتِ اللَّيلِ بعدَ القيامِ مِنَ النَّومِ: أثْقَلُ على المصَلِّي وأشَقُّ مِن صلاةِ النَّهارِ -لأنَّ اللَّيلَ وقتُ النَّومِ والرَّاحةِ والسُّكونِ- وأصْوَبُ قِراءةً وأصحُّ قَولًا؛ لهدوءِ النَّاسِ، وسُكونِ الأصواتِ [27] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/366، 370، 373)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/240)، ((الوسيط)) للواحدي (4/373)، ((تفسير القرطبي)) (19/39-41)، ((تفسير ابن كثير)) (8/252)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/11)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/262، 263). وممَّن قال بأنَّ ناشِئةَ اللَّيلِ تكونُ بعدَ نَومٍ: ابنُ الأعرابيِّ، وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، ورجَّحه ابنُ تيميَّةَ، ونسَبَه لأكثرِ العلماءِ. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/354)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/495)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 133). قال ابن الجوزي: (... الثَّاني: أنَّها القيامُ بعدَ النَّومِ، وهذا قولُ عائشةَ، وابنِ الأعرابيِّ. وقد نصَّ عليه الإمامُ أحمدُ في روايةِ المَرُّوذي). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/354). وقال ابن تيميَّةَ: (نَاشِئَةَ اللَّيْلِ في أصَحِّ القولَينِ: إنَّما تكونُ بعدَ النَّومِ، يُقالُ: نشَأَ: إذا قام بعدَ النَّومِ؛ فإذا قام بعدَ النَّومِ كانت مواطأةُ قَلبِه لِلِسانِه أشَدَّ؛ لعدمِ ما يَشغَلُ القَلبَ، وزَوالِ أثَرِ حركةِ النَّهارِ بالنَّومِ، وكان قَولُه أقوَمَ). ((مجموع الفتاوى)) (22/495). وقال ابنُ تيميَّةَ أيضًا: (قَولُه تعالى: نَاشِئَةَ اللَّيْلِ عندَ أكثَرِ العلماءِ: هو إذا قام الرَّجُلُ بعدَ نَومٍ ليس هو أوَّلَ اللَّيلِ، وهذا هو الصَّوابُ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم هكذا كان يُصَلِّي، والأحاديثُ بذلك متواترةٌ عنه؛ كان يقومُ بعدَ النَّومِ، لم يكُنْ يقومُ بيْن العِشاءَينِ). ((مجموع الفتاوى)) (17/474). وقيل: المرادُ بناشئةِ اللَّيلِ: جميعُ ساعاتِه وأوقاتِه، فهي تنشأُ وقتًا بعدَ آخَرَ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/366)، ((تفسير ابن كثير)) (8/252). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ الزُّبَيرِ، وابنُ عبَّاسٍ، وعِكْرِمةُ، ومجاهدٌ، والضَّحَّاكُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/366). قال ابنُ جُزَي: (أَشَدُّ يحتَمِلُ معنيَينِ؛ أحَدُهما: أثقَلُ وأصعَبُ على المصَلِّي...، والأثقَلُ أعظَمُ أجرًا، فالمعنى تحريضٌ على قيامِ اللَّيلِ؛ لكثرةِ الأجرِ. الثَّاني: أشدُّ ثبوتًا مِن أجْلِ الخَلوةِ، وحُضورِ الذِّهنِ، والبُعدِ عن النَّاسِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/424). ممَّن ذهب إلى القولِ الأوَّلِ: ابنُ قُتَيْبةَ، والسمرقنديُّ، والسمعاني، والبغوي، والرَّسْعَني، والقرطبي، والشوكاني. يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 215)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 493)، ((تفسير السمرقندي)) (3/510)، ((تفسير السمعاني)) (6/79)، ((تفسير البغوي)) (5/168)، ((تفسير الرسعني)) (8/334)، ((تفسير القرطبي)) (19/40)، ((تفسير الشوكاني)) (5/380). وقال ابن جرير: (أشدُّ ثباتًا مِن النَّهارِ، وأثْبَتُ في القلبِ). ((تفسير ابن جرير)) (23/370). وقال ابن كثير: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أجمَعُ للخاطرِ في أداءِ القراءةِ وتَفَهُّمِها مِن قيامِ النَّهارِ؛ لأنَّه وقتُ انتِشارِ النَّاسِ، ولَغَطِ الأصواتِ، وأوقاتُ المعاشِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/252). وقال السعدي: (ذكَرَ الحِكمةَ في أمرِه بقيامِ اللَّيلِ، فقال: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ أي: الصَّلاةَ فيه بعدَ النَّومِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: أقرَبُ إلى تحصيلِ مقصودِ القُرآنِ، يتَواطأُ على القرآنِ القَلبُ واللِّسانُ، وتَقِلُّ الشَّواغِلُ، ويفهمُ ما يقولُ، ويستقيمُ له أمرُه، وهذا بخِلافِ النَّهارِ؛ فإنَّه لا يحصُلُ به هذا المقصودُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 893). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/263). وممَّن اختار المعنى المذكورَ في قولِه: وَأَقْوَمُ قِيلًا: ابنُ جرير، والثعلبيُّ، والبغوي، والرَّسْعَني، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/373)، ((تفسير الثعلبي)) (10/61)، ((تفسير البغوي)) (5/169)، ((تفسير الرسعني)) (8/334)، ((تفسير العليمي)) (7/195). قال القرطبي: (وَأَقْوَمُ قِيلًا أي: القراءةُ باللَّيلِ أقومُ منها بالنَّهارِ، أي: أشدُّ استِقامةً واستِمرارًا على الصَّوابِ؛ لأنَّ الأصواتَ هادئةٌ، والدُّنيا ساكنةٌ، فلا يَضْطَرِبُ على المصَلِّي ما يَقرَؤُه). ((تفسير القرطبي)) (19/41). وقيل: المعنى: أخلَصُ للقَولِ، وأسمَعُ له. وممَّن اختاره: ابنُ قُتَيْبةَ، والسمرقنديُّ، وابنُ الجوزي. يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 215)، ((تفسير السمرقندي)) (3/510)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/354). .
إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن اللهُ سُبحانَه مِن أوَّلِ السُّورةِ إلى هنا ما به صلاحُ الدِّينِ، وأظهَرَ ما للتَّهجُّدِ مِن الفَضائلِ؛ فكان التَّقديرُ حَتمًا: فواظِبْ عليه لتَنالَ هذه الثَّمَراتِ- قال معلِّلًا مُحَقِّقًا له، مُبَيِّنًا ما به صلاحُ الدُّنيا الَّتي هي فيها المَعاشُ، وصلاحُها وسيلةٌ إلى صلاحِ المقصودِ، وهو الدِّينُ، وهو الَّذي ينبغي له؛ لئلَّا يكونَ كَلًّا على النَّاسِ، ليحصلَ مِن الرِّزقِ ما يُعينُه على دينِه، ويوسِّعُ به على عيالِ اللهِ مِن غيرِ مَلَلٍ ولا ضَجَرٍ، ولا كَسَلٍ ولا مُبالَغةٍ [28] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/12، 13). :
إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7).
أي: إنَّ لك -يا محمَّدُ- في النَّهارِ سَعَةً مِنَ الوَقتِ وفَراغًا طويلًا تتقلَّبُ فيه بالذَّهابِ والمجيءِ؛ لقَضاءِ حوائجِك وللنَّومِ؛ فتفرَّغْ في اللَّيلِ لقِيامِه [29] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/374، 376، 377)، ((الوسيط)) للواحدي (4/374)، ((تفسير ابن عطية)) (5/388)، ((تفسير القرطبي)) (19/42)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/ 495)، ((تفسير ابن كثير)) (8/252). .
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8).
أي: واذكُرْ -يا محمَّدُ- اسمَ ربِّك في كُلِّ وقْتٍ، وانقَطِعْ إليه مِن كُلِّ شَيءٍ يُلهيك عن طاعتِه انقِطاعًا تامًّا بالعبادةِ له وَحْدَه، وطَلَبِ الحاجاتِ منه دونَ غيرِه [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/377)، ((تفسير القشيري)) (3/643)، ((الوسيط)) للواحدي (4/374)، ((تفسير ابن عطية)) (5/388)، ((تفسير القرطبي)) (19/43، 44)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/31، 32)، ((تفسير ابن كثير)) (8/255)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893). قال السعدي: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ شامِلٌ لأنواعِ الذِّكرِ كُلِّها). ((تفسير السعدي)) (ص: 892). وقال القرطبي: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي: ادعُه بأسمائِه الحُسنى، لِيَحصُلَ لك مع الصَّلاةِ محمودُ العاقبةِ. وقيل: أي: اقصِدْ بعمَلِك وجْهَ رَبِّك. وقال سهلٌ: اقرَأْ بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ في ابتِداءِ صَلاتِك تُوصِلْك بَرَكةُ قراءتِها إلى رَبِّك، وتقطَعْك عمَّا سِواه. وقيل: اذكُرِ اسمَ رَبِّك في وَعْدِه ووعيدِه؛ لتَوَفَّرَ على طاعتِه، وتَعدِلَ عن معصيتِه. وقال الكلبيُّ: صَلِّ لرَبِّك، أي: بالنَّهارِ. قلتُ: وهذا حَسَنٌ؛ فإنَّه لَمَّا ذكَرَ اللَّيلَ ذَكَر النَّهارَ؛ إذ هو قَسيمُه، وقد قال اللهُ تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الفرقان: 62] ). ((تفسير القرطبي)) (19/43). وقال ابن كثير: (قولُه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي: أكثِرْ مِن ذِكْرِه، وانقطِعْ إليه، وتفرَّغْ لعِبادتِه إذا فرَغْتَ مِن أشغالِك، وما تحتاجُ إليه مِن أمورِ دُنياكَ، كما قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح: 7] ، أي: إذا فرَغْتَ مِن مهامِّك فانصَبْ في طاعتِه وعبادتِه؛ لِتَكونَ فارغَ البالِ. قاله ابنُ زَيدٍ بمعناهُ أو قريبٍ منه. وقال ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وأبو صالحٍ، وعطيَّةُ، والضَّحَّاكُ، والسُّدِّيُّ: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي: أخلِصْ له العبادةَ. وقال الحسَنُ: اجتَهِدْ وبَتِّلْ إليه نفْسَك). ((تفسير ابن كثير)) (8/255). وقال الواحدي: (جميعُ المفسِّرينَ فَسَّروا التَّبَتُّلَ بالإخلاصِ). ((البسيط)) (22/366). وقال أيضًا: (قال أبو إسحاقَ [الزَّجَّاجُ]: انقطِعْ إليه في العبادةِ. وقال الفرَّاءُ: يُقالُ للعابدِ إذا ترَك كلَّ شيءٍ، وأقبَلَ على العبادةِ: قد تَبتَّلَ، أي: قطَع كلَّ شيءٍ إلَّا أمْرَ اللهِ وطاعتَه. وهذا يؤدِّي معنى الإخلاصِ الَّذي ذكَر أهلُ التَّفسيرِ. وقال زَيدُ بنُ أسْلَمَ: التَّبتُّلُ: رفْضُ الدُّنيا وما فيها، والتِماسُ ما عندَ الله. وقال ابنُه: «تَبَتَّلْ إليه»: تفرَّغْ لعبادتِه. وهذا كلُّه يَرجِعُ إلى معنى الانقطاعِ إليه عمَّا سِواه). ((البسيط)) (22/367). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/241)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/198). وقال ابن عاشور: (المرادُ بالانقطاعِ المأمورِ به انقطاعٌ خاصٌّ، وهو الانقطاعُ عن الأعمالِ الَّتي تَمنَعُه مِن قيامِ اللَّيلِ، ومَهامِّ النَّهارِ في نشرِ الدَّعوةِ ومُحاجَّةِ المشرِكين؛ ولذلك قيل: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ أي: إلى الله، فكلُّ عمَلٍ يقومُ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أعمالِ الحياةِ فهو لدينِ الله؛ فإنَّ طَعامَه وشَرابَه ونَومَه وشُؤونَه للاستِعانةِ على نشرِ دينِ الله، وكذلك مُنعشاتُ الرُّوحِ البريئةُ مِن الإثمِ؛ مِثلُ الطِّيبِ، وتزَوُّجِ النِّساءِ، والأُنْسِ إلى أهلِه وأبنائِه وذَويه، وقد قال: «حُبِّبَ إلَيَّ مِن دُنياكم النِّساءُ والطِّيبُ»، وليس هو التَّبتُّلَ المُفْضي إلى الرَّهبانيَّةِ، وهو الإعراضُ عن النِّساءِ، وعن تدبيرِ أمورِ الحياةِ؛ لأنَّ ذلك لا يُلاقي صِفةَ الرِّسالةِ... ومِن أكبَرِ التَّبتُّلِ إلى الله الانقطاعُ عن الإشراكِ، وهو معنى الحَنيفيَّةِ؛ ولذلك عُقِّب قولُه: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا بقولِه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: 9]. وخُلاصةُ المعنى: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مأمورٌ ألَّا تَخلوَ أوقاتُه عن إقبالٍ على عبادةِ الله ومُراقَبَتِه، والانقطاعِ للدَّعوةِ لدينِ الحقِّ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/266). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 41، 42].
وقال سُبحانَه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان: 25].
وقال عزَّ وجَلَّ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] .
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا أمَرَ النَّبيَّ عليه السَّلامُ بالذِّكرِ أوَّلًا، ثمَّ بالتَّبتُّلِ ثانيًا؛ ذكَرَ السَّبَبَ فيه [31] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/687). .
وأيضًا فوَصْفُ اللهِ بأنَّه رَبُّ المشرقِ والمغرِبِ؛ لِمُناسَبةِ الأمرِ بذِكْرِه في اللَّيلِ وذِكْرِه في النَّهارِ، وهما وَقْتَا ابتِداءِ غيابِ الشَّمسِ وطُلوعِها [32] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/267). .
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ.
أي: هو خالِقُ ومالِكُ ومُدَبِّرُ المشرِقِ والمغرِبِ [33] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/380)، ((تفسير ابن كثير)) (8/255)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893). .
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
أي: لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا اللهُ سُبحانَه وَحْدَه [34] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/380)، ((تفسير الماتريدي)) (10/277)، ((تفسير السعدي)) (ص: 893). .
فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا.
أي: فاتَّخِذِ اللهَ قائمًا بأمورِك، وفوِّضْها إليه، واعتَمِدْ عليه وَحْدَه دونَ مَنْ سِواه [35] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/380)، ((تفسير ابن عطية)) (5/388)، ((تفسير القرطبي)) (19/45)، ((تفسير ابن كثير)) (8/255)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/267). قال الشوكاني: (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي: إذا عرَفْتَ أنَّه المُختَصُّ بالرُّبوبيَّةِ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، أي: قائمًا بأمورِك، وعَوِّلْ عليه في جميعِها. وقيل: كفيلًا بما وعَدَك مِن الجزاءِ والنَّصرِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/381). وقال الواحديُّ: (قولُه: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا قال الكلبيُّ: يقولُ: اتَّخِذْه يا محمَّدُ كفيلًا على ما قال لك إنَّه سيَفعَلُه بك. وهذا المعنى أراد الزَّجَّاجُ بقولِه: اتَّخِذْه كفيلًا بما وعَدَك. وهو قولُ الفرَّاءِ). ((البسيط)) (22/369، 370). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/241)، ((معاني القرآن)) للفراء (3/198). .
كما قال تعالى: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا في خِطابِه بهذا الاسمِ فائدتانِ:
إحداهما: الملاطَفةُ؛ فإنَّ العَرَبَ إذا قصَدَت ملاطَفةَ المخاطَبِ، وتَرْكَ المُعاتَبةِ، سَمَّوْه باسمٍ مُشتَقٍّ مِن حالتِه الَّتي هو عليها، كقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعليٍّ حينَ غاضَبَ فاطِمةَ رَضِيَ اللهُ عنهما، فأتاه وهو نائِمٌ، وقد لَصِقَ بجَنْبِه التُّرابُ، فقال له: ((قُمْ يا أبا تُرابٍ)) [36] أخرجه البخاري (441)، ومسلم (2409) من حديث سَهلِ بنِ سعدٍ رضيَ الله عنهما. ؛ إشعارًا له أنَّه غيرُ عاتِبٍ عليه، ومُلاطَفةً له، وكذلك قَولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لحُذَيفةَ: ((قُمْ يا نَوْمانُ)) [37] أخرجه مسلم (1788) من حديث حُذَيفةَ بنِ اليَمانِ رضيَ الله عنهما. ، وكان نائِمًا؛ مُلاطَفةً له، وإشعارًا لتَركِ العَتْبِ والتَّأنيبِ، فقَولُ اللهِ تعالى لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ فيه تأنيسٌ وملاطَفةٌ؛ ليَستَشعِرَ أنَّه غيرُ عاتبٍ عليه.
الفائدةُ الثَّانيةُ: التَّنبيهُ لكُلِّ مُتزَمِّلٍ راقدٍ لَيلَه لِيَتنَبَّهَ إلى قيامِ اللَّيلِ، وذِكْرِ اللهِ تعالى فيه؛ لأنَّ الاسمَ المشتَقَّ مِن الفِعلِ يَشتَرِكُ فيه مع المُخاطَبِ كُلُّ مَن عَمِل ذلك العَمَلَ، واتَّصَف بتلك الصِّفةِ [38] يُنظر: ((التعريف والإعلام بما أبهم في القرآن من الأسماء والأعلام)) للسهيلي (ص: 136، 137)، ((تفسير القرطبي)) (19/33)، ((تفسير ابن عادل)) (19/451). .
2- اللهُ سُبحانَه وتعالى خاطَبَ الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بأسمائِهم، فقال: يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35] ، يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] ، يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 11، 12]، يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]، ولَمَّا خاطَبَ نبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التحريم: 1] ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة: 41] ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] ، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ، فنحن أحقُّ أن نتأدَّبَ في دُعائِه وخِطابِه صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا إذا كان في مقامِ الإخبارِ عنه، قُلْنا: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وقُلْنا: محمَّدٌ رَسولُ اللهِ وخاتَمُ النَّبيِّينَ، فنُخبِرُ عنه باسمِه كما أخبَرَ اللهُ سُبحانَه لَمَّا أخبَرَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح: 29] ، وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] ، وقال: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [محمد: 2] ؛ فالفَرقُ بيْن مَقامِ المُخاطَبةِ ومَقامِ الإخبارِ فَرقٌ ثابتٌ بالشَّرعِ والعقلِ [39] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (1/297). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا فيه أمرٌ بترتيلِ القُرآنِ؛ حتَّى يَتمكَّنَ الخاطِرُ مِن التَّأمُّلِ في حقائقِ تلك الآياتِ ودقائِقِها، فعندَ الوُصولِ إلى ذِكرِ اللهِ يَستَشعِرُ عَظَمتَه وجلالتَه، وعندَ الوُصولِ إلى الوَعدِ والوعيدِ يَحصُلُ الرَّجاءُ والخَوفُ، وحينَئذٍ يَستنيرُ القَلبُ بنورِ مَعرفةِ اللهِ. والإسراعُ في القراءةِ يدُلُّ على عدَمِ الوُقوفِ على المعاني؛ لأنَّ النَّفْسَ تَبتَهِجُ بذِكرِ الأمورِ الإلهيَّةِ الرُّوحانيَّةِ، ومَنِ ابتَهَج بشَيءٍ أحَبَّ ذِكْرَه، ومَن أحَبَّ شَيئًا لم يَمُرَّ عليه بسرعةٍ، فالمقصودُ مِن التَّرتيلِ إنَّما هو حُضورُ القَلبِ، وكَمالُ المعرفةِ [40] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/683). ، وأنْ يجِدَ الفِكرُ فُسحةً للنَّظرِ، وفهمِ المعاني، وبذلك يرِقُّ القلبُ، ويَفيضُ عليه النُّورُ والرَّحمةُ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/387). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا فيه استِحبابُ ترتيلِ القِراءةِ، وأنَّه أفضَلُ مِنَ السُّرعةِ في قِراءتِه [42] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 276). قال النووي: (وقد اتَّفَق العلماءُ رضيَ الله عنهم على استحبابِ التَّرتيلِ؛ قال الله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا). ((التبيان في آداب حملة القرآن)) (ص: 88). . قال الشَّافعيُّ: (أقلُّ التَّرتيلِ تَركُ العَجَلةِ في القرآنِ عن الإبانةِ، وكُلَّما زاد على أقَلِّ الإبانةِ في القراءةِ كان أحَبَّ إلَيَّ، ما لم يَبلُغْ أن تكونَ الزِّيادةُ فيها تمطيطًا. وأُحِبُّ ما وصَفْتُ لكلِّ قارئٍ في صلاةٍ وغَيرِها، وأنا له في المصَلِّي أشَدُّ استِحبابًا منه للقارئِ في غيرِ صلاةٍ) [43] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (1/132). .
5- كان جُملةُ القُرآنِ حينَ نُزولِ هذه السُّورةِ سُورتَينِ أو ثلاثَ سُوَرٍ، بِناءً على أصَحِّ الأقوالِ في أنَّ هذا المِقْدارَ مِنَ السُّورةِ مَكِّيٌّ، وفي أنَّ هذه السُّورةَ مِن أوائِلِ السُّوَرِ، وهذا مِمَّا أشعَرَ به قَولُه تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، أي: سنُوحي إليك قُرآنًا [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/260). .
6- كان مالكٌ رحمه الله يقولُ: (مَن سُئِلَ عن مسألةٍ فيَنبغي له قبْلَ أن يُجيبَ فيها أن يَعرِضَ نفْسَه على الجنَّةِ والنَّارِ، وكيف يكونُ خلاصُه في الآخرةِ، ثمَّ يجيب فيها)، وسُئِلَ عن مسألةٍ، فقال: (لا أدري. فقيل له: إنَّها مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ! فغَضِبَ، وقال: ليس في العِلمِ شيءٌ خفيفٌ؛ أمَا سَمِعتَ قولَ اللهِ عزَّ وجَلَّ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)، فالعِلمُ كلُّه ثقيلٌ، وخاصَّةً ما يُسأَلُ عنه يومَ القيامةِ [45] يُنظر: ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) لابن القيم (4/167). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا فيه إرشادٌ إلى ما يُقابِلُ هذا الثِّقْلَ فيما سيُلْقى على النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ القَولِ، فهو كالتَّوجيهِ إلى ما يتزوَّدُ به لتحَمُّلِ ثِقْلِ أعباءِ الدَّعوةِ والرِّسالةِ [46] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/359). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا دَلَّ به على أنَّ قيامَ اللَّيلِ مِن التَّكاليفِ الشَّاقَّةِ الَّتي ورد بها القرآنُ؛ لأنَّ اللَّيلَ محَلُّ الرَّاحةِ، فإحياؤُه بالعبادةِ مُضادٌّ للطَّبعِ، وفيه إيقاظٌ له على التَّشَمُّرِ لتحَمُّلِه، وتوطُّن النَّفْسِ على المُكابَدةِ في تبليغِه وتحميلِه [47] يُنظر: ((تفسير الكوراني)) (ص: 261). .
9- قال اللهُ تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا بَيَّن تعالى في هذه الآيةِ فضْلَ صلاةِ اللَّيلِ على صلاةِ النَّهارِ، وأنَّ الاستِكثارَ مِن صلاةِ اللَّيلِ بالقراءةِ فيها ما أمكَنَ: أعظَمُ للأجرِ، وأجلَبُ للثَّوابِ [48] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/40). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا فيه أنَّ صَلاةَ اللَّيلِ أعوَنُ على تذَكُّرِ القُرآنِ، والسَّلامةِ مِن نِسيانِ بَعضِ الآياتِ، وأعوَنُ على المزيدِ مِن التَّدَبُّرِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/263). .
11- قال الله تعالى: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا وإنَّ مِن شرطِ هذا الاتِّخاذِ أنَّه إذا قضَى لعبدِه قضاءً يكونُ راضيًا بالقضاءِ في تلك الوكالةِ محسنًا ظنًّا غيرَ مسيءٍ له؛ فإنَّ الله تعالى لا يختارُ له إذا اتَّخذَه وكيلًا إلَّا الأفضلَ والأجودَ [50] يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (3/215). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- ليس المزَّمِّلُ باسمٍ مِن أسماءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يُعرَفْ به كما ذهَبَ إليه بعضُ النَّاسِ وعَدُّوه في أسمائِه عليه السَّلامُ! وإنَّما المزَّمِّلُ اسمٌ مُشتَقٌّ مِن حالتِه الَّتي كان عليها حينَ الخِطابِ، وكذلك المُدَّثِّرُ [51] يُنظر: ((التعريف والإعلام)) للسهيلي (ص: 136)، ((تفسير القرطبي)) (19/33). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا فيه سُؤالٌ: هذا الكلامُ، مع قَولِه تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] إلى قوله: وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل: 20] يدُلُّ على وُجوبِ قيامِ اللَّيلِ على الأُمَّةِ؛ لأنَّ أمْرَ القُدوةِ أمْرٌ لأتْباعِه. وقَولُه: وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل: 20] دليلٌ على عدمِ الخُصوصِ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقد ذَكَر اللهُ ما يدُلُّ على خِلافِ ذلك، في قَولِه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ [المزمل: 20] ، وقَولِه: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] !
الجوابُ: أنَّ الأخيرَ ناسِخٌ للأوَّلِ، ثمَّ نُسِخَ الأخيرُ أيضًا بالصَّلَواتِ الخَمسِ [52] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 246). . وذلك على قولٍ.
3- قَولُ اللهِ تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا تخصيصُ اللَّيلِ بالصَّلاةِ فيه؛ لأنَّه وقتُ النَّومِ عادةً، فأمْرُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقيامِ فيه زيادةٌ في إشغالِ أوقاتِه بالإقبالِ على مُناجاةِ اللهِ، ولأنَّ اللَّيلَ وَقتُ سُكونِ الأصواتِ، فتكونُ نفْسُ القائمِ فيه أقوى استِعدادًا لتلَقِّي الفَيضِ الرَّبَّانيِّ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/259، 260). .
4- في قَولِه تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا أنَّه سُبحانَه لَمَّا سمَّى الصَّلاةَ قيامًا؛ دلَّ على وُجوبِ القيامِ فيها، وذلك: أنَّ تسميتَها بهذا الفعلِ دليلٌ على أنَّ هذا الفعلَ لازِمٌ لها، فإذا وُجِد هذا الفعلُ فيكونُ مِن الأبعاضِ اللَّازمةِ، كما أنَّهم يُسمُّونَ الإنسانَ بأبعاضِه اللَّازمةِ له، فيُسمُّونَه رقبةً ورأسًا ووجهًا ونحوَ ذلك، كما في قولِه تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [54] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/551). [المجادلة: 3] .
5- قَولُ اللهِ تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا يدُلُّ على أنَّ أكثرَ المقاديرِ الواجِبةِ: الثُّلُثانِ، فهذا يدُلُّ على أنَّ نَومَ الثُّلُثِ جائِزٌ، وإذا كان كذلك وجَبَ أن يكونَ المرادُ في قَولِه: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا هو الثُّلُثَ [55] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/682). .
6- في قَولِه تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إلى وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا وسائرِ السُّورةِ: أنَّ الصَّلاةَ لا بُدَّ فيها مِن القراءةِ؛ فإنَّه يُعَبَّرُ عن الشَّيءِ باسمِ بعضِه إذا كان رُكنًا فيه [56] يُنظر: ((شرح العمدة- كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 136). .
7- في قَولِه تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا أنه يُستَحَبُّ أنْ يَقْرَأَ القارئُ قِراءةً مُرَتَّلةً يُمَكِّنُ فيها حَرْفَ المَدِّ مِن غَيرِ تمطيطٍ، ويَقِفُ عندَ كلِّ آيةٍ [57] يُنظر: ((شرح العمدة- كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 189). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا في هذه الآيةِ تَنبيهٌ على نومِ القائِلةِ الَّذي يَستريحُ به العَبدُ مِن قيامِ اللَّيلِ في الصَّلاةِ، أو في العِلمِ [58] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/330). . وفيه إرشادٌ إلى أنَّ النَّهارَ ظرْفٌ واسعٌ لإيقاعِ ما عسَى أنْ يُكلفَه قِيامُ اللَّيلِ مِن فُتورٍ بالنَّهارِ؛ ليَنامَ بَعضَ النَّهارِ، وليَقومَ بمَهامِّه فيه [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/264). .
9- في قَولِه تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا فَضْلُ العِبادةِ باللَّيلِ [60] يُنظر: ((الكلم الطيب)) لابن تيمية (ص: 34). .
10- في قَولِه تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا أنَّ نَفْلَ اللَّيلِ أفضلُ مِن نَفْلِ النَّهارِ [61] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 276). .
11- قال تعالَى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ فتارةً يأمُرُ بذِكْرِ اسْمِه، وتارةً يأمُرُ بذِكْرِه كما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب: 41] وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: 205] ؛ كما يأمُرُ بتَسبيحِه تارةً، وتسبيحِ اسْمِه تارةً. فقولُه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ يَقتضي أن يَذْكُرَه بلِسانِه، وأمَّا قولُه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فقد يَتناوَلُ ذِكرَ القلبِ، وقولُه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] هو كقولِ الآكِلِ: باسْمِ اللهِ، وقولِ الذَّابِحِ: باسْمِ اللهِ. وأمَّا التَّسبيحُ فقد قال: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 42] ، وقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] ، وقال: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74، 96] [الحاقة: 52]. وفي الدُّعاءِ: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] ؛ فقولُه: أَيًّا مَا تَدْعُوا يَقتضي تَعدُّدَ المَدْعُوِّ؛ لقولِه أَيًّا مَا، وقولُه: فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يَقتضي أنَّ المَدْعُوَّ واحدٌ له الأسماءُ الحُسنى، وقولُه: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ -ولم يقلْ: ادعوا باسْمِ اللهِ أو باسْمِ الرَّحمنِ- يَتضَمَّنُ أنَّ المَدْعوَّ هو الرَّبُّ الواحدُ بذلك الاسمِ. فقد جعَل الاسمَ تارةً مَدْعُوًّا، وتارةً مَدعوًّا به في قولِه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] ؛ فهو مَدْعُوٌّ به باعتبارِ أنَّ المَدْعُوَّ هو المُسمَّى، وإنَّما يُدْعى باسْمِه. وجعَل الاسمَ مَدْعُوًّا باعتبارِ أنَّ المقصودَ به هو المُسمَّى وإن كان في اللَّفظِ هو المَدعوَّ المُنادَى، كما قال: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ [الإسراء: 110] ، أي: ادعوا هذا الاسمَ أو هذا الاسمَ، والمرادُ إذا دَعَوْتَه هو المُسمَّى؛ أيَّ الِاسْمَيْنِ دَعَوْتَ ومُرادُك هو المُسمَّى: فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. فمَن تدَبَّرَ هذه المعانيَ اللَّطيفةَ تبيَّن له بعضُ حِكَمِ القرآنِ وأسرارِه [62] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (6/210 - 212). .
12- قَولُ اللهِ تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا فيه أنَّ التَّبَتُّلَ مأمورٌ به في القُرآنِ، وهو مَنهيٌّ عنه في السُّنَّةِ [63] يُنظر ما أخرجه البخاري (5073)، ومسلم (1402). ، إلَّا أن مُتعَلَّقَ الأمرِ غيرُ مُتعَلَّقِ النَّهيِ؛ فلا يَتناقَضانِ، والتَّبَتُّلُ المأمورُ به: الانقِطاعُ إلى اللهِ بإخلاصٍ، كما قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] ، والتَّبَتُّلُ المَنهيُّ عنه: سُلوكُ مَسلَكَ النَّصارى في تَرْكِ النِّكاحِ، والتَّرَهُّبِ في الصَّوامِعِ، لكِنْ عندَ فَسادِ الزَّمانِ يكونُ خَيرُ مالِ المسلِمِ غَنَمًا يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدينِه مِنَ الفِتَنِ [64] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/44)، ((تفسير ابن عادل)) (19/467). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (29/266). ويُنظر ما أخرجه البخاري (19) من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضيَ الله عنه. .
13- في قَولِه تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ جاء المشرِقُ والمغرِبُ في القرآنِ: تارةً مجموعَينِ، وتارةً مُثَنَّيَينِ، وتارةً مُفرَدينِ؛ ووجْهُ ذلك: اختِصاصُ كلِّ مَحَلٍّ بما يَقتضيه مِن ذلك؛ فالأوَّلُ: كقَولِه تبارك وتعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج: 40] ، والثَّاني: كقَولِه: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 17، 18]، والثَّالثُ: كقولِه هنا: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، فتأمَّلْ هذه الحِكمةَ البالغةَ في تغايُرِ هذه المواضعِ في الإفرادِ والجَمعِ والتَّثنيةِ بحسَبِ مَوارِدِها، يُطْلِعْك على عظَمةِ القرآنِ الكريمِ وجلالتِه، وأنَّه تنزيلٌ مِن حكيمٍ حميدٍ؛ فحيثُ جُمِعَتْ كان المرادُ بها مَشارِقَ الشَّمسِ ومَغارِبَها في أيَّامِ السَّنةِ، وهي متعدِّدةٌ، وحيثُ أُفْرِدَتْ كان المرادُ أُفُقَيِ المشرقِ والمغربِ، وحيثُ ثُنِّيَا كان المرادُ مَشرِقَيْ صُعودِها وهبوطِها ومَغْرِبَيْهِما؛ فإنَّها تَبتَدِئُ صاعِدةً حتَّى تنتهيَ إلى غايةِ أَوْجِها وارتفاعِها؛ فهذا مَشْرِقُ صُعودِها، ويَنْشَأُ منه فَصْلَا الخريفِ والشِّتاءِ؛ فجَعَلَ مَشْرِقَ صُعودِها بجُملتِه مَشرِقًا واحدًا، ومَشرِقَ هبوطِها بجُملتِه مَشرِقًا واحدًا، ويُقابِلُها مَغْرِباها، فهذا وجهُ اختلافِ هذه في الإفرادِ والتَّثنيةِ والجَمعِ [65] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/121). وقيل غيرُ ذلك، يُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ الآية (40) من سورةِ المعارجِ، وتفسيرِ الآيةِ (17) مِن سورةِ الرَّحمنِ. .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا
- هذا الافتِتاحُ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يدُلُّ على الاعتناءِ بما سيُلْقَى؛ لأنَّ افتِتاحَ الكلامِ بالنِّداءِ إذا كان المُخاطَبُ واحدًا ولم يكُنْ بَعيدًا، يدُلُّ على الاعتِناءِ بما سيُلْقَى إلى المُخاطَبِ مِن كَلامٍ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/255، 256). .
- والأصلُ في النِّداءِ أنْ يكونَ باسمِ المُنادَى العَلَمِ إذا كان مَعروفًا عندَ المُتكلِّمِ، فلا يُعدَلُ مِن الاسمِ العَلَمِ إلى غيرِه مِن وصْفٍ أو إضافةٍ إلَّا لغرَضٍ يَقصِدُه البُلغاءُ؛ فنِداءُ النبيِّ بـ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ نِداءُ تَلطُّفٍ وتأْنيسٍ وارتفاقٍ، ومِثلُه قولهُ تعالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [67] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/311)، ((تفسير أبي السعود)) (9/49)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/255، 256). [المدثر: 1] . أو نِداؤه بالمُزمِّلِ وغيرِ ذلك مِن صِفاتِه تَشريفًا له وإكرامًا؛ إذ لم يُنادِه اللهُ تعالَى باسمِه [68] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المُنَيِّر)) (4/634)، ((حاشية الطِّيبي على الكشاف)) (16/79). . وقيل غير ذلك [69] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/255). .
- قولُه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قيل: معْناه يا أيُّها الَّذي زُمِّلَ أمْرًا عظيمًا هُو أمرُ النُّبوَّةِ، أي: حُمِّلَه، فالتَّعرُّضُ للوَصْفِ حِينَئذٍ للإشعارِ بعِلِّيَّتِه للقِيامِ أو للأمْرِ به؛ فإنَّ تَحميلَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لأعباءِ النُّبوَّةِ ممَّا يُوجِبُ الاجتهادَ في العبادةِ. ويَكونُ قولُه: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا مع قولِه: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل: 7] ؛ تَحريضًا على استِفراغِ النَّبيِّ جُهْدَه في القِيامِ بأمْرِ التَّبليغِ في جَميعِ الأزمانِ مِن لَيلٍ ونَهارٍ إلَّا قَليلًا مِن اللَّيلِ، وهو ما يُضطَرُّ إليه مِن الهُجوعِ فيه [70] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/49)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/257). .
- وفِعلُ (قُم) مُنزَّلٌ مَنزِلةَ اللَّازمِ، فلا يَحتاجُ إلى تَقديرِ مُتعلَّقٍ؛ لأنَّ القِيامَ مُرادٌ به الصَّلاةُ [71] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/49)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/257). .
- قولُه: إِلَّا قَلِيلًا استِثناءٌ مِن اللَّيلِ، أي: إلَّا قَليلًا منه، فلمْ يَتعلَّقْ إيجابُ القِيامِ عليه بأوقاتِ اللَّيلِ كلِّها، ونِصْفَهُ بدَلٌ مِن قَلِيلًا بدَلًا مُطابِقًا، وهو تَبيينٌ لإجمالِ قَلِيلًا، فجُعِلَ القليلُ هنا النِّصفَ أو أقلَّ منه بقَليلٍ. وفائدةُ هذا الإجمالِ الإيماءُ إلى أنَّ الأَولى أنْ يكونَ القيامُ أكثَرَ مِن مُدَّةِ نِصفِ اللَّيلِ، وأنَّ جَعْلَه نِصفَ اللَّيلِ رَحمةٌ ورُخصةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويدُلُّ لذلك تَعقيبُه بقولِه: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أي: انقُصْ مِن النِّصفِ قَليلًا، فيَكونُ زمَنُ قِيامِ اللَّيلِ أقَلَّ مِن نِصفِه، وهو حينَئذٍ قليلٌ، فهو رُخصةٌ في الرُّخصةِ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/259). .
- وفي إبدال نِصْفَهُ مِن قَلِيلًا إشارةً إلى أنَّ ما نامَ فيه مِن اللَّيلِ وإنْ كان نِصفًا منه، فهو بالإضافةِ إلى النِّصفِ القائمِ قَليلٌ؛ لأنَّ النِّصفَ القائمَ يُضاعَفُ إلى العشَرةِ، والنِّصفَ النَّائمَ لاستِراحةِ النَّفْسِ، وإنْ كان لا يَخْلو مِن أنْ يَدخُلَ في العِبادةِ، مِن حيث إنَّه استعدادٌ لها، ويدُلُّ عليه قولُه تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: 3] . ويُمكِنُ أنْ يُقالَ: القِلَّةُ في الحَقيقةِ صِفةٌ للحاصلِ في النِّصفِ، ثمَّ اعتُبِرَت صِفةً للنِّصفِ، كقَولِهم: نَهارُه صائمٌ ولَيلُه قائمٌ؛ فعلى هذا: النِّصفُ النَّائمُ قليلٌ بالإضافةِ إلى النِّصفِ القائمِ، بالنَّظَرِ إلى ما في كلِّ واحدٍ منهما، أي: مِن الثَّوابِ؛ فجُعِلَ القليلُ مُبدَلًا منه، والنِّصفُ بدَلًا؛ تَنبيهًا على هذا المعْنى الدَّقيقِ. وأمَّا التَّخييرُ فلِيُعْلَمَ أنَّ هذا ليس ممَّا لا يَزيدُ ولا يَنقُصُ، بلْ ممَّا يَحتمِلُ الزِّيادةَ والنُّقصانَ، أي: ذِكرَ النِّصفِ أوَّلًا، فلو اقتُصِرَ عليه ظُنَّ أنَّ الزِّيادةَ والنُّقصانَ لا يَتطرَّقانِ إليه، كرَكَعاتِ الصَّلاةِ المفروضةِ، وكأوقاتِ الصَّلاةِ، وكالحُدودِ، ولأنَّ في ترْكِ التَّخييرِ تَعسيرًا، وفي وُجودِه تَيسيرًا.
ويحتملُ أن يكونَ نِصْفَهُ بدَلًا مِن اللَّيْلَ، كما تقولُ: ضرَبْتُ زَيدًا رأْسَه؛ فإنَّما ذكَرْتَ (زيدًا) لتَوكيدِ الكلامِ، فهو أوكَدُ مِن قولِك: ضَرَبْتُ رأْسَ زَيدٍ، فالمعْنى: قُمْ نِصفَ اللَّيلِ إلَّا قليلًا، أو انقُصْ مِن النِّصفِ، أو زِدْ على النِّصفِ كَثيرًا، أو انقُصْ منه قليلًا؛ كُرِّرَ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا؛ ليُؤذِنَ بأنَّ الأوَّلَ عَزيمةٌ، والثَّانيَ رُخصةٌ، كما تقولُ: جالِسِ الحسَنَ أو ابنَ سِيرينَ، تُريدُ أنَّ مُجالَسةَ الحسَنِ لا بُدَّ منها، فإنْ لَزِمَتْك ضَرورةً فأنتَ بالخيارِ بيْن مُجالَسَتِه ومُجالَسةِ ابنِ سِيرينَ [73] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/239)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/ 83، 84). . والتَّعبيرُ عن النِّصفِ المُخرَجِ بالقَليلِ لإظهارِ كَمالِ الاعتِدادِ بشَأنِ الجُزءِ المُقارِنِ للقيامِ، والإيذانِ بفَضْلِه، وكَونِ القِيامِ فيهِ بمَنزلةِ القِيامِ في أكثَرِه في كَثرةِ الثَّوابِ، واعتبارُ قِلَّتهِ بالنِّسبةِ إلى الكُلِّ -مع عَرائِه عن الفائدةِ- خِلافُ الظَّاهرِ [74] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/49). .
- قولُه: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ عَودٌ إلى التَّرغيبِ في أنْ تكونَ مُدَّةُ القِيامِ أكثَرَ مِن نِصفِ اللَّيلِ؛ ولذلك لم يُقيَّدْ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ بمِثلِ ما قُيِّدَ به أَوِ انْقُصْ مِنْهُ؛ لتَكونَ الزِّيادةُ على النِّصفِ مُتَّسِعةً، والتَّخييرُ المُستفادُ مِن حرْفِ (أوْ) مَنظورٌ فيه إلى تَفاوُتِ اللَّيالي بالطُّولِ والقِصَرِ؛ لأنَّ لذلك ارتباطًا بسَعةِ النَّهارِ للعمَلِ، ولأخْذِ الحظِّ الفائتِ مِن النَّومِ، وبعْدُ فذلك تَوسيعٌ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لرفْعِ حرَجِ تَحديدِه لزمَنِ القِيامِ، فسُلِكَ به مَسلَكَ التَّقريبِ [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/259). .
- قولُه: وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا فيه تأكيدُ الأمرِ بالتَّرتيلِ بالمفعولِ المُطلَقِ؛ لإفادةِ تَحقيقِ صِفةِ التَّرتيلِ؛ فقولُه: تَرْتِيلًا تَأكيدٌ على أنَّه ممَّا لا بُدَّ منه للقارئِ [76] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/637)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/260). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا تَعليلٌ للأمرِ بقِيامِ اللَّيلِ، وَقَعَ اعتراضًا بيْنَ جُملةِ قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] وجُملةِ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا [المزمل: 6] ، وهو جُملةٌ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا لحِكمةِ الأمرِ بقِيامِ اللَّيلِ بأنَّها تَهيئةُ نفْسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَحمِلَ شِدَّةَ الوحْيِ؛ فإنَّ التَّهجُّدَ يُعِدُّ للنَّفْسِ ما به تُعالِجُ ثِقَلَه، وفي هذا إيماءٌ إلى أنَّ اللهَ يسَّرَ عليه ذلك، كما قال تعالَى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ [القيامة: 17] ، ويدُلُّ على أنَّ التَّهجُّدَ شاقٌّ، مُضادٌّ للطَّبْعِ، مُخالِفٌ للنَّفْسِ، فتلك مُناسَبةُ وُقوعِ هذه الجُملةِ عقِبَ جُملةِ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] ؛ فهذا إشعارٌ بأنَّ نُزولَ هذه الآيةِ كان في أوَّلِ عهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنُزولِ القرآنِ، فلمَّا قال له: وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] أعقَبَ ببَيانِ عِلَّةِ الأمرِ بتَرتيلِ القرآنِ [77] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/637، 638)، ((تفسير البيضاوي)) (5/255)، ((تفسير أبي السعود)) (9/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/261)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/261). .
- وفي قولِه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا وُصِفَ القُرآنُ بالثِّقَلِ؛ قيل: لثِقَلِه بنُزولِ الوحْيِ على نَبيِّه، حتَّى كان يَعرَقُ في اليَومِ الشَّاتي، أو لثِقَلِ العمَلِ بما فيهِ، أو لثِقَلِه في الميزانِ، أو لثِقَلِه على المنافِقين والكافِرين، أو رَصينٌ لرَزانةِ لفْظهِ ومَتانةِ معناهُ، أو ثَقيلٌ على المُتأمِّلِ فيهِ؛ لافتِقارِه إلى مَزيدِ تَصفيةٍ للسِّرِّ، وتَجْريدٍ للنَّظرِ [78] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/638)، ((تفسير البيضاوي)) (5/255)، ((تفسير أبي حيان)) (10/314)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 585)، ((تفسير أبي السعود)) (9/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/261). . وقيل: وَصْفُ القُرآنِ بالثِّقلِ كِنايةٌ عن بَقائِه على وَجْهِ الدَّهرِ؛ لأنَّ الثَّقيلَ مِن شأْنِه أنْ يَبْقى في مَكانِه [79] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/314). .
- وأشعَرَ قولُه: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أنَّ ثِقَلَه مُتعلِّقٌ ابتداءً بالرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّه مُتحمِّلُه بنفْسِه، ومُحمِّلُه أُمَّتَه، فهو أثقَلُ عليه، وأبهَظُ له [80] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/638)، ((تفسير البيضاوي)) (5/255)، ((تفسير أبي السعود)) (9/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/261). .
- وتَأكيدُ هذا الخبَرِ بحرْفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتِمامِ به، وإشعارِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَأكيدِ قُرْبِه واستِمرارِه؛ ليكونَ وُرودُه أسهَلَ عليه مِن وُرودِ الأمْرِ المُفاجئِ [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/262). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا تَعليلٌ لتَخصيصِ زمَنِ اللَّيلِ بالقِيامِ فيه؛ فهي مُرتبِطةٌ بجُملةِ قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] ، أي: قُمِ اللَّيلَ لأنَّ ناشئتَه أشَدُّ وطْأً وأقوَمُ قِيلًا [82] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/262)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/261). .
- ونَاشِئَةَ وصْفٌ مِن النَّشْءِ، وهو الحُدوثُ. وقدْ جَرى هذا الوصفُ هنا على غَيرِ مَوصوفٍ، وأُضِيفَ إلى اللَّيلِ إضافةً على معْنى (في)، مِثلُ مَكرِ اللَّيلِ، وجُعِلَ مِن أقومِ القِيلِ، فعُلِمَ أنَّ فيه قَولًا، وقدْ سَبَقَه الأمرُ بقِيامِ اللَّيلِ وتَرتيلِ القرآنِ؛ فتَعيَّنَ أنَّ مَوصوفَه المَحذوفَ هو صَلاةٌ، أي: الصَّلاةُ الناشئةُ في اللَّيلِ؛ فإنَّ الصَّلاةَ تَشتمِلُ على أفعالٍ وأقوالٍ، وهي قِيامٌ [83] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/262). .
- ووَصْفُ الصَّلاةِ بالنَّاشئةِ؛ لأنَّها أنْشَأَها المُصلِّي، فنَشَأَت بعْدَ هَدْأةِ اللَّيلِ، فأشْبَهَت السَّحابةَ الَّتي تَنشَأُ مِن الأُفقِ بعْدَ صَحْوٍ، وإذا كانت الصَّلاةُ بعْدَ نَومٍ، فمعْنى النَّشْءِ فيها أقْوى، وإيثارُ لَفظِ نَاشِئَةَ في هذهِ الآيةِ دونَ غيرِه مِن نحْوِ: قِيامٍ أو تَهجُّدٍ؛ مِن أجْلِ ما يَحتمِلُه مِن المعاني؛ ليَأخُذَ النَّاسُ فيه بالاجتهادِ [84] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/262). .
- وضَميرُ الفصْلِ (هِيَ) في قولِه: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا لتَقويةِ الحُكْمِ، لا للحصْرِ [85] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/263). .
4- قولُه تعالَى: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا فصْلُ هذه الجُملةِ دونَ عطْفٍ على ما قبْلَها يَقْتضي أنَّ مَضمونَها ليس مِن جِنسِ حُكْمِ ما قبْلَها، فليس المقصودُ تَعيينَ صَلاةِ النَّهارِ؛ إذ لم تكُنِ الصَّلواتُ الخَمسُ قدْ فُرِضَت يَومَئذٍ -على المشهورِ-، ولم يُفرَضْ حينَئذٍ إلَّا قِيامُ اللَّيلِ، فالَّذي يَبْدو أنَّ مَوقعَ هذه الجُملةِ مَوقعُ العِلَّةِ لشَيءٍ ممَّا في جُملةِ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] ، وذلك دائرٌ بيْن أنْ يكونَ تَعليلًا لاختيارِ اللَّيلِ لفرْضِ القيامِ عليه فيه، فيُفيدُ تَأكيدًا للمُحافَظةِ على قِيامِ اللَّيلِ؛ لأنَّ النَّهارَ لا يُغني غَناءَهُ، فيَتحصَّلُ مِن المعْنى: قُمِ اللَّيلَ؛ لأنَّ قِيامَه أشدُّ وقْعًا وأرسَخُ قَولًا؛ لأنَّ النَّهارَ زمَنٌ فيه شُغلٌ عَظيمٌ، لا يَترُكُ لك خَلوةً بنفْسِك، وشُغلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّهارِ بالدَّعوةِ إلى اللهِ، وإبلاغِ القرآنِ، وتَعليمِ الدِّينِ، ومُحاجَّةِ المشرِكين، وافتقادِ المؤمنينَ المُستضعَفين؛ فعُبِّرَ عن جَميعِ ذلك بالسَّبْحِ الطَّويلِ. وبيْن أنْ يكونَ تلطُّفًا واعتذارًا عن تَكليفِه بقِيامِ اللَّيلِ، ويجوزُ أنْ يكونَ تَعليلًا لِما تَضمَّنَه أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: 3] ، أي: إنْ نَقَصْتَ مِن نِصفِ اللَّيلِ شيئًا لا يَفُتْك ثَوابُ عَمَلِه؛ فإنَّ لك في النَّهارِ مُتَّسعًا للقيامِ والتِّلاوةِ. ويَظهَرُ أنْ يكونَ كلُّ هذا مَقصودًا؛ لأنَّه ممَّا تَسمَحُ به دَلالةُ كَلمةِ سَبْحًا طَوِيلًا، وهي مِن بَليغِ الإيجازِ [86] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/639)، ((تفسير أبي السعود)) (9/51)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/263، 264). .
- والسَّبْحُ مُعبَّرٌ به عن التَّصرُّفِ السَّهلِ المتَّسَعِ الَّذي يُشبِهُ حَرَكةَ السَّابحِ في الماءِ؛ فإنَّه لا يَعترِضُه ما يَعوقُ جَوَلانَه على وجْهِ الماءِ، ولا إعياءُ السَّيرِ في الأرضِ [87] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/264)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/262، 263). .
5- قولُه تعالَى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا عطْفٌ على قوله: قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] ، وقُصِدَ بإطلاقِ الأمرِ عن تَعيينِ زَمانٍ إلى إفادةِ تَعميمِه، أي: اذكُرِ اسمَ ربِّك في اللَّيلِ وفي النَّهارِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/265). .
- قولُه: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ التَّبتُّلُ: شِدَّةُ البَتْلِ، وهو مَصدَرُ (تَبتَّلَ) القاصرِ الَّذي هو مُطاوِعُ (بَتَلَه فتَبتَّلَ)، وهو هنا للمُطاوَعةِ الَّتي يُقصَدُ مِن صِيغتِها المُبالَغةُ في حُصولِ الفِعلِ، حتَّى كأنَّه فَعَلَه غيرُه به، فطاوَعَه، والتَّبتُّلُ: الانقطاعُ، قيل: هو هنا بمعْنى تَفرُّغِ البالِ والفِكرِ إلى ما يُرْضي اللهَ، فكأنَّه انقَطَعَ عن النَّاسِ وانحازَ إلى جانبِ اللهِ، فعُدِّي بـ (إلى) الدَّالَّةِ على الانتهاءِ [89] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/265). .
- وفي قَولِه تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا جاء مصدرُ «تَبَتَّلَ» «تبَتُّلًا» -كالتَّعَلُّمِ والتَّفَهُّمِ- على التَّفعيلِ مَصْدَرِ «فَعَّلَ»؛ لِسِرٍّ لطيفٍ؛ فإنَّ في هذا الفعلِ إيذانًا بالتَّدريجِ والتَّكَلُّفِ والتَّعَمُّلِ والتَّكَثُّرِ والمُبالَغةِ، فأتَى بالفعلِ الدَّالِّ على أحدِهما، وبالمصدرِ الدَّالِّ على الآخَرِ، فكأنَّه قيل: «بَتِّلْ نفْسَك إلى اللهِ تبتيلًا، وتَبَتَّلَ إليه تبَتُّلًا»، ففُهِمَ المعنيان مِن الفعلِ ومَصدَرِه، وهذا كثيرٌ في القرآنِ، وهو مِن أحسنِ الاختِصارِ والإيجازِ [90] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/30). .
أو بعبارةٍ أخرى: لَمَّا كان معْنى «تَبتَّلْ إليه»: انقطِعْ إليه، أُقيمَ التَّبتيلُ مُقامَه، وأُكِّد ليَدُلَّ على أنَّ ذلك الانقطاعَ إلى الرَّبِّ لا يَحصُلُ إلَّا بتَكرارِ التَّبتُّلِ؛ فالتَّبتيلُ يدُلُّ على حُصولِ الشِّدَّةِ، والتَّبتُّلُ على التَّكرارِ؛ لأنَّ التَّفعيلَ لتَكثيرِ الفعلِ [91] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/95). .
وقيل: قولُه: تَبْتِيلًا التَّبتيلُ: مَصدَرُ (بتَّل) المُشدَّدِ الَّذي هو فِعلٌ مُتعَدٍّ، مِثلُ التَّقطيعِ، وجِيءَ بهذا المصدرِ عِوَضًا عن (التَّبتُّل)؛ للإشارةِ إلى أنَّ حُصولَ التَّبتُّلِ -أي: الانقطاعِ- يَقْتضي التَّبتيلَ -أي: القطْعَ-، ولَمَّا كان التَّبتيلُ قائمًا بالمُتبتِّلِ، تعيَّنَ أنَّ تَبتيلَه قَطْعُه نفْسَه عن غَيرِ مَن تَبَتَّلَ هو إليه، فالمقطوعُ عنه هنا هو مَن عَدا الله تعالَى، فالجمْعُ بيْن (تَبَتَّلْ) وتَبْتِيلًا مُشيرٌ إلى إراضةِ النَّفْسِ على ذلك التَّبتُّلِ، مع ما فيهِ مِن رِعايةِ الفواصلِ [92] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/639)، ((تفسير البيضاوي)) (5/256)، ((تفسير أبي حيان)) (10/316)، ((تفسير أبي السعود)) (9/51)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/266). .
- ولَمَّا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن قبْلُ غيرَ غافلٍ عن هذا الانقطاعِ بإرشادٍ مِن اللهِ، كما ألْهَمَه التَّحنُّثَ في غارِ حِراءٍ، ثمَّ بما أفاضَهُ عليه مِن الوحْيِ والرِّسالةِ؛ فالأمرُ في قولِه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ مُرادٌ به الدَّوامُ على ذلك؛ فإنَّه قدْ كان يَذكُرُ اللهَ فيما قبْلُ [93] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/266). .
6- قولُه تعالَى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا
- قدْ وُصِفَ اللهُ تعالَى بأنَّه رَبُّ المشرقِ والمَغربِ؛ لمُناسَبةِ الأمْرِ بذِكرِه في اللَّيلِ وذِكرِه في النَّهارِ، وهما وَقْتا ابتداءِ غِيابِ الشَّمسِ وطُلوعِها، وذلك يُشعِرُ بامتدادِ كلِّ زمانٍ منهما إلى أنْ يَأتِيَ ضِدُّه، فيَصِحُّ أنْ يكونَ المشرقُ والمغربُ جِهتَيِ الشُّروقِ والغروبِ، فيكونَ لاستِيعابِ جِهاتِ الأرضِ، أي: ربُّ جَميعِ العالَمِ، وذلك يُشعِرُ بوَقتَي الشُّروقِ والغروبِ، ويَصِحُّ أنْ يُرادَ بهما وَقْتا الشُّروقِ والغروبِ، أي: مَبدَأُ ذَينِك الوقتينِ ومُنْتهاهما، كما يُقالُ: سَبِّحوا للهِ كلَّ مَشرِقِ شمْسٍ، وكما يُقالُ: صَلاةُ المغرِبِ [94] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/267). .
- وعُقِّبَ وَصْفُ اللهِ سُبحانَه بأنَّه رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ بالإخبارِ عنه أو بوَصْفِه بأنَّه لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؛ لأنَّ تَفرُّدَه بالإلهيَّةِ بمَنزلةِ النَّتيجةِ لرُبوبيَّةِ المَشرقِ والمغربِ، فلمَّا كانتْ رُبوبيَّتُه للعالَمِ لا يُنازِعُ فيها المشرِكون، أُعقِبَت بما يَقْتضي إبطالَ دَعوى المشرِكين تَعدُّدَ الآلهةِ بقولِه: لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، تَعريضًا بهم في أثناءِ الكلامِ وإنْ كان الكلامُ مَسوقًا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ولذلك فُرِّعَ عليه قولُه: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا، وإذ كان الأمرُ باتِّخاذِه وَكيلًا مُسبَّبًا عن كونهِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، كان ذلك في قُوَّةِ النَّهيِ عن اتِّخاذِ وَكيلٍ غيرِه؛ إذ ليس غيرُه بأهلٍ لاتِّخاذِه وَكيلًا؛ فهو وَحْدَه الَّذي يَجِبُ -لتَوحُّدِه بالرُّبوبيَّةِ- أنْ تُوكَلَ إليه الأُمورُ [95] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/640)، ((تفسير البيضاوي)) (5/256)، ((تفسير أبي حيان)) (10/316)، ((تفسير أبي السعود)) (9/51)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/267). .
- وفي قولِه: فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أمَرَه اللهُ بألَّا يَعتمِدَ إلَّا عليه، وهذا تَكفُّلٌ بالنَّصرِ؛ ولذلك عُقِّبَ بقولِه: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [96] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/640)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/267). [المزمل: 10] .