موسوعة التفسير

سُورةُ اللَّيلِ
الآيات (1-11)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ

غريب الكلمات:

يَغْشَى: يُغطِّي ويَستُرُ، وأصلُ (غشي): يدُلُّ على تغطيةِ شَيءٍ بشَيءٍ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 40)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 75)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 56). .
تَجَلَّى: أي: ظهَرَ وأضاءَ، وأصلُ (جلو): يدُلُّ على انكِشافِ الشَّيءِ وبُروزِه [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 172)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 140)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/468)، ((المفردات)) للراغب (ص: 200)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 209). .
لَشَتَّى: أي: مختَلِفٌ، جمْعُ شَتِيتٍ، مِن الشَّتِّ، وهو التَّفرُّقُ الشَّديدُ، يُقالُ: شَتَّ جَمْعُهم، إذا تَفرَّقوا، وأصلُ (شتت): يدُلُّ على تفَرُّقٍ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 531)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 272)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/177)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 456)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 466)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/380). .
بِالْحُسْنَى: أي: بالجنَّةِ والثَّوابِ، وقيلَ غَيرُ ذلك، والحُسْنى: تَأنيثُ الأحسَنِ، والحُسْنُ ضِدُّ القُبْحِ، وهو عِبارةٌ عن كُلِّ مُبهِجٍ مَرغوبٍ فيه [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 277)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/57)، ((المفردات)) للراغب (ص: 235)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 456)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/382). .
لِلْيُسْرَى: اليُسْرَى فُعلَى من اليُسْرِ، وهو ضدُّ العسرِ، وأصلُ (يسر) هنا: يدلُّ على انفتاحِ شيءٍ وَخِفَّتِه [10] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/155)، ((تفسير السمعاني)) (6/209)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 891). .
لِلْعُسْرَى: مِن العُسرِ، وهو نَقيضُ اليُسْرِ، وأصلُ (عسر): يَدُلُّ على صُعوبَةٍ وشِدَّةٍ [11] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/319)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 566). .
تَرَدَّى: أي: ماتَ، أو هلَك وسَقَط في جَهنَّمَ، وهو تَفَعَّل، مِنَ الرَّدى: وهو الهلاكُ، وأصلُ (ردي): يدُلُّ على رَمْيٍ وما أشْبَهَه [12] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 278، 140)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 148)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/506)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 229). .

المعنى الإجمالي:

افتَتَح اللهُ تعالى هذه السُّورةَ الكريمةَ مُقسِمًا باللَّيلِ إذا غَطَّى بظَلامِه كلَّ شَيءٍ، وبالنَّهارِ إذا أضاء وظَهَر، وباللهِ الَّذي خَلَق الذَّكَرَ والأُنثى بقُدرتِه- على أنَّ أعمالَكم -أيُّها النَّاسُ- لَمُختلِفةٌ ومُتفَرِّقةٌ؛ فمِنكم المؤمِنُ والكافِرُ، والمطيعُ والعاصي.
ثمَّ فصَّل الله سبحانَه ما أجملَه، فقال: فأمَّا مَن أعطى مِن مالِه في سَبيلِ اللهِ، واتَّقى اللهَ، وصدَّق بالجنَّةِ؛ فسَنُسَهِّلُ له عمَلَ الخَيرِ الموصِلَ إلى الجنَّةِ، وأمَّا مَن بَخِلَ بمالِه، واستَغْنى عن رَبِّه سُبحانَه، وكذَّبَ بالجنَّةِ؛ فسنُسَهِّلُ عليه عمَلَ الشَّرِّ الموصِلَ إلى النَّارِ، وما يَنفَعُه مالُه إذا هوى في جَهنَّمَ.

تفسير الآيات:

وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1).
أي: أُقسِمُ باللَّيلِ وهو يُغَطِّي بظَلامِه الخلائقَ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/455)، ((تفسير ابن عطية)) (5/490)، ((تفسير القرطبي)) (20/80)، ((تفسير ابن كثير)) (8/417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 226). قال القرطبي: (قَولُه تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى أي: يُغَطِّي، ولم يَذكُرْ معه مفعولًا؛ للعِلمِ به. وقيل: يَغشى النَّهارَ. وقيل: الأرضَ. وقيل: الخلائِقَ. وقيل: يَغشى كُلَّ شَيءٍ بظُلْمتِه). ((تفسير القرطبي)) (20/80). ومِمَّن قال: يغشَى النَّهارَ بظَلامِه: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبيُّ، ومكي، والبغوي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/721)، ((تفسير ابن جرير)) (24/455)، ((تفسير السمرقندي)) (3/588)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/139)، ((تفسير الثعلبي)) (10/216)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8307)، ((تفسير البغوي)) (5/261). ومِمَّن قال في الجملة: يُغَطِّي الأرضَ وما فيها بظَلامِه: ابنُ عطيَّة، والعُلَيميُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/490)، ((تفسير العليمي)) (7/378). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 226). ومِمَّن قال: يَغشى الخلائِقَ: ابنُ كثير، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926). قال الشَّوكاني: (وقَولُه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى أي: يُغَطِّي بظُلمتِه ما كان مُضِيئًا. قال الزَّجَّاجُ: يَغشى اللَّيلُ الأُفُقَ وجميعَ ما بيْن السَّماءِ والأرضِ، فيَذهَبُ ضَوءُ النَّهارِ. وقيل: يَغشى النَّهارَ. وقيل: يَغشى الأرضَ. والأوَّلُ أَولى). ((تفسير الشوكاني)) (5/550). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/335). عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى قال: إذا أقبَلَ فغطَّى كُلَّ شَيءٍ). يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/533). .
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أقسَم باللَّيلِ إذا يَغْشَى، أقسَمَ بالنَّهارِ إذا تجَلَّى؛ لأنَّ النَّهارَ إذا جاء انكشَفَ بضَوئِه ما كان في الدُّنيا مِن الظُّلْمةِ، وجاء الوَقتُ الَّذي تتحَرَّكُ فيه النَّاسُ لِمَعايشِهم [14] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/545). .
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2).
أي: وأُقسِمُ بالنَّهارِ إذا أضاء وظَهَر بنُورِه [15] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/455)، ((تفسير ابن عطية)) (5/490)، ((تفسير القرطبي)) (20/80)، ((تفسير ابن كثير)) (8/417)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 226). .
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3).
أي: وأُقسِمُ باللهِ الَّذي خَلَق الذَّكَرَ والأُنثى بقُدرتِه [16] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/455)، ((تفسير ابن عطية)) (5/490)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 226). قال القُرطبيُّ: (وفي المرادِ بالذَّكَرِ والأُنْثى قَولانِ؛ أحَدُهما: آدَمُ وحوَّاءُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ، والكَلبيُّ. الثَّاني: يعني جميعَ الذُّكورِ والإناثِ مِن بني آدَمَ والبهائِمِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى خلَقَ جميعَهم مِن ذَكَرٍ وأُنثى مِن نَوعِهم. وقيل: كُلُّ ذكَرٍ وأُنثى مِن الآدَميِّينَ دونَ البهائِمِ؛ لاختِصاصِهم بوَلايةِ اللهِ وطاعتِه). ((تفسير القرطبي)) (20/82). ممَّن اختار القَولَ الأوَّلَ: مُقاتِلُ بنُ سُلَيمانَ، والسَّمَرْقَنديُّ، والعُلَيميُّ، ونسَبَه الرَّسْعَنيُّ إلى الأكثَرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/721)، ((تفسير السمرقندي)) (3/588)، ((تفسير العليمي)) (7/378)، ((تفسير الرسعني)) (8/655). وممَّن قال به مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ، والكَلبيُّ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (24/76)، ((تفسير القرطبي)) (20/82). وممَّن اختار القَولَ الثَّانيَ: أبو حيَّانَ، وابنُ القَيِّمِ، وأبو السُّعودِ، والشَّوكانيُّ، والألوسيُّ، والقاسميُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/492)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 55)، ((تفسير أبي السعود)) (9/166)، ((تفسير الشوكاني)) (5/550)، ((تفسير الألوسي)) (15/366)، ((تفسير القاسمي)) (9/484)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926). ومِمَّن اختار القَولَ الثَّالِثَ: الماوَرْديُّ، وابنُ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/286، 287)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/379). .
كما قال تعالى: وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [النجم: 45] .
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
مُناسَبةُ المُقسَمِ به للمُقسَمِ عليه: أنَّ سَعْيَ النَّاسِ منه خَيرٌ، ومنه شَرٌّ، وهما يُماثِلانِ النُّورَ والظُّلمةَ، وأنَّ سَعْيَ النَّاسِ يَنبثِقُ عن نَتائجَ؛ منها النَّافِعُ، ومنها الضَّارُّ، كما يُنتِجُ الذَّكَرُ والأُنثى ذُرِّيَّةً صالحةً وغيرَ صالحةٍ [17] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/378). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر ما هو محسوسُ التَّخالُفِ مِنَ المعاني والأجرامِ، أتْبَعَه ما هو معقولُ التَّبايُنِ مِن الأعراضِ، فقال [18] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/88). :
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4).
أي: إنَّ أعمالَكم الَّتي تجتَهِدونَ فيها -أيُّها النَّاسُ- لَمُختلِفةٌ ومُتفَرِّقةٌ؛ فمِنكم المؤمِنُ والكافِرُ، ومنكم المطيعُ والعاصي، ومنكم المُهتَدي والضَّالُّ، ومنكم المخلِصُ والمُرائي، ومنكم المتَّبِعُ والمبتَدِعُ [19] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/60)، ((تفسير ابن عطية)) (5/490)، ((تفسير القرطبي)) (20/82)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 6-8)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/380)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 226). قال ابن جرير: (قَولُه: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جوابُ القَسَمِ، والكلامُ: واللَّيلِ إذا يغشى إنَّ سَعْيَكم لشَتَّى، وكذا قال أهلُ العِلمِ). ((تفسير ابن جرير)) (24/460). .
كما قال تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ [آل عمران: 152] .
وعن أبي مالِكٍ الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كُلُّ النَّاسِ يَغْدو؛ فبائِعٌ نَفْسَه فمُعتِقُها، أو مُوبِقُها [20] قال النَّوويُّ: (معناه: كُلُّ إنسانٍ يَسْعى بنَفْسِه؛ فمِنهم مَن يَبيعُها لله تعالى بطاعتِه فيُعتِقُها مِن العذابِ، ومنهم مَن يَبيعُها للشَّيطانِ والهوى باتِّباعِهما، فيُوبِقُها، أي: يُهلِكُها). ((شرح النووي على مسلم)) (3/102). ) [21] رواه مسلم (223). .
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه سُبحانَه بَيَّنَ معنى اختِلافِ الأعمالِ مِن العاقِبةِ المحمودةِ والمذمومةِ، والثَّوابِ والعِقابِ [22] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/182). .
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5).
أي: فأمَّا مَن أعطى مِن مالِه فأنفَقَه في سَبيلِ اللهِ، وجَعَل بيْنَه وبيْنَ سَخَطِ اللهِ وعَذابِه حاجِزًا يَقِيه ذلك [23] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/60)، ((تفسير ابن عطية)) (5/490)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 56، 57)، ((تفسير ابن كثير)) (8/417)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/90)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926). قال القرطبي: (قولُه تعالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى قال ابنُ مَسْعودٍ: يَعْني: أبا بَكْرٍ رضيَ اللهُ عنه، وقالَه عامَّةُ المُفَسِّرينَ). ((تفسير القرطبي)) (20/82). .
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6).
أي: وصدَّق بالجنَّةِ الَّتي وعَدَ اللهُ بها المحسِنينَ المتَّقِينَ [24] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/270)، ((تفسير السمرقندي)) (3/589)، ((تفسير القاسمي)) (9/486). قال القُرطبيُّ: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى أي: بلا إلهَ إلَّا اللهُ، قاله الضَّحَّاكُ، والسُّلَميُّ، وابنُ عبَّاسٍ أيضًا. وقال مجاهِدٌ: بالجنَّةِ، دليلُه قَولُه تَعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] الآيةَ. وقال قَتادةُ: بمَوْعودِ اللهِ الَّذي وَعَدَه أن يُثيبَه. زَيدُ بنُ أَسلَمَ: بالصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ. الحسَنُ: بالخَلَفِ مِن عَطائِه، وهو اختيارُ الطَّبَريِّ. وتَقدَّمَ عن ابنِ عبَّاسٍ، وكلُّه مُتقارِبُ المَعْنى؛ إذْ كلُّه يَرجِعُ إلى الثَّوابِ الَّذي هو الجَنَّةُ). ((تفسير القرطبي)) (20/83). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/465). وقال ابنُ عَطيَّةَ: (قال كَثيرٌ مِن المُفَسِّرينَ: الحُسْنى: الأجْرُ والثَّوابُ مُجْملًا). ((تفسير ابن عطية)) (5/491). وقال الواحِديُّ: (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى: بالجَنَّةِ، وثَوابِ اللهِ، والخَلَفِ مِن اللهِ). ((الوسيط)) (4/503). وقال ابنُ القيِّمِ: (التَّصْديقُ بالحُسْنى، وفُسِّرَتْ بِلا إلهَ إلَّا اللهُ، وفُسِّرَتْ بالجَنَّةِ، وفُسِّرَتْ بالخَلَفِ، وهي أقوالُ السَّلَفِ... والأقوالُ الثَّلاثةُ تَرجِعُ إلى أفضَلِ الأعمالِ وأفضَلِ الجَزاءِ، فمَن فَسَّرَها بلا إلهَ إلَّا اللهُ فقدْ فَسَّرَها بمُفرَدٍ يَأتي بكلِّ جَمْعٍ؛ فإنَّ التَّصْديقَ الحَقيقيَّ بلا إلهَ إلَّا اللهُ يَسْتلزِمُ التَّصديقَ بشُعَبِها وفُروعِها كلِّها. وجَميعُ أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه مِن شُعَبِ هذه الكَلِمةِ...، ومَن فَسَّرَ الحُسْنى بالجَنَّةِ فَسَّرَها بأَعْلى أنْواعِ الجَزاءِ وكَمالِه، ومَن فَسَّرَها بالخَلَفِ ذَكَرَ نَوْعًا مِن الجَزاءِ، فهذا جَزاءٌ دُنْيويٌّ، والجَنَّةُ الجَزاءُ في الآخِرةِ، فرَجَعَ التَّصْديقُ بالحُسْنى إلى التَّصْديقِ بالإيمانِ وجَزائِه. والتَّحْقيقُ أنَّها تَتَناوَلُ الأمْرَينِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 58). .
كما قال تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد: 10-11] .
وقال سُبحانَه حكايةً عن ذي القرنَينِ: وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف: 88] .
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7).
أي: فسَنُسَهِّلُ له عمَلَ الخَيرِ الموصِلَ إلى الجنَّةِ [25] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/503)، ((تفسير القرطبي)) (20/83)، ((التبيان)) لابن القيم (ص: 61)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926). وقال ابنُ عُثَيْمينَ: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى... في أُمورِه كلِّها؛ في أُمورِ دينِه ودُنْياه). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 227). .
عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جَنازةٍ، فقال: ما مِنكم مِن أحَدٍ إلَّا وقد كُتِبَ مَقعَدُه مِنَ النَّارِ، ومَقعَدُه مِن الجنَّةِ. قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أفلا نَتَّكِلُ على كِتابِنا، ونَدَعُ العمَلَ؟! قال: اعمَلوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ له؛ أمَّا مَن كان مِن أهلِ السَّعادةِ فيُيَسَّرُ لعمَلِ أهلِ السَّعادةِ، وأمَّا مَن كان مِن أهلِ الشَّقاءِ فيُيَسَّرُ لعَمَلِ أهلِ الشَّقاوةِ، ثمَّ قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [اللَّيل: 5 - 10])) [26] رواه البخاريُّ (4949) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2647). .
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر المُزَكِّي وثَمَرتَه؛ أتْبَعَه المُدَسِّيَ وشِقْوَتَه [27] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/91). :
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8).
أي: وأمَّا مَن بَخِلَ بمالِه فلم يُنفِقْه في سَبيلِ اللهِ، واستغنى عن رَبِّه سُبحانَه فلم يَرغَبْ في طاعتِه ولا في ثوابِه [28] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/66)، ((تفسير الثعلبي)) (10/218)، ((الوسيط)) للواحدي (4/504)، ((تفسير ابن كثير)) (8/417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/382). قيل: المرادُ: اسْتَغنى عن رَبِّه فلم يَرغَبْ في طاعتِه، وتَرَك عُبودِيَّتَه، ورأى أنَّه في غِنًى عن رَحْمتِه. ومِمَّن قال بهذا المعنى في الجُملةِ: ابنُ جريرٍ، ومَكِّيٌّ، والسعديُّ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/466)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8312)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 227). وقيل: المرادُ: استغنى عن ثَوابِ اللهِ فلم يَرغَبْ فيه. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: السَّمَرْقَنديُّ، والواحِديُّ، والسَّمْعانيُّ، والبَغَويُّ، وابنُ الجَوزيِّ، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/589)، ((الوسيط)) للواحدي (4/504)، ((تفسير السمعاني)) (6/238)، ((تفسير البغوي)) (5/262)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/455)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 810). وقال الثعلبي: (وَاسْتَغْنَى عن ربِّه، فلمْ يَرغَبْ في ثَوابِه). ((تفسير الثعلبي)) (10/218). وذهَبَ البَيْضاويُّ والعُلَيْميُّ إلى أنَّ المَعْنى: اسْتَغنى بشَهَواتِ الدُّنيا ولَذَّاتِها عن نَعيمِ الآخِرةِ. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/317)، ((تفسير العليمي)) (7/379). وقال ابنُ عاشور: (وقد يُرادُ به زيادةُ طَلَبِ الغِنى بالبُخلِ بالمالِ، فتكونُ السِّينُ والتَّاءُ للطَّلَبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/382). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/491). .
وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9).
أي: وكذَّبَ بالجنَّةِ [29] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/270)، ((تفسير السمرقندي)) (3/589)، ((تفسير القاسمي)) (9/486). .
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10).
أي: فسَنُسَهِّلُ عليه عمَلَ الشَّرِّ الموصِلَ إلى النَّارِ [30] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/69)، ((الوسيط)) للواحدي (4/504)، ((تفسير القرطبي)) (20/84)، ((تفسير ابن كثير)) (8/417)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926). قال ابنُ القيِّمِ: (التَّيسيرُ للعُسْرى يكونُ بأمْرَينِ؛ أحَدُهما: أن يَحُولَ بيْنَه وبيْن أسبابِ الخَيرِ، فيَجري الشَّرُّ على قَلْبِه ونيَّتِه، ولِسانِه وجَوارِحِه. والثَّاني: أن يَحُولَ بيْنَه وبيْنَ الجزاءِ الأيسَرِ كما حال بيْنَه وبيْنَ أسبابِه). ((التبيان)) (ص: 62). وقال ابن عثيمين: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى... في أمورِه كلِّها). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 227). .
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان أهلُ الدُّنيا إذا وَقَعوا في وَرطةٍ تخَلَّصوا منها بأموالِهم، قال [31] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/91). :
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11).
أي: وما يَنفَعُه مالُه الَّذي بَخِلَ به، وأعرَضَ بسَبَبِه عن اللهِ، إذا هوى في جَهنَّمَ [32] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/74، 75)، ((تفسير السمرقندي)) (3/589)، ((البسيط)) للواحدي (24/82)، ((تفسير السمعاني)) (6/239). قال القُرطبي: («مَا»: يحتَمِلُ أن تكونَ جَحْدًا، أي: ولا يُغْني عنه مالُه شَيئًا، ويحتَمِلُ أن تكونَ استفهامًا معناه التَّوبيخُ، أيْ: أيُّ شَيءٍ يُغْني عنه إذا هلك ووقَع في جهنَّمَ؟!). ((تفسير القرطبي)) (20/85، 86). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/92)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/387). ممَّن اختارَ أنَّ (ما) نافِيةٌ: النَّسَفيُّ، والعُلَيميُّ. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/651)، ((تفسير العليمي)) (7/380). وممَّن اختارَ أنَّ (ما) استِفْهاميَّةٌ ومعناها: أيُّ شيءٍ: ابنُ جَريرٍ، ومَكِّيٌّ، والنَّيْسابوريُّ، وابنُ عُثَيمينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/473)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8315)، ((تفسير النيسابوري)) (6/511)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 229). وقال ابن كثير: (وقولُه: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى قال مجاهِدٌ: أي: إذا ماتَ. وقال أبو صالِحٍ، ومالِكٌ عن زَيدِ بنِ أسْلَمَ: إذا تَرَدَّى في النَّارِ). ((تفسير ابن كثير)) (8/421). مِمَّن اخْتارَ القَوْلَ الأوَّلَ أنَّ تَرَدَّى أي: ماتَ وهَلَكَ: مَكِّيٌّ، والواحِديُّ، والقُرْطُبيُّ، والخازِنُ، والنَّيْسابوريُّ، والشَّوْكانيُّ، والسَّعْديُّ. يُنظر: ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8315)، ((الوسيط)) للواحدي (4/504)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1209)، ((تفسير القرطبي)) (20/85)، ((تفسير الخازن)) (4/435)، ((تفسير النيسابوري)) (6/511)، ((تفسير الشوكاني)) (5/551)، ((تفسير السعدي)) (ص: 926). ومِمَّن اخْتارَ القَولَ الثَّانيَ -أي: تَردَّى في النَّارِ وسَقَطَ فيها-: ابنُ جَريرٍ، والسَّمْعانيُّ، والعُلَيْميُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/475)، ((تفسير السمعاني)) (6/239)، ((تفسير العليمي)) (7/380). وممَّن جَمَعَ بَيْنَ المَعْنيَينِ السَّابِقَينِ: مُقاتِلُ بنُ سُلَيْمانَ، والسَّمَرْقَنْديُّ، والبِقاعيُّ: قال مُقاتِلٌ: (إِذَا تَرَدَّى يَعني: إذا ماتَ، وتَردَّى في النَّارِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/722). وقال السَّمَرْقَنْديُّ: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى يَعْني: ما يَنفَعُه مالُه، إذا ماتَ وتَرَكَه في الدُّنْيا، وهو يَرِدُ إلى النَّارِ). ((تفسير السمرقندي)) (3/589). وقال البِقاعيُّ: (إِذَا تَرَدَّى: أي هَلَكَ بالسُّقوطِ في حُفْرةِ القَبْرِ والنَّارِ). ((نظم الدرر)) (22/92). وقال الماوَرْديُّ: (ويَحتمِلُ ثالِثًا: إذا تَردَّى في ضَلالِه، وهَوى في مَعاصيه). ((تفسير الماوردي)) (6/289). .

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى فأقسَمَ باللَّيلِ وبالنَّهارِ، وفيه التَّنبيهُ على الاعتبارِ بهما في الاستِدلالِ على حِكْمةِ نِظامِ اللهِ في هذا الكَونِ، وبَديعِ قُدْرتِه [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/378). .
2- إنَّ ذِكْرَ العَواقبِ الحَسَنةِ مِن أجْلِ الحَثِّ على الطَّاعةِ لا يُنافي الإخلاصَ، وهذا مِن الثَّوابِ العاجِلِ، ومِن عاجِلِ بُشْرى المؤمِنِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [34] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/272). .
3- إذا رأيتَ اللهَ قد يسَّر لك عمَلَ أهلِ السَّعادةِ فأبشِرْ أنَّك مِن أهلِ السَّعادةِ، فإذا رأيتَ مِن نفْسِك الانقيادَ للصَّلاةِ والزَّكاةِ ولفِعلِ الخَيرِ، وعندَك تقوَى مِن اللهِ عزَّ وجلَّ؛ فاعلَمْ أنَّك مِن أهلِ السَّعادةِ واستبشِرْ؛ لأنَّ الله قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وإنْ رأيتَ العَكسَ؛ رأيتَ نفْسَك تَنشَرِحُ بفِعلِ السَّيِّئاتِ -والعياذُ باللهِ-، وتَضِيقُ ذَرْعًا بفِعلِ الطَّاعاتِ؛ فاحذَرْ، وأنقِذْ نفْسَك، وتُبْ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ حتَّى يُيَسِّرَ اللهُ لك [35] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (4/558). .
4- إنَّ العبدَ إذا وُفِّقَ للانقيادِ للهِ سُبحانَه وتعالى سَهُلَ عليه دِينُه، وصار أيسَرَ عليه مِن كلِّ شَيءٍ، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [36] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- الفاتحة والبقرة)) (2/113). .
5- إنَّ اللهَ تعالى إذا عَلِمَ مِن العَبدِ نيَّةً صالحةً، وإرادةً للخَيرِ؛ يَسَّرَ له ذلك وأعانه عليه؛ قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [37] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (2/587). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أقسَمَ سُبحانَه بزَمانِ السَّعْيِ -وهو اللَّيلُ والنَّهارُ- وبالسَّاعي -وهو الذَّكَرُ والأُنثى- على اختلافِ السَّعيِ، كما اختلف اللَّيلُ والنَّهارُ والذَّكَرُ والأُنثى، وسَعْيُه وزَمانُه مختَلِفٌ، وذلك دليلٌ على اختلافِ جَزائِه وثوابِه، وأنَّه سُبحانَه لا يُسَوِّي بيْن مَنِ اختلَف سَعْيُه في الجزاءِ، كما لم يُسَوِّ بيْن اللَّيلِ والنَّهارِ والذَّكَرِ والأُنثى [38] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 56). .
2- في قَولِه تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى إشارةٌ إلى أنَّ ظُلمةَ اللَّيلِ كانت غالِبةً لضَوءِ النَّهارِ، وأنَّ النَّهارَ يَعقُبُها، والظُّلمةُ هي أصلُ أحوالِ أهلِ الأرضِ وجَميعِ العوالَمِ المرتَبِطةِ بالنِّظامِ الشَّمسيِّ، وإنَّما أضاءت بَعْدَ أن خَلَق اللهُ الشَّمسَ؛ ولذلك اعتُبِرَ التَّاريخُ في البَدءِ باللَّيالي، ثمَّ طَرَأ عليه التَّاريخُ بالأيَّامِ [39] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/379). .
3- في قَولِه تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى سُؤالٌ عن قَسَمِ اللهِ تعالى بهذه المخلوقاتِ، وقد نُهِينا عنِ القَسَمِ بغيرِه.
الجوابُ عنه مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ هذا مِن فِعْلِ اللهِ تعالى، واللهُ لا يُسأَلُ عمَّا يَفْعَلُ، وله أنْ يُقْسِمَ سُبحانَه بما شاء مِن خَلْقِه، وهو سائلٌ غيرُ مسؤولٍ، وحاكمٌ غيرُ محكومٍ عليه.
الثَّاني: أنَّ قَسَمَ اللهِ بهذه الآياتِ دليلٌ على عَظَمتِه وكمالِ قُدرتِه وحِكمتِه، فيكونُ القَسَمُ بها الدَّالُّ على تعظيمِها ورَفْعِ شأنِها متضَمِّنًا للثَّناءِ على اللهِ عزَّ وجلَّ بما تقتَضيه مِن الدَّلالةِ على عَظَمتِه، وأمَّا نحن فلا نُقْسِمُ بغيرِ اللهِ أو صِفاتِه؛ لأنَّنا مَنهيُّونَ عن ذلك [40] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/214). .
4- في قَولِه تعالى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى قابَلَ سُبحانَه بيْنَ الذَّكَرِ والأُنثى كما قابَلَ بيْن اللَّيلِ والنَّهارِ، وكلُّ ذلك مِن آياتِ رُبوبيَّتِه؛ فإنَّ إخراجَ اللَّيلِ والنَّهارِ بواسِطةِ الأجرامِ العُلويَّةِ كإخراجِ الذَّكَرِ والأنثى بواسطةِ الأجرامِ السُّفْليَّةِ، فأخْرَجَ مِن الأرضِ ذُكورَ الحيوانِ وإناثَه على اختلافِ أنواعِها، كما أخْرَجَ مِن السَّماءِ اللَّيلَ والنَّهارَ بواسطةِ الشَّمسِ فيها [41] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 55). .
5- في قَولِه تعالى: وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أنَّ الخُنْثى أحَدُهما، لا صِنفٌ ثالِثٌ [42] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 278). .
6- في قَولِه تعالى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أنَّ مِن طَبيعةِ البَشَرِ أنْ يكونَ لهم نَزَعاتٌ مُتبايِنةٌ؛ فمنها نَزَعاتٌ إلى الخَيرِ والحَقِّ، ومنها نَزَعاتٌ إلى الباطِلِ والشَّرِّ [43] يُنظر: ((الضياء اللامع من الخطب الجوامع)) لابن عثيمين (2/274). .
7- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى أنَّه لَمَّا كان الدِّينُ يدورُ على ثلاثِ قواعِدَ: فِعْلِ المأمورِ، وترْكِ المحظورِ، وتصديقِ الخبرِ، وإنْ شئتَ قلتَ: الدِّينُ طَلَبٌ وخَبَرٌ، والطَّلبُ نَوعانِ: طلَبُ فِعلٍ، وطلَبُ تَركٍ- فقد تضَمَّنَتْ هذه الكَلِماتُ الثَّلاثُ مراتبَ الدِّينِ أجمَعَها؛ فالإعطاءُ: فعلُ المأمورِ، والتَّقْوى: ترْكُ المحظورِ، والتَّصديقُ بالحسنى: تصديقُ الخبَرِ، فانتظمَ ذلك الدِّينَ كلَّه، وأكمَلُ النَّاسِ مَن كَمَلَتْ له هذه القُوى الثَّلاثُ [44] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 60). .
8- قَولُه تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى إلى آخِرِه: فيه رَدٌّ على القَدَريَّةِ؛ أخرج الشَّيخانِ وغَيرُهما عن عليٍّ رضيَ الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ما مِنكم مِن أحَدٍ إلَّا وقد كُتِبَ مَقعَدُه مِنَ الجنَّةِ، ومَقعَدُه مِنَ النَّارِ. فقُلْنا: يا رَسولَ اللهِ، أفلا نتَّكِلُ؟ قال: لا، اعمَلوا؛ فكُلٌّ مُيَسَّرٌ، ثمَّ قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى إلى قَولِه: لِلْعُسْرَى)) [45] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 291). والحديثُ أخرجه البُخاريُّ (4947)، ومسلمٌ (2647). .
9- في قَولِه تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى السِّينُ هنا: للتَّحقيقِ، أي: إنَّ مَنْ أَعطى واتَّقى، وصَدَّقَ بالحُسنى؛ فسيُيَسِّرُه اللهُ عزَّ وجلَّ لليُسْرى في أُمورِه كلِّها، في أمورِ دينِه ودُنياه-على قولٍ في التفسيرِ-، وكُلَّما كان الإنسانُ أتقى للهِ كانت أمورُه أيسَرَ له؛ قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [46] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 227). [الطلاق: 4] .
10- في قَولِه تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وقَولِه تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى دَلالةٌ على أنَّ التَّوفيقَ والخِذْلانَ مِنَ اللهِ تعالى [47] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (20/373). .
11- في قَولِه تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى مع قَولِه: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى سؤالٌ: كيف قابَلَ «اتَّقى» بـ «استَغْنى»؟ وهل يُمكِنُ للعبدِ أنْ يَستغنيَ عن ربِّه طَرْفةَ عَينٍ؟!
الجَوابُ: هذا مِن أحسَنِ المُقابَلةِ؛ فإنَّ المتَّقيَ لَمَّا استشعرَ فَقْرَه وفاقتَه وشِدَّةَ حاجتِه إلى ربِّه اتَّقاه، ولم يَتعرَّضْ لسَخَطِه وغَضَبِه ومَقْتِه بارتكابِ ما نهاه عنه؛ فإنَّ مَن كان شديدَ الحاجةِ والضَّرورةِ إلى شَخصٍ فإنَّه يتَّقي غَضَبَه وسَخَطَه عليه غايةَ الاتِّقاءِ، ويجانِبُ ما يَكرَهُه غايةَ المجانَبةِ، ويَعتمِدُ فِعْلَ ما يُحِبُّه ويُؤْثِرُه؛ فقابَلَ «التَّقْوى» بـ «الاستغناءِ»؛ تبشيعًا لحالِ تاركِ التَّقوى، ومُبالَغةً في ذَمِّه بأنْ فَعَلَ فِعْلَ المُستغني عن ربِّه، لا فِعْلَ الفقيرِ المضطرِّ إليه الَّذي لا مَلجأَ له إلَّا إليه، ولا غِنَى له عن فَضْلِه وَجُودِه وبِرِّه طَرْفةَ عَينٍ [48] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 63). !
12- في قَولِه تعالى: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وكذا قَولُه: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] وكذا قَولُه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 125] أنَّ عامَّةَ ما يَذْكُرُه اللهُ في خَلْقِ الكُفرِ والمعاصي يَجْعَلُه جزاءً لذلك العَمَلِ، وهؤلاء وأمثالُهم بَذَلوا فيه أعمالًا عاقبَهم بها على فِعْلِ محظورٍ وترْكِ مأمورٍ، وتلك الأمورُ إنَّما كانت منهم وخُلِقَتْ فيهم؛ لكَونِهم لم يَفعَلوا ما خُلِقوا له، ولا بُدَّ لهم مِن حركةٍ وإرادةٍ؛ فلمَّا لم يَتحرَّكوا بالحسَناتِ حُرِّكوا بالسَّيِّئاتِ عَدْلًا مِن اللهِ تعالى؛ حيثُ وَضَعَ ذلك مَوضِعَه في مَحَلِّه القابِلِ له، وهو القلبُ الَّذي لا يكونُ إلَّا عامِلًا، فإذا لم يَعْمَلِ الحسَنةَ استُعمِلَ في عمَلِ السَّيِّئةِ، كما قيل: نفْسُك إنْ لم تَشْغَلْها شَغَلَتْك، وهذا الوجهُ إذا حُقِّقَ يَقْطَعُ مادَّةَ كلامِ القَدَرِيَّةِ المُكذِّبَةِ، والمُجْبِرةِ؛ الَّذين يقولون: إنَّ أفعالَ العِبادِ ليست مخلوقةً للهِ، ويَجعلونَ خَلْقَها والتَّعذيبَ عليها ظُلْمًا، والَّذين يقولون: إنَّه خَلَقَ كُفْرَ الكافِرينَ وَمعصيتَهم، وعاقَبَهم على ذلك لا لسببٍ ولا لحِكمةٍ [49] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/335). !
13- في قَولِه تعالى: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى -على القولِ بأنَّ المرادَ العُسْرى في الأمورِ كلِّها- سؤالٌ: أنَّنا نَجِدُ أنَّ الكُفَّارَ تُيَسَّرُ أمورُهم!
الجوابُ: نعَمْ. قد تُيَسَّرُ أمورُهم، لكِنَّ قلوبَهم تَشْتَعِلُ نارًا وضِيقًا وحَرَجًا، كما قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام: 125] ، ثُمَّ ما يُنَعَّمُون به فهو تنعيمُ جَسَدٍ فقط، لا تنعيمُ رُوحٍ، ثُمَّ هو أيضًا وَبَالٌ عليهم؛ لقولِ اللهِ تعالى فيهم: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف: 182-183] ، وقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُمْلِي للظَّالمِ حتَّى إذا أخَذَه لم يُفْلِتْه ))، ثمَّ قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [50] أخرجه البخاريُّ (4686) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (2583) مِن حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رضيَ الله عنه. [هود: 102] ، وهؤلاء عُجِّلَتْ لهم طيِّبَاتُهم في حياتِهم الدُّنيا، ومع ذلك فإنَّ هذه الدُّنيا جَنَّةٌ لهم بالنِّسبةِ للآخِرةِ [51] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 227). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
- خُصَّ بالذِّكرِ ما في اللَّيلِ مِن الدَّلالةِ مِن حالةِ غِشْيانِه الجانبَ الَّذي يَغشاهُ مِن الأرضِ، ويَغْشى فيه مِن الموجوداتِ، فتَعُمُّها ظُلمتُه فلا تَبْدو للنَّاظِرينَ؛ لأنَّ ذلك أقْوى أحوالِه، وخُصَّ بالذِّكرِ مِن أحوالِ النَّهارِ حالةُ تَجليتِه عن الموجوداتِ وظُهورِه على الأرضِ كذلك [52] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/378). .
- واختِيرَ القسَمُ باللَّيلِ والنَّهارِ لمُناسَبتِه للمَقامِ؛ لأنَّ غرَضَ السُّورةِ بَيانُ البَونِ بيْن حالِ المؤمنينَ والكافِرينَ في الدُّنيا والآخرةِ [53] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/378). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ ابتُدِئَ في هذه السُّورةِ بذِكرِ اللَّيلِ، ثمَّ ذِكرِ النَّهارِ، عكْسَ ما في سُورةِ (الشَّمسِ)؛ لأنَّ هذه السُّورةَ نَزَلَت قبْلَ سُورةِ (الشَّمسِ) بمُدَّةٍ، وهي سادسةُ السُّوَرِ، وأيَّامَئذٍ كان الكُفْرُ مُخيِّمًا على النَّاسِ إلَّا نفَرًا قَليلًا، وكان الإسلامُ قدْ أخذَ في التَّجلِّي، فناسَبَ تلك الحالةَ بالإشارةِ إلى تَمثيلِها بحالةِ اللَّيلِ حينَ يَعقُبُه ظُهورُ النَّهارِ، ويتَّضِحُ هذا في جَوابِ القسَمِ بقولِه: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إلى قولِه: إِذَا تَرَدَّى [54] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/378). [اللَّيل: 4-11].
- قولُه: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى حُذِفَ مَفعولُ يَغْشَى لتَنزيلِ الفِعلِ مَنزلةَ اللَّازِمِ؛ لأنَّ العِبرةَ بغِشْيانِه كلَّ ما تَغشاهُ ظُلمتُه [55] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/379). .
- وأُسنِدَ إلى النَّهارِ التَّجلِّي؛ مَدْحًا له بالاستنارةِ الَّتي يَراها كلُّ أحدٍ [56] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/379). .
- وتَقييدُ اللَّيلِ بالظَّرفِ إِذَا يَغْشَى، وتَقييدُ النَّهارِ بمِثلِه إِذَا تَجَلَّى؛ لأنَّ المُرادَ القسَمُ بكلِّ واحدٍ مِنهما في الحالةِ الدَّالَّةِ على أعظَمِ أحوالِه وأشدِّها دَلالةً على عَظيمِ صُنْعِ اللهِ تعالَى، وتَقييدُ القسَمِ باللَّيلِ بَوقتِ تَغشِيَتِه تذكيرٌ بالعِبرةِ بحُدوثِ حالةِ الظُّلمةِ بعْدَ حالةِ النُّورِ [57] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/368، 379). .
- وأَتَى سُبحانَه بصيغةِ المضارعِ في يَغْشَى؛ لأنَّه يَغْشَى شيئًا بعدَ شيءٍ، وأمَّا النَّهارُ فإنَّه إذا طَلَعَتِ الشَّمسُ ظَهَرَ وتَجَلَّى وَهْلةً واحدةً؛ ولهذا قال سُبحانَه وتعالى في سورةِ (الشَّمسِ وضُحاها): وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا [58] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 55). [الشمس: 3-4] .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى
- في قولِه: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إجمالٌ يُفيدُ التَّشويقَ إلى تَفصيلِه بقولِه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى الآيةَ؛ ليَتمكَّنَ تَفصيلُه في الذِّهنِ [59] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/379). .
- وشتَّى: مُشتَقٌّ مِن الشَّتِّ، وهو التَّفرُّقُ الشَّديدُ، وأُرِيدَ به هنا التَّنوُّعُ والاختِلافُ في الأحوالِ، وهو كِنايةٌ عن الأعمالِ المُتخالِفةِ؛ لأنَّ التَّفرُّقَ يَلزَمُه الاختِلافُ [60] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/380). .
3- قولُه تعالَى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى
- قولُه: فَأَمَّا تَفريعٌ وتَفصيلٌ للإجمالِ في قولِه: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [اللَّيل: 4]، والمُحتاجُ للتَّفصيلِ هنا هو السَّعيُ المَذكورُ، ولكنْ جُعِلَ التَّفصيلُ ببَيانِ السَّاعينَ بقولِه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى؛ لأنَّ المُهِمَّ هو اختِلافُ أحوالِ السَّاعينَ ويُلازِمُهم السَّعيُ؛ فإيقاعُهم في التَّفصيلِ بحسَبِ مَساعِيهم يُساوي إيقاعَ المَساعي في التَّفصيلِ، وهذا تَفنُّنٌ مِن أفانينِ الكلامِ الفَصيحِ يَحصُلُ منه مَعنَيانِ، وانحصَرَ تَفصيلُ «شتَّى» في فَريقينِ: فَريقٌ مُيسَّرٌ لليُسْرى، وفَريقٌ مُيسَّرٌ للعُسْرى؛ لأنَّ الحالَينِ هما المُهِمُّ في مَقامِ الحثِّ على الخَيرِ، والتَّحذيرِ مِن الشَّرِّ، ويَندرِجُ فيهما مُختلِفُ الأعمالِ، كقولِه تعالَى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 6-8] ، ويَجوزُ أنْ يُجعَلَ تَفصيلُ (شتَّى) همْ مَن أعْطى واتَّقى وصدَّقَ بالحُسنى، ومَن بَخِلَ واستَغْنى وكذَّبَ بالحُسنَى، وذلك عدَدٌ يصِحُّ أنْ يكونَ بَيانًا لـ (شتَّى) [61] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/381). .
- وحُذِف مَفعولَا أَعْطَى؛ إذ المقصودُ الثَّناءُ على المُعطِي دونَ تَعرُّضٍ للمُعطَى والعَطيَّةِ [62] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/493). . أو حُذِفَ مَفعولُ أَعْطَى؛ لأنَّ فِعلَ الإعطاءِ إذا أُرِيدَ به إعطاءُ المالِ بدونِ عِوَضٍ، يُنزَّلُ مَنزلةَ اللَّازمِ؛ لاشتِهارِ استِعمالِه في إعطاءِ المالِ، ولذلك يُسمَّى المالُ الموهوبُ عَطاءً، وكذلك حُذِفَ مَفعولُ (اتَّقى)؛ لأنَّه يُعلَمُ أنَّ المُقدَّرَ: اتَّقى اللهَ. وكذلك فِعلُ بَخِلَ لم يُذكَرْ مُتعلَّقُه؛ لأنَّه أُرِيدَ به البُخلُ بالمالِ [63] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/382). . أو حُذِف مفعولُ أَعْطَى؛ ليَعُمَّ كُلَّ عَطاءٍ مِن مالِه وجاهِه وجُهْدِه، حتَّى الكَلِمةِ الطَّيِّبةِ، بل حتَّى طَلاقةِ الوَجهِ [64] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/547). .
- والحُسنى: تَأنيثُ الأحسَنِ، فهي بالأصالةِ صِفةٌ لمَوصوفٍ مُقدَّرٍ، وتَأنيثُها مُشعِرٌ بأنَّ مَوصوفَها المُقدَّرَ يُعتبَرُ مُؤنَّثَ اللَّفظِ، ويَحتمِلُ أُمورًا كَثيرةً؛ فالتَّصديقُ بها الاعتِرافُ بوُقوعِها، ويُكنَّى به عن الرَّغبةِ في تَحصيلِها [65] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/382، 383). .
- والسِّينُ في قولِه: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وقولِه: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى قيل: هي حرْفُ تنفيسٍ مُرادٌ منه الاستِمرارُ مِن الآنَ إلى آخِرِ الحياةِ [66] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/383). .
- وفي قولِه فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى عَدَل الكَلامَ إلى مَظهَرِ العظَمةِ؛ إشارةً إلى صعوبةِ الطَّاعةِ على النَّفْسِ، وإن كانت في غايةِ اليُسرِ في نَفْسِها؛ لأنَّها في غايِة الثِّقَلِ على النَّفْسِ [67] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (22/90). .
4- قولُه تعالَى: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
- قولُه: وَاسْتَغْنَى جُعِلَ مُقابِلًا لقولِه: وَاتَّقَى؛ فالمرادُ به الاستغناءُ عن امتثالِ أمْرِ اللهِ ودَعوتِه؛ لأنَّ المُصِرَّ على الكُفْرِ المُعرِضَ عن الدَّعوةِ يَعُدُّ نفْسَه غَنيًّا عن اللهِ مُكتفيًا بولايةِ الأصنامِ وقَومِه؛ فالسِّينُ والتَّاءُ للمُبالَغةِ في الفِعلِ، وقد يُرادُ به زِيادةُ طَلَبِ الغِنى بالبُخلِ بالمالِ، فتَكونُ السِّينُ والتَّاءُ للطَّلَبِ، وهذه الخِلالُ كِنايةٌ عن كَونِه مِن المشرِكين [68] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/382). .
- قولُه: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وفَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى جاء تَرتيبُ النَّظْمِ في هذه الآيةِ على عكْسِ المُتبادرِ؛ إذ جُعِلَ ضَميرُ الغَيبةِ في (سَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) العائدُ إلى مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى هو المُيسَّرَ، وجُعِلَ ضَميرُ الغَيبةِ في (سَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) العائدُ إلى مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى هو المُيسَّرَ، أي: الَّذي صار الفِعلُ صَعْبُ الحُصولِ حاصلًا له، وإذ وَقَعَ المَجرورانِ باللَّامِ (اليُسرى) و(العُسرى)، فيَجوزُ أنْ يكونَ الكلامُ جاريًا على خِلافِ مُقْتضى الظَّاهرِ بطَريقِ القلْبِ [69] القلبُ: هو جعلُ أحدِ أجزاءِ الكلامِ مكانَ الآخَرِ لِغَيرِ داعٍ مَعْنويٍّ، دُونَ تَعقيدٍ ولا خطأٍ ولا لَبْسٍ، وهو من تخريجِ الكلامِ على خِلافِ مُقتَضَى الظَّاهِرِ، ويَقصِدُه البُلَغاءُ تزيينًا للكلامِ. ومنه ما ليس بمُطَّرِدٍ؛ نحو: (عرَضْتُ النَّاقةَ على الحَوْضِ)، و: (أدخلتُ الخاتمَ في إِصبَعي)، ومنه مُطَّرِدٌ في الكلامِ، كثير عِندَهم، حتَّى صار أكثَرَ مِنَ الأصلِ؛ نحو قولِهم: (ما كادَ يَفعلُ كذا)، يُريدونَ: كاد ما يَفعلُ. وعليه قولُه تعالى: وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] ، وقولُه: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور: 40] . يُنظر: ((شرح الأبيات المشكلة الإعراب)) لأبي علي الفارسي (ص: 105)، ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 211)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 158، 159). ؛ بأنْ يكونَ أصلُ الكلامِ: فسَنُيَسِّرُ اليُسرى له، وسَنُيَسِّرُ العُسرى له، ومُقْتضى القلبِ إفادةُ المُبالَغةِ في هذا التَّيسيرِ حتى جُعِلَ المُيسَّرُ مُيسَّرًا له والمُيسَّرُ له مُيسَّرًا، على نحْوِ ما وَجَّهوا به قولَ العرَبِ: عرَضْتُ النَّاقةَ على الحَوضِ [70] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/384). .
ويَجوزُ أنْ يكونَ معْنى الآيةِ على ظاهِرِه مِن تَيسيرِ الإنسانِ لليُسرى أو العُسرى، ويُجعَلَ اليُسرى وَصْفًا، أي: الحالةِ اليُسرى، والعُسرى، أي: الحالةِ غيرِ اليُسرى، وليس في التَّركيبِ قلْبٌ، والتَّيسيرُ بمعْنى الدَّوامِ على العمَلِ، وإذ كان الوعْدُ بتَيسيرِ اليُسرى لصاحبِ تلك الصِّلاتِ الدَّالَّةِ على أعمالِ الإعطاءِ والتَّقوى والتَّصديقِ بالحُسنى، كان سُلوكُ طَريقِ المَوصوليَّةِ للإيماءِ إلى وَجْهِ بِناءِ الخبَرِ، وهو التَّيسيرُ، فتَعيَّنَ أنَّ التَّيسيرَ مُسبَّبٌ عن تلك الصِّلاتِ، أي: جَزاءً عن فِعلِها، فالمُتيسِّرُ: تَيسيرُ الدَّوامِ عليها، وتكون اليُسرى صِفةً للأعمالِ، وذلك مِن الإظهارِ في مَقامِ الإضمارِ، والأصْلُ: مُستيسرٌ له أعمالُه، وعُدِلَ عن الإضمارِ إلى وَصْفِ اليُسرى؛ للثَّناءِ على تلك الأعمالِ بأنَّها مُيسَّرةٌ مِن اللهِ [71] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/385، 386). .
- ولعلَّ تَصديرَ القِسْمينِ بالإعطاءِ والبُخلِ، مع أنَّ كلًّا منهما أدْنى رُتبةً ممَّا بعْدَهما في استتباعِ التَّيسيرِ لليُسرى والتَّيسيرِ للعُسرى؛ للإيذانِ بأنَّ كلًّا منهما أصلٌ فيما ذُكِرَ، وليس تَتمَّةً لِما بعْدَهما مِن التَّصديقِ والتَّقوى والتَّكذيبِ والاستغناءِ [72] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/167). .
أو إنَّما خُصَّ الإعطاءُ بالذِّكرِ في قولِه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى مع شُمولِ (اتَّقى) لمُفادِه، وخُصَّ البُخلُ بالذِّكرِ في قولِه: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى مع شُمولِ (استَغْنى) له؛ لتَحريضِ المسلمينَ على الإعطاءِ، فالإعطاءُ والتَّقوى شِعارُ المسلمينَ مع التَّصديقِ بالحُسنى، وضِدُّ الثَّلاثةِ مِن شِعارِ المشرِكين [73] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/386). .
- قولُه: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى الواوُ عاطفةٌ على جُملةِ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، أي: سنُعجِّلُ به إلى جهنَّمَ، فالتَّقديرُ: إذا تَردَّى فيها. و(ما) نافيةٌ، والتَّقديرُ: وسَوفَ لا يُغْني عنه مالُه إذا سَقَطَ في جهنَّمَ، وذلك على قولٍ. ويجوزُ أنْ تكونَ استِفهاميَّةً للإنكارِ والتَّوبيخِ، ويجوزُ على هذا الوجْهِ أنْ تكونَ الواوُ للاستئنافِ، والمعْنى: وأيُّ شَيءٍ يُغْني عنه مالُه [74] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/762)، ((تفسير البيضاوي)) (5/317)، ((تفسير أبي حيان)) (10/493)، ((تفسير أبي السعود)) (9/167)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/387)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/502). ؟!