موسوعة التفسير

سُورةُ الطَّلاقِ
الآيتان (6-7)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ

غريب الكلمات:

وُجْدِكُمْ: أي: سَعَتِكم ومَقدِرَتِكم، والوُجْدُ: المَقدِرةُ والسَّعَةُ [199] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 471)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 488)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 855)، ((تفسير القرطبي)) (18/168)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 417). .
وَلَا تُضَارُّوهُنَّ: أي: ولا تُؤذُوهنَّ، وأصلُ (ضرر) هنا: يدُلُّ على خِلافِ النَّفعِ [200] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/360)، ((تفسير البغوي)) (8/153). .
وَأْتَمِرُوا: أي: لِيَأمُرْ كُلُّ واحِدٍ صاحِبَه بخَيرٍ، أو: تَشاوَرُوا، والائتِمارُ: التَّشاوُرُ والتَّداوُلُ في النَّظَرِ، وأصلُه مُطاوِعُ: أَمَرَه؛ لأنَّ المُتشاوِرَينِ يأمُرُ أحَدُهما الآخَرَ، فيَأْتَمِرُ الآخَرُ بما أمَرَه [201] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/326)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/161)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 417)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/329). .
تَعَاسَرْتُمْ: أي: اشتَدَّ الخِلافُ بَيْنَكم، ولم تَرجِعوا إلى وِفاقٍ، والتَّعاسُرُ: صُدورُ العُسرِ مِن الجانِبَينِ، وهو تَفاعُلٌ، مِن قَولِهم: عَسَرْتُ فُلانًا: إذا أخَذْتَه على عُسْرِه، ويُقالُ: تعاسَرَ البَيِّعانِ: إذا لم يتَّفِقا، وأصلُ (عسر): يدُلُّ على صُعوبةٍ وشِدَّةٍ [202] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 471)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 157)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/319)، ((المفردات)) للراغب (ص: 566)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 417)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/330). .
سَعَةٍ: أي: طاقةٍ وقُدرةٍ وغِنًى، والسَّعَةُ: هي الجِدَةُ مِنَ المالِ أو الرِّزقِ، وأصلُ (وسع): يدُلُّ على خِلافِ الضِّيقِ والعُسرِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/109)، ((المفردات)) للراغب (ض:870، 871)، ((تفسير ابن كثير)) (8/153)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/330). .
قُدِرَ: أي: ضُيِّق وقُتِّر، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلَغِ الشَّيءِ وكُنْهِه ونِهايتِه [204] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 471)، ((تفسير ابن جرير)) (23/68)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62، 63). .

المعنى الإجمالي:

يأمرُ الله تعالى الرِّجالَ بإسكانِ المطلَّقاتِ، وأن يُحسِنوا معامَلتَهنَّ، ويَنهاهم عن الإساءةِ إليهنَّ، فيقول: أسْكِنوا -أيُّها الأزواجُ- نِساءَكم المُطَلَّقاتِ مِمَّا توفَّرَ لَدَيكم وتيسَّرَ وُجودُه مِن مَساكِنِكم، إلى أن تَنتَهيَ عِدَّتُهنَّ، ولا تَضُرُّوهنَّ لتُضَيِّقوا عَليهِنَّ فتَضطرُّوهنَّ للخُروجِ من السَّكَنِ.
ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى أحكامَ المطلَّقاتِ الحواملِ، وما يجِبُ لهنَّ بعْدَ الوضعِ، فيقولُ: وإنْ كانت المُطلَّقاتُ حوامِلَ فأنفِقوا عليهِنَّ إلى أن تَنتهِيَ عِدَّتُهنَّ بوِلادتِهنَّ، فإنْ أرضَعْنَ لكم أولادَكم فأعطوهنَّ أُجرةَ الرَّضاعةِ، وتَشاوَروا فيما بيْنَكم بالمعروفِ وبما هو خيرٌ للطِّفلِ الرَّضيعِ، وإن اختَلَفتُم في شأنِ الرَّضاعِ فلْيَستأجِرِ الأبُ لوَلَدِه مُرضِعةً أُخرى.
ثمَّ يُقدِّرُ الله تعالى النَّفقةَ، بحسَبِ حالِ الزَّوجِ، فيقولُ: لِيُنفِقْ مَن وَسَّعَ اللهُ عليه على مُطَلَّقتِه ووَلَدِه الرَّضيعِ، ويُوَسِّعْ عليهم في النَّفَقةِ، ومَن كان فقيرًا قد ضُيِّقَ عليه رِزقُه فلْيُنفِقْ مِمَّا أعطاه اللهُ على قَدْرِ سَعَتِه، لا يُكَلِّفُ اللهُ أحَدًا إلَّا بقَدْرِ ما أعطاه، بحَسَبِ حالِه مِن الغِنى والفَقرِ.
ثمَّ يختمُ الله تعالى الآيةَ ببشارةٍ لِمَن يتَّبِعُ أمْرَه، فيقولُ: سيَجعَلُ اللهُ بعْدَ الفَقرِ والشِّدَّةِ والضِّيقِ غِنًى ورَخاءً وسَعَةً.

تفسير الآيتين:

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
تقدَّم أنَّ اللهَ نهى عن إخراجِ المطَلَّقاتِ مِن البُيوتِ، وهنا أمَرَ بإسكانِهنَّ [205] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 871). .
وأيضًا فإنَّ قَولَه تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ وما بَعْدَه بيانٌ لِما شُرِطَ مِن التَّقوى في قَولِه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ [الطلاق: 4] ، كأنَّه قيل: كيف تكونُ التَّقوَى في شأنِ المعتَدَّاتِ؟ فقيل [206] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/564). :
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ.
أي: أسْكِنوا -أيُّها الأزواجُ- نِساءَكم المُطَلَّقاتِ في المكانِ الَّذي تَسكُنونَ فيه مِمَّا توفَّرَ لَدَيكم، وتيسَّرَ وُجودُه لكم إلى أن تَنتَهيَ عِدَّتُهنَّ [207] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/59)، ((الوسيط)) للواحدي (4/315)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/301)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/756)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/469، 470، 481، 482)، ((تفسير ابن كثير)) (8/152)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/159)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). ذكَر ابنُ القيِّمِ أنَّ الضَّميرَ في قولِه تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ يحتمِلُ أنْ يكونَ للبائنِ، وأنْ يكونَ للرجعيَّةِ، وأنْ يكونَ لهما، ورجَّح حملَه على الرجعيَّةِ، فقال: (حملُه على الرجعيَّةِ هو المتعيِّنُ لتتَّحِدَ الضَّمائِرُ ومفسِّرُها، فلو حُمِل على غيرِها لزِم اختلافُ الضَّمائِرِ ومفسِّرُها وهو خلافُ الأصلِ، والحملُ على الأصلِ أولَى). ((زاد المعاد)) (5/482). وقيل: الضَّميرُ في قوله: أَسْكِنُوهُنَّ يَعودُ إلى النِّساءِ المُطَلَّقاتِ كُلِّهنَّ، فيَشملُ المُطَلَّقةَ الرَّجعيَّةَ والبائِنَ والحامِلَ، وانعقَد الإجماعُ على وُجوبِ السُّكْنى للمطلَّقةِ الرَّجعيَّةِ والحاملِ، وذهَبَ جمهورُ أهلِ العِلمِ إلى وُجوبِ السُّكنى حتَّى للبائِنِ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/ 463)، ((تفسير ابن عطية)) (5/325)، ((تفسير القرطبي)) (18/168)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/325، 326). وسيأتي تفصيلُ الكلامِ عن هذه المسألةِ (ص: 80). .
وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ.
أي: ولا تَضُرُّوهنَّ -أيُّها الأزواجُ- بأيِّ ضَرَرٍ؛ مِن أجْلِ أن تُضَيِّقوا عَليهِنَّ في مَسكَنِكم، فتَضطرُّوهنَّ للخُروجِ منه قبْلَ انتِهاءِ عِدَّتِهنَّ [208] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/61)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/159، 160)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). .
وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
أي: وإنْ كانت المُطلَّقاتُ حوامِلَ فأنفِقوا عليهِنَّ إلى أن تَنتهِيَ عِدَّتُهنَّ بوِلادتِهنَّ [209] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/62)، ((الوسيط)) للواحدي (4/315)، ((تفسير الألوسي)) (14/334)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). قال القرطبي: (لا خِلافَ بيْن العُلَماءِ في وُجوبِ النَّفَقةِ والسُّكنى للحامِلِ المُطَلَّقةِ ثلاثًا أو أقلَّ مِنهنَّ حتَّى تَضَعَ حَمْلَها). ((تفسير القرطبي)) (18/168). قال الشوكاني: (فأمَّا الحامِلُ المُتوَفَّى عنها زَوجُها؛ فقال عليٌّ، وابنُ عُمَرَ، وابنُ مَسعودٍ، وشُرَيحٌ، والنَّخَعيُّ، والشَّعْبيُّ، وحمَّادٌ، وابنُ أبي لَيلى، وسُفيانُ وأصحابُه: يُنفَقُ عليها مِن جميعِ المالِ حتَّى تَضَعَ. وقال ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ الزُّبَيرِ، وجابِرُ بنُ عبدِ اللهِ، ومالِكٌ، والشَّافِعيُّ، وأبو حَنيفةَ وأصحابُه: لا يُنفَقُ عليها إلَّا مِن نَصيبِها. وهذا هو الحَقُّ؛ للأدِلَّةِ الواردةِ في ذلك مِنَ السُّنَّةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/293). ويُنظر ما سيأتي (ص: 82). وقال ابن كثير: (وقولُه: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال كثيرٌ مِن العلماءِ -منهم ابنُ عبَّاسٍ، وطائفةٌ مِن السَّلفِ، وجماعاتٌ مِن الخلَفِ-: هذه في البائنِ، إن كانت حاملًا أنفَق عليها حتَّى تضَعَ حمْلَها، قالوا: بدليلِ أنَّ الرَّجعيَّةَ تجِبُ نفقتُها، سواءٌ كانت حاملًا أو حائلًا. وقال آخَرون: بل السِّياقُ كلُّه في الرَّجعيَّاتِ، وإنَّما نصَّ على الإنفاقِ على الحاملِ وإن كانت رجعيَّةً؛ لأنَّ الحملَ تطولُ مدَّتُه غالبًا، فاحتيج إلى النَّصِّ على وُجوبِ الإنفاقِ إلى الوضعِ؛ لئلَّا يتوهَّمَ أنَّه إنَّما تجبُ النَّفقةُ بمِقدارِ مدَّةِ العدَّةِ. واختلَف العُلماءُ: هل النَّفقةُ لها بواسِطةِ الحملِ، أم للحملِ وحْدَه؟ على قولَينِ مَنصوصَينِ عن الشَّافعيِّ وغيرِه، ويتفرَّع عليها مسائلُ مذكورةٌ في علمِ الفروعِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/153). .
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانَ الحَمْلُ يَنْتهي بالوَضْعِ، انتُقِلَ إلى بَيانِ ما يجِبُ لهُنَّ بعْدَ الوضْعِ؛ فإنَّهُنَّ بالوضْعِ يَصِرْنَ بائناتٍ، فتَنقطِعُ أحكامُ الزَّوجيَّةِ، فكان السَّامعُ بحيثُ لا يَدْري هلْ يكونُ إرضاعُها ولَدَها حقًّا عليها كما كان في زمَنِ العِصمةِ، أو حقًّا على أبيهِ فيُعْطِيها أجْرَ إرْضاعِها كما كان يُعْطيها النَّفقةَ مِن أجْلِ ذلك الولَدِ حينَ كان حَمْلًا [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/328). ؟
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ.
أي: فإنْ أرضَعَ نِساؤُكم المطلَّقاتُ أولادَكم فأعطوهنَّ أُجرةَ الرَّضاعةِ [211] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/65)، ((تفسير السمرقندي)) (3/463)، ((تفسير القرطبي)) (18/168)، ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/64)، ((تفسير ابن كثير)) (8/153)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). .
وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ.
أي: ولْيَتَشاوَرْ كلٌّ مِنَ الزَّوجِ ومُطلَّقتِه، ويأمُرْ بَعضُهم بعضًا بما هو خيرٌ للطِّفلِ الرَّضيعِ، بلا ضررٍ ولا ضِرارٍ، ويَقبَلوا ذلك، ويَعمَلوا به، فلا يُقَصِّرُ الوالِدُ في النَّفَقةِ، ولا تُقَصِّرُ المُرضِعةُ في القيامِ بشَأنِ الرَّضيعِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/66)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/186)، ((الوسيط)) للواحدي (4/315)، ((تفسير السمعاني)) (5/466)، ((تفسير ابن عطية)) (5/326)، ((تفسير القرطبي)) (18/169)، ((تفسير ابن كثير)) (8/153)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/160، 161)، ((تفسير الشوكاني)) (5/293)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). .
وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى.
أي: وإن اختَلَف الزَّوجُ ومُطَلَّقتُه في شأنِ رَضاعِ وَلَدِها منه، فلم يتَّفِقَا على الأُجرةِ أو امتَنَعَت الأمُّ عنَ الرَّضاعِ، فلا تُكرَهُ على إرضاعِه، ولْيَستأجِرِ الأبُ لوَلَدِه مُرضِعةً أُخرى [213] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/67)، ((تفسير القرطبي)) (18/169)، ((تفسير ابن كثير)) (8/153)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/330). .
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت المُعاسَرةُ في الغالِبِ في تَركِ السَّماحِ، وكان تَركُ السَّماحِ مِن خَوفِ الإعدامِ؛ نَبَّه اللهُ سبحانه على أنَّ ذلك ليس بعُذرٍ، بتَقسيمِ النَّاسِ إلى مُوَسَّعٍ عليه وغَيرِه، ولأنَّ الأليَقَ بالمُوَسَّعِ عليه أن يُوَسِّعَ ولا يُسيءَ الظَّنَّ برَبِّه وقد جَرَّبَ رِفْدَه، وأنَّ المُقَتَّرَ عليه لا ينبغي أن يَفعَلَ فِعلَ مَن يخافُ أن يُخلِفَ وَعْدَه [214] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/162). .
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.
أي: على مَن وَسَّعَ اللهُ عليه أن يُوَسِّعَ في النَّفَقةِ على مُطَلَّقتِه ووَلَدِه الرَّضيعِ [215] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/68)، ((تفسير السمعاني)) (5/466)، ((تفسير القرطبي)) (18/170)، ((تفسير ابن كثير)) (8/153)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/162)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872). .
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ.
أي: ومَن كان فقيرًا قد ضُيِّقَ عليه رِزقُه فلْيُنفِقْ مِمَّا أعطاه اللهُ مِنَ الرِّزقِ، على قَدْرِ مالِه [216] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/95)، ((تفسير ابن جرير)) (23/68)، ((الوسيط)) للواحدي (4/315)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/331). قال القرطبي: (تُقَدَّرُ النَّفَقةُ بحَسَبِ الحالةِ مِن المُنفِقِ، والحاجةِ مِن المنفَقِ عليه، بالاجتِهادِ على مَجرى العادةِ، فيَنظُرُ المُفتي إلى قَدرِ حاجةِ المنفَقِ عليه، ثمَّ يَنظُرُ إلى حالةِ المُنفِقِ؛ فإن احتَمَلَت الحالةُ [الحاجةَ] أمْضاها عليه، فإن قصَّرتْ حالتُه عن حاجةِ المنفَقِ عليه رَدَّها إلى قَدْرِ احتِمالِه). ((تفسير القرطبي)) (18/170). .
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا.
أي: لا يُكَلِّفُ اللهُ أحَدًا مِن النَّفَقةِ الواجِبةِ عليه إلَّا بقَدْرِ ما أعطاه مِنَ الرِّزقِ؛ كُلٌّ بحَسَبِ حالِه مِن الغِنى والفَقرِ، فلا يُكَلِّفُ اللهُ الفَقيرَ أن يُنفِقَ مِثلَ نَفَقةِ الغَنيِّ [217] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/70)، ((البسيط)) للواحدي (21/517)، ((تفسير القرطبي)) (18/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872). .
قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286].
سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا.
أي: سيَجعَلُ اللهُ للفَقيرِ بعدَ الفَقرِ والشِّدَّةِ والضِّيقِ غِنًى ورَخاءً وسَعَةً [218] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/71)، ((البسيط)) للواحدي (21/517)، ((تفسير القرطبي)) (18/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 872). .
قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268] .
وقال سبحانه: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5، 6].

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي: ولْيَأمُرْ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الزَّوجَينِ ومِن غَيرِهما الآخَرَ بالمَعروفِ، وهو كُلُّ ما فيه مَنفعةٌ ومَصلحةٌ في الدُّنيا والآخِرةِ؛ فإنَّ الغَفلةَ عن الائتِمارِ بالمَعروفِ يَحصُلُ بها مِن الشَّرِّ والضَّرَرِ ما لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، وفي الائتِمارِ تعاوُنٌ على البِرِّ والتَّقْوى [219] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 871). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ فيه تنبيهٌ صَريحٌ بألَّا يُضارَّ أحَدُ الوالِدَينِ بوَلَدِه، وأن تكونَ المفاهمةُ بيْن الزَّوجَينِ بعْدَ الفُرقةِ في جميعِ الأُمورِ -سواءٌ في خُصوصِ الرَّضاعِ أو غَيرِه- مَبناها على المعروفِ والتَّسامُحِ والإحسانِ؛ وفاءً لحَقِّ العِشْرةِ السَّابِقةِ [220] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/216). .
3- في قَولِه تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا استِحبابُ مُراعاةِ الإنسانِ حالَ نفْسِه في النَّفَقةِ والصَّدَقةِ [221] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 268). .
4- قال اللهُ تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ. قَولُه قُدِرَ بناه للمَفعولِ؛ تعليمًا للأدَبِ معه سُبحانَه وتعالى [222] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/163). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ استُدِلَّ به على وُجوبِ السُّكْنى للمُطَلَّقاتِ كُلِّهنَّ، وللبَوائِنِ؛ لتَقَدُّمِ سُكْنى الرَّجْعيَّاتِ، ولِقَولِه بَعْدُ: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ؛ فإنَّه خاصٌّ بالبوائِنِ [223] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). ويُنظر تفصيلُ مسألةِ النَّفقةِ والسُّكْنى في حاشيةِ الفائدةِ التَّاليةِ. .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ تعميمُ المُطَلَّقاتِ بالسُّكْنى، وتخصيصُ أُولاتِ الأحمالِ بالنَّفَقةِ: استُدِلَّ به على أنَّ غَيرَها مِنَ المُطَلَّقاتِ لا يُشارِكُها في النَّفَقةِ، وتُشارِكُهنَّ في السُّكْنى [224] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/202). قال ابن عاشور: (ظاهِرُ نَظْمِ الآيةِ يَقْتضي أنَّ الحواملَ مستحِقَّاتُ الإنفاقِ دونَ بعضِ المطلَّقاتِ؛ أخْذًا بمفهومِ الشَّرطِ، وقد أخَذ بذلك الشَّافعيُّ والأوزاعيُّ وابنُ أبي ليلَى. ولكنَّ المفهومَ مُعَطَّلٌ في المطَلَّقاتِ الرَّجعيَّاتِ؛ لأنَّ إنفاقَهنَّ ثابتٌ بأنَّهنَّ زوجاتٌ. ولذلك قال مالكٌ: إنَّ ضميرَ أَسْكِنُوهُنَّ للمطلَّقاتِ البوائِنِ... ومَن لم يأخُذْ بالمفهومِ قالوا: الآيةَ تعرَّضَتْ للحواملِ تأكيدًا للنَّفقةِ عليهنَّ؛ لأنَّ مُدَّةَ الحملِ طويلةٌ، فرُبَّما سَئِم المطَلِّقُ الإنفاقَ، فالمقصودُ مِن هذه الجملةِ هو الغايةُ الَّتي بقولِه: حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، وجعلوا للمطلَّقةِ غيرِ ذاتِ الحملِ الإنفاقَ. وبه أخذ أبو حنيفةَ والثَّوريُّ. ونُسِب إلى عُمَرَ بنِ الخطَّابِ وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهما). ((تفسير ابن عاشور)) (28/328). أمَّا نَفَقةُ المُطَلَّقةِ الرَّجعيَّةِ وسُكْناها في العِدَّةِ فهو واجبٌ بالإجماعِ، وممَّن نقَل الإجماعَ على ذلك: الشَّافعيُّ، وابنُ حَزمٍ، وابنُ قُدامةَ. يُنظر: ((الأم)) للشافعي (5/253)، ((مراتب الإجماع)) لابن حزم (ص: 78)، ((المغني)) لابن قدامة (8/233). أمَّا المُعتَدَّةُ البائِنُ الحائِلُ (غيرُ الحامِلِ) ففيها خِلافٌ: فمَذهَبُ الحَنابِلةِ والظَّاهريَّةِ أنَّه لا يَجِبُ لها السُّكْنى ولا النَّفَقةُ، واختاره ابنُ القيِّمِ، والشَّوكانيُّ. يُنظر: ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (5/ 465)، ((المحلى)) لابن حزم (10/78)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/466)، ((نيل الأوطار)) للشوكاني (6/357-359). قال القاسمي: (أمَّا البائِنُ فلا سُكنى لها ولا نَفَقةَ؛ لِسُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الصَّحيحةِ الَّتي لا يُطعَنُ في صِحَّتِها الصَّريحةِ الَّتي لا شُبهةَ في دَلالتِها). ((تفسير القاسمي)) (9/253). وقال السعدي: (أمَّا البائِنُ فليس لها سُكنى واجِبةٌ؛ لأنَّ السَّكَنَ تَبَعٌ للنَّفَقةِ، والنَّفَقةُ تَجِبُ للرَّجعيَّةِ دونَ البائِنِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 869). ومذهبُ الحنَفيَّةِ أنَّ لها النَّفَقةَ والسُّكْنى. يُنظر: ((الهداية شرح البداية)) للمَرْغِيناني (2/44). ومَذهَبُ المالِكيَّةِ والشَّافِعيَّةِ أنَّه يجبُ لها السُّكْنى، لا النَّفَقةُ. يُنظر: ((مواهب الجليل)) للحَطَّاب (5/553)، ((العزيز شرح الوجيز)) للرافعي (10/40). وأمَّا البائنُ الحاملُ فلها النَّفَقةُ والسُّكْنى بالإجماعِ، وممَّن نقَل الإجماعَ على ذلك: الكاساني، وابنُ قدامة، والقرطبي. يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (3/209)، ((المغني)) لابن قدامة (8/232)، ((تفسير القرطبي)) (18/168). . فقولُه: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ استُدِلَّ بمَفهومِه على أنَّ غَيرَ الحامِلِ لا نَفَقةَ لها [225] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيه أنَّ الإسكانَ يُعتَبَرُ بحالِ الزَّوجِ [226] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فيه تحريمُ المُضارَّةِ بها، وإلجائِها إلى الخُروجِ [227] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). .
5- (مِنْ) الواقعةُ في قولِه: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ للتَّبعيضِ، أي: في بعضِ ما سكَنْتُم. ويُؤخَذُ منه أنَّ المسكنَ صالحٌ للتَّبعيضِ بحسَبِ عُرْفِ السُّكنى، مع تَجنُّبِ التَّقارُبِ في المَبيتِ إنْ كانتْ غيرَ رَجعيَّةٍ، فيُؤخَذُ منه أنَّه إنْ لم يَسَعْهُما خرَجَ الزَّوجُ المُطلِّقُ، كأنَّه قيلَ: أسكِنوهُنَّ مكانًا مِنْ مَسكنِكم ممَّا تُطِيقونَه [228] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/558)، ((تفسير أبي حيان)) (10/201)، ((تفسير أبي السعود)) (8/263)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/327). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيه وُجوبُ الإنفاقِ على البائِنِ الحامِلِ حتَّى تَنقَضِيَ عِدَّتُها [229] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). وذلك بالإجماعِ كما تقدَّم. .
7- إنْ قيل: فما الفائدةُ في تخصيصِ نفَقةِ الرَّجعيَّةِ بكونِها حاملًا؟
قيل: ليس في الآيةِ ما يقتضي أنَّه لا نفقةَ للرَّجعيَّةِ الحائلِ، بل الرَّجعيَّةُ نَوعانِ قد بيَّن الله حُكمَهما في كتابِه: حائلٌ: فلها النَّفقةُ بعَقدِ الزَّوجيَّةِ؛ إذ حُكمُها حُكمُ الأزواجِ، أو حاملٌ: فلها النَّفقةُ بهذه الآيةِ إلى أنْ تضَع حملَها، فتصيرَ النَّفقةُ بعدَ الوضعِ نفقةَ قريبٍ لا نفقةَ زوجٍ، فيُخالِفَ حالُها قبْلَ الوضعِ حالَها بعْدَه؛ فإنَّ الزَّوجَ يُنفِقُ عليها وحْدَه إذا كانت حاملًا، فإذا وضَعت صارتْ نفقتُها على مَن تجبُ عليه نفقةُ الطِّفلِ، ولا يكونُ حالُها في حالِ حملِها كذلك، بحيث تجِبُ نفقتُها على مَن تجِبُ عليه نفقةُ الطِّفلِ؛ فإنَّه في حالِ حملِها جزءٌ مِن أجزائِها، فإذا انفَصل كان له حُكمٌ آخَرُ، وانتقلت النَّفقةُ مِن حُكمٍ إلى حكمٍ، فظهَرت فائدةُ التَّقييدِ، وسرُّ الاشتراطِ، واللهُ أعلمُ بما أراد مِن كلامِه [230] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/482). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ استَدَلَّ بعُمومِه مَن أوجَبَ النَّفَقةَ للحامِلِ المُتوفَّى عنها [231] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). وهو قولُ شُرَيحٍ، وابنِ سِيرينَ، والشَّعْبيِ، وأبي العاليةِ، والنَّخَعيِّ، وجُلاس بنِ عَمرٍو، وحمَّادِ ابنِ أبي سُلَيمانَ، وأيُّوبَ السَّخْتِيانيِّ، وسُفْيانَ الثَّوريِّ، وأبي عُبَيدٍ، ورُويَ عن عليٍّ، وعبدِ الله بن مسعود، وابنِ عُمَرَ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (3/185). واتَّفقَتِ المَذاهِبُ الفِقهيَّةُ الأربَعةُ على أنَّ المُعتَدَّةَ مِن وَفاةِ زَوجِها لا نَفَقةَ لها حتَّى لو كانت حامِلًا. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نُجَيم (4/217)، ((منح الجليل)) لِعُلَيْش (4/319)، ((روضة الطالبين)) للنووي (9/68)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/232). وهو قولُ سعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، وعَطاءٍ، والحسَنِ، وعِكْرِمةَ، وعبدِ الملِكِ بنِ يَعْلَى، ويحيى الأنصاريِّ، ورَبيعةَ، وإسحاقَ، ورُويَ عن جابرِ بنِ عبدِ الله، وابنِ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (3/185). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فائِدةُ ذِكرِ الغايةِ فيه: رَفْعُ توَهُّمِ أنَّ النَّفَقةَ تَتقَيَّدُ بمُضِيِّ مِقدارِ عِدَّةِ الأقراءِ، أو أنَّه إذا طالت مُدَّةُ الحَملِ لا تَجِبُ النَّفَقةُ؛ مِن الإطالةِ [232] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 571). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يَعني حَقَّ الرَّضاعِ وأُجرتَه، واستُدِلَّ به على أنَّ اللَّبَنَ وإنْ خُلِقَ لمَكانِ الوَلَدِ فهو مِلْكٌ لها، وإلَّا لم يكُنْ لها أن تأخُذَ الأجْرَ [233] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/564). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماتريدي)) (10/68). .
11- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه دليلٌ على أنَّ حَقَّ الرَّضاعِ والنَّفَقةِ: على الأزواجِ في حَقِّ الأولادِ [234] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/564). . فقد أوْجَب الله تعالى نَفَقةَ الولدِ حَملًا ورَضيعًا بواسِطةِ الإنفاقِ على الحاملِ والمُرْضِعِ؛ فإنَّه لا يُمكِنُ رَزْقُه بدونِ رَزْقِ حامِلِه ومُرْضِعِه، وفي ذلك تنبيهٌ على أنَّ نفقةَ الوَلَدِ على أبيه أيضًا بعدَ فِطامِه؛ فإنَّه إذا كان في حالِ اختِفائِه وارتضاعِه أوجَبَ نفقةَ مَن تَحمِلُه وتُرضِعُه -إذْ لا يُمكِنُ الإنفاقُ عليه إلَّا بذلك- فالإنفاقُ عليه بعدَ فِصالِه إذا كان يُباشِرُ الارتِزاقَ بنَفْسِه: أَولى وأَحرى. وهذا مِن حُسْنِ الاستِدلالِ؛ فقد تَضَمَّنَ الخِطابُ التَّنبيهَ بأنَّ الحُكْمَ في المسكوتِ أَولى منه في المنطوقِ، وتَضَمَّنَ تعليلَ الحُكْمِ بكَونِ النَّفَقةِ إنَّما وَجَبَتْ على الأبِ لأنَّه هو الَّذي له الوَلَدُ دونَ الأمِّ، ومَن كان الشَّيءُ له كانت نَفَقتُه عليه؛ ولذا سُمِّيَ الوَلَدُ كَسْبًا في قَولِه: وَمَا كَسَبَ [المسد: 2] ، وفي قَولِه: ((إنَّ أطْيَبَ ما أَكَلَ الرَّجُلُ مِن كَسْبِه، وإنَّ ولدَه مِن كَسْبِه )) [235] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (34/106). والحديث أخرجه مِن طُرقٍ: أبو داودَ (3528) باختلافٍ يسيرٍ، والنَّسائيُّ (4452)، وابنُ ماجه (2137)، وأحمدُ (24032) واللَّفظُ لهم مِن حديثِ عائشةَ رضيَ الله عنها. صحَّحه ابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (4260)، وابنُ حزم في ((المحلى)) (8/102)، وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (8/308)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2137)، وحسَّنه لغيرِه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (40/34). وقال ابن كثير في ((إرشاد الفقيه)) (2/419): (له طُرقٌ مُتعدِّدةٌ، بعضُها على شرطِ الصَّحيحَينِ). .
12- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه أنَّ الأُمَّ إذا طَلَبَت إرضاعَه بأُجرةِ مِثْلٍ، وَجَب على الأبِ دَفْعُها إليها، وليس له أن يَستَرضِعَ غَيْرَها [236] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). .
13- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه دَليلٌ على أنَّ الأُمَّ أَولى بالحَضانةِ [237] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). .
14- قال اللهُ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بيَّن أنَّ النَّسَبَ للرِّجالِ، بقَولِه تعالى: لَكُمْ [238] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/160). .
15- قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يدُلُّ على أنَّ الأُجرةَ إنَّما تُستَحَقُّ بالفَراغِ مِن العَمَلِ [239] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/423). .
16- في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أنَّ ما لا يُمكِنُ تَعرِيتُه مِن المجهولِ، ولا يُضْبَطُ بالتَّسميةِ في الإجاراتِ: جائزٌ [240] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (4/346). .
17- في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ثُبوتُ عِوَضِ الإجارةِ بالمَعروفِ؛ فقد أمَرَ بإيتائِهنَّ أجورَهنَّ بمُجَرَّدِ الإرضاعِ [241] يُنظر: ((نظرية العقد)) لابن تيمية (1/164). .
18- مَذهَبُ مالِكٍ وأحمَدَ بنِ حَنبَلٍ المشهورُ عنه، وغَيرِهما: أنَّ كُلَّ مَن أدَّى عن غَيرِه واجِبًا فله أن يَرجِعَ به عليه إذا لم يكُنْ مُتبَرِّعًا بذلك، وإن أدَّاه بغيرِ إذْنِه؛ مِثلُ مَن قَضى دَيْنَ غَيرِه بغَيرِ إذْنِه، سواءٌ كان قد ضَمِنَه بغَيرِ إذنِه وأدَّاه بغَيرِ إذنِه، أو أدَّاه عنه بلا ضَمانٍ، وكذلك مَنِ افْتَكَّ أسيرًا مِن الأَسْرِ بغيرِ إذْنِه يَرْجِعُ عليه بما افْتَكَّه به، وكذلك مَن أدَّى عن غيَرِه نَفَقةً واجِبةً عليه، مِثلُ أنْ يُنفِقَ على ابنِه أو زَوجتِه أو بهائِمِه، لا سيَّما إذا كان للمُنفِقِ فيها حقٌّ، مِثلُ أنْ يكونَ مُرتَهِنًا أو مُستأجِرًا، أو كان مُؤتَمَنًا عليها، مِثلُ المُودِعِ، ومِثلُ رادِّ العَبدِ الآبِقِ، ومِثلُ إنفاقِ أحدِ الشَّريكَينِ على البهائِمِ المُشتَرَكةِ، وقد دلَّ على هذا الأصلِ قَولُه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، فأمَرَ سُبحانَه بإيتاءِ الأجرِ بمُجَرَّدِ إرضاعِهنَّ، ولم يَشتَرِطْ عَقْدَ استِئجارٍ، ولا إذْنَ الأبِ لها في أنْ تُرْضِعَ بالأجرِ، بل لَمَّا كان إرضاعُ الطِّفلِ واجِبًا على أبيه فإنْ أرضَعَتْه المرأةُ استحَقَّتِ الأجرَ بمُجَرَّدِ إرضاعِها [242] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (30/349). ويُنظر أيضًا: ((الذخيرة)) للقرافي (9/ 203)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (3/228). .
19- في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أنَّ الإجارةَ تكونُ على كلِّ ما يُستوفَى مع بقاءِ أصْلِه، سواءٌ كانت عَينًا أو مَنفَعةً، فلمَّا كان لَبَنُ المُرِضعِ يُستوفَى مع بَقاءِ الأصلِ، ونَقْعُ البِئرِ [243] نَقْعُ البِئْرِ: ما اجتَمَع في البِئرِ مِن الماءِ، أو فَضلُ مائِها. يُنظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 318). يُستوفَى مع بقاءِ الأصلِ؛ جازتِ الإجارةُ عليه كما جازتْ على المنفعةِ؛ فإنَّ هذه الأعيانَ يُحْدِثُها اللهُ شيئًا بعدَ شيءٍ وأصلُها باقٍ، كما يُحْدِثُ اللهُ المنافعَ شيئًا بعدَ شيءٍ وأَصْلُها باقٍ؛ ولهذا جاز وَقْفُ هذه الأصولِ لاستِمرارِ هذه الفوائدِ؛ أعيانِها ومَنافِعِها [244] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (30/230). .
20- في قَولِه تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ صِحَّةُ المعاوَضةِ بثَمَنِ المِثْلِ [245] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/51). .
21- قَولُ اللهِ تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ الائتِمارُ بمَعروفٍ يُشعِرُ بأنَّ للعُرفِ دَخلًا في ذلك [246] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/216). .
22- قولُه تعالى: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ قيَّدَ الائتمارَ بالمعروفِ، أي: ائتمارًا مُلابِسًا لِمَا هو المعروفُ في مِثْلِ حالِهمْ وقَومِهم، أي: مُعتادٌ مَقبولٌ، فلا يَشتَطُّ الأبُ في الشُّحِّ، ولا تَشتَطُّ الأمُّ في الحِرصِ [247] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/329). .
23- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى يدُلُّ على أنَّ الأُمَّ لا تُجبَرُ على الرَّضاعِ حيثُ يُوجَدُ غَيرُها، وقَبِلَ الصَّبيُّ ثَدْيَها، وإلَّا أُجبِرَت عليه [248] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). .
24- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى أصلٌ في وُجوبِ النَّفَقةِ للوَلَدِ على الوالِدِ دونَ الأُمِّ [249] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/291). .
25- في قَولِه تعالى: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى أنَّ الأمَّ إذا أرادتِ الإجحافَ بالأبِ في إغلاءِ أُجرةِ الرَّضاعِ كان للأَبِ دَفْعُه إلى أجنبيَّةٍ، ولم يُجبَرِ الأبُ على أكثَرَ مِن أُجرةِ مِثْلِها في إرضاعِها [250] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/346). .
26- قَولُ اللهِ تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ فيه أنَّ النَّفَقةَ يُراعَى فيها حالُ المُنفِقِ يَسارًا وإعسارًا، وأنَّ نَفَقةَ المُعسِرِ أقَلُّ مِن نَفَقةِ المُوسِرِ [251] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 268). .
27- في قَولِه تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ أنَّ الزَّوجَ يَجِبُ عليه أنْ يُنْفِقَ على زَوجتِه ولو كانت غَنيَّةً، ولِقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: ((لَهُنَّ عليكم رِزْقُهنَّ وكِسْوَتُهنَّ بالمعروفِ )) [252] أخرجه مسلمٌ (1218) مطوَّلًا مِن حديثِ جابرٍ رضيَ الله عنه. ، لكنْ ينبغي للزَّوجةِ إذا كان زوجُها فقيرًا وليس ذا سَعَةٍ مِن المالِ؛ ينبغي لها أنْ تُساعِدَه على مَؤونةِ البيتِ، ومَؤونةِ العيالِ، ومَؤونةِ نَفْسِها أيضًا [253] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) لابن عثيمين (اللقاء رقْم: 38). .
28- قولُه تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ هو حَثٌّ على التَّوسُّعِ في النَّفَقةِ لِمَن وَسَّع اللهُ عليه [254] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/466). ، فالمؤمِنُ في حالِ غِناه يَزيدُ على نَفَقتِه في حالِ فَقْرِه، كما قال بَعضُ السَّلَفِ: (إنَّ المؤمِنَ يأخُذُ عن اللهِ أدَبًا حَسَنًا؛ إذا وسَّعَ اللهُ عليه وسَّع على نَفْسِه، وإذا ضَيَّقَ عليه ضَيَّق على نَفْسِه)، ثمَّ تلا قَولَه تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ، لكِنْ يَكونُ في حالِ غِناه مُقتَصِدًا غَيرَ مُسرِفٍ [255] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/168). .
29- في قَولِه تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ أنَّ نَفْسَ المالِ يُسَمَّى رِزْقًا، لا أنَّ اسمَ الرِّزقِ لا يقعُ إلَّا على ما استُهْلِك بالأكلِ واللِّباسِ وما أشبهَهما [256] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/347). .
30- قَولُ اللهِ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا استَدَلَّ به مَن قال: لا فَسْخَ بالعَجزِ عن الإنفاقِ للزَّوجةِ [257] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 268). مذهبُ الحنفيَّةِ أنَّ مَن أعسَر بنفقةِ امرأةٍ لم يُفرَّقْ بيْنَهما. يُنظر: ((العناية شرح الهداية)) للبابَرْتي (4/389). ومذهبُ الجمهورِ مِن المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ -في الأظهرِ-، والحنابلةِ أنَّه إذا أعسَرَ الزَّوجُ بالنَّفَقةِ ولم تَصبِرِ الزَّوجةُ، فلها الفَسخُ. يُنظر: ((الشرح الكبير)) للدردير (2/518)، ((منهاج الطالبين)) للنووي (ص: 265)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (3/235). .
31- في قَولِه تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا أنَّ مَن وَجَبَ عليه نَفَقةُ قَومٍ فلَمْ يَقْدِرْ على تمامِها، لم يَلْزَمْه الإقحامُ على ما لا يَحِلُّ له، ووَجَبَ عليه الاقتِصارُ على ما أُوتيَ مِن الرِّزقِ، وعلى مَن يَعولُهم الصَّبرُ معه على انتِقالِ حالِه مِن العُسْرِ إلى اليُسْرِ الَّذي وَعَدَه اللهُ في هذه الآيةِ [258] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/347). .
32- قال اللهُ تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا هذا مُناسِبٌ للحِكمةِ والرَّحمةِ الإلهيَّةِ؛ حيثُ جَعَل كُلًّا بحَسَبِه، وخَفَّف عن المُعسِرِ، وأنَّه لا يُكَلِّفُه إلَّا ما آتاه، فلا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَها في بابِ النَّفَقةِ وغَيرِها [259] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 872). .
33- قولُه تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا فيه تطييبٌ لقلْبِ المُعسِرِ، وتَرغيبٌ له في بذْلِ مجهودِه [260] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/222)، ((تفسير أبي السعود)) (8/263). .
34- قَولُ اللهِ تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا هذه بِشارةٌ للمُعسِرينَ أنَّ اللهَ تعالى سيُزيلُ عنهم الشِّدَّةَ، ويَرفَعُ عنهم المَشقَّةَ [261] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 871). .
35- قَولُ اللهِ تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا لا يُنافي قَولَه تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 6] ؛ لأنَّ (مع) بمعنى (بَعْدَ)، وإلَّا فيَلزَمُ اجتِماعُ الضِّدَّينِ، وهو مُحالٌ [262] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 571). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى
- قولُه: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ استِئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سُؤالٍ نشَأَ ممَّا قَبْلَه مِنَ الحثِّ على التَّقوى؛ كأنَّه قيلَ: كيفَ نَعمَلُ بالتَّقْوى في شأنِ المُعتدَّاتِ؟ فقيلَ: أسكِنوهُنَّ مَسْكنًا مِن حيثُ سكَنْتُم، أي: بعضَ مكانِ سُكْناكُم [263] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/263). .
- وهذِه الجملةُ وما أُلْحِقَ بها مِنَ الجُمَلِ إلى قولِه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ ... [الطلاق: 8] إلخ؛ تَشريعٌ مُستأنَفٌ، فيه بَيانٌ لِما أُجْمِلَ في الآياتِ السَّابقةِ مِن قولِه: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق: 1] ، وقولِه: أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق: 2] ، وقولِه: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ؛ فتَتنزَّلُ هذِه الجُمَلُ مِنَ اللَّاتي قَبْلَها مَنزِلةَ البَيانِ لبَعضٍ، وبدَلِ الاشتِمالِ لبَعضٍ، وكلُّ ذلكَ مُقتضًى للفَصْلِ -أي: عدمِ العَطفِ بالواوِ-، وابْتُدِئَ ببَيانِ ما في لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق: 1] مِن إجمالٍ [264] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/325). .
- وقولُه: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، أي: في البُيوتِ الَّتي تَسكُنونَها، أي: لا يُكلَّفُ المُطلِّقُ بمَكانٍ للمُطلَّقةِ غيرَ بَيتِه، ولا يَمنَعُها السُّكنى ببَيتِه، وهذا تأْكيدٌ لقولِه: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [265] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/326). [الطلاق: 1] .
- و(مِنْ) في قولِه: مِنْ وُجْدِكُمْ بدَلٌ مُطابِقٌ، وهو بَيانٌ لقولِه: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ؛ فإنَّ مَسكَنَ المرْءِ هو وُجْدُه الَّذي وجَدَهُ غالبًا لِمَن لم يكُنْ مُقتِّرًا على نفْسِه [266] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/201)، ((تفسير ابن عاشور)) (28/327). .
- قولُه: وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ المُضارَّةُ: الإضرارُ القويُّ، فكأنَّ المُبالَغةَ راجعةٌ إلى النَّهيِ، لا إلى المَنهيِّ عنه، أي: هو نهْيٌ شديدٌ [267] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/327). .
- واللَّامُ في لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لتَعليلِ الإضرارِ، وهو قَيْدٌ جَرَى على غالِبِ ما يَعرِضُ للمُطلِّقينَ مِن مَقاصِدِ أهلِ الجاهليَّةِ، والإضرارُ بالمُطلَّقاتِ مَنْهيٌّ عنه، وإنْ لم يكُنْ لقصْدِ التَّضييقِ عليهِنَّ [268] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/327). .
- وقولُه: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى خصَّ الأُمَّ بالمُعاتَبةِ؛ لأنَّ المَبذولَ مِن جِهَتِها هو لَبَنُها لوَلَدِها، وهو غيرُ مُتموَّلٍ ولا مَضْنونٍ به في العُرفِ، وخُصوصًا في الأُمِّ على الولَدِ، ولا كذلك المَبذولُ مِن جِهَةِ الأبِ؛ فإنَّه المالُ المَضنونُ به عادةً، فالأُمُّ إذَنْ أجْدرُ باللَّومِ، وأحقُّ بالعَتْبِ [269] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- حاشية ابن المُنَيِّر)) (4/559)، ((تفسير البيضاوي)) (5/222)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/482)، ((تفسير أبي حيان)) (10/202)، ((تفسير أبي السعود)) (8/263). .
- وقولُه: وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى عِتابٌ ومَوعظةٌ للأبِ والأمِّ بأنْ يُنزِلَ كلٌّ مِنْهُما نفْسَه مَنزلةَ ما لَوِ اجْتُلِبَتْ للطِّفلِ ظِئْرٌ [270] هي المُرْضِعةُ غَيرَ ولَدِها. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/154). ، فلا تَسألُ الأمُّ أكثرَ مِن أجْرِ أمثالِها، ولا يَشِحُّ الأبُ عمَّا يَبلُغُ أجرَ أمثالِ أمِّ الطِّفلِ. وسِينُ الاستِقبالِ مُستعمَلٌ في معْنى التَّأكيدِ، وهذا المعنى ناشئٌ عن جَعْلِ علامةِ الاستِقبالِ كِنايةً عن تجدُّدِ ذلك الفِعلِ في أزمنةِ المُستقبَلِ تَحقيقًا لتحصيلِه، وهذا الخبرُ مُستعمَلٌ كِنايةً أيضًا عن أمرِ الأبِ باستئجارِ ظِئْرٍ للطِّفلِ، بقَرينةِ تعليقِ لَهُ بقولِه: فَسَتُرْضِعُ، فاجتمَعَ فيه ثلاثُ كِناياتٍ: كِنايةٌ عن مَوعظةِ الأبِ، وكِنايةٌ عن مَوعظةِ الأمِّ، وكِنايةٌ عن أمْرِ الأبِ بالاسترضاعِ لولَدِه [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/329، 330). .
2- قولُه تعالَى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا تَذييلٌ لِمَا سبَقَ مِن أحكامِ الإنفاقِ على المُعتدَّاتِ والمُرضِعاتِ بما يَعُمُّ ذلك، ويعُمُّ كلَّ إنفاقٍ يُطالَبُ به المسلِمُ مِن مَفروضٍ ومَندوبٍ، أي: الإنفاقُ على قدْرِ السَّعَةِ [272] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/329، 330). .
- ومعنى قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ جُعِلَ رِزقُه مقدورًا، أي: محدودًا بقدْرٍ مُعيَّنٍ، وذلك كنايةٌ عن التَّضييقِ، أي: مَن كانَ في ضيقٍ مِنَ المالِ فَلْيُنْفِقْ بما يَسمَحُ به رِزقُه بالنَّظرِ إلى الوفاءِ بالإنفاقِ، ومَراتبِه في التَّقديمِ [273] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/331). .
- قولُه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا تَعليلٌ لقولِه: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ، والمقصودُ مِنه إقناعُ المُنفَقِ عليه بألَّا يَطلُبَ مِنَ المُنفِقِ أكثرَ مِن مَقدرتِه [274] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/331). .
- قولُه: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَأكيدِ الوَعدِ للفُقراءِ بفتحِ أبوابِ الرِّزقِ، عاجِلًا أو آجِلًا، وهو وعْدٌ مِن اللهِ تعالَى للمُنفِقِ بعْدَ أنْ أمَرَه بالإنفاقِ في قولِه: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، فإذا قُيِّدَ مُطلَقُ الأمْرِ بما سبَقَ، وأنَّه حديثٌ مِن شأْنِ المُطلَّقاتِ والمُرضِعاتِ، يُقال: إنَّه لفُقراءِ الأزواجِ، وإذا تُرِكَ على إطلاقِه -ليكونَ استطرادًا في الكلامِ، على مِنوالِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4] -؛ يُقال: إنَّه موعدٌ لفُقراءِ ذلك الوقتِ، فيَدخُلُ فيه فُقراءُ الأزواجِ دُخولًا أوَّليًّا، وهذا أوفَقُ لتأليفِ النَّظمِ؛ ليَكونَ تخلُّصًا إلى قولِه: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا [الطلاق: 8] ؛ لأنَّها كالخاتمةِ للتَّحريضِ على تَقوى اللهِ، وحِفظِ حُدودِه، والتَّفادي عن التَّجاوُزِ عنها. وقيل: لا يختصُّ هذا الوعدُ بفقراءِ ذلكَ الوقتِ، ولا بفقراءِ الأزواجِ مُطلَقًا، بل مَنْ أنفَقَ ما قَدَرَ عليه ولم يُقصِّرْ [275] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/560)، ((تفسير البيضاوي)) (5/222)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/482، 483)، ((تفسير أبي حيان)) (10/203)، ((تفسير أبي السعود)) (8/263)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/125). .
- وأيضًا قولُه: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا تَكملةٌ للتَّذييلِ؛ فإنَّ قولَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا يُناسِبُ مضمونَ جُملةِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ، وقولَه: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا يُناسِبُ مضمونَ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ... إلخ، وهذا الكلامُ خبرٌ مُستعمَلٌ في بعثِ التَّرجِّي، وطرْحِ اليأسِ عن المُعسِرِ مِن ذَوِي العِيَالِ، ومعناهُ: عسى أنْ يجعَلَ اللهُ بعدَ عُسْرِكم يُسْرًا لكم؛ فإنَّ اللهَ يجعَلُ بعدَ عُسرٍ يُسرًا، وهذا الخبرُ لا يَقْتَضي إلَّا أنَّ مِن تصرُّفاتِ اللهِ أنْ يجعَلَ بَعْدَ عُسرِ قومٍ يُسرًا لهم، فمَن كان في عُسرٍ رجَا أنْ يكونَ ممَّن يَشملُه فضلُ اللهِ، فيُبدِّلُ عُسرَه باليُسرِ [276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/332). .
- والإتيانُ بكلمتَيْ عُسْرٍ ويُسْرًا نكرتَيْنِ غَيرَ مُعرَّفتَيْنِ باللَّامِ؛ لئلَّا يُتوهَّمَ مِنَ التَّعريفِ معنى الاستِغراقِ [277] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/333). .