موسوعة التفسير

سُورةُ المَسَدِ
الآيات (1-5)

ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ

غريب الكلمات:

تَبَّتْ: أي: خَسِرَتْ وهلَكَتْ، وأصلُ (تبب): يدُلُّ على خُسرانٍ [4] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 209، 541)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/ 341)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 475). .
جِيدِهَا: أي: عُنُقِها [5] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/299)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 542)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 183)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/498)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 87). .
حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ: المسَدُ: ما فُتِلَ مِن أيِّ شَيءٍ كان، قيل: إنَّه سِلْسلةٌ فُتِلَتْ مِن الحديدِ فَتْلًا مُحكَمًا، ولُوِيَت ليًّا شَديدًا، وقيل: المسَدُ: اللِّيفُ، وأصلُ (مسد): يدُلُّ على فَتْلِ شَيءٍ وطَيِّه [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 431)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/323)، ((البسيط)) للواحدي (24/417)، ((تحفة الأريب)) لأبي حيان (ص: 282)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 481)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 882). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ
 قَولُه تعالى: وَامْرَأَتُهُ مَعطوفٌ على الضَّميرِ في سَيَصْلَى، وسوَّغ هذا العَطفَ دونَ توكيدٍ الفَصْلُ بالمفعولِ، أي: سيَصْلَى هو وامرأتُه نارًا. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ: مَنصوبٌ على الذَّمِّ، مَفعولٌ به لفِعلٍ محذوفٍ، أي: أذُمُّ حمَّالةَ. وجملةُ (أذُمُّ) مُعتَرِضةٌ بيْنَ الحالِ؛ جملةِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ، وصاحِبِها «امرَأتُه»، على تقديرِ: وتَصْلَى هي النَّارَ مُسَلْسلةً. وقيل: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ: نَصبٌ على الحالِ مِن «امرأتُه» وحَمَّالَةَ الْحَطَبِ -على هذا- نَكِرةٌ؛ لإفادتِه الاستقبالِ، فإضافتُه لَفظيَّةٌ.
ويجوزُ رَفعُ «امرَأتُه» على الابتداءِ، وفِي جِيدِهَا حَبْلٌ جملةٌ في محَلِّ رَفعٍ خَبَرُ المُبتدَأِ [7] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/298)، ((البسيط)) للواحدي (24/415)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (11/144)، ((تفسير الشوكاني)) (5/628)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) لأحمد الخراط (4/1490). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ بقَولِه تعالى: خَسِرَت وهلَكَت يدا أبي لَهَبٍ، وقد تحَقَّقَت خَسارتُه هو وهَلاكُه، لم يَنفَعْه مالُه وما كَسَبَه مِن الأولادِ أو غَيرِهم، سيَدخُلُ نارًا ذاتَ إحراقٍ شَديدٍ هو وزَوجتُه الحمَّالةُ للحَطَبِ، في عُنُقِ امرأتِه حَبلٌ مَفتولٌ!

 تفسير الآيات:

تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1).
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم خَرَج إلى البَطحاءِ [8] البَطْحاءُ والأَبْطَحُ: مَسِيلٌ واسعٌ فيه دِقاقُ الحصى، والمرادُ هنا: مَسِيلُ وادي مكَّةَ. يُنظر: ((الصَّحاح)) للجوهري (1/356)، ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (7/438). ، فصَعِدَ إلى الجَبَلِ فنادى: يا صَباحاه! فاجتمَعَت إليه قُرَيشٌ، فقال: أرأَيْتُم إنْ حدَّثْتُكم أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكم أو مُمَسِّيكم، أكنتُم تُصَدِّقوني؟! قالوا: نعم، قال: فإنِّي نَذيرٌ لكم بيْنَ يدَيْ عذابٍ شديدٍ. فقال أبو لهَبٍ: ألِهذا جمَعْتَنا؟! تبًّا لك! فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجَلَّ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ إلى آخِرِها)) [9] رواه البخاريُّ (4972) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (208). .
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1).
أي: خَسِرَتْ وهلَكَتْ يدا أبي لَهَبٍ، وقد تحَقَّقَت خَسارتُه هو وهَلاكُه [10] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/714)، ((تفسير ابن كثير)) (8/515)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/329-331)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937). قال الواحدي: (أبو لهَبٍ هو ابنُ عبدِ المطَّلِبِ، عَمُّ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واسمُه عبدُ العُزَّى). ((البسيط)) (24/409). !
عن طارقٍ المُحارِبيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((رأيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بسوقِ ذي المَجازِ، وأنا في بِياعةٍ [11] البِياعةُ: السِّلعةُ. يُنظر: ((نخب الأفكار)) للعيني (11/486)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (20/ 367). أَبِيعُها، فمَرَّ وعليه جُبَّةٌ له حَمراءُ، وهو يُنادي بأعلى صَوتِه: أيُّها النَّاسُ، قولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ تُفلِحوا، ورجُلٌ يَتْبَعُه بالحِجارةِ قد أدمى كعبَيْه وعُرقُوبَيه [12] العُرْقوبُ: هو العَصَبةُ الَّتي فوقَ العَقِبِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/131). ! وهو يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ، لا تُطيعوه؛ فإنَّه كَذَّابٌ! قُلتُ: مَن هذا؟ قالوا: هذا غُلامُ بني عبدِ المطَّلِبِ. قلتُ: فمَن هذا الَّذي يَتْبَعُه يَرميه بالحِجارةِ؟ قالوا: عَمُّه عبدُ العُزَّى، وهو أبو لَهَبٍ !)) [13] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ (37720) واللَّفظُ له، وابنُ خُزَيْمةَ (159)، وابنُ حِبَّانَ (6562). صحَّحه ابنُ خُزَيْمةَ، وابنُ حِبَّانَ، وابنُ حزم في ((المحلى)) (9/112)، وابنُ المُلَقِّنِ في ((البدر المنير)) (1/680). .
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2).
أي: لم يَنفَعْه مالُه وما كَسَبَه مِن الأولادِ أو غَيرِهم؛ فيَدفَعَ عنه شيئًا مِن عذابِ اللهِ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/717)، ((تفسير ابن عطية)) (5/534)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/335)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/603، 604)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 346، 347). قال ابنُ عاشور: (ما: نافيةٌ، ويجوزُ أن تكونَ استفهاميَّةً للتَوبيخِ والإنكارِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/604). وقال الشوكاني: (مَالُهُ وَمَا كَسَبَ أيْ: ... ما جَمَع مِن المالِ ولا ما كَسَب مِن الأرباحِ والجاهِ، أو المرادُ بقولِه: مَالُهُ: ما وَرِثه مِن أبيه، وبقولِه: وَمَا كَسَبَ الَّذي كسَبه بنفسِه. قال مجاهدٌ: وَمَا كَسَبَ مِن وَلَدٍ، ووَلَدُ الرَّجُلِ مِن كَسْبِه). ((تفسير الشوكاني)) (5/627). .
قال تعالى: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل: 11] .
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ تعالى عن حالِ أبي لهَبٍ في الماضي بالتَّبابِ، وبأنَّه ما أغنى عنه مالُه وكَسْبُه؛ أخبَرَ عن حالِه في المستقبَلِ بأنَّه سيَصلَى نارًا [15] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/352). .
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3).
أي: سيَدخُلُ أبو لهبٍ نارًا ذاتَ شَرَرٍ ولَهيبٍ وإحراقٍ شَديدٍ، لا تَسكُنُ ولا تَخمُدُ أبدًا [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/718)، ((الوسيط)) للواحدي (4/569)، ((تفسير القرطبي)) (20/238)، ((تفسير ابن كثير)) (8/515)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/338). .
قال تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [الليل: 14-15] .
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أن أعقَبَ ذمَّ أبي لهَبٍ ووَعيدَه بمِثْلِ ذلك لامرأتِه؛ لأنَّها كانت تُشارِكُه في أذى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وتُعينُه عليه [17] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/605). .
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4).
أي: وسيَدخُلُ معه النَّارَ زَوجتُه الحامِلةُ للحَطَبِ [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/721)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/605)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 347). قال البِقاعي: (وَامْرَأَتُهُ أي: أمُّ جميلٍ -أختُ أبي سُفْيانَ بنِ حَربِ بنِ أُمَيَّةَ بنِ عبدِ شَمسِ ابنِ عبدِ مَنافِ بنِ قُصَيٍّ- مِثلُ زَوجِها في التَّبابِ والصِّلِيِّ مِن غيرِ أن يُغْنيَ عنها شيءٌ مِن مالٍ ولا حَسَبٍ ولا نَسَبٍ). ((نظم الدرر)) (22/341). قيل: المرادُ: أنَّها كانت تحمِلُ حَطَبًا ذا شَوكٍ فتَضَعُه في طريقِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزمخشريُّ، والنسفيُّ، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/914)، ((تفسير ابن جرير)) (24/721)، ((تفسير الزمخشري)) (4/815)، ((تفسير النسفي)) (3/692)، ((تفسير أبي السعود)) (9/211). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وعطيَّةُ الجَدَليِّ، والرَّبيعُ بنُ أنَسٍ، ومُرَّةُ الهَمْدانيُّ والضَّحَّاكُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/719)، ((تفسير الثعلبي)) (10/327)، ((تفسير ابن كثير)) (8/515). قال ابنُ عاشور: (فيَحتَمِلُ أنَّها صِفتُها في جهنَّمَ، ويحتَمِلُ أنَّها صِفتُها الَّتي كانت تعمَلُ في الدُّنيا بجَلْبِ حَطَبِ العِضاهِ [الأشجار التي لها شوك]؛ لتَضَعَه في طريقِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، على طريقةِ التَّوجيهِ والإيماءِ إلى تعليلِ تعذيبِها بذلك). ((تفسير ابن عاشور)) (30/606). وقيل: المعنى: أنَّها كانت تمشي بالنَّميمةِ؛ إيقادًا للعداوةِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجُملةِ: الفَرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/299)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 542). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهدٌ، وعِكْرِمةُ، والحسَنُ، وقَتادةُ، والثَّوْريُّ، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/720)، ((تفسير الثعلبي)) (10/326)، ((تفسير ابن كثير)) (8/515). قال النَّيْسابوريُّ: (والأكثَرونَ على أنَّ المرادَ بقولِه: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أنَّها كانت تَمشي بالنَّميمةِ). ((تفسير النيسابوري)) (6/591). وممَّن ذهب إلى الجَمعِ بيْن معنى حَمْلِها الشَّوكَ للنَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ونَثْرِه في طريقِه إيذاءً له، ومَشْيِها بالنَّميمةِ لحَمْلِ النَّاسِ على مُعاداتِه صلَّى الله عليه وسلَّم، وحَمْلِها الحَطَبَ في الآخرةِ تعذيبًا لها: البِقاعيُّ. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/341، 342). قال ابنُ كثير: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ وكانت زَوجتُه مِن ساداتِ نِساءِ قُرَيشٍ، وهي: أُمُّ جَميلٍ، واسمُها أَروَى بِنتُ حَربِ بنِ أُمَيَّةَ، وهي أُختُ أبي سُفْيانَ. وكانت عَونًا لزَوجِها على كُفرِه وجُحودِه وعِنادِه؛ فلهذا تكونُ يومَ القِيامَة عَونًا عليه في عَذابِه في نارِ جَهنَّمَ؛ ولهذا قال: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ يعني: تَحمِلُ الحَطبَ فتُلقِي على زَوجِها، ليَزدادَ على ما هو فيه، وهي مُهيَّأةٌ لذلك، مُستَعِدَّةٌ له). ((تفسير ابن كثير)) (8/515). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/605). .
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5).
أي: في عُنُقِ امرأةِ أبي لهَبٍ حَبلٌ مَفتولٌ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/722، 725)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/376)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 347). قال ابنُ جُزَي: (في المرادِ به ثلاثةُ أقوالٍ: الأوَّلُ: أنَّه إخبارٌ عن حَمْلِها الحَطَبَ في الدُّنيا... والآخَرُ: أنَّه حالُها في جهنَّمَ يكونُ كذلك، أي: يكونُ في عُنُقِها حَبلٌ. الثَّالِثُ: أنَّها كانت لها قِلادةٌ فاخِرةٌ، فقالت: لَأُنفِقَنَّها على عداوةِ محمَّدٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/522). ويُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/367، 368). وقال السَّمَرْقَنْديُّ: (قال أكثَرُ أهلِ التَّفسيرِ: فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ يعني: في الآخِرةِ في عُنُقِها سِلسلةٌ مِن حديدٍ، وتحتَها نارٌ، وفوقَها نارٌ). ((تفسير السمرقندي)) (3/633). وقيل: إنَّ المسَدَ هو اللِّيفُ، وممَّن اختاره: ابنُ جُزَي، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والشَّوكانيُّ، والسعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/522)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 826)، ((تفسير الشوكاني)) (5/628)، ((تفسير السعدي)) (ص: 937)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 347). قال ابنُ عثيمين: (يعني: أنَّها متقَلِّدةٌ حَبلًا مِنَ اللِّيفِ، تخرُجُ به إلى الصَّحراءِ لتَربِطَ به الحَطَبَ الَّذي تأتي به لتضَعَه في طريقِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 347). وقال ابنُ قُتَيْبةَ: (أمَّا المسَدُ، فهو عندَ كثيرٍ مِن النَّاسِ: اللِّيفُ دونَ غيرِه. وليس كذلك، إنَّما المسَدُ: كلُّ ما ضُفِر وفُتِل مِن اللِّيفِ وغيرِه). ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 103). وقال ابن جرير: (وأَوْلى الأقوالِ في ذلك عندي بالصَّوابِ، قولُ مَن قال: هو حبلٌ جُمِع مِن أنواعٍ مُختَلِفةٍ). ((تفسير ابن جرير)) (24/725). .

الفوائد التربوية:

1- إنَّ سورةَ تَبَّتْ نزَلَتْ في أبي لهبٍ وامرأتِه، وهما مِن أشرَفِ بطنَينِ في قُرَيشٍ، وهو عَمُّ عَلِيٍّ، وهي عمَّةُ مُعاويةَ، واللَّذان تَداوَلا الخِلافةَ في الأُمَّةِ هذانِ البَطنانِ: بنو أميَّةَ، وبنو هاشمٍ، وأمَّا أبو بكرٍ وعُمَرُ فمِن قبيلتَينِ أبْعَدَ عنه صلَّى الله عليه وسلَّم، واتَّفَقَ في عَهدِهما ما لم يَتَّفِقْ بَعْدَهما، وليس في القرآنِ ذَمُّ مَن كَفَرَ به صلَّى الله عليه وسلَّم باسمِه إلَّا هذا وامرأتُه؛ ففيه أنَّ الأنسابَ لا عِبرةَ بها، بل صاحِبُ الشَّرَفِ يكونُ ذَمُّه على تَخَلُّفِه عن الواجِبِ أعظَمَ، كما قال تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] الآيةَ [20] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/602). .
2- في قَولِه تعالى: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ وَصْفُ بَعْلِها وهو يَصْلَى، وهي تَحْمِلُ الحَطَبَ عليه -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، كما أعانَتْه على الكُفرِ؛ فيكونُ مِن حَشْرِ الأزواجِ، وفيه عِبرةٌ لكلِّ مُتعاوِنَينِ على الإثمِ، أو على إثمٍ ما، أو عُدوانٍ ما [21] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/603). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ورَدَ عن ابنِ عبَّاسٍ والضَّحَّاكِ وغَيرِهما: أنَّها كانت تأتي بالشَّوكِ تَطرَحُه باللَّيلِ في الطَّريقِ، فيُفهَمُ منه أنَّ مِن شُعَبِ الإيمانِ: إماطةَ الأذى عن الطَّريقِ؛ لأنَّه تعالى عَدَّ ضِدَّه مِن خِصالِ الكُفَّارِ [22] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 301). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ، فيه سُؤالٌ: ما السَّببُ في أنه لم يقلْ: (قُلْ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)، وقال في سُورةِ الكافِرون: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ؟
الجوابُ: قيل: لأنَّ قَرابةَ العُمومةِ تَقتضي رِعايةَ الحُرمةِ، فلهذا السَّببِ لم يقلْ له: (قُلْ تَبَّتْ...)؛ لِئَلَّا يكونَ مُشافِهًا لعَمِّه بالشَّتْمِ، بخِلافِ السُّورةِ الأُخرَى؛ فإنَّ أولئك الكُفَّارَ ما كانوا أعمامًا له.
وقيل أيضًا: لَمَّا شَتَمُوك، فاسكُت حتَّى تَندَرِجَ تحتَ هذه الآيةِ: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63] ، وإذا سَكَتَّ أنتَ، أَكونُ أنا المُجيبَ عنكَ [23] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/351)، ((تفسير النيسابوري)) (6/589). .
2- قَولُه تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ليس مِن التَّكرارِ؛ لاختلافِ مَقصودِ الفِعلَينِ؛ فإنَّ الأولَ منهما دُعاءٌ يُرادُ به الإنشاءُ، والثَّاني خَبَرٌ، أي: «تَبَّتْ يدا أبي لهَبٍ، وقد تَبَّ» [24] يُنظر: ((جامع المسائل)) لابن تيمية (8/357)، ويُنظر ما يأتي (ص: 403). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ استُدِلَّ به على جوازِ تَكنيةِ الكافِرِ [25] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 301). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ فيه سُؤالٌ: لِماذا كنَّاه، والتَّكنيةُ مِن بابِ التَّعظيمِ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّه لَمَّا كانت التَّكنيةُ قد تكونُ اسمًا، خَرَج عن إفادةِ التَّعظيمِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه كان اسمُه عبدَ العُزَّى، فعَدَل عنه إلى كُنيتِه؛ لأنَّ في اسمِه عِبادةَ العُزَّى، وذلك لا يُقِرُّه القرآنُ العزيزُ، ولأنَّ ذِكرَه باسْمِه خِلافُ الواقعِ حَقيقةً؛ لأنَّه عبدُ اللهِ لا عبْدُ العُزَّى.
الوَجهُ الثَّالثُ: أنَّه لَمَّا كان مِن أهلِ النَّارِ، ومآلُه إلى نارٍ ذاتِ لهَبٍ، وافَقَت حالُه كُنيتَه؛ فكان جديرًا بأن يُذكَرَ بها، ويُقالَ: (أبو لهَبٍ)، كما يُقالُ: (أبو الشَّرِّ) للشِّرِّيرِ، و(أبو الخيرِ) للخَيِّرِ، والأبُ: يُطلَقُ على مُلازِمِ ما أُضِيفَ إليه، كقولِهِم: «أبُوها وكَيَّالُها»، وكما كُنِّيَ إبراهيمُ عليه السَّلامُ أبا الضِّيفانِ، فكانتْ كُنيةُ أبي لَهَبٍ صالحةً مُوافِقةً لحالِه مِن استِحقاقِه لَهَبَ جَهنَّمَ، فصار هذا التَّوجيهُ كِنايةً عن كَونِه جَهنَّميًّا؛ ليُنتقَلَ مِن جَعْلِ أبي لَهَبٍ بمعْنى مُلازِمِ اللَّهَبِ إلى لازمِ تلك المُلازَمةِ في العُرفِ، وهو أنَّه مِن أهْلِ جَهنَّمَ.
الوَجهُ الرَّابعُ: كُنِّيَ بذلك لتلَهُّبِ وَجنَتَيه وإشراقِهما، فيَجوزُ أن يُذكَرَ بذلك تهكُّمًا به وبافتخارِه بذلك، واحتِقارًا له. وقد قيل: إنَّه كان يُكنَّى بذلك في الجاهليَّةِ لُحسْنِه وإشراقِ وَجْهِه، وإنَّه اشتَهَرَ بتلك الكُنيةِ.
الوَجهُ الخامِسُ: أنَّه كان بكُنيتِه أشهَرَ منه باسمِه العَلَمِ، فلمَّا أُرِيدَ تَشهيرُه بدَعوةِ السَّوءِ وأنْ تَبْقى سِمةً له، ذُكِرَ الأشهَرُ مِن عَلَمَيْه [26] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/814)، ((تفسير الرازي)) (32/350)، ((تفسير البيضاوي)) (5/345)، ((تفسير أبي حيان)) (10/566)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 631، 632)، ((تفسير أبي السعود)) (9/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/601، 602). . وقيلَ غيرُ ذلك [27] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (20/236). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ فيه آيةٌ باهِرةٌ مِن آياتِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فإنَّ اللهَ أنزَلَ هذه السُّورةَ، وأبو لهَبٍ وامرأتُه لم يَهلِكا، وأخبَرَ أنَّهما سيُعَذَّبانِ في النَّارِ ولا بُدَّ، ومِن لازِمِ ذلك أنَّهما لا يُسلِمانِ؛ فوقَعَ كما أخبَرَ عالِمُ الغَيبِ والشَّهادةِ [28] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 936). ، ففي هذه السُّورةِ معجزةٌ ظاهرةٌ، ودليلٌ واضحٌ على النُّبوَّةِ [29] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/515). .
6- قال الله تبارك وتعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، ولو كان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يُداهِنُ أحدًا في الدِّينِ ويُسامِحُه فيه، لَكانت تلك المُداهَنةُ والمُسامَحةُ مع عَمِّه الَّذي هو قائمٌ مَقامَ أَبيهِ، فلمَّا لم تَحصُلْ هذه المُداهَنةُ معه، انقَطعَتِ الأَطماعُ، وعَلِمَ كلُّ أحدٍ أنَّه لا يُسامِحُ أحدًا في شَيءٍ يَتعلَّقُ بالدِّينِ أَصلًا [30] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (32/350، 351). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ استدَلَّ به الشَّافعيُّ رحمه الله على صِحَّةِ أنكِحةِ الكُفَّارِ [31] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 301). مذهبُ جمهورِ الفُقهاءِ مِن الحنفيَّةِ والشَّافعيَّةِ -على الصَّحيحِ-، والحنابلةِ، وهو قولٌ عندَ المالكيَّةِ: أنَّ نكاحَ الكفَّارِ -غيرِ المرتدِّينَ- بعضِهم لبعضٍ صحيحٌ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (41/319). ؛ فقد سَمَّاها اللهُ تعالى امرأتَه بعَقدِ النِّكاحِ الواقِعِ في الشِّرْكِ. وقال تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ [التحريم: 11] ، فسَمَّاها «امرأتَه». والصَّحابةُ رضيَ الله عنهم غالبُهم إنَّما وُلِدُوا مِن نِكاحٍ كان قبْلَ الإسلامِ في حالِ الشِّرْكِ، وهُم يُنسَبونَ إلى آبائِهم انتِسابًا لا رَيبَ فيه عندَ أحدٍ مِن أهلِ الإسلامِ، وقد أَسلَمَ الجَمُّ الغَفيرُ في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فلم يأمُرْ أحدًا منهم أن يُجدِّدَ عَقْدَه على امرأتِه [32] يُنظر: ((أحكام أهل الذمة)) لابن القيم (2/614). ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (32/175). .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالَى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
- افتِتاحُ السُّورةِ بالتَّبابِ مُشعِرٌ بأنَّها نَزَلَت لتَوبيخٍ ووَعيدٍ، فذلك بَراعةُ استهلالٍ [33] براعةُ الاستهلالِ: هي كَوْنُ ابتداءِ الكلامِ مُناسِبًا للمقصودِ، وأنْ يكونَ أوَّلُ الكلامِ دالًّا على ما يُناسِبُ حالَ المتكلِّمِ، مُتضمِّنًا لِمَا سِيق الكلامُ مِن أجْلِه مِن غيرِ تصريحٍ، بلْ بألْطَفِ إشارةٍ يُدرِكُها الذَّوقُ السَّليمُ، ومِن أحسَنِ صُوَرِ براعةِ الاستِهلالِ مَوقِعًا، وأبلَغِها معنًى: فواتحُ سُوَرِ القرآنِ الكريمِ، ومنها الحُروفُ المقطَّعةُ؛ فإنَّها تُوقِظُ السَّامِعينَ للإصغاءِ إلى ما يَرِدُ بعْدَها؛ لأنَّهم إذا سمِعوها مِن النَّبيِّ الأُمِّيِّ علِموا أنَّها والمَتْلُوَّ بعْدَها مِن جِهةِ الوحيِ، وفيها تنبيهٌ على أنَّ المَتلُوَّ عليهم مِن جِنسِ ما يَنظِمونَ منه كلامَهم، مع عَجْزِهم عن أنْ يأتوا بمِثلِه. يُنظر: ((التعريفات)) للجرجاني (ص: 45)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/129)، ((تفسير أبي السعود)) (4/282)، ((أنوار الربيع في أنواع البديع)) لابن معصوم (1/53)، ((علوم البلاغة)) لأحمد المراغي (ص: 378). مِثلَ ما تُفتتَحُ أشعارُ الهِجاءِ بما يُؤذِنُ بالذَّمِّ والشَّتمِ [34] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/600). .
- والتَّبُّ: الخُسرانُ والهلاكُ، والكلامُ دُعاءٌ وتَقريعٌ لأبي لَهَبٍ دافَعَ اللهُ به عن نَبيِّه بمِثلِ اللَّفظِ الَّذي شَتَمَ به أبو لَهَبٍ محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم جَزاءً وِفاقًا [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/601). .
- وإسنادُ التَّبِّ إلى اليَدَينِ؛ لأنَّ العمَلَ أكثَرُ ما يكونُ بهما، وهو في الحقيقةِ للنَّفْسِ، فالمرادُ: هَلاكُ جُملتِه. وقيل: إنَّما خُصَّت اليَدانِ بالذِّكرِ؛ لأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمَّا جَمَعَ أقارِبَه فأنْذَرَهم، قال أبو لَهَبٍ: تَبًّا لك، ألِهذا دَعَوْتَنا؟! وأخَذَ حَجَرًا ليَرمِيَه به، فنَزَلَت [36] رواه البخاريُّ (4972) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (208). . وفي حديث طارقٍ المُحارِبيِّ رضيَ الله عنه أنَّ أبا لهبٍ كان يَتْبَعُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالحِجارةِ قد أدمى كعبَيْه وعُرقُوبَيه [37] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ (37720) واللَّفظُ له، وابنُ خُزَيْمةَ (159)، وابنُ حِبَّانَ (6562). صحَّحه ابنُ خُزَيْمةَ، وابنُ حِبَّانَ، وابنُ حزم في ((المحلى)) (9/112)، وابنُ المُلَقِّنِ في ((البدر المنير)) (1/680). ؛ فوَقَعَ الدُّعاءُ على يَدَيْه؛ لأنَّهما سَببُ أذى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم [38] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/813)، ((تفسير البيضاوي)) (5/345)، ((تفسير أبي حيان)) (10/565، 566)، ((تفسير أبي السعود)) (9/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/601). .
- وجُملةُ وَتَبَّ إمَّا مَعطوفةٌ على جُملةِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ عطْفَ الدُّعاءِ على الدُّعاءِ إذا كان إسنادُ التَّبابِ إلى اليَدَينِ لأنَّهما آلةُ الأذى بالرَّميِ بالحِجارةِ، فأُعِيدَ الدُّعاءُ على جَميعِه؛ إغلاظًا له في الشَّتْمِ والتَّقريعِ، وتُفيدُ بذلك تَأكيدًا لجُملةِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ؛ لأنَّها بمَعناها، وإنَّما اختَلَفَتا بالكُلِّيَّةِ والجُزئيَّةِ، وذلك الاختلافُ هو مُقْتضى عَطْفِها، وإلَّا لَكان التَّوكيدُ غيرَ مَعطوفٍ؛ لأنَّ التَّوكيدَ اللَّفظيَّ لا يُعطَفُ بالواوِ، وإمَّا أنْ تكونَ في مَوضعِ الحالِ، والواوُ واوَ الحالِ، ولا تَكون دُعاءً، وإنَّما إخبارٌ بعْدَ دُعاءٍ، والتَّعبيرُ بالماضي لتَحقُّقِ وُقوعِه، وكأنَّ ذلك قدْ حصَلَ؛ فيكونَ الكلامُ قبْلَه مُستعمَلًا في الذَّمِّ والشَّماتةِ به، أو لطَلَبِ الازديادِ، فيَتمحَّضُ الكلامُ قبْلَه لمَعْنى الذَّمِّ والتَّحقيرِ دونَ معْنى طَلَبِ حُصولِ التَّبابِ له. وقيلَ: الأوَّلُ إخبارٌ عن هَلاكِ عَمَلِه؛ لأنَّ الأعمالَ تُزاوَلُ غالبًا بالأيدِي، والثَّاني إخبارٌ عن هَلاكِ نفْسِه [39] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/813)، ((تفسير البيضاوي)) (5/345)، ((تفسير أبي حيان)) (10/566)، ((تفسير أبي السعود)) (9/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/603). .
2- قَولُه تعالَى: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ
- قَولُه: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ استِئنافٌ ابتدائيٌّ للانتقالِ مِن إنشاءِ الشَّتمِ والتَّوبيخِ إلى الإعلامِ بأنَّه آيِسٌ مِن النَّجاةِ مِن هذا التَّبابِ، ولا يُغْنيه مالُه، ولا كسْبُه، أي: لا يُغْني عنه ذلك في دفْعِ شَيءٍ عنه في الآخرةِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/603). .
- والتَّعبيرُ بالماضي في قَولِه: مَا أَغْنَى؛ لتَحقيقِ وُقوعِ عدَمِ الإغناءِ [41] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/604). .
- قَولُه: وَمَا كَسَبَ مَوصولٌ وصِلتُه، والعائدُ مَحذوفٌ جوازًا؛ لأنَّه ضَميرُ نصْبٍ، والتَّقديرُ: وما كَسَبَه، أي: ما جَمَعَه، والمرادُ به: ما يَملِكُه مِن غيرِ النَّعَمِ؛ مِن نُقودٍ وسِلاحٍ، ورَبْعٍ وعُروضٍ، وطَعامٍ. ويَجوزُ أنْ يُرادَ بمالِه: جَميعُ مالِه، ويكونَ عطْفُ وَمَا كَسَبَ مِن ذِكرِ الخاصِّ بعْدَ العامِّ؛ للاهتِمامِ به، أي: ما أغْنى عنه مالُه التَّالِدُ، وهو ما وَرِثَه عن أبيهِ عبدِ المُطَّلبِ، وما كَسَبَه هو بنفْسِه، وهو طَريفُه [42] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/604). . وقيلَ غيرُ ذلك.
ويَجوزُ أنْ تكونَ (ما) في قَولِه: وَمَا كَسَبَ استفهامًا في معْنى الإنكارِ، أيْ: أيَّ شَيءٍ يُغْني عنه مالُه؟! وأيَّ شَيءٍ كَسَبَ؟ على وَجْهِ التَّقريرِ والإنكارِ [43] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/814، 815)، ((تفسير البيضاوي)) (5/345)، ((تفسير أبي حيان)) (10/566، 567)، ((تفسير أبي السعود)) (9/210)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 604). .
- قَولُه: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ بَيانٌ لجُملةِ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ أي: لا يُغْني عنه شَيءٌ مِن عَذابِ جَهنَّمَ [44] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/604). .
- قَولُه: سَيَصْلَى السِّينُ للاستِقبالِ وإنْ تَراخى الزَّمانُ، وهو وَعيدٌ كائنٌ إنجازُه لا مَحالةَ وإنْ تَراخى وَقْتُه، فالسِّينُ لتَأكيدِ الوَعيدِ وتَشديدِه [45] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/815)، ((تفسير أبي حيان)) (10/567)، ((تفسير أبي السعود)) (9/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/604). .
- ووَصْفُ النَّارِ بـ ذَاتَ لَهَبٍ لزِيادةِ تَقريرِ المُناسَبةِ بيْن اسمِه وبيْن كُفْرِه؛ إذ هو أبو لَهَبٍ، والنَّارُ ذاتُ لَهَبٍ، وهو ما تَقدَّمَ الإيماءُ إليه بذِكرِ كُنيتِه، وفي وَصْفِ النَّارِ بذلك زِيادةُ كَشْفٍ لحقيقةِ النارِ، وهو مِثلُ التَّأكيدِ [46] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/605). .
3- قَولُه تعالَى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ
- قَولُه: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ حَمَّالَةَ على وَزْنِ (فعَّالة)؛ للمُبالَغةِ [47] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/567). .
- وقُدِّمَ الخبَرُ مِن قولِه: فِي جِيدِهَا؛ للاهتِمامِ بوَصْفِ تلك الحالةِ الفَظيعةِ الَّتي عُوِّضَت فيها بحَبْلٍ في جِيدِها عن العِقدِ الَّذي كانت تُحلِّي به جِيدَها في الدُّنيا، فتُربَطُ به؛ إذ قد كانت هي وزَوجُها مِن أهلِ الثَّراءِ، وسادةِ أهلِ البَطْحاءِ [48] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/607). .
- والجِيدُ: العُنقُ، وغَلَبَ في الاستِعمالِ على عُنقِ المرأةِ وعلى مَحلِّ القِلادةِ منه، فقَلَّ أنْ يُذكَرَ العُنقُ في وَصْفِ النِّساءِ في الشِّعرِ العربيِّ إلَّا إذا كان عُنقًا مَوصوفًا بالحُسنِ، والمعروفُ أنْ يُذكَرَ العُنقُ إذا ذُكِر الحَلْيُ أو الحُسنُ؛ فإنَّما حَسُنَ هنا ذِكرُ الجِيدِ في حُكْمِ البلاغةِ؛ لأنَّها امرأةٌ، والنِّساءُ تُحلِّي أجْيادَهنَّ، وأمُّ جَميلٍ لا حَلْيَ لها في الآخِرةِ إلَّا الحبْلُ المَجعولُ في عُنقِها، فلمَّا أُقِيمَ لها ذلك مُقامَ الحَلْيِ ذُكِرَ الجِيدُ معه [49] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/211)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/606). .
- وفي قَولِه: فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالتَّهكُّمِ؛ فقدْ صوَّرَها تَصويرًا فيه مُنتهَى الخِسَّةِ والقَماءةِ، والمعْنى فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ: مِن الحِبالِ، وأنَّها تَحمِلُ تلك الحُزمةَ وتَربِطُها في جِيدِها؛ تَخسيسًا لحالِها، وتَصويرًا لها بصُورةِ بَعضِ الحطَّاباتِ مِن المَواهِنِ -جمْعُ ماهنٍ، وهي الخادِمُ- لتَمتعِضَ مِن ذلك، ويَمتعِضَ زَوجُها، وهما في بَيتِ العِزِّ والشَّرفِ، وفي مَنصبِ الثَّروةِ والجِدَةِ [50] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/816)، ((تفسير البيضاوي)) (5/345)، ((تفسير أبي حيان)) (10/568)، ((تفسير أبي السعود)) (9/211)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/612). .
وقيل: إنَّما عُبِّرَ عن قِلادتِها بـ حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ على جِهةِ التَّفاؤُلِ لها، وذِكرِ تَبرُّجِها في هذا السَّعيِ الخَبيثِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/535)، ((تفسير أبي حيان)) (10/568). .