موسوعة التفسير

سُورةُ الطَّلاقِ
الآيتان (4-5)

ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ

غريب الكلمات:

أَجَلُهُنَّ: أي: عِدَّتُهنَّ. والأجَلُ: غايةُ الوَقتِ في الموتِ وغَيرِه، والمُدَّةُ المَضروبةُ للشَّيءِ [159] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/178)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/64)، ((المفردات)) للراغب (ص: 65)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 406)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131). .

المعنى الإجمالي:

يذكرُ الله تعالى أحكامًا أخرى تتعلَّقُ بعِدَّةِ النِّساءِ على اختِلافِ أحوالِهنَّ، فيقولُ: والمُطَلَّقاتُ اللَّائي انقَطَع حَيضُهنَّ انقِطاعًا لا يُرجَى رُجوعُه إنْ شكَكْتُم في عِدَّتِهنَّ فلم تَدْرُوا ما هي؛ فاعلَموا أنَّها ثلاثةُ أشهُرٍ، والمُطَلَّقاتُ اللَّائي لم يَحِضْنَ مِن قَبْلُ؛ لِصِغَرِ سِنِّهنَّ أو لِغَيرِه، فعِدَّتُهنَّ ثلاثةُ أشهُرٍ كذلك، والمُطَلَّقاتُ الحوامِلُ عِدَّتُهنَّ تَنقَضِي بوضعِ ما في بُطونِهنَّ مِن حَملٍ.
ثمَّ كرَّر الله تعالى الأمرَ بتَقْواه، وبشَّر المتَّقينَ، فقال: ومَن يتَّقِ اللهَ بامتِثالِ أمْرِه واجتِنابِ نَهْيِه، يُسَهِّلْ عليه جميعَ أُمورِه.
ذلك الَّذي بَيَّنَّاه لكم أمْرُ اللهِ أنزَلَه إليكم؛ لتَعمَلوا به، ومَن يتَّقِ اللهَ يَمْحُ عنه سيِّئاتِه، ويُكَثِّرْ له ثَوابَ أعمالِه.

تفسير الآيتين:

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أمْرَ الطَّلاقِ والرَّجعةِ في الَّتي تَحيضُ، وكانوا قد عَرَفوا عِدَّةَ ذواتِ الأقراءِ؛ عرَّفَهم في هذه السُّورةِ عِدَّةَ الَّتي لا ترى الدَّمَ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (19/162). .
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ.
أي: إنْ شكَكْتُم في عِدَّةِ أزواجِكم المُطَلَّقاتِ اللَّاتي انقَطَع حَيضُهنَّ انقِطاعًا لا يُرجَى رُجوعُه، فلم تَدْرُوا ما هي؛ فاعلَموا أنَّها ثلاثةُ أشهُرٍ [161] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/49، 52)، ((البسيط)) للواحدي (21/509)، ((تفسير ابن جزي)) (2/386)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/589)، ((تفسير ابن كثير)) (8/149)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). ذهب بعضُ المفَسِّرينَ إلى أنَّ المرادَ بـ وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ: اللَّاتي انقَطَع حَيضُهنَّ؛ لكِبَرِ سِنِّهنَّ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/52)، ((تفسير ابن كثير)) (8/149). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/202). وقيل: هُنَّ اللَّاتي انقَطَع حَيضُهنَّ عُمومًا؛ سواءٌ لكِبَرِ سِنٍّ أو لغيرِه مِن الأسبابِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ تيميَّةَ، والسعديُّ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (19/ 240)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). قال ابنُ القيِّم: (قال آخَرونَ؛ منهم شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: اليأسُ يختلِفُ باختِلافِ النِّساءِ، وليس له حدٌّ يتَّفِقُ فيه النِّساءُ. والمرادُ بالآيةِ أنَّ يأسَ كُلِّ امرأةٍ مِن نَفسِها؛ لأنَّ اليأسَ ضِدُّ الرَّجاءِ، فإذا كانت المرأةُ قد يَئِسَت مِن الحَيضِ ولم تَرْجُه فهي آيِسةٌ وإن كان لها أربعونَ أو نحوُها، وغيرُها لا تيأسُ منه وإن كان لها خمسونَ). ((زاد المعاد)) (5/584). قال الزَّجَّاجُ: (الَّذي يَذهَبُ إليه مالِكٌ، واللُّغةُ تدُلُّ عليه: أنَّ معناه: إن ارتَبْتُم في حَيضِها وقد انقَطَع عنها الحَيضُ، وكانت ممَّن يَحيضُ مِثلُها، فعِدَّتُها ثلاثةُ أشهُرٍ، وذلك بعدَ أن تُترَكَ تِسعةَ أشهُرٍ بمِقْدارِ الحَملِ، ثمَّ تعتَدَّ بعدَ ذلك ثلاثةَ أشهُرٍ، فإن حاضتْ في هذه الثَّلاثةِ الأشهُرِ تمَّت ثلاث حِيَضٍ. وجائِزٌ أن يتأخَّرَ هذا الحَيضُ فيكونَ كلَّما قاربت أن تخرُجَ مِن الثَّلاثةِ حاضت، فهذا مَذهَبُ مالكٍ، وهو الَّذي يُروَى عن عُمَرَ رحمه اللهُ. وقال أهلُ العِراقِ: تُترَكُ ولو بلَغَت في ذلك أكثَرَ مِن ثلاثينَ سَنةً، ولو بلَغَت إلى السَّبعينَ، يَعْنُون حتَّى تبلُغَ مَبلَغَ مَن لا يَحيضُ، وقالوا: ولو شاء اللهُ لَابتلاها بأكثَرَ مِن ذلك). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/185). وممَّن قال بهذا المعنى المذكورِ في تفسيرِ قَولِه تعالى: إِنِ ارْتَبْتُمْ: ابنُ جرير، ونسَبَه الواحديُّ إلى الأكثرينَ، واختاره ابنُ جُزَي، وابنُ القيِّم، واستظهره ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/49، 52)، ((البسيط)) للواحدي (21/509)، ((تفسير ابن جزي)) (2/386)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/589)، ((تفسير ابن كثير)) (8/149). وقال البِقاعي: (لَمَّا كان المُوجِبُ للعِدَّةِ إنَّما هو الدُّخولُ لا مُجَرَّدُ الطَّلاقِ، قال: إِنِ ارْتَبْتُمْ بأن أجَلْتُم النَّظَرَ في أمْرِهنَّ، فأدَّاكم إلى رَيبٍ في: هل هنَّ حامِلاتٌ أم لا، وذلك بالدُّخولِ عليهِنَّ). ((نظم الدرر)) (20/155). وقيل: إِنِ ارْتَبْتُمْ: أي: إن رأَيْنَ دمًا وشكَكْتُم في كَونِه حَيضًا أو استِحاضةً، وارتبتُم فيه. وهو قولُ طائفةٍ مِن السَّلفِ؛ كمُجاهِدٍ، والزُّهْريِّ، وابنِ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/149). .
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ.
أي: والمُطَلَّقاتُ اللَّاتي لم يَحِضْنَ مِن قَبْلُ؛ لصِغَرِ سِنِّهنَّ أو لِغَيرِه كمرضٍ ونحوِه، فعِدَّتُهنَّ أيضًا ثلاثةُ أشهُرٍ [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/53)، ((تفسير ابن كثير)) (8/149)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/156)، ((تفسير الشوكاني)) (5/289)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). قال أبو حيَّان: (الظَّاهرُ أنَّ قَولَه: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يَشملُ مَن لم يَحِضْنَ لصِغَرٍ، ومَن لا يكونُ لها حَيضٌ البتَّةَ، وهو موجودٌ في النِّساءِ، وهو أنَّها تعيشُ إلى أن تموتَ ولا تحيضُ). ((تفسير أبي حيان)) (10/200). وقال الشَّوكاني: (هذه الَّتي انقَطَع حَيضُها قبْلَ عِدَّتِها أو حالَ عِدَّتِها مُندَرِجةٌ تحتَ قَولِه: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ؛ فإنَّها يَصدُقُ عليها عندَ هذا الانقِطاعِ أنَّها مِن اللَّائي لم يحِضْنَ، فتكونُ عِدَّتُها كعِدَّتِهنَّ، وليس في الآيةِ ما يدُلُّ على أنَّ المرادَ أنَّهنَّ لم يَحِضْنَ أصلًا، بل المرادُ عدَمُ وُجودِ الحَيضِ عندَ العِدَّةِ... وقد وقع الاتِّفاقُ على أنَّ الصَّغيرةَ الَّتي لم تَبلُغِ التَّكليفَ هي مِنَ اللَّائي لم يحِضْنَ، ومعلومٌ أنَّه لا يُرادُ عَدَمُ حَيضِها في جميعِ الأزمِنةِ ماضيها ومُستَقبَلِها؛ للقَطعِ بأنَّها إذا بلَغَت وحاضت لم يكُنْ ذلك مُبطِلًا لعِدَّتِها الَّتي اعتَدَّتْها حالَ صِغَرِها بالأشهُرِ، ومعلومٌ أيضًا أنَّ المرأةَ إذا حاضت مرَّةً واحِدةً صَدَق عليها أنَّها حاضت، فإذا تخَلَّف عنها الحَيضُ يَصدُقُ عليها أنَّها لم تَحِضْ، وإذا عَرَفْتَ هذا عَلِمْتَ أنَّ المرأةَ إذا وَجَبَت عليها العِدَّةُ وحَيضُها مُنقَطِعٌ لعارِضٍ، فهي مِن اللَّائي لم يَحِضْنَ، وهكذا إذا انقَطَع عنها وهي في وَسَطِ عِدَّتِها فهي مِن اللَّائي لم يحِضْنَ، فعِدَّتُها ثلاثةُ أشهُرٍ كعِدَّةِ اللَّائي لم يحِضْنَ). ((السيل الجرار)) (ص: 424، 425). ويُنظر: ((الإشراف على مذاهب العلماء)) لابن المنذر (5/356، 357)، ((المغني)) لابن قدامة (8/113). .
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
أي: وأمَّا المُطَلَّقاتُ الحوامِلُ فإنَّ عِدَّتَهنَّ تَنقَضِي بوضعِ ما في بُطونِهنَّ مِن حَملٍ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/54، 58)، ((تفسير القرطبي)) (18/165)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/527، 528)، ((تفسير ابن كثير)) (8/149)، ((السيل الجرار)) للشوكاني (ص: 442)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). قال ابنُ القيِّم: (كان بيْنَ السَّلَفِ نِزاعٌ في المتوفَّى عنها أنَّها تترَبَّصُ أبْعَدَ الأجَلَينِ، ثمَّ حَصَل الاتِّفاقُ على انقِضائِها بوَضعِ الحَملِ). ((إعلام الموقعين عن رب العالمين)) (2/51). وقال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ يقولُ تعالى: ومَن كانت حامِلًا فعِدَّتُها بوَضعِه، ولو كان بعدَ الطَّلاقِ أو الموتِ بفُواقِ ناقةٍ [ما بيْنَ الحَلْبَتينِ مِن الوَقتِ؛ لأنَّ النَّاقةَ تُحلَبُ ثمَّ تُترَكُ سُويعةً يَرضَعُها الفَصيلُ]، في قَولِ جُمهورِ العُلَماءِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ، كما هو نَصُّ هذه الآيةِ الكريمةِ، وكما ورَدَت به السُّنَّةُ النَّبَويَّةُ). ((تفسير ابن كثير)) (8/149). قال السعدي: (يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أي: جميعَ ما في بُطونِهنَّ، مِن واحدٍ ومُتعَدِّدٍ، ولا عِبرةَ حينَئذٍ بالأشهُرِ ولا غيرِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 871). وقال النَّيسابوري: (ووضْعُ الحَملِ لا يَتفاوَتُ بكَونِه حيًّا أو مَيتًا أو سِقْطًا أو مُضْغةً لا صورةَ فيها). ((تفسير النيسابوري)) (6/315). وسيأتي تفصيلُ الكلامِ في السِّقْطِ والعَلَقةِ، والخِلافُ في بعضِ الصُّورِ (ص: 66). .
عن سُبَيعةَ الأسلَمِيَّةِ رَضِيَ اللهُ عنها: ((أنَّها كانت تحتَ سَعدِ بنِ خَولةَ، وهو في بَني عامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، وكان ممَّن شَهِدَ بَدرًا، فتُوفِّيَ عنها في حَجَّةِ الوداعِ وهي حامِلٌ، فلم تَنشَبْ [164] لم تَنشَبْ: أي: لم تمكُثْ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/110). أن وَضَعت حَمْلَها بعدَ وَفاتِه، فلمَّا تَعَلَّتْ [165] تعَلَّتْ: أي: طَهُرَت. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/109). مِن نِفاسِها تجمَّلَت [166] تجَمَّلت: أي: تزَيَّنَت وتحَسَّنَت. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/110). للخُطَّابِ، فدَخَل عليها أبو السَّنابِلِ بنُ بَعْكَكٍ -رجُلٌ مِن بني عبدِ الدَّارِ- فقال لها: ما لي أَراكِ مُتجَمِّلةً؟! لعلَّكِ تُرَجِّينَ النِّكاحَ! إنَّكِ -واللهِ- ما أنتِ بناكِحٍ حتَّى تَمُرَّ عليكِ أربَعةُ أشهُرٍ وعَشرٌ! قالت سُبَيعةُ: فلمَّا قال لي ذلك جَمَعْتُ علَيَّ ثيابي حينَ أمسَيْتُ، فأتَيْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسألْتُه عن ذلك، فأفتاني بأنِّي قد حلَلْتُ حينَ وَضَعْتُ حَملي، وأمَرَني بالتَّزَوُّجِ إنْ بدا لي )) [167] رواه البخاريُّ (3991)، ومسلمٌ (1484) واللَّفظُ له. .
وعن سُلَيمانَ بنِ يَسارٍ أنَّ أبا سَلَمةَ بنَ عبدِ الرَّحمنِ وابنَ عبَّاسٍ اجتَمَعا عندَ أبي هُرَيرةَ، وهما يَذكُرانِ المرأةَ تُنفَسُ [168] تُنفَسُ: أي: تَلِدُ وتضَعُ حَمْلَها. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/95)، ((شرح النووي على مسلم)) (10/111). بعدَ وَفاةِ زَوجِها بلَيالٍ، فقال ابنُ عبَّاسٍ: عِدَّتُها آخِرُ الأجَلَينِ، وقال أبو سَلَمةَ: قد حلَّتَ، فجَعَلا يَتنازَعانِ ذلك، فقال أبو هُرَيرةَ: أنا مع ابنِ أخي -يعني: أبا سَلَمةَ- فبَعَثوا كُرَيبًا مَولَى ابنِ عبَّاسٍ إلى أمِّ سَلَمةَ يَسألُها عن ذلك، فجاءَهم فأخبَرَهم أنَّ أمَّ سَلَمةَ قالت: ((إنَّ سُبَيعةَ الأسلَميَّةَ نُفِسَت بعدَ وَفاةِ زَوجِها بلَيالٍ، وإنَّها ذَكَرَت ذلك لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأمَرَها أن تتَزَوَّجَ )) [169] رواه البخاريُّ (4909)، ومسلمٌ (1485) واللَّفظُ له. .
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا.
أي: ومَن يتَّقِ اللهَ بامتِثالِ أمْرِه واجتِنابِ نَهْيِه، يُسَهِّلْ عليه جميعَ أُمورِ دِينِه ودُنياه وآخِرَتِه [170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/58)، ((الوسيط)) للواحدي (4/315)، ((تفسير الرازي)) (30/563)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 57)، ((تفسير ابن كثير)) (8/ 152)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/157)، ((تفسير الشوكاني)) (5/289، 290)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). وقال الشوكاني: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا أي: مَن يتَّقِه في امتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه يُسهِّلْ عليه أمرَه في الدُّنيا والآخرةِ. وقال الضحَّاكُ: مَن يتَّقِ الله فليُطلِّقْ للسُّنةِ يجعَلْ له مِن أمرِه يسرًا في الرَّجعةِ. وقال مقاتلٌ: مَن يتَّقِ الله في اجتنابِ معاصيه يجعلْ له مِن أمرِه يسرًا في توفيقِه للطَّاعةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/ 289). .
قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [البقرة: 189].
وقال سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحجرات: 10] .
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5).
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ.
أي: ذلك الَّذي بَيَّنَّاه لكم وأمَرْناكم به مِنَ الأحكامِ السَّابِقةِ: أمْرُ اللهِ أنزَلَه اللهُ إليكم؛ لتَعمَلوا به، وتُعَظِّموه ولا تُخالِفوه [171] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/59)، ((تفسير القرطبي)) (18/165، 166)، ((تفسير ابن كثير)) (8/152)، ((تفسير السعدي)) (ص: 871). .
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا.
أي: ومَن يتَّقِ اللهَ بامتِثالِ أمْرِه واجتِنابِ نَهْيِه، يَمْحُ اللهُ عنه سيِّئاتِه، ويُكَثِّرْ له ثوابَ أعمالِه [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/59)، ((الوسيط)) للواحدي (4/315)، ((تفسير القرطبي)) (18/166)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/318)، ((تفسير ابن كثير)) (8/152)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/441)، ((تفسير الألوسي)) (14/334). قال ابن القيِّم: (الذُّنوبُ: المرادُ بها الكبائرُ، والمرادُ بالسَّيِّئاتِ: الصَّغائرُ، وهي ما تَعمَلُ فيه الكفَّارةُ مِن الخَطأِ وما جَرى مَجراه، ولهذا جُعِل لها التَّكفيرُ... والدَّليلُ على أنَّ السَّيِّئاتِ هي الصَّغائرُ والتَّكفيرَ لها قولُه تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] ). ((مدارج السالكين)) (1/318). .
كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء: 31] .
وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال: 29] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ: ((الصَّلَواتُ الخَمْسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعةِ، ورَمَضانُ إلى رَمَضانَ: مُكَفِّراتٌ ما بيْنَهنَّ إذا اجْتَنَبَ الكبائِرَ )) [173] رواه مسلم (233). .

الفوائد التربوية:

1- لَمَّا كانت أمورُ النِّساءِ في المعاشَرةِ والمُفارَقةِ مِنَ المعاسَرةِ والمُياسَرةِ في غايةِ المشَقَّةِ، فلا يَحمِلُ على العَدلِ فيها والعِفَّةِ إلَّا خَوفُ اللهِ؛ كرَّر بالحثِّ على التَّقْوى إشارةً إلى ذلك، وترغيبًا في لُزومِ ما حدَّه سُبحانَه، فقال عاطفًا على ما تقديرُه: فمَن لم يحفَظْ هذه الحدودَ عسَّرَ الله عليه أمورَه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [174] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (20/157)، ((تفسير الشربيني)) (4/317). .
2- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا دليلٌ على أنَّ كلَّ عسيرٍ مِن الأمورِ يَتيَسَّرُ بالتَّقوى، حتَّى عُسْرُ تقتيرِ الرِّزقِ، وشِفاءُ الدَّاءِ العَسِرِ العِلاجِ، والخَلاصُ مِن المَحْبِسِ؛ مِن الفِكاكِ مِن الأَسْرِ، وأشباهِ ذلك [175] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/340). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أنَّ اليأسَ مَنُوطٌ بالحالِ لا بالزَّمَنِ، وأنَّ ذلك يَختَلِفُ باختِلافِ النِّساءِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى ما قَيَّدَها بالسِّنِّ [176] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (13/362). ولاختلافِ الفُقهاءِ في تقديرِ سنِّ الإياسِ يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (2/15). .
2- قَولُه تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ استُدِلَّ به على أنَّ الأقراءَ الحِيَضُ؛ لِذِكْرِه المَحِيضَ بلَفْظِه، وجَعْلِه الأشهُرَ الثَّلاثَ عِوَضًا منه [177] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/333). وقيل أيضًا في وجهِ الدَّلالةِ: إنَّ الأصلَ أنَّ الشَّيءَ متى ذُكِر باسمٍ مُشتركٍ، ثمَّ جرى البيانُ له عندَ ذِكرِ البدَلِ باسمٍ خاصٍّ؛ دل على أنَّ المرادَ مِن الاسمِ المشتركِ هذا الاسمُ الخاصُّ المذكورُ عندَ البدَلِ؛ ومِن ذلك قولُه تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] ، فاسمُ الغسلِ مشتركٌ يَتناوَلُ الماءَ وكلَّ مائعٍ، فلمَّا قال عندَ ذِكرِ البَدَلِ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة: 6]؛ تبيَّن أنَّ المرادَ مِن ذلك الاسمِ المشتركِ هو هذا الاسمُ الخاصُّ المذكورُ عندَ البدَلِ، فكذلك الأوَّلُ. ((تفسير الماتريدي)) (10/59). .
3- قَولُه تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، استُدِلَّ به على أنَّ الحامِلَ لا تحيضُ؛ إذ لو حاضت لَكانت عِدَّتُها ثلاثَ حِيَضٍ -على قولٍ-، وهذه عِدَّةُ المطَلَّقةِ [178] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (1/469). القولُ بأنَّ الحاملَ لا تَحيضُ هو مذهبُ الحنفيَّةِ والحنابلةِ، وهو قولُ ابنِ حزم. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نُجَيم (1/201)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (1/110)، ((المحلى)) لابن حزم (1/404). وذهَبَ المالكيَّةُ والشَّافعيَّةُ إلى أنَّ الحاملَ يُمكِنُ أن تَحيضَ، وهو اختيارُ ابنِ تيميَّةَ، وابنِ عُثيمينَ. يُنظر: ((الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي)) (2/459)، ((المجموع)) للنووي (2/347)، ((الاختيارات الفقهية)) (ص: 30)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/ 270، 271). وذكَرَ ابنُ عثيمينَ أنَّ إلغاءَ الاعتدادِ بالحَيضِ بالنِّسبةِ للحاملِ ليس مِن أجْلِ أنَّ ما يُصيبُ المرأةَ مِن الدَّمِ ليس حيضًا، ولكن لأنَّ الحَيضَ لا يصِحُّ أن يكونَ عِدَّةً مع الحملِ؛ لأنَّ الحملَ يَقضي على ما عَداه. يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) (1/469). .
4- قَولُه تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ دليلٌ واضِحٌ على أنَّ طَلاقَ الحامِلِ واقِعٌ، وهو أوسَعُ ما يكونُ مِن الطَّلاقِ؛ ولهذا يَحِلُّ للإنسانِ أنْ يُطَلِّقَ الحامِلَ وإنْ كان قد جامَعَها قريبًا، بخلافِ غيرِ الحامِلِ؛ فإنَّه إذا جامعَها يجبُ عليه أنْ يَنتَظِرَ حتَّى تَحيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، أو يَتبَيَّنَ حَمْلُها [179] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (10/112). .
5- العِدَّةُ واجبةٌ؛ لِقَولِه تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228]، وقولِه: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. قال أهلُ العِلمِ: إنَّ هذا خبَرٌ بمعنى الأمرِ، وإنَّما جاء بصِيغةِ الخَبَرِ؛ لإقرارِه وتثبيتِه، كأنَّه أمرٌ مَفروغٌ منه [180] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (13/321). .
6- في قَولِه تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أنَّ عِدَّةَ الحامِلِ لا تنقضي إلَّا بوَضعِ الحَملِ، سَواءٌ أكانت تحيضُ أمْ لا [181] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (11/304). ، بائنةً كانت أو رَجْعيَّةً، مُفارِقةً في الحياةِ أو مُتَوَفًّى عنها، ففي الآيةِ الكريمةِ عمومٌ مِن ثلاثِ جهاتٍ:
أحدُها: عمومُ المُخْبَرِ عنه، وهو أولاتُ الأحمالِ؛ فإنَّه يَتناوَلُ جميعَهنَّ.
الثَّاني: عُمومُ الأجَلِ؛ فإنَّه أضافَه إليهنَّ، وإضافةُ اسمِ الجَمعِ إلى المعرفةِ يَعُمُّ، فجَعَلَ وَضْعَ الحَمْلِ جميعَ أجَلِهنَّ، فلو كان لبَعضِهنَّ أجلٌ غَيرُه لم يكُنْ جميعَ أجَلِهنَّ.
الثَّالثُ: أنَّ المبتدأَ والخبرَ مَعرِفتانِ؛ أمَّا المبتدأُ فظاهِرٌ، وأمَّا الخَبرُ وهو قولُه تعالى: أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ففي تأويلِ مَصدَرٍ مُضافٍ، أي: أجَلُهنَّ وَضْعُ حمْلِهنَّ، والمبتدأُ والخبرُ إذا كانا مَعرِفَتَينِ اقتضى ذلك حَصْرَ الثَّاني في الأوَّلِ، كقَولِه تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15] . وبهذا احتَجَّ جمهورُ الصَّحابةِ على أنَّ الحامِلَ المتوفَّى عنها زَوجُها عِدَّتُها وَضْعُ حمْلِها، ولو وضعَتْه والزَّوجُ على المُغتَسَلِ، كما أفتى به النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِسُبَيعَةَ الأسْلَمِيَّةِ، وكان هذا الحُكْمُ والفَتوى منه مُشتَقًّا مِن كتابِ اللهِ، مُطابِقًا له [182] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/527). .
7- قولُه تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ دليلٌ على أنَّ للمَرءِ أن يُنكِحَ وَلَدَه الصِّغارَ؛ لأنَّ اللهَ تعالى جَعَل عِدَّةَ مَن لم يَحِضْ مِنَ النِّساءِ ثلاثةَ أشهُرٍ، ولا تكونُ عليها عِدَّةٌ إلَّا أن يكونَ لها نِكاحٌ؛ فدَلَّ ذلك على هذا الغَرَضِ، وهو بديعٌ في فَنِّه [183] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (4/285). .
8- في قَولِه تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ شامِلٌ للوَلَدِ، والعَلَقةِ، والمُضْغَةِ [184] تنقَضي العِدَّةُ بوَضعِ الحَملِ الَّذي تبَيَّنَ فيه خَلقُ إنسانٍ، وإن كان سِقْطًا. نَقَل الإجماعَ على ذلك: ابنُ المنذِرِ، وابنُ قُدامةَ. يُنظر: ((الإشراف)) لابن المنذر (5/352)، ((المغني)) لابن قدامة (8/119). أمَّا إذا ألقَتِ المرأةُ نُطفةً أو عَلَقةً أو دمًا، أو وضعتْ مُضْغةً لا صورةَ فيها؛ فلا تَنقضي العدَّةُ بالوضعِ عندَ جمهورِ الفُقهاءِ مِن الحنفيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابلةِ. وصرَّح المالكيَّةُ بأنَّه إن كان الحملُ دمًا اجتمَع تَنقضي به العدَّةُ، وعلامةُ كَونِه حملًا أنَّه إذا صُبَّ عليه الماءُ الحارُّ لم يَذُبْ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/318). قال الشنقيطي: (إذا كانت المرأةُ مُعتدَّةً مِن طلاقٍ أو وفاةٍ، وكانت حاملًا، فألقَتْ حَمْلَها عَلَقةً، هل تَنقضي بذلك عِدَّتُها أو لا؟ فمذهبُ مالكٍ رحمه الله: أنَّها تَنقضي عِدَّتُها بإسقاطِ العَلَقةِ المذكورةِ. واحتجَّ المالكيَّةُ: بأنَّ العَلَقةَ المذكورةَ يَصدُقُ عليها أنَّها حملٌ، فتَدخُلُ في عُمومِ قولِه تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] . وقال ابنُ العربيِّ المالكيُّ: لا يَرتبطُ بالجنينِ شَيءٌ مِن هذه الأحكامِ إلَّا أن يكونَ مُخَلَّقًا -يعني: مُصَوَّرًا-. وذهب جمهورُ أهلِ العِلمِ -منهم الأئمَّةُ الثَّلاثةُ وغيرُهم- إلى أنَّ وضْعَ العَلَقةِ لا تَنقضي به العدَّةُ، قالوا: لأنَّها دمٌ جامدٌ، ولا يُتحقَّقُ كَوْنُه جَنينًا). ((أضواء البيان)) (4/275). ويُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/274) و(4/286). ، ومفيدٌ أنَّ العِدَّةَ لا تَنقَضي بأوَّلِ التَّوْءَمَينِ؛ لأنَّه بَعضُ حَمْلِهنَّ لا حَمْلُهُنَّ [185] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 267). . وقولُه: حَمْلَهُنَّ مُفرَدٌ مضافٌ؛ فيَشملُ كلَّ حَمْلِها، وعلى هذا فلا بُدَّ أنْ تَضَعَ جميعَ الحَمْلِ، ولو فُرِضَ أنَّ المرأةَ مات زوجُها وهي تُطْلَقُ وقد ظَهَرَ رأسُ الحَملِ، ثُمَّ خَرَجَ بقيَّتُه، فتَنقَضي العِدَّةُ؛ لأنَّه قبْلَ أنْ يَخْرُجَ كامِلًا لم تكُنْ وَضَعَتْ حَمْلَها [186] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (13/334). .
9- قَولُ اللهِ تعالى: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ استَدَلَّ بعُمومِه مَن قال: إنَّ الحامِلَ مِنَ الزِّنا تَعتَدُّ به [187] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 267). واعتدادُ المَزنيِّ بها عدَّةَ المطلَّقةِ هو المعتمدُ لدى المالكيَّةِ، ومذهبُ الحنابلةِ، خِلافًا للحنَفيَّةِ والشَّافعيَّةِ؛ فمذهبُهم أنَّ الزَّانيةَ لا عدَّةَ عليها، حاملًا كانت أو غيرَ حامِلٍ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (29/337). .
10- في قَولِه تعالى: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ حُجَّةٌ في أنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ؛ لأنَّ اللهَ سمَّاه بالأمرِ، والأمرُ لا يكونُ إلَّا كلامًا مُتكَلَّمًا به، وكلامُ الآمِرِ نَعْتٌ مِن نَعْتِه، ونُعُوتُ الخالقِ غيرُ مخلوقةٍ، وهو مِثلُ قَولِه تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [188] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/340). [الأعراف: 54] .
11- في قَولِه تعالى: أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ رَدٌّ على مَن لا يُقِرُّ أنَّ اللهَ سبحانَه بنَفْسِه في السَّماءِ [189] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/341). ؛ فإنَّ النُّزولَ والتَّنزيلَ الَّذي تَعقِلُه العُقولُ وتَعرِفُه الفِطرُ هو وُصولُ الشَّيءِ مِن أعلَى إلى أسفلَ، والرَّبُّ تعالى إنَّما يُخاطِبُ عِبادَه بما تَعرِفُه فِطَرُهم، وتَشهَدُ به عُقولُهم [190] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 232). .
12- في قَولِه تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا دَليلٌ على أنَّ التَّوبةَ مع ما تَحُطُّ مِن السَّيِّئاتِ تُنْمِي له أجرًا برَأسِه، وهو مِثلُ قولِه تعالى: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان: 70] ، وهذه الغَنيمةُ الباردةُ لِمَن عَقَلَها، وتَيَقَّظَ لها [191] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/341). .

بلاغة الآيتين:

1- قولُه تعالَى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا
- قولُه: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ عطفٌ على قولِه: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] ؛ فإنَّ العِدَّةَ هنالكَ أُرِيدَ بها الأقراءُ، فأشعَرَ ذلكَ أنَّ تلكَ المُعتدَّةَ ممَّنْ لها أقراءٌ، فبقِيَ بَيانُ اعتدادِ المرأةِ الَّتي تَجاوَزَتْ سِنَّ المَحِيضِ، أو الَّتي لم تَبلُغْ سِنَّ مَن تَحيضُ، وهيَ الصَّغيرةُ. والآيةُ مُخصِّصةٌ لعُمومِ قولِه: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] ، وقد نزلَتْ سورةُ (الطَّلاقِ) بعدَ سورةِ (البقرةِ) [192] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/315، 316). .
- وجُملةُ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مَعطوفةٌ على جُملةِ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ؛ فهي إتمامٌ لأحوالِ العِدَّةِ المُجمَلِ في قولِه تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق: 1] ، وتقديرُ الكلامِ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ مِنْهنَّ، أي: مِنَ المُطلَّقاتِ، أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ، فحصَلَ بهذِه الآيةِ مع الَّتي قَبْلَها تَفصيلٌ لأحوالِ المُطلَّقاتِ، وحصَلَ أيضًا منها بيانٌ لإجمالِ الآيةِ الَّتي في سُورةِ (البقرةِ) [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/319). .
- قولُه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا تَكريرٌ للمَوعظةِ، وهو اعتِراضٌ، والمقصودُ مَوعظةُ الرِّجالِ والنِّساءِ على الأخْذِ بما في هذِه الأحكامِ ممَّا عسى أنْ يكونَ فيه مشقَّةٌ على أحَدٍ بأنَّ على كلٍّ أنْ يَصبِرَ لذلكَ امتثالًا لأمرِ اللهِ؛ فإنَّ المُمتثِلَ -وهو مُسمًّى المُتَّقيَ- يَجعَلُ اللهُ له يُسْرًا فيما لَحِقَه مِن عُسْرٍ، والمقصودُ: يَجعَلْ له مِن أمْرِه العَسيرِ في نظرِه يُسْرًا؛ بقرينةِ جَعْلِ اليُسْرِ لأمرِه، والمقصودُ مِن هذا تَحقيقُ الوعدِ باليُسرِ فيما شأنُه العُسرُ؛ لِحَثِّ الأزواجِ على امتثالِ ما أمَرَ اللهُ به الزَّوجَ مِنَ الإنفاقِ في مُدَّةِ العِدَّةِ، ومِنَ المراجَعةِ، وترْكِ مَنزلِه مِن أجْلِ سُكْناها إذا كانَ لا يَسَعُهما، وما أمَرَ به المرأةَ مِن تَربُّصِ أمَدِ العِدَّةِ، وعدَمِ الخروجِ، ونحوِ ذلك [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/324). .
2- قولُه تعالَى: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا
- قولُه: ذَلِكَ إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ مِنَ الأحكامِ، وما فيه مِن معْنى البُعْدِ مع قُرْبِ العهدِ بالمُشارِ إليه؛ للإيذانِ ببُعْدِ مَنزلتِه في الفَضلِ. وإفرادُ الكافِ مع أنَّ الخِطابَ للجمْعِ كما يُفصِحُ عنه قولُه: أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ؛ لِما أنَّها لمُجرَّدِ الفَرْقِ بيْنَ الحاضرِ والمُنْقَضِي، لا لتَعيُّنِ خُصوصيَّةِ المُخاطَبينَ [195] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/262). .
- قولُه: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ كِنايةٌ عن الحثِّ على التَّهَمُّمِ برِعايةِ حُكْمِ اللهِ وما شرَعَه، والعَملِ به، وبَعْثِ النَّاسِ على التَّنافُسِ في العِلمِ به؛ إذْ قَدِ اعْتَنى اللهُ بالنَّاسِ؛ حيثُ أنزَلَ إليهم ما فيه صلاحُهم [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/324). .
- وفي قولِه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا أُعِيدَ التَّحريضُ على العَملِ بما أمَرَ اللهُ بالوعدِ بما هو أعظَمُ مِنَ الأرزاقِ، وتَفريجِ الكُرَبِ، وتَيسيرِ الصُّعوباتِ في الدُّنيا، وذلك هو تَكفيرٌ للسَّيِّئاتِ، وتَوفيرٌ للأُجورِ، والجُملةُ مَعطوفةٌ على الجُملةِ المُعترِضةِ؛ فلها حكْمُ الاعتراضِ [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (28/324، 325). .
- لَمَّا كانَ الكلامُ في أمْرِ المُطلَّقاتِ وأحكامِهنَّ مِنَ العِدَدِ وغيرِها، وكُنَّ لا يُطلِّقُهنَّ أزواجُهنَّ إلَّا عن بُغضٍ لهُنَّ وكَراهةٍ؛ جاءَ عَقِيبَ بَعضِ الجُمَلِ الأمرُ بالتَّقوى مِن حيثُ المعنى، مُبرَزًا في صُورةِ شَرْطٍ وجَزاءٍ في قولِه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ؛ إذِ الزَّوجُ المُطلِّقُ قد يَنسُبُ إلى مُطلَّقتِه بعضَ ما يَشِينُها به، ويُنفِّرُ الخُطَّابَ عنها، ويُوهِمُ أنَّه إنَّما فارَقَها لأمرٍ ظهَرَ له منها؛ فلذلكَ تَكرَّرَ قولُه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في العمَلِ بما أنْزَلَه مِن هذِه الأحكامِ، وحافَظَ على الحُقوقِ الواجبةِ عليه مِن ترْكِ الضِّرارِ والنَّفقةِ على المُعتدَّاتِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا يلزمُه؛ يُرتِّبْ له تَكفيرَ السَّيِّئاتِ، وإعظامَ الأجرِ [198] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/201). .