موسوعة التفسير

سورةُ المُدَّثِّرِ
الآيات (1-10)

ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ

غَريبُ الكَلِماتِ:

الْمُدَّثِّرُ: أي: المُشتَمِلُ بثيابِه إذا نام، يقالُ: تدَثَّرَ بالثَّوبِ: إذا اشتَمَل به داخِلًا فيه وتلَفَّف. والدِّثارُ: هو الثَّوبُ الَّذي يُستدفَأُ به مِن فوقِ الشِّعارِ الملاصِقِ للبَدَنِ، وأصلُ (دثر): يدُلُّ على تضاعُفِ شَيءٍ وتَناضُدُه بَعْضِه على بعضٍ [4] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 495)، ((تفسير ابن جرير)) (23/400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/328)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (11/272). والْمُدَّثِّرُ بتشديد الدَّالِ، وأصْلُه المُتَدَثِّرُ، فأُدغِمَتِ التَّاءُ في الدَّالِ؛ لتَقارُبِ مَخرجَيْهِما. يُنظر: ((مشارق الأنوار على صحاح الآثار)) لعياض (1/253)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 308). .
وَالرُّجْزَ: أي: الأوثانَ والأصنامَ، والرِّجزُ: العَذابُ، وسمُيِّتَ الأوثانُ رجزًا؛ لأنَّها تؤدِّي إلى العَذابِ، والرُّجزُ: اسمٌ للقبيحِ المستقذَر، والرُّجْزُ والرِّجْزُ لغتانِ، وقيل: الرُّجْزُ بالضَّمِّ: الصَّنَمُ، وبالكسرِ: النَّجاسَةُ، والمعصيةُ، والعذابُ [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 495)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 247)، ((تفسير الرازي)) (30/ 699)، ((تفسير القرطبي)) (19/67). .
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ: أي: لا تُعْطِ عَطاءً لِتُعْطَى أكْثَرَ منه، مِن قَولِهم: مَنَّ: إذا أعطى. أو: لا تَمنُنْ بعَمَلِك مُستَكثِرًا له؛ مِنَ المَنِّ: الَّذي هو تعديدُ النِّعمةِ وذِكْرُها. وأصلُ (منن): يدُلُّ على اصطناعِ خَيرٍ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 19، 496)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/267)، ((المفردات)) للراغب (ص: 777)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 977). .
النَّاقُورِ: أي: الصُّورِ، وأصلُ (نقر): يدُلُّ على قَرعِ شَيءٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 496)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 476)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/468)، ((المفردات)) للراغب (ص: 821)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 425)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 434). .

المعنى الإجماليُّ:

افتتح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بنِداءِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نِداءً مِلْؤُه التَّلَطُّفُ والتَّحَبُّبُ إليه، قائِلًا له: يا أيُّها الَّذي التَفَّ بالثِّيابِ وضَمَّها عليه؛ خَوفًا وفَزَعًا، قُمْ فحَذِّرِ المُشرِكينَ عَذابَ اللهِ إنْ لم يُوَحِّدوه، وعَظِّمْ رَبَّك ونَزِّهْه عن النَّقائصِ، وطَهِّرْ ثِيابَك مِنَ النَّجاساتِ، ونَفْسَك مِن دَنَسِ الذُّنوبِ، وأعمالَك مِن الشِّركِ والمعاصي، واترُكْ عِبادةَ الأوثانِ، ولا تُعْطِ شَيئًا رجاءَ أن تُعطى أكثَرَ منه، واصبِرْ على ما تَلْقَى مِن أذًى ومَكروهٍ في سبيلِ اللهِ، واصبِرْ على غيرِ ذلك مِن أقدارِ الله المؤلِمةِ، وعلى طاعةِ الله وعن معصيتِه.
ثمَّ يَذكُرُ الله تعالى جانبًا مِن أهوالِ يومِ القيامةِ، فيقولُ: فإذا نُفِخَ في الصُّورِ يومَ القيامةِ لِبَعثِ النَّاسِ للحِسابِ، فذلك يَومٌ صَعْبٌ شديدٌ على الكافِرين، غَيرُ سَهلٍ ولا هَيٍّنٍ عليهم.

تَفسيرُ الآياتِ:

يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((جاوَرْتُ بحِراءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيتُ جِواري، نَزَلْتُ فاستَبطَنْتُ بَطْنَ الوادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أمامي وخَلفي، وعنْ يَميني، وعنْ شِمالي، فلمْ أرَ أحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فنَظَرْتُ فلمْ أرَ أحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسي، فإذا هو على العَرشِ في الهواءِ -يعني: جِبرِيلَ عليه السَّلامُ-، فأخَذَتْني رَجْفَةٌ شَديدةٌ! فأتَيتُ خَديجةَ، فَقُلتُ: دَثِّروني، فدَثَّروني، فصَبُّوا علَيَّ ماءً، فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر: 1 - 4] )) [8] رواه البخاريُّ (4924)، ومسلمٌ (161) واللَّفظُ له. قال القَسْطَلَّاني: (وليس في هذا الحديثِ أنَّ أوَّلَ ما نزل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، وإنَّما استخرَج ذلك جابرٌ باجتهادِه وظنِّه فلا يُعارِضُ الحديثَ الصَّحيحَ الصَّريحَ ... أنَّه اقْرَأْ). ((إرشاد الساري)) (7/403). .
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1).
أي: يا أيُّها المتغَطِّي بالثِّيابِ خَوفًا وفَزَعًا [9] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/392)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/40)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/294). قال الزمخشري: (المُدَّثِّرُ: لابِسُ الدِّثارِ، وهو ما فوقَ الشِّعارِ، وهو الثَّوبُ الَّذي يلي الجسَدَ، ومنه قولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «الأنصارُ شِعارٌ، والنَّاسُ دِثارٌ» [البخاري «4330» ومسلم «1061»]). ((تفسير الزمخشري)) (4/644). وقال الرازي: (أجمَعوا على أنَّ الْمُدَّثِّرُ هو رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم). ((تفسير الرازي)) (30/696). وقال ابنُ عاشور: (المعنى: يا أيُّها المدَّثِّرُ مِن الرُّعبِ لرؤيةِ مَلَكِ الوَحيِ، لا تَخَفْ، وأقبِلْ على الإنذارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/294، 295). .
قُمْ فَأَنْذِرْ (2).
أي: قُمْ فخَوِّفِ المُشرِكينَ وحَذِّرْهم عَذابَ اللهِ إنْ لم يُوَحِّدوه [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/404)، ((تفسير القرطبي)) (19/61)، ((تفسير ابن كثير)) (8/262)، ((تفسير السعدي)) (ص: 895). قال الرازي: (في قولِه: قُمْ وجهان: أحدُهما: قمْ مِن مضجعِك، والثاني: قُمْ قيامَ عزمٍ وتصميمٍ). ((تفسير الرازي)) (30/697) .
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الإنذارُ يتضَمَّنُ مواجهةَ النَّاسِ بما يَكرَهون، وذلك عظيمٌ على الإنسانِ، وكان المُفَتِّرُ عن اتِّباع الدَّاعي أحدَ أمْرَينِ: ترْكَه ما يؤمَرُ به، وطَلَبَه عليه الأجرَ، كما أنَّ الموجِبَ لاتِّباعِه: عمَلُه بما دعا إليه، وبُعدُه عن أخذِ الأجرِ عليه- أمَرَه بتعظيمِ مَن أرسَلَه سُبحانَه؛ فإنَّه إذا عُظِّمَ حَقَّ تعظيمِه، صَغُرَ كُلُّ شيءٍ دونَه، فهان عليه الدُّعاءُ، وكان له مُعينًا على القَبولِ، فقال [11] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/42). :
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3).
أي: وعَظِّمْ رَبَّك قَولًا -ومِن ذلك قولُ: الله أكبرُ- واعتقادًا، ومِن ذلك: عِبادتُه وَحْدَه، وتنزيهُه عن النَّقائصِ، ووَصْفُه بصِفاتِ الكَمالِ، ودَعوةُ النَّاسِ إلى توحيدِه وتَعظيمِه [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/405)، ((تفسير ابن عطية)) (5/392)، ((تفسير القرطبي)) (19/61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 895)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/295، 296). قال ابنُ جُزَي: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظِّمْه. ويحتَمِلُ أن يريدَ قَولَ: اللهُ أكبَرُ). ((تفسير ابن جزي)) (2/427). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/645)، ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/339). وقال ابن عاشور: (مَعْنَى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ: صِفْ رَبَّك بصِفاتِ التَّعظيمِ، وهذا يَشملُ تَنْزيهَه عن النَّقائصِ، فيَشملُ توحيدَه بالإلَهِيَّةِ، وتنزيهَه عن الولدِ، ويَشملُ وَصْفَه بصفاتِ الكمالِ كُلِّها. ومعْنى «كبِّرْ»: كبِّرْه في اعتِقادِك، وكبِّرْه بقولِك تَسبيحًا وتَعليمًا، ويَشملُ هذا المعْنى أنْ يقولَ: «اللهُ أكبَرُ»؛ لأنَّه إذا قال هذه الكلمةَ أفاد وصْفَ اللهِ بأنَّه أكبَرُ مِن كلِّ كبيرٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/296). .
كما قال تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا [الإسراء: 111].
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان تنزيهُ العبدِ عن الأدناسِ مِن أجْلِ تنزيهِ المعبودِ؛ أمَرَ اللهُ تعالى بتطهيرِ الظَّاهِرِ والباطِنِ [13] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/43). ، فقال:
وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4).
أي: وطَهِّرْ ثِيابَك مِنَ النَّجاساتِ، وطهِّرْ نَفْسَك مِن دَنَسِ الذُّنوبِ، وطهِّرْ أعمالَك مِن الشِّركِ والمعاصي [14] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 495)، ((تفسير ابن جرير)) (23/409، 410)، ((الوسيط)) للواحدي (4/380)، ((تفسير الزمخشري)) (4/645)، ((شرح العمدة- كتاب الصلاة)) لابن تيمية (ص: 404-408)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/52، 54)، ((تفسير ابن كثير)) (8/262-264)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/43)، ((تفسير السعدي)) (ص: 895)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/297). .
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ بمُجانَبةِ القَذَرِ في الثِّيابِ، وجَعَل ذلك كنايةً عن تجنُّبِ الأقذارِ كُلِّها؛ لأنَّ مَن جَنَّب ذلك مَلْبَسَه أبعَدَه عن نَفْسِه مِن بابِ الأَولى- حَقَّق العُمومَ وأكَّده، فقال [15] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/43، 44). :
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5).
أي: واترُكْ عِبادةَ الأوثانِ [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/410)، ((تفسير القرطبي)) (19/66)، ((تفسير ابن كثير)) (8/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 895)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/298). قال الواحدي: (قال جماعةُ المفَسِّرينَ: يريدُ: عِبادةَ الأوثانِ فاهجُرْ). ((الوسيط)) (4/380، 381). .
كما قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج: 30] .
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بدأ بأحَدِ سَبَبيِ القَبولِ، أتْبَعَه الثَّانيَ المُبعِدَ عن قاصمةِ العَمَلِ؛ مِن الإعجابِ والرِّياءِ والمَلَلِ، فقال: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [17] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/44). ، وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
وأيضًا فمُناسَبةُ عطْفِه على الأمرِ بهَجْرِ الرُّجْزِ: أنَّ المَنَّ في العطيَّةِ كَثيرٌ مِن خُلقِ أهلِ الشِّركِ، فلمَّا أمَرَه اللهُ بهَجْرِ الرُّجْزِ نَهاهُ عن أخلاقِ أهلِ الرُّجْزِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/298). . وذلك على قولٍ في تفسيرِ الآيةِ.
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6).
أي: لا تُعْطِ شيئًا رجاءَ أن تُعطَى أكثرَ منه [19] ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: الزجاجُ، والسمرقندي، والسمعاني، والواحدي، واستظهره القرطبي، وابن كثير. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/245)، ((تفسير السمرقندي)) (3/515)، ((تفسير السمعاني)) (4/216)، ((الوسيط)) للواحدي (4/381)، ((تفسير القرطبي)) (19/68)، ((تفسير ابن كثير)) (8/264). وممَّن نسَب هذا القولَ إلى أكثرِ المفسِّرينَ وجمهورِهم: مكِّيٌّ، والرَّسْعَنيُّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7820)، ((تفسير الرسعني)) (8/352). قال ابن كثير: (وقولُه: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال ابنُ عبَّاسٍ: لا تُعْطِ العَطِيَّةَ تَلتَمِسُ أكثرَ منها. وكذا قال عِكْرِمةُ، ومجاهِدٌ، وعطاءٌ، وطاوُسٌ، وأبو الأحوصِ، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ، والضَّحَّاكُ، وقَتادةُ، والسُّدِّيُّ، وغيرُهم). ((تفسير ابن كثير)) (8/264). قال ابنُ جُزَي: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ يحتَمِلُ قولُه: تَمْنُنْ أن يكونَ بمعنى العطاءِ، أو بمعنى المَنِّ، وهو ذِكرُ العطاءِ وشِبْهِه، أو بمعنى الضَّعْفِ؛ فإن كان بمعنَى العطاءِ ففيه وجهانِ؛ أحدُهما: أنَّ معناه: لا تُعْطِ شيئًا لتأخُذَ أكثَرَ منه. قال بعضُهم: هذا خاصٌّ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومباحٌ لأُمَّتِه، والآخَرُ: لا تُعْطِ النَّاسَ عطاءً وتَستَكْثِره؛ لأنَّ الكريمَ يَستقِلُّ ما يُعطي وإنْ كان كثيرًا. وإن كان مِن المَنِّ بالشَّيءِ ففيه وجهانِ؛ الأوَّلُ: لا تَمْنُنْ على النَّاس بنُبوَّتِك تَستكثِرُ بأجرٍ أو مَكسَبٍ تَطلُبُه. الثَّاني: لا تمنُنْ على الله بعَمَلِك تستكثِرُ أعمالَك ويقَع لك بها إعجابٌ. وإن كان مِن الضَّعفِ فمعناه: لا تَضعُفْ عن تبليغِ الرِّسالةِ، وتَستكثِرْ ما حمَّلْناك مِن ذلك). ((تفسير ابن جزي)) (2/427). ومِمَّن ذهب إلى أنَّ المعنى: ولا تَمنُنْ بعمَلِكَ الصَّالحِ فتَستَكْثِرَه على ربِّك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/416). وقيل: المعنى: لا تَمنُنْ على النَّاسِ بما قدَّمْتَ لهم مِن خيرٍ، وتَعُدَّ ما أعطَيْتَه كثيرًا. ومِمَّن ذهب إليه في الجملةِ: السعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 895)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/298). قال السعدي: (لا تَمنُنْ على النَّاسِ بما أسدَيْتَ إليهم مِن النِّعَمِ الدِّينيَّةِ والدُّنيويَّةِ، فتَتكثَّرَ بتِلكَ المِنَّةِ، وتَرى لك الفضلَ عليهم بإحسانِك المِنَّةَ، بل أحسِنْ إلى النَّاسِ مهما أمكَنَك، وانْسَ عِندَهم إحسانَك، ولا تطلُبْ أجْرَه إلَّا مِن اللهِ تعالى، واجعَلْ مَن أحسَنْتَ إليه وغَيْرَه على حَدٍّ سواءٍ). ((تفسير السعدي)) (ص: 895). وقال الجصَّاصُ: (قولُه تعالى: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قال ابنُ عبَّاسٍ وإبراهيمُ ومجاهدٌ وقَتادةُ والضَّحَّاكُ: لا تُعطِ عَطيَّةً لِتُعطَى أكثَرَ منها. وقال الحسَنُ والرَّبيعُ بنُ أنسٍ: لا تَمنُنْ حسَناتِك على الله مُستكثِرًا لها فيَنقُصَك ذلك عندَ الله. وقال آخَرون: لا تَمنُنْ بما أعطاك الله مِن النُّبوَّةِ والقرآنِ مُستكثِرًا به الأجرَ مِن النَّاسِ. وعن مُجاهِدٍ أيضًا: لا تَضعُفْ في عمَلِك مُستكثِرًا لطاعتِك. وقال أبو بكرٍ [الجصَّاص]: هذه المعاني كلُّها يَحتمِلُها اللَّفظُ، وجائزٌ أن يكونَ جميعُها مرادًا به، فالوجهُ حمْلُه على العُمومِ في سائرِ وُجوهِ الاحتمالِ). ((أحكام القرآن)) (5/368). وقال ابن العربي: (المَنُّ... يُطلَقُ على معنيَينِ؛ أحدُهما: العطاءُ. والثَّاني: التَّعدادُ على المُنعَمِ عليه بالنِّعَمِ... والآيةُ تَتناوَلُ المعنيَينِ كِلَيْهِما). ((أحكام القرآن)) (4/343). .
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان الإنذارُ شديدًا على النُّفوسِ يَحصُلُ به مِن المعالَجاتِ ما الموتُ دونَه؛ لأنَّ تَرْكَ المألوفاتِ أصعَبُ شَيءٍ على النُّفوسِ، وكذا تركُ العوائِدِ- قال آمِرًا بالتَّحَلِّي بالعاصِمِ بعدَ التَّخَلِّي عن القاصِمِ، مُعْلِمًا بأنَّ الأذَى مِن المُنذَرِينَ أمرٌ لا بدَّ منه، فيَدخُلُ في الطَّاعةِ على بصيرةٍ [20] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/45). :
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7).
أي: واصبِرْ مِن أجْلِ رَبِّك وَحْدَه على ما تَلْقَى مِن أذًى ومَكروهٍ في سبيلِ دَعوةِ الخَلْقِ إلى اللهِ تعالى، وتبليغِ رِسالتِه، واصبِرْ على غيرِ ذلك مِن أقدارِ الله المؤلِمةِ، وعلى طاعةِ الله وعن معصيتِه [21] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/417)، ((الوسيط)) للواحدي (4/381)، ((تفسير القرطبي)) (19/69)، ((تفسير ابن كثير)) (8/264)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 895)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/299، 300). وممَّن قال في الجملةِ بأنَّ المرادَ أمرُه بالصَّبرِ على الأذى والمكروهِ مِنَ المُشرِكينَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، وابنُ كثير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/490)، ((تفسير ابن جرير)) (23/417)، ((تفسير ابن كثير)) (8/264)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/299). وقيل: المعنى: اصبِرْ لرَبِّك على طاعتِه، وأداءِ فرائِضِه. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: الواحديُّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/381)، ((تفسير القرطبي)) (19/69). ومِمَّن ذهب إلى العُمومِ: ابنُ عطيَّةَ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/393)، ((تفسير السعدي)) (ص: 895). قال ابنُ عطية: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي: لوَجهِ رَبِّك وطَلَبِ رِضاه، كما تقولُ: فعَلْتُ للهِ تعالى، والمعنى: على الأذى مِن الكُفَّارِ، وعلى العبادةِ، وعن الشَّهَواتِ، وعلى تكاليفِ النُّبُوَّةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/393). وقال السعدي: (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي: احتَسِبْ بصَبْرِك، واقصِدْ به وَجْهَ اللهِ تعالى، فامتَثَلَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لأمرِ رَبِّه، وبادَرَ إليه، فأنذَرَ النَّاسَ، وأوضَحَ لهم بالآياتِ البيِّناتِ جميعَ المطالِبِ الإلهيَّةِ، وعَظَّم اللهَ تعالى، ودعا الخَلْقَ إلى تعظيمِه، وطهَّر أعمالَه الظَّاهِرةَ والباطِنةَ مِن كُلِّ سُوءٍ، وهَجَر كُلَّ ما يُبعِدُ عن اللهِ مِن الأصنامِ وأهلِها، والشَّرِّ وأهلِه، وله المِنَّةُ على النَّاسِ، بَعْدَ مِنَّةِ اللهِ تعالى، مِن غيرِ أن يَطلُبَ منهم على ذلك جزاءً ولا شُكورًا، وصَبَر للهِ أكمَلَ صَبرٍ؛ فصَبَرَ على طاعةِ اللهِ، وعن معاصي اللهِ، وعلى أقدارِ اللهِ المؤلِمةِ، حتَّى فاق أُولي العَزمِ مِنَ المُرسَلينَ، صلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليه وعليهم أجمَعينَ). ((تفسير السعدي)) (ص: 895، 896). .
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا تَمَّمَ ما يتعَلَّقُ بإرشادِ قُدوةِ الأنبياءِ، وهو محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ عَدَل عنه إلى شَرحِ وَعيدِ الأشقياءِ [22] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/702). ، فقال:
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8).
أي: فإذا نُفِخَ في الصُّورِ يومَ القيامةِ لِبَعثِ النَّاسِ أحياءً مِن قُبورِهم للحِسابِ والجَزاءِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/418)، ((تفسير القرطبي)) (19/70)، ((تفسير ابن كثير)) (8/264)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896). قال النيسابوري: (النَّاقورُ ما يُنقَرُ به، وهو الصُّورُ باتِّفاقِ المفَسِّرينَ، فكأنَّه آلةُ النَّقْرِ، أي: النَّفخِ). ((تفسير النيسابوري)) (6/388). وقال ابنُ عاشور: (النَّاقورُ: البُوقُ الَّذي يُنادَى به الجَيشُ، ويُسَمَّى الصُّورَ، وهو قَرنٌ كبيرٌ أو شِبْهُه يَنفُخُ فيه النَّافِخُ لنداءِ ناسٍ يَجتَمِعونَ إليه مِن جيشٍ ونحوِه... قَولُه: نُقِرَ أي: صُوِّتَ، أي: صوَّتَ مُصَوِّتٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/300، 301). .
كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا [الكهف: 99].
وقال سُبحانَه: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا [النبأ: 18] .
فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9).
أي: فذلك يَومٌ صَعْبٌ شديدٌ، بالِغُ العُسْرِ، عظيمُ الأهوالِ [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/418)، ((الوسيط)) للواحدي (4/381)، ((تفسير القرطبي)) (19/70)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 896). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَجمَعُ اللهُ النَّاسَ الأوَّلِينَ والآخِرينَ في صعيدٍ واحدٍ، يُسمِعُهم الدَّاعي، ويَنفُذُهم البَصَرُ، وتَدْنو الشَّمسُ، فيَبلُغُ النَّاسَ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطيقونَ، ولا يَحتَمِلونَ)) [25] رواه البخاري (4712) واللَّفظُ له، ومسلم (194). .
عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10).
أي: وهو يومٌ شديدٌ على الكافِرينَ باللهِ ورُسُلِه، غَيرُ سَهلٍ ولا هَيِّنٍ عليهم [26] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/381)، ((تفسير القرطبي)) (19/70)، ((تفسير ابن كثير)) (8/265). .
كما قال تعالى: خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر: 7، 8].

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- اللهُ سُبحانَه وتعالى خاطَبَ الأنبياءَ بأسمائِهم، فقال يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35] ، يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] ، يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه: 11، 12]، يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]، ولَمَّا خاطَبَ نبيَّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [التحريم: 1] ، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41] ، [المائدة: 67] ، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ، فنحن أحقُّ أن نتأدَّبَ في دُعائِه وخِطابِه صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأمَّا إذا كان في مقامِ الإخبارِ عنه، قُلْنا: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وقُلْنا: محمَّدٌ رَسولُ اللهِ وخاتَمُ النَّبيِّينَ، فنُخبِرُ عنه باسمِه كما أخبَرَ اللهُ سُبحانَه لَمَّا أخبَرَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، وقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا [الفتح: 29] ، وقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] ، وقال: وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ [محمد: 2] ، فالفَرقُ بيْن مَقامِ المُخاطَبةِ ومَقامِ الإخبارِ فَرقٌ ثابتٌ بالشَّرعِ والعقلِ [27] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (1/297). .
2- في قَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ أنَّه واجِبٌ على الأُمَّةِ أنْ يُبَلِّغوا ما أُنْزِلَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويُنْذِروا كما أنْذَرَ [28] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/327). .
3- الآمِرُ بالمعروفِ والنَّاهي عن المنكرِ يجِبُ أنْ يكونَ حليمًا صبورًا على الأذَى؛ فإنَّه لا بدَّ أنْ يحصُلَ له أذًى؛ فإنْ لم يحلمْ ويصبرْ كان ما يُفسِدُ أكثرَ ممَّا يُصلِحُ، ولهذا أمَر الله الرُّسلَ -وهم أئمةُ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ- بالصبرِ، بل قرَنه بتبليغِ الرِّسالةِ، كقولِه لخاتمِ الرُّسلِ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ إلى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فافتتَحَ آياتِ الإرسالِ إلى الخَلْقِ بالأمرِ بالنِّذارةِ، وخَتَمَها بالأمرِ بالصَّبرِ، ونَفْسُ الإنذارِ أمرٌ بالمعروفِ ونهيٌ عنِ المُنكَرِ؛ فعُلِمَ أنَّه يجبُ بعدَ ذلك الصَّبرُ [29] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/137). .
4- قولُه: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ فيه الأمرُ بالتَّطَهُّرِ الحِسِّيِّ والمعنويِّ [30] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/293). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ يدُلُّ على وُجوبِ الاحترازِ عن كُلِّ المعاصي -وذلك بِناءً على أنَّ الرجزَ هو العذابُ-، وعلى أنَّه اسمٌ للقبيحِ فهو كلامٌ جامعٌ في مكارمِ الأخلاقِ؛ كأنَّه قيل له: اهجُرْ كلَّ شيءٍ قبيحٍ [31] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/699). .
6- في قَولِه تعالى: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ نَهْيُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن دَناءاتِ الأخلاقِ والمطامعِ، وقد حَثَّ اللهُ تعالى على التَّأسِّي برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تأسِّيًا عامًّا في قَولِه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [32] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/618). [الأحزاب: 21] .
7- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ هذه سِتُّ وصايا أوصى اللهُ بها رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في مبدأِ رِسالتِه، وهي مِن جوامِعِ القُرآنِ، أراد اللهُ بها تزكيةَ رَسولِه، وجعلَه قُدوةً لأمَّتِه [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/300). . ونبَّه الله تعالى في هذه الآياتِ على حالِ رسولِه وكمالِه، وإتمامِ نعمةِ الله عليه، وكم بينَ ابتداءِ أمرِه وانزعاجِه مِن الوحيِ، وتدثُّرِه مِن شدَّةِ ما لقِي، وبينَ آخرِ أمرِه حينَ أتمَّ الله أمورَه كلَّها؛ ولهذا أمرَه بتكميلِ نفسِه وتكميلِ غيرِه، وأرشَده إلى ما ينالُ به ذلك: وهو القيامُ التامُّ على وجهِ النَّشاطِ والتَّعظيمِ لربِّه، وتكبيرُه في باطنِه، وتطهيرُ أعمالِه وثيابِه الظَّاهرةِ، وتركُ كلِّ شرٍّ ودَنَسٍ، واستعمالُ رُوحِ الأعمالِ، وهو الإخلاصُ في كلِّ شيءٍ، حتى في العطاءِ، فلهذا قال: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ، ثمَّ أرشَده إلى ما يُعينُه على كلِّ الأمورِ، وهو الصبرُ لوجهِ الله، فقال: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ، ثمَّ تكفَّل له بحفظِه مِن الأعداءِ، وحفظِ ما جاء به، بتوعُّدِهم بالعذابِ، خصوصًا لأكبرِهم عنادًا وأعظمِهم عداوةً، وهذا تمامُ النِّعمةِ [34] يُنظر: ((المواهب الربانية)) للسعدي (ص: 15، 16)، ويُنظر أيضًا: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/722). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قيل: إنَّ أوَّلَ ما أُنزِلَ مِنَ القُرآنِ: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وقد رُوِيَ ذلك عن جابِرِ ابنِ عبدِ الله رضيَ الله عنهما [35] أخرجه البخاري (4924)، ومسلم (161). والمرادُ بالأوَّليَّةِ فيما رُويَ عن جابرٍ رضيَ الله عنه أوَّليَّةٌ مخصوصةٌ بما بعدَ فَترةِ الوحيِ، أو مخصوصةٌ بالأمرِ بالإنذارِ، لا أنَّ المرادَ أنَّها أوَّليَّةٌ مُطلَقةٌ، وقيل غيرُ ذلك. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/678). ، والأصحُّ أنَّ أوَّلَ ما أُنزِلَ مِنَ القُرآنِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ، وهو قولُ جماهيرِ العُلَماءِ؛ فإنَّ حديثَ عائِشةَ رضيَ الله عنها الَّذي في الصَّحيحَينِ [36] أخرجه البخاري (3)، ومسلم (160). يُبَيِّنُ أنَّ أوَّلَ ما نَزَل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ، نزَلَت عليه وهو في غارِ حِراءٍ، وأنَّ (المُدَّثِّرَ) نزلت بَعْدُ. وهذا هو الَّذي يَنبغي؛ فإنَّ قَولَه: اقْرَأْ أمرٌ بالقراءةِ، لا بتبليغِ الرِّسالةِ، وبذلك صار نَبيًّا، وقَولَه: قُمْ فَأَنْذِرْ أمرٌ بالإنذارِ، وبذلك صار رسولًا مُنذِرًا [37] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/254). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ جُعِلَت هذه الكلمةُ (اللهُ أكبَرُ) افتِتاحًا للصَّلاةِ، ولعلَّ في ذِكرِ التَّكبيرِ إيماءً إلى شَرعِ الصَّلاةِ الَّتي أوَّلُها التَّكبيرُ، وخاصَّةً اقترانُه بقولِه: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ؛ فإنَّه إيماءٌ إلى شَرعِ الطَّهارةِ؛ فلعَلَّ ذلك إعدادٌ لشَرعِ الصَّلاةِ [38] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/296). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ أمرٌ بتطهيرِ الثِّيابِ مِنَ النَّجاساتِ، ويَقبُحُ أن تكونَ ثيابُ المؤمِنِ نَجِسةً [39] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/325). . ففيه وُجوبُ غَسلِ النَّجاسةِ، وإزالتِها مِن الثَّوبِ [40] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 277). ويُنظر أيضًا: ((الأم)) للشافعي (1/72). .
4- على القولِ بأنَّ معنى قَولِه تعالى: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ هو أنْ تُهْدِيَ لِيُهْدَى إليك أكثرَ مِن هَديَّتِك فهذا يدُلُّ على أنَّ صُوَرَ العُقودِ غيرُ كافيةٍ في حِلِّها وحُصولِ أحكامِها إلَّا إذا لم يَقصِدْ بها قَصْدًا فاسِدًا، وكلُّ ما لو شَرَطَه في العقدِ كان عِوَضًا فاسدًا فقَصْدُه فاسِدٌ؛ لأنَّه لو كان صالِحًا لم يَحْرُمِ اشْتِراطُه [41] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (6/162). .
5- قَولُه تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ تثبيتٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على تحَمُّلِ ما يَلْقاه مِن أذى المُشرِكينَ، وعلى مَشاقِّ الدَّعوةِ [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/299). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ فيه بِشارةٌ للمُؤمِنينَ كبيرةٌ؛ إذْ لا يكونُ ذلك اليَومُ على الكافِرينَ غيرَ يَسيرٍ إلَّا وهو على المؤمِنينَ يسيرٌ [43] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/436). . قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهما: (لَمَّا قال: إنَّه غيرُ يَسيرٍ على الكافِرينَ، كان يسيرًا على المؤمِنينَ)، فبَعضُ مَن قال بدليلِ الخِطابِ [44] دَليلُ الخِطابِ -أو مفهومُ المُخالَفةِ-: هو ما يُفهَمُ مِن الكلامِ بطَريقِ الالْتزامِ. وقيل: هو أنْ يَثبُتَ الحُكمُ في المسكوتِ على خِلافِ ما ثبَتَ في المنطوقِ، ومِنه الاحتِجاجُ بقولِه تعالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] على رُؤيةِ المُؤمِنين لربِّهم يومَ القِيامةِ، وهو احتِجاجٌ مِن جِهةِ دَليلِ الخِطابِ، وإلَّا فلو حُجِبَ الكلُّ لَما أغْنَى هذا التَّخصيصُ؛ قال الشَّافعيُّ: (لَمَّا حَجَب قومًا بالسَّخَطِ، دلَّ على أنَّ قومًا يَرَوْنَه بالرِّضا). يُنظر: ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/65)، ((تفسير أبي حيان)) (10/429)، ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 224). قال: لولا أنَّ دَليلَ الخِطابِ حُجَّةٌ وإلَّا لَمَا فَهِمَ ابنُ عبَّاسٍ مِن كَونِه غيرَ يَسيرٍ على الكافِرِ: كَونَه يَسيرًا على المؤمِنِ [45] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 277). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ
- النِّداءُ بقولِه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ نِداءُ تَكرمةٍ وتَلطُّفٍ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/294). .
- قوله: قُمْ فَأَنْذِرْ قيل: القِيامُ المأمورُ به هنا مُستعمَلٌ في الأمْرِ بالمُبادَرةِ والإقبالِ والتَّهمُّمِ بالإنذارِ كِنايةً، واستعمالُ فِعلِ القِيامِ في معنَى الشروعِ قدْ يكونُ كِنايةً عن لازمِ القِيامِ مِن العَزمِ والتَّهمُّمِ، أي: قُمْ قِيامَ عَزْمٍ وَتصميمٍ فحَذِّرْ مِن عذابِ اللهِ مَن لم يُؤمنوا، وقدْ يُرادُ المعنى الصَّريحُ مع المعنَى الكنائيِّ [47] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/645)، ((تفسير البيضاوي)) (5/259)، ((تفسير أبي حيان)) (10/325)، ((تفسير أبي السعود)) (9/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/294). .
- وأيضًا في قولِه: قُمْ فَأَنْذِرْ ابتُدِئَ بالأمْرِ بالإنْذارِ؛ لأنَّ الإنذارَ يَجمَعُ مَعانيَ التَّحذيرِ مِن فِعلِ شَيءٍ لا يَليقُ وعَواقبِه، فالإنذارُ حَقيقٌ بالتَّقديمِ قبْلَ الأمرِ بمَحامدِ الفِعالِ؛ لأنَّ التَّخليةَ مُقدَّمةٌ على التَّحليةِ، ودَرْءَ المَفاسدِ مُقدَّمٌ على جلْبِ المصالحِ، ولأنَّ غالبَ أحوالِ النَّاسِ يَومَئذٍ مُحتاجةٌ إلى الإنذارِ والتَّحذيرِ [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/295). .
- وأفادتْ فاءُ فَأَنْذِرْ تَعقيبَ إفادةِ التَّحفُّزِ والشُّروعِ بالأمرِ بإيقاعِ الإنذارِ، ففِعلُ قُمْ مُنزَّلٌ مَنزِلةَ اللَّازمِ، وتَفريعُ فَأَنْذِرْ عليه يُبيِّنُ المرادَ مِن الأمرِ بالقِيامِ [49] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/294). .
- ومَفعولُ (أنذِرْ) مَحذوفٌ؛ لإفادةِ العُمومِ، أي: أنذِرِ النَّاسَ كلَّهم، كما دلَّ عليه قولُه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [سبأ: 28] ، أو المفعولُ مُقدَّرٌ بمَفعولٍ دلَّ عليه قولُه: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/645)، ((تفسير البيضاوي)) (5/259)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/111)، ((تفسير أبي حيان)) (10/325)، ((تفسير أبي السعود)) (9/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/295). [الشعراء: 214] .
- واقتَصر على الإنذارِ هنا معَ أنَّه أيضًا بُعِث مُبشِّرًا؛ لأنَّ ذلك كان أوَّلَ الإسلامِ، فمتعلَّقُ الإنذارِ محقَّقٌ، فلمَّا أطاعَ مَن أطاعَ نزَلتْ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [51] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/722). [الأحزاب: 45] [الفتح : 8] .
- قولُه: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ انتَصَب (ربَّك) على المفعوليَّةِ للفِعلِ (كبِّرْ)، وقُدِّمَ على عامِلِه لإفادةِ الاختِصاصِ، أي: لا تُكبِّرْ غيرَه، وهو قصْرُ إفرادٍ، أي: دونَ الأصنامِ [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/645)، ((تفسير البيضاوي)) (5/259)، ((تفسير أبي حيان)) (10/325)، ((تفسير أبي السعود)) (9/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/295). .
- قولُه: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ دخَلَت الفاءُ على (كبِّر) إيذانًا بشَرْطٍ مَحذوفٍ يكونُ (كبِّر) جَوابَه، وهو شرْطٌ عامٌّ؛ إذ لا دَليلَ على شَرطٍ مَخصوصٍ، وهُيِّئَ لتَقديرِ الشَّرطِ بتَقديمِ المفعولِ؛ لأنَّ تَقديمَ المعمولَ قدْ يُنزَّلُ مَنزِلةَ الشَّرطِ، فالتَّقديرُ: مهْما يكُنْ شَيءٌ فكبِّرْ ربَّك، والمعْنى: ألَّا يَفتُرَ عن الإعلانِ بتَعظيمِ اللهِ وتَوحيدِه في كلِّ زمانٍ وكلِّ حالٍ، وهذا مِن الإيجازِ. أوْ للدَّلالةِ على أنَّ المقصودَ الأوَّلَ مِن الأمرِ بالقيامِ أنْ يُكبِّرَ رَبَّه، ويُنزِّهَه مِن الشِّركِ [53] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/645)، ((تفسير البيضاوي)) (5/259)، ((تفسير أبي حيان)) (10/325)، ((تفسير أبي السعود)) (9/54)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/296)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/275). .
- قولُه: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ دخَلَتِ الفاءُ على (طَهِّر) إيذانًا بشَرْطٍ مَحذوفٍ يكونُ (طهِّر) جَوابَه، وهو شرْطٌ عامٌّ؛ إذ لا دَليلَ على شَرطٍ مَخصوصٍ، وهُيِّئَ لتَقديرِ الشَّرطِ بتَقديمِ المفعولِ؛ لأنَّ تَقديمَ المعمولِ قدْ يُنزَّلُ مَنزِلةَ الشَّرطِ، فالتَّقديرُ: مهْما يكُنْ شَيءٌ فلا تَترُكْ تَطهيرَ ثِيابَك [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/297). .
- قولُه: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ للثِّيابِ إطلاقٌ صَريحٌ، وهو ما يَلبَسُه اللَّابسُ، وإطلاقٌ كِنائيٌّ، فيُكنَّى بالثِّيابِ عن ذاتِ صاحبِها وقلْبِه، وللتَّطهيرِ إطلاقٌ بمعْنى التَّنظيفِ وإزالةِ النَّجاساتِ، وإطلاقٌ بمعْنى التَّزكيةِ؛ قال تعالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33] ، والمَعنيانِ صالحانِ في الآيةِ، فتُحمَلُ عليهما معًا، فتَحصَّلُ أربعةُ مَعانٍ؛ لأنَّه مَأمورٌ بالطَّهارةِ الحقيقيَّةِ لثِيابِه؛ إبطالًا لِما كان عليه أهلُ الجاهليَّةِ مِن عدَمِ الاكتراثِ بذلك، والطَّهارةُ لجسَدِه بالأَولى [55] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/645)، ((تفسير البيضاوي)) (5/259)، ((تفسير أبي حيان)) (10/325)، ((تفسير أبي السعود)) (9/55)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/297)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/286). .
وقيل: هو كِنايةٌ عن طَهارةِ العَملِ، والمعنى: وعمَلَك فأصْلِحْ؛ فالرَّجلُ إذا كان خَبيثَ العَملِ قالوا: فلانٌ خَبيثُ الثِّيابِ، وإذا كان حَسَنَ العَملِ قالوا: فلانٌ طاهرُ الثِّيابِ. وقيل: كنَّى بالثيابِ عن الجسْمِ. وقيل: هي كِنايةٌ عن الأهْلِ؛ قال تعالى: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [البقرة: 187] ، والتَّطهُّرُ فيهنَّ اختيارُ المؤمناتِ العَفائفِ. وقيل: ووَطْؤهنَّ في القُبلِ لا في الدُّبرِ، في الطُّهرِ لا في الحَيضِ. وقيل: كِنايةٌ عن الخُلُقِ، أي: وخُلقَك فحسِّنْ [56] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/325، 326). .
- وتَقديمُ (ثِيَابَكَ) على فِعلِ (طهِّرْ)؛ للاهتمامِ به في الأمرِ بالتَّطهيرِ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/298). .
- قولُه: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ فيه تَقديمُ الرُّجْزِ على فِعلِ (اهجُرْ)؛ للاهتمامِ في مَهْيعِ الأمرِ بتَرْكِه [58] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/298). .
- والهَجرُ هنا كِنايةٌ عن تَرْكِ التَّلبُّسِ بالأحوالِ الخاصَّةِ بأنواعِ الرُّجْزِ لكلِّ نوعٍ بما يُناسِبُه في عُرفِ النَّاسِ، والأمرُ بهَجرِ الرُّجزِ يَستلزِمُ ألَّا يَعبُدَ الأصنامَ، وأنْ يَنفِيَ عنها الإلهيَّةَ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/298). .
- وأيضًا الأمرُ في قولِه: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ مُستعمَلٌ في معْنى الثَّباتِ والدَّوامِ على هجْرِ الرُّجزِ؛ لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان بَريئًا منه [60] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/645)، ((تفسير البيضاوي)) (5/259)، ((تفسير أبي حيان)) (10/326)، ((تفسير أبي السعود)) (9/55)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/274). .
- وكذلك في قولِه: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ دخَلَت الفاءُ على (اهْجُرْ) إيذانًا بشَرْطٍ مَحذوفٍ يكونُ (اهْجُرْ) جَوابَه، وهو شرْطٌ عامٌّ؛ إذ لا دَليلَ على شَرطٍ مَخصوصٍ، وهُيِّئَ لتَقديرِ الشَّرطِ بتَقديمِ المفعولِ؛ لأنَّ تَقديمَ المعمولِ قدْ يُنزَّلُ مَنزِلةَ الشَّرطِ، فالتَّقديرُ: مَهْما يكُنْ شَيءٌ فاهْجُرِ الرُّجزَ [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/296، 298). .
- قولُه: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ قيل: لمَّا أمَرَه اللهُ بهَجْرِ الرُّجْزِ نَهاهُ عن أخلاقِ أهلِ الرُّجْزِ نَهْيًا يَقْتضي الأمرَ بالصَّدقةِ، والإكثارَ منها بطَريقِ الكِنايةِ، فكأنَّه قال: وتَصدَّقْ وأكثِرْ مِن الصَّدقةِ ولا تَمنُنْ، ففي هذه الآيةِ إيماءٌ إلى التَّصدُّقِ، كما كان فيها وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ إيماءٌ إلى الصَّلاةِ، ومِن عادةِ القُرآنِ الجمْعُ بيْن الصَّلاةِ والزَّكاةِ، والسِّينُ والتَّاءُ في قولِه: تَسْتَكْثِرُ للعَدِّ، أي: بعَدِّ ما أعطَيْتَه كثيرًا -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، وهذا مِن بَديعِ التَّأكيدِ لحُصولِ المأمورِ به جُعِلَت الصَّدقةُ كالحاصلةِ، أي: لأنَّها مِن خُلُقِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ إذ كان أجوَدَ النَّاسِ، وقد عُرِفَ بذلك مِن قَبلِ رِسالتِه؛ لأنَّ اللهَ هيَّأَه لمَكارِمِ الأخلاقِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/298، 299). .
- قولُه: وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ الاستِكثارُ: عَدُّ الشَّيءِ كثيرًا، أي: لا تَستعظِمْ ما تُعطِيه -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، وهذا النَّهيُ يُفيدُ تَعميمَ كلِّ استكثارٍ كيْفما كان ما يُعطِيه مِن الكثرةِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/299). .
- قولُه: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فيه تَقديمُ وَلِرَبِّكَ على (اصبِرْ)؛ للاهتمامِ بالأُمورِ الَّتي يُصبَرُ مِن أجْلِها، مع الرِّعايةِ على الفاصلةِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/299، 300). .
- وفِعلُ الصَّبرِ يُعدَّى إلى اسمِ الَّذي يَتحمَّلُه الصَّابرُ بحرْفِ (على)، يُقالُ: صبَرَ على الأذى، ويَتضمَّنُ معْنى الخُضوعِ للشَّيءِ الشَّاقِّ، فيُعدَّى إلى اسمِ ما يَتحمَّلُه الصَّابرُ باللَّامِ، ومُناسَبةُ المقامِ تُرجِّحُ إحْدى التَّعديتَينِ، فلا يُقالُ: اصبِرْ على اللهِ، ويُقالُ: اصبِرْ على حُكمِ اللهِ، أو لحُكْمِ اللهِ، فيجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ في قولِه: (لِرَبِّكَ) لتَعديةِ فِعلِ الصَّبرِ على تَقديرِ مُضافٍ، أي: اصبِرْ لأمْرِ اللهِ وتَكاليفِ وَحْيهِ، وهذا يُناسِبُ نِداءَه يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] ؛ لأنَّه تَدثَّرَ مِن شِدَّةِ وَقْعِ رُؤيةِ المَلَكِ، وتَرْكُ ذِكرِ المُضافِ لتَذهَبَ النَّفْسُ إلى كلِّ ما هو مِن شأْنِ المُضافِ إليه ممَّا يَتعلَّقُ بالمُخاطَبِ. ويجوزُ أنْ تكونَ اللَّامُ في (لِرَبِّكَ) للتَّعليلِ، وحُذِفَ مُتعلَّقُ فِعلِ الصَّبرِ، أي: اصبِرْ مِن أجْلِ ربِّك على كلِّ ما يَشُقُّ عليك [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/299، 300). . ويجوزُ أن يُضَمَّنَ (اصْبِرْ) معنى: أذْعِنْ لربِّك، وسَلِّمْ له أمْرَك صابرًا [66] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/538). .
- وأُطلِقَ الصَّبرُ، وتُرِك ذِكرُ المصبورِ عليه والمصبورِ عنه؛ للعِلمِ بهما، ولِيَتناوَلَ كلَّ مصبورٍ عليه ومَصبورٍ عنه، ويَدخُلُ فيه الصَّبرُ على أذَى المشرِكينَ؛ لأنَّه فردٌ مِن أفرادِ العامِّ، لا لأنَّه وحْدَه هو المرادُ [67] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/646)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/15، 16)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/538). .
- وفي التَّعبيرِ عن اللهِ بوَصْفِ (ربِّك) إيماءٌ إلى أنَّ هذا الصَّبرَ بِرٌّ بالمَولَى، وطاعةٌ له [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/300). .
2- قولُه تعالَى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ
- الفاءُ في فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ للتَّسبيبِ، كأنَّه قال: اصبِرْ على أذاهُم؛ فبيْنَ أيدِيهم يومٌ عَسيرٌ يَلْقَون فيه عاقبةَ أذاهُم، وتَلْقى فيه عاقبةَ صَبرِك عليه [69] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/646)، ((تفسير البيضاوي)) (5/260)، ((تفسير أبي حيان)) (10/327)، ((تفسير أبي السعود)) (9/55). .
- قولُه: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ الفاءُ في فَذَلِكَ لجزاءِ (إذا)؛ لأنَّ (إذا) يَتضمَّنُ معْنى شَرطٍ، والشَّرطُ والجزاءُ إذا اتَّحَدا معنًى دلَّ على فَخامةِ الجَزاءِ، وكان الجزاءُ مُتضمِّنًا للإخبارِ أو التَّوبيخِ، وهاهنا المشارُ إليه بقولِه: فَذَلِكَ -الَّذي هو الجزاءُ- نفْسُ الشَّرطِ -الَّذي هو وقْتُ النَّقرِ-، وانضَمَّ معه تَكريرُ يَوْمَئِذٍ ويَوْمٌ عَسِيرٌ؛ فدلَّ على التَّنبيهِ على الخطْبِ الجَليلِ، والأمْرِ العظيمِ [70] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/646)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/118)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/301). .
- وما في اسمِ الإشارةِ فَذَلِكَ مِن معْنى البُعدِ -مع قُربِ العهدِ بالمُشارِ إليه-؛ للإيذانِ ببُعدِ مَنزلتِه في الهَولِ والفَظاعةِ [71] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/55). .
- وفائدةُ قولِه غَيْرُ يَسِيرٍ -مع أنَّ الظاهرَ أنَّ قولَه: عَسِيرٌ مُغْنٍ عنه-: أنَّه لَمَّا قال: عَلَى الْكَافِرِينَ فخَصَّصَ إيقاعَ ذِكرِ العُسرِ عليهم، قال: غَيْرُ يَسِيرٍ؛ ليُؤذِنَ بأنَّه لا يكونُ عليهم كما يكونُ على المؤمِنينَ يَسيرًا هيِّنًا؛ ليَجمَعَ بيْن وَعيدِ الكافِرين، وزِيادةِ غَيظِهم، وبِشارةِ المؤمِنينَ وتَسليتِهم. ويَجوزُ أنْ يُرادَ أنَّه عَسيرٌ لا يُرْجى أنْ يَرجِعَ يَسيرًا، كما يُرْجى تَيسيرُ العَسيرِ مِن أُمورِ الدُّنيا [72] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/647)، ((تفسير البيضاوي)) (5/260)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/118)، ((تفسير أبي حيان)) (10/328)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 587)، ((تفسير أبي السعود)) (9/56)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/301، 302). .
- وأيضًا لَمَّا كان العُسرُ قد يُطلَقُ على الشَّيءِ، وفيه يُسْرٌ مِن بَعضِ الجِهاتِ، أو يُعالَجُ فيَرجِعُ يَسيرًا، بيَّن أنَّه ليس كذلك بقولِه: غَيْرُ يَسِيرٍ، فجَمَع فيه بيْنَ إثباتِ الشَّيءِ، ونفْيِ ضدِّه؛ تَحقيقًا لأمْرِه، ودفعًا للمَجازِ عنه، وتَأييدًا لكونِه غيرَ مُنقطِعٍ بوجْهٍ، وتَقييدُه بالكافِرينَ يُشعِرُ بتَيسُّرِه على المؤمنينَ [73] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/47). .