موسوعة التفسير

سُورةُ الشَّرْحِ
الآيات (1-8)

ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ

غريب الكلمات:

نَشْرَحْ: نُفْسِحْ ونُوَسِّعْ، أو نفتَحْ، وأصلُ (شرح): يدُلُّ على الفَتحِ والبَيانِ [4] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 532)، ((المفردات)) للراغب (ص: 449)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916). .
وِزْرَكَ: ذَنْبَك، والوِزْرُ: الإثمُ والثِّقْلُ، وأصلُ (وزر): يدُلُّ على الثِّقْلِ في الشَّيءِ [5] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/493)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/108)، ((المفردات)) للراغب (ص: 533)، ((تفسير القرطبي)) (20/106)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 948). .
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ: أي: أثقَلَه حتَّى سُمِعَ نَقِيضُه، أي: صَوتُه، وأصلُ (نقض) هنا: يدُلُّ على جِنسٍ مِنَ الصَّوتِ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 532)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 87)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/471)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 458)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 467). .
فَانْصَبْ: فاتعَبْ، وأصلُ (نصب): يدُلُّ على إقامةِ شَيءٍ، ومنه النَّصبُ: العناءُ؛ لأنَّ الإنسانَ لا يزالُ مُنتَصِبًا حتَّى يُعيِيَ [7] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/434)، ((تفسير القرطبي)) (20/109)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بتذكيرِ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بنِعَمِه عليه؛ مُقَرِّرًا لها، حتَّى يُداوِمَ على شُكرِه تعالى، فقال: ألَمْ نُوَسِّعْ لك صَدْرَك -يا محمَّدُ- ونفتَحْه للهُدى والإيمانِ، ومَعرفةِ الحقِّ، والعمَلِ به، ومِن ذلك شقُّ جِبريلَ لصَدرِك ومَلْؤُه حِكمةً وإيمانًا؟ وحطَطْنا عنك إثمَك، وغَفَرْنا لك ذَنْبَك، الَّذي أثقَلَك حَمْلُه، ورفَعْنا لك ذِكْرَك، وأعلَيْنا شَأْنَك.
ثمَّ قال سُبحانَه مُسَلِّيًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأتْباعَه، ومُبَيِّنًا سُنَّةً مِن سُنَنِه: فإنَّ مع الصُّعوبةِ والشِّدَّةِ سُهولةً وسَعةً وفَرَجًا، إنَّ مع الصُّعوبةِ والشِّدَّةِ سُهولةً وسَعةً وفَرَجًا.
ثمَّ أمَرَ اللهُ تعالى نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالاجتِهادِ في عبادتِه، فقال: فإذا فرَغْتَ مِن أشغالِك الدُّنيويَّةِ والأُخْرويَّةِ فاجتَهِدْ في العِبادةِ والدُّعاءِ، واجعَلْ رَغبتَك في جميعِ أعمالِك وعباداتِك مِن أجْلِ إرضاءِ رَبِّك وَحْدَه.

تفسير الآيات:

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1).
أي: ألم نُوَسِّعْ لك صَدْرَك -يا محمَّدُ- ونفتَحْه للهُدى والإيمانِ، ومَعرفةِ الحقِّ، والعمَلِ به، والقيامِ بالدَّعوةِ، وتحمُّلِ أعباءِ النُّبُوَّةِ، ومِن ذلك شَقُّ جِبريلَ لصَدرِك ومَلْؤُه حِكمةً وإيمانًا [8] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/492)، ((تفسير ابن عطية)) (5/496)، ((تفسير ابن كثير)) (8/429)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 241، 242). قال ابنُ عطيَّةَ: (ذهب الجُمهورُ إلى أنَّ شَرْحَ الصَّدرِ المذكورَ هو تنويرُه بالحِكمةِ، وتوسيعُه لتلَقِّي ما يُوحَى إليه، وقال ابنُ عبَّاسٍ وجماعةٌ: هذه إشارةٌ إلى شَرْحِه بشَقِّ جِبريلَ عنه في وقتِ صِغَرِه، وفي وقتِ الإسراءِ؛ إذ التَّشريحُ شَقُّ اللَّحمِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/496). وقال الثعلبي: (ألم نَفتَحْ ونُوسِّعْ ونُلَيِّنْ لك قَلْبَك بالإيمانِ والنُّبوَّةِ والعِلمِ والحِكمةِ). ((تفسير الثعلبي)) (10/232). ويُنظر: ((تفسير البغوي)) (5/274). ممَّن اختار في الجُملةِ أنَّ المعنى: شَرَحْناه وفتَحْناه ووسَّعْناه للهُدى وشرائِعِ الدِّينِ، والإيمانِ باللهِ ومَعرفةِ الحَقِّ، حتَّى قام بما قام به مِنَ الدَّعوةِ، وقَدَر على ما قَدَر عليه مِن حَملِ أعباءِ النُّبوَّةِ وحِفظِ الوَحيِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والقرطبي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/492)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/341)، ((تفسير القرطبي)) (20/104)، ((تفسير الشوكاني)) (5/562)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929). وقال ابنُ عاشور: (ويجوزُ أن يُجعَلَ الشَّرحُ شَرحًا بَدَنيًّا، ورُوِيَ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه فَسَّر به، وهو ظاهِرُ صَنيعِ التِّرمذيِّ؛ إذ أخرجَ حديثَ شَقِّ الصَّدرِ الشَّريفِ في تفسيرِ هذه السُّورةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/409). وممَّن جَمَع بيْن المعنَيَينِ السَّابِقَينِ للشَّرحِ: ابنُ العربيِّ، والبِقاعيُّ. يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/412)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/116). قال ابنُ كثيرٍ: (شَرَحْنا لك صَدْرَك، أي: نوَّرْناه وجعَلْناه فَسيحًا رَحيبًا واسِعًا... وقيل: المرادُ بقَولِه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ شَرْحُ صَدْرِه ليلةَ الإسراءِ... وهذا وإن كان واقِعًا، ولكِنْ لا مُنافاةَ؛ فإنَّ مِن جملةِ شَرْحِ صَدْرِه الَّذي فُعِلَ بصَدْرِه ليلةَ الإسراءِ، وما نشَأَ عنه مِن الشَّرحِ المعنويِّ أيضًا. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/429). ؟
كما قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام: 125] .
وقال سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر: 22] .
وقال سُبحانَه حكايةً عن موسى عليه السَّلامُ: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 25-26] .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاه جِبريلُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَلعَبُ مع الغِلْمانِ، فأخَذَه فصَرَعَه، فشَقَّ عن قَلْبِه، فاستخرَجَ القَلْبَ، فاستخرَجَ منه عَلَقةً، فقال: هذا حَظُّ الشَّيطانِ مِنك، ثمَّ غسَلَه في طَسْتٍ مِن ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ، ثمَّ لَأَمَه، ثمَّ أعاده في مَكانِه، وجاء الغِلْمانُ يَسْعَونَ إلى أُمِّه -يعني: ظِئْرَه- فقالوا: إنَّ محمَّدًا قد قُتِلَ! فاستَقْبَلوه وهو مُنتَقِعُ اللَّونِ، قال أنَسٌ: وقد كُنتُ أرى أَثَرَ ذلك المِخْيَطِ في صَدْرِه )) [9] رواه مسلم (162). .
وعن أنسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان أبو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: فُرِج عن سَقْفِ بيتي وأنا بمكَّةَ، فنَزَل جِبريلُ ففَرَج صَدْري، ثُمَّ غَسَله بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جاءَ بطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمةً وإيمانًا، فأفْرَغه في صَدْري، ثُمَّ أطْبَقَه، ثُمَّ أخَذ بِيَدي فعَرَج بي إلى السَّماءِ الدُّنْي ا...)) [10] رواه البخاري (349)، ومسلم (163). .
وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ عن مالِكِ بنِ صَعْصَعَةَ، رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَيْنا أنا عندَ البَيتِ [11] عندَ البَيتِ: أي: الكعبة. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (15/125). بيْنَ النَّائِمِ واليَقْظانِ... فأُتِيتُ بطَسْتٍ مِن ذَهَبٍ مُلِئَ حِكْمةً وإيمانًا، فشُقَّ مِن النَّحْرِ إلى مَرَاقِّ البَطنِ [12] مراقِّ البطنِ: هو ما سفَل مِن البطنِ، ورقَّ مِن جلدِه. يُنظر: ((عمدة القاري)) للعيني (15/126). ، ثُمَّ غُسِل البطنُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ حِكْمةً وإيمانًا، وأُتِيتُ بدابَّةٍ....)) الحديثَ [13] رواه البخاري (3207)، ومسلم (164). .
وفي روايةٍ: ((فأُتِيتُ بطَسْتٍ مِن ذهَبٍ فيها مِن ماءِ زَمْزَمَ، فشُرِح صدري إلى كذا وكذا )) [14] رواه مسلم (164). .
وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2).
أي: وحطَطْنا عنك إثمَك، وغَفَرْنا لك ذَنْبَك [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/492)، ((تفسير القرطبي)) (20/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 244). .
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3).
أي: الَّذي أثقَلَك حَمْلُه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/492)، ((تفسير ابن كثير)) (8/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929). .
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4).
أي: ورفَعْنا ذِكْرَك رِفعةً عَظيمةً، فأعلَيْنا شَأْنَك، ونوَّهْنا باسمِك، ونشَرْنا لك الثَّناءَ الحسَنَ العاليَ؛ تشريفًا لك وتعظيمًا [17] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/494)، ((تفسير ابن عطية)) (5/497)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/120)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 248). .
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5).
أي: فإنَّ مع الصُّعوبةِ والشِّدَّةِ والضِّيقِ سُهولةً وسَعةً وفَرَجًا [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/495)، ((تفسير القرطبي)) (20/107)، ((تفسير ابن كثير)) (8/431)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 248-250). قال الشوكاني: (في هذا وَعدٌ منه سبحانه بأنَّ كُلَّ عُسرٍ يتيسَّرُ، وكُلَّ شَديدٍ يَهُونُ، وكُلَّ صَعبٍ يَلينُ). ((تفسير الشوكاني)) (5/564). وقال السعدي: (كُلَّما وُجِدَ عُسرٌ وصُعوبةٌ فإنَّ اليُسرَ يُقارِنُه ويُصاحِبُه). ((تفسير السعدي)) (ص: 929). .
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان العُسرُ مَكروهًا إلى النُّفوسِ، وكان لله سُبحانَه وتعالى فيه حِكَمٌ عظيمةٌ، وكانت الحِكَمُ لا تتراءى إلَّا للأفرادِ مِنَ العِبادِ؛ كَرَّره سُبحانَه وتعالى على طريقِ الاستِئنافِ؛ لجوابِ مَن يقولُ: وهل بَعْدَه مِن عُسْرٍ؟ مؤكِّدًا له؛ ترغيبًا في أمرِه، وترَقُّبًا لِما يتسَبَّبُ عنه، مُبَشِّرًا بتكريرِه مع وَحْدةِ العُسْرِ [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/123). .
إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6).
أي: إنَّ الشِّدَّةَ والضِّيقَ يُصاحِبُهما السُّهولةُ والرَّخاءُ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/495)، ((تفسير القرطبي)) (20/108)، ((تفسير ابن كثير)) (8/431)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 248-250). .
كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : ((...واعلَمْ أنَّ في الصبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، وأنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ، وأنَّ الفَرَجَ معَ الكربِ، وأنَّ معَ العُسرِ يُسرًا )) [21] أخرجه مِن طُرقٍ: أحمدُ (2803) واللفظ له، والطَّبَرانيُّ (11/123) (11243)، والحاكمُ (6304) مطَوَّلًا. صحَّحه عبدُ الحقِّ الإشبيليُّ في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (6806)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (5/19)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((موافقة الخُبْرِ الخَبَر)) (1/327)، والسَّخاويُّ في ((المقاصد الحسنة)) (188)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيقِ ((مسند أحمد)) (4/287). ويُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/459). .
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عَدَّد اللهُ عليه نِعَمَه السَّالِفةَ، ووعَدَه بالنِّعَمِ الآتيةِ؛ لا جَرَمَ بَعَثَه على الشُّكرِ والاجتِهادِ في العِبادةِ؛ فقال [22] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/209). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (10/501). :
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7).
أي: فإذا فرَغْتَ مِن كلِّ ما كنتَ به مشتغِلًا، مِن أمرِ دنياك وآخرتِك؛ فاجتَهِدْ في العِبادةِ والدُّعاءِ [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/499)، ((الوسيط)) للواحدي (4/520، 521)، ((تفسير ابن كثير)) (8/433)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/128)، ((تفسير السعدي)) (ص: 929). قال ابن جُزَي: (والمعنى: إذا فرَغْتَ مِن أمرٍ فاجتَهِدْ في آخَرَ، ثمَّ اختُلِف في تعيينِ الأمْرَينِ؛ فقيل: إذا فرَغْتَ مِن الفرائضِ فانصَبْ في النَّوافلِ، وقيل: إذا فرغتَ مِن الصَّلاةِ فانصَبْ في الدُّعاءِ، وقيل: إذا فرغتَ مِن شُغلِ دُنياك فانصَبْ في عبادةِ ربِّك). ((تفسير ابن جزي)) (2/493). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ أن يواصِلَ بيْن بعضِ العباداتِ وبعضٍ، فإذا فرَغ مِن عبادةٍ أتْبعَها بأخرى -على خِلافٍ بيْنَهم في تعيينِ العِبادةِ المَفروغِ منها والَّتي يَنصَبُ إليها-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والكرماني، والزمخشري، وابن عطية، والرازي، والخازن، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/742)، ((تفسير السمرقندي)) (3/594)، ((تفسير الكرماني)) (2/1358)، ((تفسير الزمخشري)) (4/772)، ((تفسير ابن عطية)) (5/497)، ((تفسير الرازي)) (32/209)، ((تفسير الخازن)) (4/443)، ((تفسير العليمي)) (7/393). قال الواحِديُّ: (قال قَتادةُ، والضَّحَّاكُ، ومُقاتِلٌ، والكَلْبيُّ: إذا فرَغْتَ مِنَ الصَّلاةِ المكتوبةِ فانصَبْ إلى رَبِّك في الدُّعاءِ، وارغَبْ إليه في المسألةِ يُعْطيك، ونحوَ هذا روى عبدُ الوهَّابِ ابنُ مجاهِدٍ عن أبيه، قال: إذا صَلَّيْتَ فاجتَهِدْ في الدُّعاءِ والمَسْألةِ. وقال الشَّعبيُّ: إذا فرَغْتَ مِن التَّشَهُّدِ فادْعُ لدُنْياك وآخِرَتِك. ونحوَ هذا قال الزُّهْريُّ: إذا قَضَيتَ التَّشَهُّدَ فادْعُ بعْدَ التَّشَهُّدِ بكُلِّ حاجتِك). ((البسيط)) (24/136). وقال ابنُ كثير: (أي: إذا فرَغْتَ مِن أُمورِ الدُّنيا وأشغالِها وقطَعْتَ علائِقَها، فانصَبْ في العبادةِ، وقُمْ إليها نشيطًا فارِغَ البالِ، وأخلِصْ لرَبِّك النِّيَّةَ والرَّغبةَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/433). وقال الواحِديُّ: (وروى منصورٌ عن مجاهِدٍ: إذا فرَغْتَ بَعْدَ أمرِ دُنياك فَانْصَبْ فصَلِّ). ((البسيط)) (24/137). قال السعديُّ: (أمَر اللهُ رَسولَه أصلًا والمؤمِنينَ تبَعًا، بشُكْرِه والقيامِ بواجِبِ نِعَمِه، فقال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي: إذا تفَرَّغْتَ مِن أشغالِك، ولم يَبْقَ في قَلْبِك ما يَعوقُه، فاجتَهِدْ في العِبادةِ والدُّعاءِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 929). وقال ابنُ جريرٍ: (أَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ قَولُ مَن قال: إنَّ اللهَ تعالى ذِكْرُه أمَرَ نبيَّه أن يجعَلَ فَراغَه مِن كُلِّ ما كان به مُشتَغِلًا مِن أمرِ دُنياه وآخِرَتِه، ممَّا آدَى له الشُّغلُ به [أي: بلَغ منه المجهودُ والمشقَّةُ]، وأمَرَه بالشُّغلِ به: إلى النَّصَبِ في عِبادتِه، والاشتِغالِ فيما قَرَّبه إليه، ومَسألتِه حاجاتِه، ولم يَخصُصْ بذلك حالًا مِن أحوالِ فراغِه دونَ حالٍ، فسَواءٌ كُلُّ أحوالِ فَراغِه؛ مِن صلاةٍ كان فراغُه، أو جِهادٍ، أو أمْرِ دُنيا كان به مُشتَغِلًا؛ لعُمومِ الشَّرطِ في ذلك مِن غَيرِ خُصوصِ حالِ فَراغٍ دونَ حالٍ أُخرى). ((تفسير ابن جرير)) (24/499). وقال ابنُ عُثَيمين: (إذا فرَغْتَ مِن عَمَلٍ فانصَبْ في عَمَلٍ آخَرَ، إذا فرَغْتَ مِن عَمَلِ الدُّنيا عليك بعَمَلِ الآخِرةِ، [وإذا] فرَغْتَ مِن عمَلِ الآخِرةِ اشتغَلْتَ بأمرِ الدُّنيا). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 250). وقال القاسميُّ: (والأظهَرُ عِندي اعتِمادًا على ما صَحَّحْناه مِن أنَّ الآيةَ مدَنيَّةٌ وأنَّها مِن أواخِرِ ما نزَلَ- أن يكونَ معنى قَولِه تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي: فَرَغْتَ مِن مُقارَعةِ المُشرِكينَ، وظَفِرْتَ بأُمنِيَّتِك منهم بمَجيءِ نَصرِ اللهِ والفَتحِ؛ فانصَبْ في العِبادةِ والتَّسبيحِ والاستِغفارِ؛ شُكرًا لله على ما أنعَمَ، وارغَبْ إليه خاصَّةً ابتِغاءً لِمَرْضاتِه. فتكونُ الآيَتانِ بمعنى سورةِ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. ثمَّ رأيتُ ابنَ جريرٍ نَقَل مِثْلَه عن ابنِ زَيدٍ عن أبيه، قال: فإذا فرَغْتَ مِنَ الجِهادِ؛ جِهادِ العَرَبِ، وانقطَعَ جِهادُهم، فانصَبْ لعِبادةِ اللهِ، وإليه فارغَبْ. وهو ظاهِرٌ). ((تفسير القاسمي)) (9/497). .
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8).
أي: واجعَلْ رَغبتَك إلى اللهِ، فتَرجُوه وَحْدَه، وتَسألُه دونَ مَن سِواه، وتتوكَّلُ عليه لا على غَيرِه [24] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/500)، ((تفسير ابن عطية)) (5/498)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/232)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/181)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 433)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/418)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 251). قال السعدي: (فَارْغَبْ أي: أعظِمِ الرَّغبةَ في إجابةِ دُعائِك، وقَبولِ عِباداتِك). ((تفسير السعدي)) (ص: 929). .
كما قال تعالى حاكيًا قَولَ أصحابِ الجنَّةِ الَّتي احتَرَقت: عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ [القلم: 32].

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ شَرَحَ اللهُ صَدْرَ رَسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم أتَمَّ الشَّرحِ، ووَضَعَ عنه وِزْرَه كلَّ الوَضعِ، ورَفَعَ ذِكْرَه كلَّ الرَّفْعِ، وجَعَلَ لأتْبَاعِه حظًّا مِن ذلك؛ إذْ كلُّ مَتبوعٍ فلأتْباعِه حظٌّ ونصيبٌ مِن حظِّ مَتبوعِهم في الخيرِ والشَّرِّ على حسَبِ اتِّباعِهم له، فأَتْبَعُ النَّاسِ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أشْرَحُهم صدرًا، وأوضعُهم وِزْرًا، وأرفعُهم ذِكْرًا، وكلَّما قَوِيتْ مُتابَعتُه عِلمًا وعَمَلًا وحالًا وجِهادًا، قَوِيتْ هذه الثَّلاثةُ، حتَّى يصيرَ صاحبُها أشرحَ النَّاسِ صدرًا، وأرفعَهم في العالَمينَ ذِكْرًا، وأمَّا وَضْعُ وِزْرِه، فكيف لا يُوضَعُ عنه ومَن في السَّمواتِ والأرضِ ودَوابُّ البَرِّ والبحرِ يَستغفِرونَ له؟! وهذه الأمورُ الثَّلاثةُ مُتلازِمةٌ كما أنَّ أضْدادَها متلازِمةٌ؛ فالأوزارُ والخطايا تَقْبِضُ الصَّدرَ وتُضيِّقُه، وتُخْمِلُ الذِّكْرَ وتَضَعُه، وكذلك ضِيقُ الصَّدرِ يَضَعُ الذِّكْرَ، ويَجلِبُ الوِزْرَ، فما وَقَعَ أحدٌ في الذُّنوبِ والأوزارِ إلَّا مِن ضِيقِ صدْرِه وعدمِ انشراحِه، وكلَّما ازداد الصَّدرُ ضيقًا كان أدْعَى إلى الذُّنوبِ والأوزارِ؛ لأنَّ مُرتكِبَها إنَّما يَقصِدُ بها شَرْحَ صدْرِه، ودَفْعَ ما هو فيه مِن الضِّيقِ والحَرَجِ، وإلَّا فلوِ اتَّسَعَ بالتَّوحيدِ والإيمانِ ومحبَّةِ اللهِ ومعرفتِه، وانشرحَ بذلك؛ لَاستغنى عن شرْحِه بالأوزارِ؛ ولهذا أكثرُ مَن يُواقِعُ المحظورَ إنَّما يَدْفَعُ به عن نفْسِه ما فيها مِن الهَمِّ والغَمِّ والضِّيقِ، وكثيرًا ما تَبْرُدُ شَهوتُه وإرادتُه، ومع هذا يَحرِصُ على المُعاوَدةِ؛ تداويًا منه بزَعمِه [25] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (ص: 277، 278). !
2- قال تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ هذه الآيةُ لم تترُكْ للمُسلِمِ فَراغًا في وقتِه؛ لأنَّه إمَّا في عَمَلٍ للدُّنيا، وإمَّا في عمَلٍ للآخِرةِ، وقد رُوِيَ عن شُريحٍ أنَّه مَرَّ على رجُلَينِ يتصارَعانِ، فقال: (ليس بهذا أُمِرَ الفارغُ، إنَّما قال الله تبارَك وتعالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) [26] أخرجه الفراء في ((معاني القرآن)) (3/276). ، ورُوِيَ عن ابنِ مسعودٍ [27] يُنظر: ((مصنف ابن أبي شيبة)) (7/108)، ((الزهد)) لأبي داود (ص: 171)، ((المعجم الكبير)) للطبراني (9/106) (8539)، ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (1/130). أنَّه قال: (إنِّي لَأمقُتُ الرَّجُلَ أن أراه فارغًا، ليس في شيءٍ مِن عمَلِ الدُّنيا ولا عمَلِ الآخرةِ) [28] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/579). . ولهذا كانت حياةُ الإنسانِ العاقلِ حياةَ جِدٍّ، كلَّما فَرَغَ مِن عمَلٍ شَرَعَ في عَمَلٍ آخَرَ، وهكذا؛ لأنَّ الزَّمنَ يفوتُ على الإنسانِ، ففي حالِ يَقظَتِه ومَنامِه، وشُغْلِه وفراغِه يسيرُ، ولا يمكنُ لأحدٍ أنْ يُمسِكَ الزَّمَنَ [29] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 250). !
3- في قَولِه تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ خَتْمُ السُّورةِ بهذينِ الأصلَينِ، وهما: تجريدُ التَّوحيدِ، وتجريدُ الطَّاعةِ بمُتابَعةِ الرَّسولِ؛ فالنَّصَبُ: التَّفَرُّغُ للعبادةِ والطَّاعةِ، والرَّغبةُ إلى اللهِ وَحْدَه: تجريدُ توحيدِه. ومتى قام العبدُ بهذينِ الأصلينِ حصَلَ له مِن شَرْحِ الصَّدرِ ووَضْعِ الوِزْرِ ورَفْعِ الذِّكْرِ بحسَبِ ما قام به، وبُدِّلَ عُسْرُه يُسرًا [30] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (ص: 279). .
4- قال تعالى: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ يعني: إلى اللهِ لا إلى غيرِه؛ فارغَبْ في جميعِ أمورِك، وثِقْ بأنَّك متى عَلَّقْتَ رغبتَك باللهِ عزَّ وجلَّ فإنَّه سوف يُيَسِّرُ لك الأمورَ، وكثيرٌ مِن النَّاسِ تَنْقُصُهم هذه الحالُ، أي: يَنْقُصُهم أنْ يَكونوا دائمًا راغبينَ إلى اللهِ؛ فتَجِدُهم يَخْتَلُّ كثيرٌ مِن أعمالِهم؛ لأنَّهم لَمْ يكُنْ بيْنَهم وبيْن اللهِ تعالى صِلةٌ في أعمالِهم [31] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 251). !

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ سؤالٌ: لِمَ ذَكَر سُبحانَه الصَّدْرَ، ولَمْ يَذكُرِ القَلْبَ؟
الجوابُ: لأنَّ محَلَّ الوَسوسةِ هو الصَّدرُ، على ما قال سُبحانَه: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] ؛ فإزالةُ تلك الوَسْوَسةِ وإبدالُها بدَواعي الخَيرِ هي الشَّرحُ، فلا جَرَمَ خُصَّ ذلك الشَّرحُ بالصَّدرِ دونَ القَلْبِ [32] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/206). . أو ذلك إشارةٌ إلى شَرْحِه بشَقِّ جِبريلَ له.
2- في قَولِه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ سؤالٌ: لِمَ قال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، ولم يقلْ: «ألم نشرَحْ صَدْرَك»؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
أحدُهما: كأنَّه تعالى يقولُ: لامٌ بلامٍ؛ فأنت إنَّما تفعَلُ جميعَ الطَّاعاتِ لأَجْلي، كما قال: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ، فأنا أيضًا جميعُ ما أفعَلُه لأجْلِك.
ثانيها: أنَّ فيها تنبيهًا على أنَّ منافِعَ الرِّسالةِ عائِدةٌ إليه عليه السَّلامُ، كأنَّه تعالى قال: إنَّما شرَحْنا صَدْرَك لأجْلِك لا لأجْلي [33] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/206). .
3- في قَولِه تعالى: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ سؤالٌ: هلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُذْنِبُ؟
الجوابُ: نعَمْ، ولا يمكِنُ أنْ نَرُدَّ النُّصوصَ لمجرَّدِ أنْ نَستَبعِدَ وُقوعَ الذَّنْبِ منه صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، ونحن لا نقولُ: الشأنُ ألَّا يُذنِبَ الإنسانُ، بلِ الشَّأنُ أنْ يُغْفَرَ للإنسانِ، هذا هو المهِمُّ: أنْ يُغْفَرَ له، فكلُّ بَني آدمَ خَطَّاءٌ، وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابونَ، لا بُدَّ مِن خطيئةٍ، لكنَّ هناك أشياءَ لا يمكنُ أنْ تقع مِن الأنبياءِ، مِثلُ الكَذِبِ والخيانةِ، فإنَّ هذا لا يمكنُ أنْ يقعَ منهم إطلاقًا؛ لأنَّ هذا لو فُرِضَ وُقوعُه لَكان طعنًا في رسالتِهم، وهذا شيءٌ مستحيلٌ، وسفاسِفُ الأخلاقِ مِن الزِّنا وشِبْهِه هذا أيضًا ممتنِعٌ؛ لأنَّه يُنافي أصلَ الرِّسالةِ؛ فالرِّسالةُ إنَّما وُجِدَتْ لتَتميمِ مَكارمِ الأخلاقِ، كما قال صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((إنَّما بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صالِحَ الأخلاقِ )) [34] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 245). والحديث أخرجه أحمدُ (8952) واللَّفظُ له، والحاكمُ (4221)، والبيهقيُّ (21303) مِن حديثِ أبي هُرَيرةَ رضيَ الله عنه. صحَّحه الحاكمُ -وقال: (على شرطِ مُسلِمٍ)-، وابنُ عبدِالبَرِّ في ((التمهيد)) (24/333)، وابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (7/152)، والألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (2349)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (14/513)، وقال الهَيْثَميُّ في ((مجمع الزوائد)) (8/191): (رواه أحمدُ ورجالُه رجالُ الصَّحيحِ). والقَولُ بأنَّ الأنبياءَ مَعصومونَ عن الكبائِرِ دونَ الصَّغائِرِ هو قَولُ أكثَرِ عُلَماءِ الإسلامِ وجميعِ الطَّوائِفِ، حتَّى إنَّه قَولُ أكثَرِ أهلِ الكلامِ، وأكثَرِ أهلِ التَّفسيرِ والحَديثِ، والفُقَهاءِ، بل لم يُنقَلْ عن السَّلَفِ والأئمَّةِ والصَّحابةِ والتَّابِعينَ وتابِعيهم إلَّا ما يُوافِقُ هذا القَولَ، وقد اتَّفَق سلَفُ الأمَّةِ وأئمَّتُها ومَنِ اتَّبَعَهم على ما أخبَرَ اللهُ به في كتابِه وما ثبَت عن رَسولِه مِن تَوبةِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ مِن الذُّنوبِ الَّتي تابوا منها، وهذه التَّوبةُ رَفَع اللهُ بها دَرَجاتِهم؛ فإنَّ اللهَ يحِبُّ التَّوابينَ ويحِبُّ المتطَهِّرينَ، وعِصمَتُهم هي مِن أن يُقَرُّوا على الذُّنوبِ والخَطأِ؛ فإنَّ مَن سِوى الأنبياءِ يجوزُ عليهم الذَّنبُ والخَطأُ مِن غيرِ تَوبةٍ، والأنبياءُ عليهم السَّلامُ يَستدرِكُهم اللهُ فيَتوبُ عليهم ويبَيِّنُ لهم، وقد ذكَرَ الله تعالى مِن تَوبةِ الأنبياءِ واستغفارِهم؛ كقَولِه: فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37] ، وقَولِ نوحٍ عليه السَّلامُ: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 47] ، وقَولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم: 41] ، وقَولِه سُبحانَه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19] إلى غيرِ ذلك. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/319)، ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/269). وقال الشَّوكانيُّ: (ذهب الأكثَرُ مِن أهلِ العِلمِ إلى عصمةِ الأنبياءِ بعدَ النُّبُوَّةِ مِنَ الكبائِرِ، وقد حكى القاضي أبو بكرٍ إجماعَ المُسلِمينَ على ذلك. وكذا حكاه ابنُ الحاجِبِ وغيرُه مِن متأخِّري الأصوليِّينَ، وكذا حكَوُا الإجماعَ على عِصْمَتِهم بعدَ النُّبُوَّةِ مِمَّا يُزري بمناصِبِهم؛ كرَذائِلِ الأخلاقِ والدَّناءاتِ وسائِرِ ما يُنفِّرُ عنهم، وهي الَّتي يُقالُ لها صغائِرُ الخِسَّةِ؛ كسَرِقةِ لُقمةٍ، والتَّطفيفِ بحَبَّةٍ). ((إرشاد الفحول)) (1/98). ويُنظر: ((المحصول)) لابن العربي (ص: 109)، ((مختصر ابن الحاجب)) (1/397)، ويُنظر أيضًا: ((الشفا)) للقاضي عياض (2/171)، ((تفسير القرطبي)) (1/308)، ((فتح الباري)) لابن حجر (8/69). .
4- في قولِه: أَنْقَضَ ظَهْرَكَ اتِّصالُ حَرفَيِ الضَّادِ والظَّاءِ، وهما مُتقارِبَا المخرَجِ، فرُبَّما يَحصُلُ مِن النُّطقِ بهما شَيءٌ مِن الثِّقَلِ على اللِّسانِ، ولكنَّه لا يُنافي الفَصاحةَ؛ إذ لا يَبلُغُ مَبلَغَ ما يُسمَّى بتَنافُرِ الكَلِماتِ، بلْ مِثلُه مُغتفَرٌ في كَلامِ الفُصحاءِ، والعرَبُ فُصحاءُ الألسُنِ، فإذا اقْتَضى نظْمُ الكَلامِ وُرودَ مِثلِ هَذينِ الحَرفينِ المتقاربَينِ، لم يَعبَأِ البليغُ بما يَعرِضُ عندَ اجتماعِهِما مِن بَعضِ الثِّقَلِ، ومِثلُ ذلك قولُه تعالَى: وَسَبِّحْهُ [الإنسان: 26] في اجتماعِ الحاءِ مع الهاءِ، وذلك حيث لا يَصِحُّ الإدغامُ. وقد أَوصى عُلماءُ التَّجويدِ بإظهارِ الضَّادِ مع الظَّاءِ إذا تَلاقَيا كما في هذه الآيةِ، وقولِه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/410). [الفرقان: 27] .
5- مِنَ الفُقهاءِ مَنِ استدَلَّ بقولِه تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ على وُجوبِ الصَّلاةِ عليه -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الخُطبةِ، وصلاةِ الجِنازةِ، واستِحبابِها عَقِبَ التَّلبيةِ [36] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 293). قال ابنُ القَيِّمِ في الاستِدلالِ بهذه الآيةِ على وُجوبِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ في الخُطبةِ مع أثَرِ ابنِ عَبَّاسٍ: (رَفَع اللهُ له ذِكْرَه، فلا يُذكَرُ إلَّا ذُكِرَ مَعَه)، قال: (في هذا الدَّليلِ نَظَرٌ؛ لأنَّ ذِكْرَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم معَ ذِكْرِ رَبِّه هو الشَّهادَةُ له بالرِّسالةِ إذا شهِدَ لِمُرسِلِه بالوَحْدانيَّةِ). ((جلاء الأفهام)) (ص: 368). وقد استدَلَّ الرَّافِعيُّ على سُنِّيَّةِ الصَّلاةِ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في القُنوتِ بقولِه تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ على ما نقَله عن المفسِّرينَ أنَّ المعنى: لا أُذكَرُ إلَّا وتُذكَرُ معي. يُنظر: ((الشرح الكبير)) (1/516، 517). قال ابن حجر: (قُلْتُ: في الاستِدلالِ به نَظَرٌ؛ فإنَّه لا يُسَنُّ في أذكارِ الرُّكوعِ والسُّجودِ، ولا معَ القِراءةِ في القيامِ؛ فدَلَّ على أنَّه عامٌّ مخصوصٌ). ((التلخيص الحبير)) (1/608). .
6- قال أبو بكرِ بنُ عَيَّاشٍ: (أهلُ السُّنَّةِ يَبقَونَ ويَبقى ذِكْرُهم، وأهلُ البِدعةِ يموتون ويموتُ ذِكْرُهم)؛ وذلك أنَّ أهلَ البدعةِ شَنِئُوا بعضَ ما جاء به الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأبتَرَهم بقَدْرِ ذلك، والَّذين أَعلنوا ما جاء به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صار لهم نصيبٌ مِن قولِه تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ؛ فإنَّ ما أَكرمَ اللهُ به نبيَّه مِن سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ فلِلْمُؤمنينَ المُتابِعينَ نصيبٌ بقَدْرِ إيمانِهم، فما كان مِن خصائصِ النُّبُوَّةِ والرِّسالةِ فلَمْ يُشارِكْ فيه أحَدٌ مِن أُمَّتِه، وما كان مِن ثَوابِ الإيمانِ والأعمالِ الصَّالحةِ فلِكُلِّ مؤمنٍ نصيبٌ بقَدْرِ ذلك [37] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (28/38). .
7- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا سُؤالٌ: أنَّ اليُسرَ لا يكونُ مع العُسْرِ؛ لأنَّهما ضِدَّانِ فلا يجتَمِعانِ.
الجوابُ: لَمَّا كان وُقوعُ اليُسرِ بعْدَ العُسرِ بزَمانٍ قليلٍ، كان مقطوعًا به؛ فجُعِلَ كالمقارِنِ له [38] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/209). ، وفي ذلك تَبشيرٌ لرَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحصولِ اليُسرِ عاجلًا، فلَفْظُ (مع) للمُصاحَبةِ، لَمَّا عيَّر المشرِكون المسلِمينَ بفَقْرِهم، وَعَدَهم اللهُ يُسرًا قَريبًا مِن زَمانِ عُسْرِهم، وقُرِنَ اليُسرُ مع العُسْرِ زِيادةً في التَّسليةِ وتَقويةِ القلْبِ، فجُعِلَ اليسرُ كالمصاحِبِ للعُسرِ في سُرعةِ مَجيئهِ [39] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/771، 772)، ((تفسير البيضاوي)) (5/321)، ((تفسير أبي حيان)) (10/501)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 616، 617)، ((تفسير أبي السعود)) (9/173)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/517). .
8- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا بِشارةٌ عَظيمةٌ أنَّه كُلَّما وُجِدَ عُسرٌ وصُعوبةٌ فإنَّ اليُسرَ يُقارِنُه ويُصاحِبُه، حتَّى لو دخل العُسرُ جُحْرَ ضَبٍّ لَدخَلَ عليه اليُسرُ فأخرَجَه، كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] ، وكما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وإنَّ الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وإنَّ مع العُسرِ يُسْرًا)) [40] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 929). والحديثُ أخرجه مِن طُرقٍ: أحمدُ (2803) واللفظ له، والطَّبَرانيُّ (11/123) (11243)، والحاكمُ (6304) مطَوَّلًا. صحَّحه عبدُ الحقِّ الإشبيليُّ في ((الأحكام الشرعية الكبرى)) (3/333)، والألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (6806)، وشعيبٌ الأرناؤوطُ في تخريج ((مسند أحمد)) (5/19)، وحسَّنه ابنُ حجر في ((موافقة الخُبْرِ الخَبَر)) (1/327)، والسَّخاويُّ في ((المقاصد الحسنة)) (188)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في تحقيقِ ((مسند أحمد)) (4/287). ويُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/459). .
9- كَلمةُ (مع) هنا في قَولِه تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا مُستعمَلةٌ في قُربِ حُصولِ اليُسرِ عَقِبَ حُلولِ العُسرِ أو ظُهورِ بَوادرِه، وبذلك يَندفِعُ التَّعارُضُ بيْن هذه الآيةِ وبيْن قولِه تعالَى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق: 7] ؛ فهذه الآيةُ في عُسْرٍ خاصٍّ يَعرِضُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وآيةُ سُورةِ (الطَّلاقِ) عامَّةٌ، وللبَعديَّةِ فيها مَراتبُ مُتفاوِتةٌ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/413). .
10- في قَولِه تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا غَنيمةٌ للمؤمِنِ ليطمَئِنَّ إليه، ولا يَضيقَ صدْرُه مِن عُسْرٍ يَلْحَقُه؛ فإنَّ مع كلِّ عُسْرٍ يُسرَينِ [42] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/525). ، والعُسْرُ وإنْ تَكَرَّرَ مرَّتينِ فتَكَرَّرَ بلَفظِ المعرفةِ؛ فهو واحدٌ، واليُسْرُ تَكَرَّرَ بلَفظِ النَّكِرةِ فهو يُسرانِ؛ فالعُسْرُ محفوفٌ بيُسْرَينِ: يُسْرٌ قَبْلَه، ويُسْرٌ بعدَه؛ فلن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسرينِ [43] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (2/155). والقاعِدةُ: أنَّ النَّكِرةَ إذا تكَرَّرَت دَلَّت على التَّعَدُّدِ، بخِلافِ المَعرِفةِ. يُنظر: ((قواعد التفسير)) للسبت (2/711). ، ففي تعريفِ العُسرِ بالألِفِ واللَّامِ -الدَّالَّةِ على الاستغراقِ والعُمومِ- دَلالةٌ على أنَّ كُلَّ عُسرٍ وإنْ بلغ مِن الصُّعوبةِ ما بَلَغ فإنَّ التَّيسيرَ في آخِرِه ملازِمٌ له [44] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 929). . ففَرَجُ اللهِ عزَّ وجلَّ يأتي مع شِدَّةِ الكَرْبِ؛ فكُلَّما اشتدَّ الكَرْبُ فاعلَمْ أنَّه دنا الفَرَجُ، وقد جَعَلَ سُبحانَه مقابِلَ العُسْرِ الواحِدِ يُسرَينِ [45] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 181). .
11- قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، ومِن لطائفِ أسرارِ اقترانِ الفَرَجِ بالكَرْبِ، واليُسْرِ بالعُسْرِ: أنَّ الكَرْبَ إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى حَصَلَ للعبدِ الإياسُ مِن كَشْفِه مِن جهةِ المخلوقينَ، وتَعَلَّقَ قلْبُه باللهِ وَحْدَه، وهذا هو حقيقةُ التَّوكُّلِ على اللهِ تعالى، وهو مِن أعظَمِ الأسبابِ الَّتي تُطْلَبُ بها الحوائجُ؛ فإنَّ اللهَ يَكفي مَن توكَّلَ عليه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] [46] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/493). ، وأيضًا فإنَّ المؤمنَ إذا استبطأَ الفَرَجَ، وأَيِسَ منه بعْدَ كثرةِ دُعائِه وتضَرُّعِه، ولم يَظْهَرْ عليه أثَرُ الإجابةِ؛ رَجَعَ إلى نفْسِه باللَّائمةِ، وقال لها: إنَّما أُتِيتُ مِن قِبَلِكِ، ولو كان فيكِ خيرٌ لَأُجِبْتُ، وهذا اللَّومُ أحَبُّ إلى اللهِ مِن كثيرٍ مِن الطَّاعاتِ؛ فإنَّه يُوجِبُ انكِسارَ العبدِ لِمَولاه، واعتِرافَه له بأنَّه أهلٌ لِمَا نَزَلَ مِن البلاءِ، وأنَّه ليس بأهلٍ لإجابةِ الدُّعاءِ؛ فلذلك تُسْرِعُ إليه حينَئذٍ إجابةُ الدُّعاءِ، وتفريجُ الكُرَبِ؛ فإنَّه تعالى عندَ المُنكَسِرةِ قُلوبُهم مِن أجْلِه [47] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/494). .
12- قيل: إنَّ معنى قولِه تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ: إذا فرَغْتَ مِنَ الصَّلاةِ وأكمَلْتَها فانصَبْ في الدُّعاءِ، وإلى رَبِّكَ فارغَبْ في سؤالِ مَطالبِك، واستدَلَّ مَن قال بهذا القَولِ على مَشروعيَّةِ الدُّعاءِ والذِّكرِ عَقِبَ الصَّلَواتِ المكتوباتِ [48] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 929). .
13- قولُه تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ جَمَعَ نَوعَيْ دُعاءِ اللهِ؛ وذلك أنَّ دُعاءَ اللهِ المذكورَ في القُرآنِ نَوعانِ: دُعاءُ عبادةٍ، ودُعاءُ مسألةٍ ورَغبةٍ [49] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/498). .
14- الفاءُ في قولِه تعالى: فَانْصَبْ وقولِه: فَارْغَبْ رابِطةٌ للفِعلِ؛ لأنَّ تَقديمَ المعمولِ يَتضمَّنُ معْنى الاشتِراطِ والتَّقييدِ؛ فإنَّ تَقديمَ المعمولِ لَمَّا أفادَ الاختصاصَ نَشَأَ منه معْنى الاشتراطِ، وهو كَثيرٌ في الكلامِ؛ قال تعالَى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ [الزمر: 66] ، وقال: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 3-5] ، وفي تَقديمِ المجرورِ قال تعالَى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26] ، بلْ قد يُعامَلُ مُعامَلةَ الشَّرطِ في الإعرابِ بجَزْمِ الفِعلَينِ [50] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/418). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ فيه إسنادُ الفِعلِ إلى ضَميرِ العظَمةِ نَشْرَحْ؛ للإيذانِ بعَظَمتِه، وجَلالةِ قَدْرِه [51] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/388). .
- وفي قولِه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ استُفهِمَ عن انتِفاءِ الشَّرحِ على وَجْهِ الإنكارِ؛ مُبالَغةً في إثباتِه، وللإيذانِ بأنَّ ثُبوتَه مِنَ الظُّهورِ بحيثُ لا يَقدِرُ أحدٌ على أنْ يُجيبَ عنه بغيرِ (بَلَى)؛ فالهمزةُ في أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ للإنكارِ، والإنكارُ نفْيٌ، والنَّفيُ إذا دَخَل على النَّفيِ عاد إثباتًا، فأفاد إثباتَ الشَّرحِ وإيجابَه، فكأنَّه قِيل: شَرَحْنا لك صَدْرَك؛ ولذلك عُطِفَ عليه (وَضَعْنا) اعتبارًا للمعْنى [52] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/770)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/492)، ((تفسير أبي السعود)) (9/172). .
- وقيل: هو استِفهامٌ تَقريريٌّ على النَّفيِ، والمقصودُ التَّقريرُ على إثباتِ المنفيِّ. وهذا التَّقريرُ مَقصودٌ به التَّذكيرُ مِن أجْلِ أنْ يُراعِيَ هذه المِنَّةَ عندَما يُخالِجُه ضِيقُ صَدْرٍ ممَّا يَلقاهُ مِن أذَى قومٍ يُريدُ صَلاحَهم، وإنقاذَهُم مِن النارِ، ورَفْعَ شَأنِهم بيْن الأُمَمِ؛ ليَدومَ على دَعوتِه العَظيمةِ نَشيطًا، غيرَ ذي أسَفٍ ولا كَمَدٍ [53] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/499)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/408)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/515). .
- والصَّدرُ مُرادٌ به الإحساسُ الباطنيُّ الجامعُ لمعْنى العقْلِ والإدراكِ. وشَرْحُ صَدرِه كِنايةٌ عن الإنعامِ عليه بكلِّ ما تَطمَحُ إليه نفْسُه الزَّكيَّةُ مِن الكَمالاتِ، وإعلامِه برِضا اللهِ عنه، وبِشارتِه بما سيَحصُلُ للدِّينِ الَّذي جاء به مِن النَّصرِ [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/408). .
- واللَّامُ في قولِه: لَكَ لامُ التَّعليلِ، وهو يُفيدُ تَكريمًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اللهَ فَعَلَ ذلك لأجْلِه [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/409). .
- وفي ذِكرِ الجارِّ والمجرورِ لَكَ قبْلَ ذِكرِ المشروحِ سُلوكُ طَريقةِ الإبهامِ للتَّشويقِ؛ فإنَّه لَمَّا ذُكِرَ فِعلُ نَشْرَحْ عَلِمَ السَّامعُ أنَّ ثَمَّ مَشروحًا، فلمَّا وَقَعَ قولُه: لَكَ قَوِيَ الإبهامُ فازدادَ التَّشويقُ؛ لأنَّ لَكَ يُفيدُ معْنى: شَيئًا لأجْلِك، فلمَّا وَقَعَ بعْدَه قولُه: صَدْرَكَ تَعيَّنَ المشروحُ المُترقَّبُ، فتَمكَّنَ في الذِّهنِ كَمالَ تَمكُّنٍ، وللإيذانِ مِن أوَّلِ الأمرِ بأنَّ الشَّرحَ مِن مَنافِعِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ومَصالِحِه، مُسارَعةً إلى إدخالِ المَسَرَّةِ في قلْبِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكذا الكلامُ في وَوَضَعْنَا عَنْكَ [الشرح: 2] ، لَكَ ذِكْرَكَ [56] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/770، 771)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 616)، ((تفسير أبي السعود)) (9/172)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/409، 410). [الشرح: 4] .
2- قولُه تعالَى: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ
- قولُه: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ عَنْكَ مُتعلِّقٌ بـ (وَضَعْنَا)، وتَقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ مع أنَّ حقَّه التَّأخُّرُ عنه؛ لأنَّ القصْدَ إلى تَعجيلِ المَسرَّةِ، والتَّشويقِ إلى المُؤخَّرِ؛ ليَتمكَّنَ عندَ وَقتِ وُرودِه فضْلَ تَمكُّنٍ، ولِما أنَّ في وَصْفِه نَوعَ طُولٍ، فتَأخيرُ الجارِّ والمجرورِ عنه مُخِلٌّ بتَجاوُبِ أطرافِ النَّظْمِ الكريمِ [57] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/172)، ((تفسير الألوسي)) (15/388). .
- وإنَّما لم يُذكَرْ مع وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ لَفظُ (لك) بأنْ يُقالَ: (ووَضَعْنا لك وِزرَك)؛ للاستِغناءِ بقولِه: عَنْكَ؛ فإنَّه في إفادةِ الإبهامِ ثمَّ التَّفصيلِ مُساوٍ لكَلمةِ (لك)، وهي في إفادةِ العِنايةِ به تُساوي كَلمةَ (لك)؛ لأنَّ فِعلَ الوضْعِ المُعدَّى إلى الوِزرِ يدُلُّ على أنَّ الوضْعَ عنه، فكانتْ زِيادةُ عَنْكَ إطنابًا يُشيرُ إلى أنَّ ذلك عِنايةٌ به نَظيرَ قولِه: لَكَ الَّذي قبْلَه، فحَصَلَ بذِكرِ عَنْكَ إيفاءٌ إلى تَعديةِ فِعلِ (وَضَعْنَا)، مع الإيفاءِ بحقِّ الإبهامِ ثمَّ البَيانِ [58] ((تفسير ابن عاشور)) (30/412، 413). .
- قولُه: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ تَعديةُ فِعلِ أَنْقَضَ إلى الظَّهرِ تَبَعٌ لتَشبيهِ المَشَقَّةِ بالحِمْلِ؛ فالتَّركيبُ تَمثيلٌ لمُتجَشِّمِ المَشاقِّ الشَّديدةِ بالحَمولةِ المُثقَلةِ بالأحمالِ تَثقيلًا شَديدًا حتَّى يُسمَعَ لعِظامِ ظَهرِها فَرقعةٌ وصَريرٌ، وهو تَمثيلٌ بَديعٌ؛ لأنَّه تَشبيهٌ مُركَّبٌ قابلٌ لتَفريقِ التَّشبيهِ على أجزائِه، ووَصْفُ الوِزرِ بهذا الوصْفِ تَكميلٌ للتَّمثيلِ بأنَّه وِزرٌ عَظيمٌ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/410). .
- وعطفُ وَوَضَعْنَا وَرَفَعْنَا بصِيغةِ المُضِيِّ على فِعلِ نَشْرَحْ بصِيغةِ المضارِعِ؛ لأنَّ (لَمْ) قَلَبَت زمَنَ الحالِ إلى المُضيِّ، فعُطِفَ عليه الفِعلانِ بصِيغةِ المُضيِّ؛ لأنَّهما داخِلانِ في حيِّزِ التَّقريرِ، فلمَّا لم يَقترِنْ بهما حرْفُ (لَمْ) صُيِّرَ بهما إلى ما تُفيدُه (لَمْ) مِن معْنى المُضيِّ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/411). .
3- قولُه تعالَى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ في ذِكرِ الجارِّ والمجرورِ لَكَ قبْلَ ذِكرِ الشَّيءِ المرفوعِ سُلوكُ طَريقةِ الإبهامِ للتَّشويقِ؛ فإنَّه لَمَّا ذُكِرَ فِعلُ (رَفَعَ) عَلِمَ السَّامعُ أنَّ ثَمَّ شيئًا مَرفوعًا، فلمَّا وَقَعَ قولُه: لَكَ قَوِيَ الإبهامُ فازدادَ التَّشويقُ؛ لأنَّ لَكَ يُفيدُ معْنى شَيئًا لأجْلِك، فلمَّا وقَعَ بعْدَه قولُه: ذِكْرَكَ تعيَّنَ الشَّيءُ المرفوعُ المُترقَّبُ، فتَمكَّنَ في الذِّهنِ كَمالَ تَمكُّنٍ، وفي تَقديمِه أيضًا تَعجيلٌ للمَسرَّةِ [61] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/771)، ((تفسير البيضاوي)) (5/321)، ((تفسير أبي السعود)) (9/173)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 616)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 409، 410)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/516). .
- ورفْعُ الذِّكرِ مُعبَّرٌ به عن إلهامِ النَّاسِ لأنْ يَذكُروه بخَيرٍ، وذلك بإيجادِ أسبابِ تلك السُّمعةِ حتَّى يَتحدَّثَ بها النَّاسُ، فعُبِّرَ بالرَّفعِ عن حُسنِ الذِّكرِ؛ لأنَّ الرَّفعَ جَعْلُ الشَّيءِ عاليًا لا تَنالُه جَميعُ الأيْدي ولا تَدوسُه الأرجُلُ، فقد فَطَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على مَكارمَ يَعِزُّ وُجودُ نَوعِها، ولم يَبلُغْ أحدٌ شَأْوَ ما بَلَغَه منها، حتَّى لُقِّبَ في قَومِه بالأمينِ، ومِن عَظيمِ رفْعِ ذِكْرِه أنَّ اسمَه مُقترِنٌ باسمِ اللهِ تعالَى في كَلمةِ الإسلامِ، وهي كَلمةُ الشَّهادةِ [62] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/412). .
4- قولُه تعالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ذَكَّرَ الله نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ما أنْعَمَ به عليه مِن جَلائلِ النِّعَمِ، ثمَّ قال: مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، كأنَّه قال: خَوَّلْناك ما خوَّلْناك، فلا تَيْأَسْ مِن فضْلِ اللهِ؛ فإنَّ مع العُسرِ الَّذي أنتم فيه يُسرًا، فهو تَقريرٌ لِما قبْلَه، ووَعْدٌ كريمٌ بتَيسيرِ كُلِّ عسيرٍ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وللمؤمنينَ [63] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/771)، ((تفسير أبي حيان)) (10/501)، ((تفسير أبي السعود)) (9/173)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/516). .
- والفاءُ في فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فَصيحةٌ؛ تُفصِحُ عن كَلامٍ مُقدَّرٍ يدُلُّ عليه الاستفهامُ التَّقريريُّ هنا، أي: إذا علِمْتَ هذا وتَقرَّرْ، فاعْلَمْ أنَّ اليُسرَ مُصاحبٌ للعُسرِ [64] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/413). .
- وحرْفُ (إنَّ) للاهتِمامِ بالخبَرِ، وإنَّما لم يُستَغْنَ بها عن الفاءِ -فـ (إنَّ) تُغْني غَناءَ فاءِ التَّسبُّبِ-؛ لأنَّ الفاءَ هنا أُرِيدَ بها الفَصيحةُ مع التَّسبُّبِ، فلو اقتُصِرَ على حرْفِ (إنَّ) لَفاتَ معْنى الفَصيحةِ [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/414). .
- ويَجوزُ أنْ تكونَ جُملةُ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا مُعترِضةً بيْن جُملةِ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح: 4] وجُملةِ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ [الشرح: 7] ؛ تَنبيهًا على أنَّ اللهَ تعالى لَطيفٌ بعِبادِه، فقدَّرَ ألَّا يَخلُوَ عُسْرٌ مِن مُخالَطةِ يُسْرٍ، وأنَّه لولا ذلك لَهَلَكَ النَّاسُ؛ قال تعالَى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/414). [النحل: 61] .
- ولَمَّا كان اليُسرُ نَقيضَ العُسرِ، كانت مُصاحَبةُ اليُسرِ للعُسرِ مُقتضيةً نقْضَ تَأثيرِ العُسرِ ومُبطِلةً لعَمَلِه، فهو كِنايةٌ رَمزيَّةٌ [67] تَنقسِمُ الكِنايةُ باعتبارِ الوسائطِ (اللَّوازمِ) والسِّياقِ إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريض، وتلويح، ورمْز، وإيماء؛ فالتَّعريضُ اصطِلاحًا: هو أنْ يُطلَقَ الكلامُ ويُشارَ به إلى معنًى آخَرَ يُفهَمُ مِن السِّياقِ. والتَّلويحُ اصطِلاحًا: هو الَّذي كثُرَتْ وسائطُه بلا تَعريضٍ، ويُنتقَلُ فيه إلى الملزومِ بواسِطةِ لَوازِمَ؛ نحو قولِ المرأةِ في حديثِ أمِّ زَرْعٍ: (زَوجي رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ)، فقولُها: (عظيمُ الرَّمادِ) يدُلُّ على كثرةِ الجَمرِ، وهي على كثرةِ إحراقِ الحطَبِ، وهي على كثرةِ الطَّبائخِ، وهي على كثرةِ الأكَلةِ، وهي على كثرةِ الضِّيفانِ، وهي على أنَّه مِضْيافٌ؛ فانتقَل الفِكرُ إلى جملةِ وسائطَ. والرَّمزُ اصطلاحًا:  هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ خفاءِ في اللُّزومِ بلا تعريضٍ نحو: فلانٌ عريضُ القفا، أو عريضُ الوسادةِ؛ كناية عن بلادتِه وبلاهتِه. والإيماءُ أو الإشارةُ اصطلاحًا: هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ وضوحِ اللُّزومِ، بلا تعريضٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (145 - 155)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/ 300)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286 - 290). عن إدراكِ العِنايةِ الإلهيَّةِ به فيما سَبَقَ، وتَعريضٌ بالوعْدِ باستِمرارِ ذلك في كلِّ أحوالِه. وسِياقُ الكلامِ وَعْدٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يُيسِّرَ اللهُ له المَصاعبَ كلَّما عَرَضَت له، فاليُسرُ لا يَتخلَّفُ عن اللَّحاقِ بتلك المَصاعبِ، وذلك مِن خَصائصِ كَلمةِ (مع) الدَّالَّةِ على المُصاحَبةِ [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/413). .
- قولُه: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ليس تَكرارًا؛ فالعسرُ واحدٌ، واليسرُ اثنانِ؛ بدَليلِ تَنكيرِهما. وقيل: كُرِّرَ ذلك للتَّأكيدِ؛ لتَعزيزِ معْناهُ في النُّفوسِ، وتَمكينِه في القلوبِ، وكما يُكرَّرُ المفرَدُ في قَولِك: جاءني زَيدٌ زيدٌ، ولاطِّرادِ هذا الوعْدِ وتَعميمِه؛ لأنَّه خبَرٌ عَجيبٌ، فاليُسرانِ مُتَّحدانِ كالعُسرينِ [69] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1364)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 251)، ((تفسير الزمخشري)) (4/771، 772)، ((تفسير البيضاوي)) (5/ 321)، ((تفسير أبي حيان)) (10/501)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 616)، ((تفسير أبي السعود)) (9/173)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/517). . ومِن المُقرَّرِ أنَّ المقصودَ مِن تَأكيدِ الجُملةِ في مِثلِه، هو تَأكيدُ الحُكْمِ الَّذي تَضمَّنَه الخبَرُ، ولا شكَّ أنَّ الحُكمَ المُستفادَ مِن هذه الجُملةِ هو ثُبوتُ الْتِحاقِ اليُسرِ بالعُسرِ عندَ حُصولِه، فكان التَّأكيدُ مُفيدًا تَرجيحَ أثَرِ اليُسرِ على أثَرِ العُسرِ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/416). .
- والتَّنكيرُ في اليُسرِ في الموضعينِ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ، كأنَّه قِيل: إنَّ مع العُسرِ يُسرًا عَظيمًا يَغلِبُ العُسرَ [71] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/772)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/414)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/518). .
- والتَّعريفُ في الْعُسْرِ قيل: إنَّه تَعريفُ العهْدِ، أي: العُسرِ الَّذي عَهِدْتَه وعَلِمْتَه، وهو مِن قَبيلِ ما يُسمِّيه نُحاةُ الكوفةِ بأنَّ (ألْ) فيه عِوَضٌ عن المضافِ إليه، أي: فإنَّ مع عُسْرِك يُسرًا، فتكون السُّورةُ كلُّها مَقصورةً على بَيانِ كَرامةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندَ ربِّه تعالَى، وَعَدَ اللهُ تعالَى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ اللهَ جَعَلَ الأُمورَ العَسِيرةَ عليه يَسِيرةً له، وهو ما سَبَقَ وَعْدُه له بقولِه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى: 8] . ويجوزُ أنْ يكونَ هذا وعْدًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولأُمَّتِه؛ لأنَّ ما يَعرِضُ له مِن عُسرٍ إنَّما يَعرِضُ له في شُؤونِ دَعوتِه للدِّينِ ولصالحِ المسلمينَ [72] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/413، 414). .
5- قولُه تعالَى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ
- قولُه: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ تَفريعٌ على ما تقرَّر مِن التَّذكيرِ باللُّطْفِ والعنايةِ ووعْدِه بتيسيرِ ما هو عَسِيرٌ عليه في طاعَتِه الَّتي أعظمُها تبليغُ الرِّسالَةِ دُونَ مَلَلٍ ولا ضَجَرٍ [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/416). .
- والفاءُ في فَإِذَا عاطِفةٌ على مُقدَّرٍ يَستحِقُّه المقامُ. ويجوزُ جعْلُها استئنافيَّةً كأنَّها جَوابٌ لسُؤالٍ نَشَأَ، وهو: ماذا بعْدَ الشُّكرِ والعبادةِ والاجتهادِ فيهما [74] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/521). ؟
- ولم يُذكَرْ هنا مُتعلَّقُ فَرَغْتَ، وسِياقُ الكلامِ يَقْتضي أنَّه لازمُ أعمالٍ يَعمَلُها الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كما أنَّ مَساقَ السُّورةِ في تَيسيرِ مَصاعبِ الدَّعوةِ وما يحُفُّ بها، فالمعْنى: إذا أتممْتَ عَمَلًا مِن مَهامِّ الأعمالِ، فأقبِلْ على عمَلٍ آخَرَ، بحيث يَعمُرُ أوقاتَه كلَّها بالأعمالِ العَظيمةِ -وذلك على قولٍ-؛ فالمَقصودُ بالأمرِ هو فَانْصَبْ، وأمَّا قولُه: فَإِذَا فَرَغْتَ فتَمهيدٌ وإفادةٌ لإيلاءِ العمَلِ بعمَلٍ آخَرَ في تَقريرِ الدِّينِ ونفْعِ الأُمَّةِ، فحُذِفَ المُتعلَّقُ هنا لقصْدِ العُمومِ، وهو عُمومٌ عُرفيٌّ لنَوعٍ مِن الأعمالِ الَّتي دلَّ عليها السِّياقُ؛ ليَشملَ كلَّ مُتعلَّقٍ عَمِلَه ممَّا هو مُهِمٌّ [75] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/416، 417). .
- وتَقديمُ فَإِذَا فَرَغْتَ على فَانْصَبْ؛ للاهتمامِ بتَعليقِ العمَلِ بوقْتِ الفراغِ مِن غيرِه لتَتعاقَبَ الأعمالُ [76] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/417). .
- وهذه الآيةُ مِن جَوامعِ الكلِمِ القرآنيَّةِ؛ لِما احتَوَت عليه مِن كَثرةِ المعاني [77] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/417). .
- قولُه: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ عُطِفَ على تَفريعِ الأمرِ بالشُّكرِ على النِّعَمِ، أَمْرٌ بطلَبِ استِمرارِ نِعَمِ اللهِ تعالَى عليه، كما قال تعالَى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [78] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/418). [إبراهيم: 7] .
- وتَقديمُ (إِلَى رَبِّكَ) على فَارْغَبْ؛ لإفادةِ الاختصاصِ، أي: إليه لا إلى غَيرِه تكونُ رَغبتُك، ولا تَسأَلْ إلَّا فضْلَه مُتوكِّلًا عليه؛ فإنَّ صِفةَ الرِّسالةِ أعظَمُ صِفاتِ الخلْقِ، فلا يَليقُ بصاحِبِها أنْ يَرغَبَ إلى غيرِ اللهِ تعالَى [79] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/772)، ((تفسير البيضاوي)) (5/322)، ((تفسير أبي السعود)) (9/173)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/418). .
- وحُذِفَ مَفعولُ (ارْغَبْ)؛ ليَعُمَّ كلَّ ما يَرغَبُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهلْ يَرغَبُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا في الكَمالِ النَّفسانيِّ وانتشارِ الدِّينِ ونصْرِ المسلمينَ [80] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/418). ؟!
- وتَعديةُ فِعلِ فَارْغَبْ هنا بحرْفِ (إلى)؛ لِتَضمينِه معْنى الإقبالِ والتَّوجُّهِ، تَشبيهًا بسَيرِ السَّائرِ إلى مَن عِندَه حاجتُه، كما قال تعالَى عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي [81] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/418). [الصافات: 99] .