موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (225 - 232)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات:

بِاللَّغْوِ: اللغو: هو ما يَجري في الكلامِ على غيرِ عَقْد ولا قصْد، ويُعبَّر باللَّغو أيضًا عن الباطِلِ من الكلام [2073] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 85)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 401)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 249). .
يُؤْلُونَ: يَحلِفون- من الأَلية، وهي اليَمين [2074] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 85)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 529)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 33)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 108). .
تَرَبُّصُ: التَّرَبُّص: الانتِظار والتَّمكُّث [2075] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/477)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 108). .
فَاؤُوا: أي: رجَعوا إلى جِماعِ نِسائهم [2076] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 86)، ((تذكرة الأريب))لابن الجوزي (ص: 33)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 108). .
قُرُوءٍ: جمع قُرء، وهو الطُّهر- عند أهل الْحجاز- والحَيْض- عند أهل العرَاق- وهو من الأضدادِ [2077] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 86)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 381)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 109). .
وَبُعُولَتُهُنَّ: أزواجهنَّ، جمْع بَعْل، وبَعْل المَرْأةِ زَوجُها [2078] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 122)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/264)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 110). .
تَسْرِيحٌ: التسريح: ما يدلُّ على الانطلاق؛ يقال: أمْر سريح، إذا لم يكُن فيه تعويقٌ ولا مطل [2079] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/157)، ((المفردات)) للراغب (ص: 406). .
افْتَدَتْ بِهِ: بذَلتِ الشيءَ لزوجِها عن نفْسِها، وأصل (فدي): جَعْلُ شَيْءٍ مكانَ شَيْءٍ حِمًى له [2080] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/483)، ((المفردات)) للراغب (ص: 627)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 391). .
أَجَلَهُنَّ: الأجَل: غايةُ الوقت، في الموتِ وغيرِه؛ ومنه: انقضاءُ العِدَّة [2081] يُنظر: ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 406)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 111). .
تَعْضُلُوهُنَّ: العَضْل: الحبْس والمنع؛ يقال: عضَل الرجل أيِّمَه؛ إذا منعَها من التَّزويج [2082] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 88) ، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/346)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 34)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 110). .

المعنى الإجمالي:

نفى الله تعالى أن يُوقع عقوبةً على عبادِه- سواء كانت دنيويَّة أو أخرويَّة- بسبب ما يجري على ألسنتهم من الحلف على أمور معتادة، دون أن يقصدوا عقد اليمين عليها، ولا على ما يحلفون عليه جازمين بصدقه أو تحقُّق وقوعه، ثمَّ لا يكون الأمر موافقًا لما اعتقدوه، لكنَّ العقوبة على مَن قصد بقلبه الحلِف كاذبًا، وأمَّا مَن حلف ثم حنث في يمينه، فإنَّ عليه حينها أن يُكفِّر عن يمينه في الدُّنيا، وإلَّا فإنَّه معرَّض للعقوبة الأخروية. والله غفور؛ يستر على عباده ما وقع منهم من لغوٍ في أيمانهم، فلا يؤاخذهم بها، حليمٌ؛ فلا يعاجلهم بعقوبة بسبب تقصيرهم في التأدُّب معه بلغوهم في الأيمان، ولا يغضب عليهم لغفلتهم عنه في ذلك.
ثم بيَّن الله تعالى حُكم الإيلاء -وهو أن يحلِف الزوج على ألَّا يجامع زوجتَه- فإن أقصى مدة يحق له فيها الامتناع عن جماعها هي أربعة أشهر فإنْ رجع لجماعِها قبل انتهاء الأربعة الأشهر، أو فور انتهائها فإنَّ له ذلك، والله يغفر له إثمَ حرمان زوجته من الوطء تلك المدة، ورحيم به إذ أبقى له امرأته، ولم يفرض عليه كفارةً كسائر الأيمان. وإن قصد الطلاق عازمًا عليه فليبادرْ به فورًا، ولا يقصد الإضرار بها بتعليقها؛ فإنَّ الله سميع عليم، فيسمع طلاقها منه، ويعلم ما في قلبه من قصد، لا يخفى عليه شيء جلَّ وعلا.
ثم أَخبَر تعالى أنَّ على مَن طُلِّقت مِن النِّساء الحرائر المدخول بهنَّ إذا كنَّ ذوات حيض، ولسنَ بذات حمْل، ألَّا يسارعنَ إلى الزواج، بل ينتظرنَ مدة ثلاثة قروءٍ، والقرء (الطُّهر، أو الحيض)، ويحرم على المطلَّقات أن يخفين حيضهنَّ أو حملهنَّ؛ لِما يترتب على إخفائهما من مفاسد كثيرة، فإنَّ هذا الكتمان لا يصدر إلَّا ممَّن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وأزواجُهنَّ أولى بإرجاعهنَّ إنْ قصدوا إحداثَ ألفةٍ ومودَّةٍ بينهم، ما دمنَ في عدتهنَّ؛ سواء في حال تربُّصِهن ثلاثة قروءٍ، أو في أيام الحمل إن كانت الزوجة حاملًا، وهذا في حق مَن كان طلاقها رجعيًّا.
ثم أَخبَر تعالى أنَّ للزوجات عمومًا- مطلَّقات وغير مطلَّقات- حقوقًا، وعلى أزواجهنَّ القيام بها، فعليهنَّ حقوقٌ تجاه أزواجهنَّ، وعلى كِلا الطرفين القيام بما عليه من الحقوق بما جرَت به العادة، من غير ظلم ولا مخالفة لأمْر الله تعالى، ولأزواجهنَّ عليهنَّ زيادة في الحقوق؛ لِمَا للرَّجُل من فضلٍ على المرأة. والله تعالى ذو الغلبة التامَّة والقهر، ومن تمام غلبته وقهره انتقامه ممَّن خالف العمل بما شرَعه من الأحكام السابقة، حكيمٌ فيما شرَع وقدَّر.
ثم أخبر تعالى أنَّ للطلاق الذي يحلُّ للزوج إرجاع زوجته بعده حدًّا معينًا، وهو مرتان، فإذا طلَّق الرجل امرأته فإنَّه يُخيَّر ما دامت في العدَّة بأن يردَّها لعصمته ويعاشرها بما جرت به عادة النَّاس بلا ظلمٍ لها، أو يتركها حتى تنقضي عدَّتها، ويُطلِق سراحها محسنًا إليها دون أن يضرَّ بها. وإن اختار الطلاق فلا يحلُّ له أن يأخذ ممَّا أعطاها شيئًا، سواء كان مهرًا أو غيره، إلا عند الخوف -سواء من الزوجين أو أوليائهما- من عدم قيام أحد الزوجين بما له من حقوق تجاه الآخر، فلها حينئذٍ أن تخالعه، بأن تطلب منه مفارقتها مقابل عِوَض تُقدِّمه له، ولا حرجَ عليهما في ذلك، لا في دفعها له، ولا في قَبوله وأخْذه. وتلك الأحكام التي تقدَّمت هي من حدود الله، ومنهيٌّ عن تجاوز ما حدَّه الله تعالى، وقد عرَّفه وبيَّنه، ومَن تجاوزها فهو ظالمٌ حقيقةً، وذلكَ بفعله ما لا ينبغي له أن يفعله.
فإذا طلَّق الرجلُ زوجتَه الطلقةَ الثالثة فإنَّها تحرُمُ عليه، وليس بإمكانه إرجاعُها إلا إذا تزوَّجت برجل آخر، ووقع بينهما جماع، فإذا طلقها الزوج الثاني وانقضت عدَّتها، فلا حرَجَ أن يُعِيدها الزَّوجُ الأوَّل إلى عِصمتِه بعقدِ نكاحٍ جديدٍ، بشَرْط أن يتيقَّنا أو يغلب على ظنِّهما أن تكون عشرتهما الجديدة بالمعروف، وأن يقوم كلٌّ منهما بما عليه من حقوقٍ تُجاه الآخَر. وما تقدَّم ذِكرُه من أحكام، من جملة شرائع الله تعالى التي يُوضِّحها لمن تَحَلَّوا بالعلم؛ لأنَّهم هم الذين يفهمونه فهمًا صحيحًا فينتفعون، وينفعون به غيرهم.
وإذا طلقتم- أيُّها الرجالُ- نِساءَكم طلاقًا رجعيًّا، فأوشكتْ عِدَّتهنَّ على الانقضاء، فإمَّا أن تُرجعوهنَّ إلى عِصمة النِّكاح عازمين القيامَ بحقوقهنَّ، أو تتركونهنَّ بلا رجعة ولا إضرار بهنَّ، حتى تنتهي عدتهنَّ، وقد نَهَى الله تعالى عن الإضرار بالنِّساءِ بأن يراجعوهنَّ عند اقترابِ انتهاء العِدَّة؛ لئلَّا يتزوَّجنَ غيرهم، أو لإطالة مدَّة العدَّة، أو لابتغاء طلب الخُلْع حتى يفتدينَ أنفسهنَّ؛ فيتجاوز هؤلاء الرِّجال بفعلِهم هذا، الحلال إلى الحرام، ومَن يفعل ذلك فقد أساء إلى نفسه، فالضرر عائدٌ إليه، لكسبِه بسببِ ذلك الإثمَ، واستحقاقه لعقوبة الله.
ثمَّ نهى سبحانه عن اتِّخاذ ما أنزله في كتابه من الأحكام موضعًا للسُّخرية واللعب والاستهزاء، وأمَر عباده أن يذكروا نعمَهُ التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى عليهم، ومنها ما أوحاه الله عزَّ وجلَّ إلى نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، وهذا شامل لكتاب الله عزَّ وجلَّ، ولسنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّمَ المشتملة على الحكمة، فيُذكِّرهم الله تعالى وينصحهم بما أنزله فيهما ترغيبًا أو ترهيبًا. وأمرهم جلَّ وعلا بتقواه بأن يفعلوا ما أمرهم به، ويجتنبوا ما نهاهم عنه، ولْيتيقنوا أنَّ الله محيط بكلِّ شيء علمً،ا لا يخفى عليه شيء.
ثم نهى اللهُ تعالى أولياءَ النِّساء أن يُضيِّقوا عليهنَّ، بمنعهنَّ من الرجوع إلى أزواجهنَّ الذين طلقوهنَّ طلاقًا رجعيًّا، في حال ما إذا أراد الأزواج إرجاعهنَّ ورضيت المرأة بذلك، ووقع التراضي على المعاشرة بينهما بالمعروف، وهذا النهي يُذكَّرُ ويُزجر به مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر. وامتثالُ حُكم الله في ردِّ الأولياءِ النِّساءَ إلى أزواجهنَّ وعدم عضلهنَّ هو أفضلُ عند الله، وأطهرُ لقلوبهم من الآثامِ والعَدَاوات والرِّيبة، كما أنَّه أطهرُ للأعراض، والله يعلمُ بما يَنفع عبادَه في الدنيا والآخرة، وأمَّا العباد فلا يعلمون أينَ يكون الخير، إلَّا ما علَّمهم الله تعالى؛ لذا يجب التسليمُ لشرعه سبحانه، وإنْ جاء على خلافِ أهوائهم.

تفسير الآيات:

 لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225).
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ.
أي: لا يُعاقب اللهُ تعالى عِبادَه- فلا تلزمهم كفَّارة في الدُّنيا ولا عقوبة تحلُّ بهم في الآخرة- لِما يَجري على ألسنتهم من الحَلِف على أمورٍ معتادةٍ لديهم، دون قصدٍ منهم إلى عَقد اليمين عليها، وكذا ما يَحلِفون عليه جازمين بصِدقه أو تحقُّق وقوعه، ويكون الأمرُ في الحقيقة على خلاف ما اعتقدوه [2083] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/33-36)، ((تفسير ابن كثير)) (1/601)، ((تفسير السعدي)) (ص: 101)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/420-421). وممَّن نصَّ من السَّلَف على المعنى الأوَّل في كلمة اللَّغْو: عائشةُ -في أحد قوليها- وابنُ عمر، وابن عبَّاس - في أحد أقواله - والشَّعبي، وعِكْرمة - في أحد قوليه - وعَطاء، والقاسم بن محمَّد، وعُروة بن الزبير، وأبو قِلابة، والضَّحَّاك -في أحد قوليه - وأبو صالح، والزُّهري. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/14)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/408). وممَّن نصَّ على المعنى الثاني: عائشة - في أحد قوليها - وأبو هريرة، وابن عبَّاس - في أحد أقواله - وسُليمان بن يَسار، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد - في أحد قوليه - والحسن، وإبراهيم، وزُرارة بن أَوْفى، وأبو مالك، وعَطاء الخُراساني، وبَكْر بن عبد الله، وهو أحَد قولي عِكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسُّدِّي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقَتادة، والرَّبيع بن أنس، ويَحيى بن سعيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/19)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/408). .
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.
أي: إنَّ العقوبة تقعُ على مَن قصد بقلبِه تعمُّد الحلف بالله تعالى كاذبًا، وأما مَن حلف على شيءٍ ثم حنث في يمينه فعليه أن يُكفِّر عنها في الدنيا، فإن لم يفعل فهو مُعرَّضٌ كذلك للعقوبة في الآخرة [2084] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/41-42)، ((تفسير السعدي)) (ص: 101)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/96)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/93). ونقَل ابنُ جرير الإجماعَ على أنَّ معنى قوله: بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ: ما تعمَّدت. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/36). .
وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ.
أي: إنَّ الله تعالى يستُرُ على عِبادِه، ويتجاوزُ عنهم فيما لغَوا فيه من أَيْمان، فلا يُؤاخذهم بها في الدنيا بكفَّارةٍ، ولا في الآخرة بعقوبة، وكذا ما وجَبَ في الحِنث ببعضِ الأيمان من كفَّارة، جعَلَها الله تعالى مُغنِيةً عن عقوبة الآخرة. ولَمَّا كانت تلك الأيمانُ الواردةُ على سبيل اللَّغو من قبيل التقصيرِ في الأدبِ مع الله تعالى، جاءَ اقترانُ وصف الله عزَّ وجلَّ بمغفرة الذنوب مع وصفه بالحِلم؛ إذ لم يُعاجِلهم بعقوبة؛ جرَّاءَ تقصيرِهم في التأدُّب معه، أو يغضب لغفلتهم عنه في ذلك [2085] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/42)، ((تفسير السعدي)) (ص: 101)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/384). .
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا بيَّن الله تعالى حُكم مُطلَق اليَمين في الآية السَّابقة ذَكَر بعده الإيلاءَ؛ لأنَّه حَلِفٌ مقيَّدٌ، فقدَّم المطلَق وأعقبه بالمقيَّد [2086] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/289). ، فقال تعالى:
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ.
أي: إنَّ مَن حلف ألَّا يجامع زوجته أكثر مِن أربعة أشهرٍ، فإنَّ أقصى ما يُمكنه انتظارُه أربعة أشهر دونَ جِماعِها [2087] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/42، 43، 51)، ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (33/51-52)، ((تفسير ابن كثير)) (1/604)، ((تفسير السعدي)) (ص: 101). قال السعدي: (هذا من الأيْمان الخاصَّة بالزوجة، في أمرٍ خاص وهو حلف الزوج على ترْك وطء زوجته مطلقًا، أو مقيدًا، بأقلَّ من أربعة أشهر أو أكثر. فمَن آلى من زوجته خاصَّة، فإنْ كان لدون أربعة أشهر، فهذا مثل سائر الأَيْمان، إنْ حنَثَ كفَّر، وإن أتمَّ يمينه، فلا شيء عليه، وليس لزوجته عليه سبيل؛ لأنَّه ملكه أربعة أشهر. وإن كان أبدًا، أو مدةً تزيد على أربعة أشهر، ضُربت له مدة أربعة أشهرٍ من يمينه، إذا طلبت زوجته ذلك، لأنه حقٌّ لها، فإذا تمت أُمر بالفيئة وهو الوطء، فإن وطئ، فلا شيء عليه إلا كفارة اليمين، وإن امتنع، أُجبر على الطلاق، فإن امتنع، طلق عليه الحاكم ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته، أحبُّ إلى الله تعالى) ((تفسير السعدي)) (ص: 101). .
فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: إنْ رجع الزَّوج إلى زوجته فجامعها، فسواء وقع ذلك قبل انتهاء الأربعة أشهر أو فور انتهائها، فإنَّ له ذلك، ويغفر الله تعالى له حرمان امرأته من الوطء تلك المدَّة، فمغفرته سبحانه تُوجِب رفْعَ الإثم عنه، ورحمته عزَّ وجلَّ تُوجِب له بقاء امرأته، وأن تُفرَض عليه الكفَّارة، كما هي الحال في سائر الأيمان التي يُحنَث بها، والجزاءُ من جِنس العمل؛ فكما عاد إلى إرضاءِ زوجتِه، والإحسانِ إليها، عادَ اللهُ تعالى عليه بمغفرتِه ورحمتِه [2088] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/51، 52، 60، 63)، ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (33/51-52)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 173)، ((تفسير ابن كثير)) (1/604)، ((تفسير السعدي)) (ص: 101). .
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كان الحالُ في مدَّة الإيلاء شبيهًا بحال الطَّلاق، وليسَا سواءً، قال سبحانه مبيِّنًا أنَّ الطلاق لا يقعُ بمجرَّد مُضِيِّ الأربعة الأشهر، بل إمَّا أن يَفيء أو يُطلِّق، فإنْ أبى طلَّق عليه الحاكم، فقال سبحانه [2089] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/292). :
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227).
أي: خيَّر الله تعالى المُولِي من زوجته بين شيئيْن: إمَّا أن يفيء إليها وإما أن يطلِّقها. ولَمَّا كان الرُّجوع إليها، أحبَّ إلى الله تعالى، بدأ به، فإذا قصد الزَّوج طلاقَها بعزمٍ تامٍّ، أي: بعد تأمُّلٍ فيه، واستقرار رأيه على مفارقة امرأته، فإنَّه يجب عليه أن يُطلِّقها مباشرةً، ولْيعلم أنَّ الله تعالى يسمع طلاقه حين يُطلِّق، وأنه مطَّلعٌ على ما في قلبه، فلْيحذر من المخادعة والتلاعب بأمر الله تعالى، بإرادة تعليقها والإضرار بها؛ فإنَّ الله تعالى لا يَخفى عليه شيءٌ، وسيُجازي عباده بأعمالهم، وليس منه مهربٌ جلَّ وعلا [2090] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/86-87)، ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (33/52)، ((جلاء الأفهام)) لابن القيم (ص: 173)، ((تفسير ابن كثير)) (1/605)، ((تفسير السعدي)) (ص: 101)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/386)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/96). .
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ختَم الله تعالى آيتَي الإيلاء بالطَّلاق بيَّن عِدَّته، فقال تعالى [2091] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/294). :
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ.
أي: إنَّ النِّساء الحرائر المدخول بهنَّ إذا كنَّ ذوات حيض وطهرٍ، ولسن بحوامل، وطلقهنَّ أزواجُهنَّ، فعليهنَّ ألَّا يعجلْنَ إلى الزواج، بل يحبسنَ أنفسهنَّ عنه مدَّة ثلاثة قروء. والقُرء قيل: هو الطُّهر، وقيل: هو الحيض [2092] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/87، 100-104)، ((جامع المسائل)) لابن تيميَّة (1/257)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (5/532)، ((تفسير ابن كثير)) (1/606)، ((تفسير السعدي)) (ص: 101)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/96-98)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/389-392)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/98-99). وممَّن قال من السَّلَف: إنَّ القرء هو الطُّهر: عائشة، وزيد بن ثابت، وابن عمر، وابن عبَّاس، وسالم ابن عبد الله، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزُّبير، وسليمان بن يَسار، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعطاء بن أبي رَباح، وقَتادة، والزُّهري، وأَبَان بن عثمان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/95)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/414). وممَّن قال من السَّلف: إنَّ القُرء هو الحيض: عمرُ بن الخطَّاب، وعثمان، وعليٌّ، وعبد الله بن مسعود، وابن عبَّاس في-رواية أخرى عنه-وأبو الدرداء، وعُبادة بن الصَّامت، وأبو موسى، وعمرو بن دينار عن أصحاب رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وسعيد بن جُبَير، ومجاهد، والحسن، وعِكْرمة، والشَّعبي، وقَتادة-في إحدى الرِّوايات-والرَّبيع بن أنس، ومقاتل بن حَيَّان، والسُّدِّي، وعطاء الخُراساني، والضَّحَّاك، وإبراهيم. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/87)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/415). ولكن ينصُّ بعضهم على انتهاء المُدَّة بالحيض فحسبُ، وبعضهم يقول: بانقطاع الدَّم، وبعضهم يقول: حتى تغتسل. .
وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: الذي نُهيَت المرأةُ المطلَّقة عن كتمانِه مِن مُطلِّقها ممَّا خلَق الله في رحِمها: الحيض، والحمل؛ فكتمان ذلك، يقود إلى شرور كثيرة؛ فإنَّها إذا كتمت حملها، أدَّى ذلك إلى إلحاق الجنين بغير مَن هو له، رغبة فيه، أو استعجالًا لانقضاء العدَّة، فإذا ألحقته بغير أبيه، حصلَتْ مفاسدُ أخرى كقطْع الرَّحِم، والإرث، واحتجاب محارمِه عنه، وربَّما يتزوَّج ذواتِ محارمه، وغير ذلك من المفاسِد. وكتمانُ الحيض، يكون بإخبارِها كذبًا بوجوده، وهذا يؤدِّي إلى انقطاع حق الزَّوج عنها، وإباحتِها لغيره ويتفرَّعُ عن ذلك من الشُّرور مثلُ ما سبَق، أو يكون بإخبارِها كذبًا بعدم وجود الحيض؛ كي تطول العِدَّة، فتأخذ منه نفقةً غير واجبة عليه، وقد يُراجعها مُطلِّقُها بعد انقضاء العِدَّة، فيكون ذلك زنًا؛ لأنَّها لا تحلُّ له في هذه الحال؛ فنهاهنَّ الله عزَّ وجلَّ عن كتمانِ الحيض والحمْل، فهذا فِعلُ مَن لا يؤمن بالله، ولا باليوم الآخِر، ولا من أخلاقه، وفي هذا تهديدٌ لهنَّ على قول خلاف الحقِّ، فمَن آمَنت بالله تعالى واليوم الآخِر، وعرَفت أنَّها مجزيَّةٌ عن أعمالها، لم يصدُر عنها شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ الإيمان بهما يحمِل الإنسان على فعل المأمورات، واجتناب المحظورات [2093] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/112-114)، ((تفسير ابن كثير)) (1/609)، ((تفسير السعدي)) (ص: 101-102)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/99-100). وممَّن قال من السَّلَف: إنَّ المنهيَّ عن كِتمانه هو الحَمْل والحيض: ابنُ عُمر، وابن عبَّاس، والشَّعبي، والحَكم بن عُتيبة، ومجاهد، والرَّبيع بن أنس، والضَّحَّاك، وابن زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/107)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/415). .
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا.
أي: إنَّ زوج المطلَّقة أحقُّ وأولى بإرجاعها إلى عصمتِه، ما دامتْ في عِدَّتها، أي: حال تربُّصها ثلاثة قروء، أو في أيَّام حملها إن كانت حاملًا، إذا قصد برجعتِها أن يُحدِث ائتلافًا والتئامًا بينه وبينها. (وهذا في المطلَّقة طلاقًا رجعيًّا، أمَّا البائن فلا رجعةَ له عليها) [2094] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/115، 118)، ((تفسير ابن كثير)) (1/609)، ((تفسير السعدي)) (ص: 102)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/102-103). وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ يعني في عِدَّتهن، وهذا ما لا خِلافَ فيه بين العُلماء أنَّه عُني به العِدة) ((الاستذكار)) (5/520). .
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ.
أي: إنَّ للزَّوجاتِ- سواء كنَّ مُمْسَكات أو مُطلَّقات- حقوقًا، وعلى أزواجهنَّ القيام بها تجاههنَّ، مثلما أنَّ عليهن تُجاه أزواجهن حقوقًا أيضًا، والقيام بها من قِبل الطرفين يكون بما جرت به العادة، من غير وقوع ظلمٍ، أو مخالفةٍ لأمر الله تعالى، ولكنْ للرِّجال عليهن زيادة في الحقوق لِمَا للرجل من فضلٍ على المرأة؛ بسبب الإنفاق عليها وغير ذلك [2095] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/120-124)، ((تفسير ابن كثير)) (1/609-610)، ((تفسير السعدي)) (ص: 102)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/103-104)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/100). .
وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
بعد أنْ بيَّن الله تعالى بعض أحكامه، بيَّن أنَّ له الغلبة التامَّة والقهر، ومن ذلك انتقامه ممَّن خالف العمل بتلك الأحكام، وهو سبحانه حكيمٌ فيما شرع وقدَّر، إذ يضع كلَّ شيءٍ في موضعه اللَّائق به [2096] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/124-125)، ((تفسير ابن كثير)) (1/610)، ((تفسير السعدي)) (ص: 102)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/100-101). .
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر اللهُ تعالى حقَّ الرجعة الذي يُمكن الزَّوجَ، ذَكَر بعدَه غايةَ الطَّلاق الذي يملكُه الزوجُ من امرأته [2097] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/403). ، فقال سبحانه:
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.
أي: إنَّ عدد الطَّلَقات التي يحلُّ للزَّوج بعدها رجعة زوجته، مرَّتان، فإذا طلق الرَّجُل زوجته، فإنَّه يُخيَّر بين أمريْن ما دامت عدَّتها باقية، إما أن يردَّها إليه ويعاشرها بما جرت به عادة النَّاس من غير ظلمٍ لها، وإمَّا أن يتركها حتى تنقضي عدَّتها، ويُطلِق سراحها محسنًا إليها، دون أن يظلمها أو يضارَّ بها [2098] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/129-134)، ((تفسير ابن كثير)) (1/610-612)، ((تفسير السعدي)) (ص: 102)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/104-105)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/108). .
وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: يَخَافَا قراءتان:
1- يُخَافَا بالبناء للمفعول، وتعني: أنَّ الخوف صادرٌ من غيرهما [2099] قرأَ بها أبو جعفر، ويعقوب، وحمزةُ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 156). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 135). .
2- يَخَافَا بالبِناء للفاعل، وتعني: أنَّ الخوف صادرٌ من الزوجين [2100] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 156). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 135). .
وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
أي: إنَّه لا يحِلُّ لكم- أيُّها الرِّجال- إذا أردتم طلاق زَوجاتكم أنْ تأخذوا ممَّا أعطيتموهنَّ شيئًا من المهر أو غيره، إلَّا في حالة واحدة وهي أن يَخشَى الزَّوجانِ، أو أولياؤهما كأقاربهما، من عدمِ قِيام كلِّ واحدٍ منهما بما له على الآخَر من حقوق، وذلك كأنْ تُبغِضَ الزوجةُ زوجَها، ولا تَقدِرَ على مُعاشرتِه؛ لسوء خُلُقه، أو لغير ذلك من أسباب، فتَخشى هي أو غيرها من عدم القيام بحقوق زوجها على الوجه المأمورِ به شرعًا، ويخشى الزَّوج أو غيره من عدم القيام بحقوق زوجته؛ بسبب نُفورِها منه، وبُغضها له، أو تَقصيرِها نتيجةَ ذلك في حقوقه- فلها حينئذٍ أن تُخالعه، أي: تطلُب منه فراقَها مُقابلَ عِوَض تُقدِّمه له، ولا حرجَ عليها في دفْعه، ولا حرجَ عليه في قَبوله وأخْذه [2101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/134-137، 146-147، 162-163)، ((تفسير ابن كثير)) (1/612-613)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/336)، ((تفسير السعدي)) (ص: 102)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/141-142)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/108-109). .
تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّ ما تقدَّم من الأحكام التي شرَعها الله تعالى لعباده، فعرَّفها لهم، وبيَّنها، قد أمرهم سبحانه بالوقوف عندها، وعدم تجاوزها إلى نواهيه، فإنَّ مَن تخطَّى أمره ووقع في نهيه، فإنَّه هو الظالِم حقيقةً؛ إذ فَعَل ما لا ينبغي له فعلُه، وتعامل مع أوامر الله عزَّ وجلَّ بما لا تستحقُّه [2102] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/164)، ((تفسير ابن كثير)) (1/621)، ((تفسير السعدي)) (ص: 102)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/109). .
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا كانت الرَّجعةُ والخُلع لا يصحَّانِ إلَّا قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها فلا يبقى شيءٌ من ذلك، ذكَر الله حُكم الرَّجعة، ثم أتْبعه بحُكم الخُلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حُكمَ الطلقة الثالثة؛ لأنَّها كالخاتمة لهذا الأمر، فقال تعالى [2103] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (6/448). :
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ.
أي: إذا طلَّق الرَّجُل امرأتَه الطلقة الثالثة، فإنَّها تحرُم عليه، وليس في مقدوره إرجاعُها، إلَّا أنَّها لو تزوَّجت بآخر، بعقدِ نكاحٍ صحيح، وجامعها الزوج الثاني، وكان هذا الزواج واقعًا عن رغبةٍ حقيقية، لا بقصد تحليل المرأة إلى زوجها الأوَّل، فلو طلَّقها زوجُها الثاني وانقضَتْ عِدَّتها، فلا حرجَ حينئذٍ أن يُنشِئَا- الزَّوج الأوَّل والمرأة- عَقْدَ نِكاحٍ جديدًا بينهما، شريطةَ أن يُوقِنا أو يغلب على ظنِّهما أن يتعاشرَا بالمعروف، وأن يقوم كلٌّ منهما بحقوق الآخَر كما ينبغي [2104] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 171)، ((تفسير ابن كثير)) (1/621-629)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/133-134)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/116). قال ابنُ عطيَّة: (قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الآية، المعنى: إنْ طلَّقها المتزوِّج الثاني فلا جُناحَ عليهما، أي: المرأة والزوج الأوَّل؛ قاله ابن عبَّاس، ولا خِلافَ فيه) ((تفسير ابن عطية)) (1/309). وقال القرطبيُّ: (المراد بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا الطلقةَ الثالثة، فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ. وهذا مُجمَعٌ عليه لا خِلافَ فيه) ((تفسير القرطبي)) (3/147). قال ابنُ جرير: (فمعلوم أنَّ تأويل قوله: فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230] نكاحًا صحيحًا، ثم يجامعها فيه، ثم يُطلِّقها. فإنْ قال: فإنَّ ذِكر الجِماع غيرُ موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدَّلالة على أنَّ معناه ما قلت؟ قيل: الدَّلالة على ذلك إجماع الأمَّة جميعًا على أنَّ ذلك معناه) ((تفسير ابن جرير)) (4/169). .
عن عائشة رضي الله عنها: ((أنَّ رِفاعَةَ القُرَظِيَّ طلَّق امرأتَه فبَتَّ طلاقَها، فتزوَّجَها بعدَه عبدُ الرحمنِ بنُ الزَّبِيرِ، فجاءتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقالتْ: يا رسولَ اللهِ، إنها كانتْ عِندَ رِفاعَةَ فطلَّقها آخرَ ثلاثَ تطليقاتٍ، فتزوَّجها بعدَه عبدُ الرحمنِ بنُ الزَّبِيرِ، وإنَّه واللهِ ما معَه يا رسولَ اللهِ إلَّا مثلُ هذه الهُدبَةِ [2105] الهُدْبة: طَرَف الثَّوب ممَّا يلي طُرَّتَه، وأرادتْ بقولها: ((ما معه مِثلُ هُدبة الثَّوب)) مَتاعَه - أي: ذَكَره- وأنَّه رخوٌ مثل طرَف الثَّوب، لا يُغني عنها شيئًا. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/249). ، لهُدبَةٍ أخذَتْها من جِلبابِها، قال: وأبو بكرٍ جالسٌ عِندَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وابنُ سعيدِ بنِ العاصِ جالسٌ ببابِ الحُجرةِ ليُؤذَنَ له، فطَفِقَ خالدٌ يُنادي أبا بكرٍ: يا أبا بكرٍ، ألا تَزجُرُ هذه عمَّا تَجهَرُ به عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ وما يَزيدُ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على التَبَسُّمِ، ثم قال: لعلكِ تُريدينَ أن تَرجِعي إلى رِفاعَةَ، لا، حتى تَذوقي عُسَيلَتَهُ ويَذوقَ عُسَيلَتَكِ )) [2106] رواه البخاري (6084) واللفظ له، ومسلم (1433). .
وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
لَمَّا بيَّن الله عزَّ وجلَّ تلك الأحكام العظيمة، أشار إلى أنَّها من جُملة شرائعه التي يُوضِّحها توضيحًا كاملًا لمَن كان العلم سجيَّتَهم؛ إذ يملكون الاستعدادَ لفَهمه وقَبوله، فيفهمون الأحكام فهمًا صحيحًا يقودُهم للعمل بها كما ينبغي دون تحيُّل، فينتفعون بها وينفعون غيرهم [2107] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/629)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/420-421)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/116). .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231).
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
جاءتْ هذه الآية عطفًا على قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا... الآية، عطفَ حُكمٍ على حُكم؛ لقصدِ زيادة الوصاةِ بحُسن المعاملة في الاجتماع والفرقة، وما يتبع ذلك من تحذير، فقال تعالى [2108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/421). :
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ.
أي: إذا طلَّقتم- أيُّها الرِّجال- نِساءَكم، طلاقًا لكم عليهنَّ فيه رجعةٌ- وذلك في التطليقة الواحدة، والتطليقتين- فقاربْنَ انقضاء عدتهنَّ، وأشرفْنَ على بلوغ أجلهن، فإما أن ترجعوهنَّ إلى عصمة النكاح بإشهادٍ على الرَّجعة، والتزامٍ بحُسن الصُّحبة، وطِيب العِشرة بما يتعارف عليه النَّاس، دون إخلالٍ بمأمور، أو وقوعٍ في محظور، أو اتركوهنَّ يَقضين تمام عدتهنَّ، ثم فارِقوهنَّ وأوفوهنَّ تمام حقوقهنَّ عليكم من مهرٍ ومتعةٍ ونفقةٍ، وغير ذلك، من غير مخاصمةٍ، ولا شقاقٍ، ولا إضرار [2109] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/178-179)، ((تفسير ابن كثير)) (1/629)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/149). وقال القرطبيُّ: (قوله تعالى: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ معنى بَلَغْنَ قارَبْن، بإجماعٍ من العلماء) ((تفسير القرطبي)) (3/155). .
وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.
أي: لا يكُن إرجاعُكم لنسائكم مع قُرب انقضاء عِدَّتهن لأجْل المضارَّة بهنَّ؛ لئلَّا يتزوَّجْنَ بغيركم، أو لتطوِّلوا عليهنَّ مدَّة العِدَّة، أو لدفعها إلى ابتغاء طلب الخُلع منكم؛ كي تنالوا منهنَّ فدية في سبيل الخَلاص منكم، فكلُّ ذلك تجاوزٌ لما أمر الله تعالى به من إمساكهنَّ بمعروفٍ أو مفارقتهنَّ بإحسان، ومَن يَقُمْ بتلك الاعتداءات، فالضررُ عائدٌ عليه حقًّا، فبذلك يُكسب نفسه آثامًا، ويستحقُّ عقاب الله تعالى [2110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/178-183)، ((تفسير ابن كثير)) (1/629)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/103، 149). قال ابنُ أبي حاتم: (عن مجاهد يَعني قوله: ولا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا نَهى عن الضِّرار، والضرار في الطلاق: أن يُطلِّق الرجلُ المرأة، ويراجعها ثلاثَ مرَّات عند آخِر يوم يبقَى من الأجَل، حتى يفِي لها تسعةَ أشهر، يضارُّها. قال أبو محمَّد: ورُوي عن مسروق، وقَتادة، والحسن، ومقاتل بن حَيَّان، والرَّبيع بن أنس، والسُّدِّي، نحوُ ذلك. قال أبو محمَّد: ورُوي عن الضَّحَّاك، والرَّبيع بن أنس نحوُه، غير أنَّهما قالا: راجعَها؛ رجاءَ أن تختلعَ منه بمالها) ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/425). .
وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا.
أي: لا تَجعلوا ما أَنزل اللهُ تعالى لكم في كتابه، من تلك الأحكام العِظام، في موضع السُّخرية والاستهزاء واللَّعب بها، بحيث تتركون العمل بها تجرُّؤًا واستخفافًا؛ فالله تعالى لم يُنزلها عبثًا، بل أنزلها بالحقِّ والصِّدق؛ لأجْل العمل على وَفْقها [2111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/183-184)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (1/124). .
وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ.
أي: اذكروا نِعَم الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى عليكم، ومن ذلك نِعمة الإسلام وما يَحويه من أحكامٍ عِظام، فيها ما يدعو الزَّوجين لتجديد الوئام، أو المفارقة الحَسَنة بعد تَعذُّر الالتئام، فاذكروه سبحانه باللِّسان حمدًا وشكرًا، وبالقلب اعترافًا وتفكُّرًا، وبالجوارح سعيًا وعملًا، ومن تلك النِّعم ما أنزله الله تعالى من الوحي إلى نبيِّه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وهذا يَشمل كتابَ الله عزَّ وجلَّ، وسُنَّةَ رسوله عليه الصَّلاة والسلام المشتملة على الحِكمة، ومن ذلك ما فيها من ترغيبٍ وترهيب، والله تعالى يُذكِّركم ويَنصحُكم بما أنزله، إمَّا ترغيبًا بما يُليِّن قلوبَكم للخير، وإمَّا ترهيبًا بما يحذِّركم ويزجركم عن الشرِّ [2112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/185-186)، ((تفسير ابن كثير)) (1/631)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/425)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/124-125). .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
أي: اتَّقوا الله عزَّ وجلَّ في جميع أموركم، بفعل أوامره واجتناب نواهيه، فالتزموا بأحكامه، ولا تتجاوزوا حدوده، وليكن معلومًا لديكم علمًا يقينيًّا أنَّ الله تعالى محيطٌ بكل شيء علمًا، لا يخفى عليه شيءٌ مطلقًا، فيعلم ما تأتون وما تذرون، ويُجازيكم على ذلك بحسَبه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، ومِن كمال عِلمِه سبحانه أيضًا أنْ شرَع تلك الأحكامَ التي هي في غاية الإحكام، وصالحة في كلِّ زمان ومكان [2113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/186)، ((تفسير ابن كثير)) (1/631)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/425)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/125).   .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232).
سبب النُّزول:
عن الحسن البصريِّ، أنَّه قال في قوله سبحانه: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ: حدَّثني مَعقِل بن يَسَار أنَّها نزلت فيه، قال: ((زوَّجت أختًا لي من رجل فطلَّقها، حتى إذا انقضت عِدَّتها جاء يَخطُبها، فقلت له: زوَّجتُك وفرشتُك وأكرمتُك، فطلقتَها، ثم جئتَ تخطبها، لا واللهِ لا تعود إليك أبدًا، وكان رجلًا لا بأس به، وكانت المرأة تُريد أن ترجِع إليه، فأنزل الله هذه الآية: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ فقلت: الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوَّجها إيَّاه )) [2114] رواه البخاري (5130). .
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ.
أي: وإذا طلَّق الرِّجال نساءَهم طلاقًا يمكن إرجاع الواحدة منهن فيه- وذلك في التطليقة الواحدة، والتطليقتين- فقاربْت عِدَّتُها على الانقضاء، وأراد الزوج إرجاعها، ورضيتْ هي بذلك، فحينئذٍ لا يجوزُ لوليِّها- ما دام قد وقَع بينهما التراضي على المعاشرة الحَسَنة، من غير وقوع منكرٍ شرعًا وعُرفًا- أن يُضيِّق عليها بمَنْعها من التزوُّج به؛ غضبًا ونفورًا منه؛ لتطليقِه لها [2115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/193-194)، ((تفسير ابن كثير)) (1/631)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/427)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/135-136). .
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
أي: إنَّ نهي الأولياءِ عن عَضْلهنَّ في تلك الحال، إنَّما يُوجَّه إلى مَن يَلين قلبه بالذِّكرى، ويخاف منزجرًا عن الوقوع في الحرام، وهم الذين يؤمنون بالله تعالى وبالدار الآخرة؛ لأنَّ الإيمان بهما يُحقِّقُ خشية الله تعالى، وخوف الحساب والجزاء، فهؤلاء هم الذين ينتفعون حقًّا بتلك الموعظة [2116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/196-197)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/340)، ((تفسير ابن كثير)) (1/632)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/136). .
ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ.
أي: اتِّباعُكم- يا أولياءَ النِّساءِ- شَرْعَ الله عزَّ وجلَّ في رَدِّهنَّ إلى أزواجهنَّ، وتَرْك عضلهنَّ، خيرٌ لكم وأفضلُ عند الله تعالى، وأطيبُ لنفوسكم، وأطهرُ لقلوبكم من الذُّنوب، ومن العداوات، ومن حصول الرِّيبة، وأطهرُ لعِرْضكم كذلك؛ لأنَّه إذا كان بين الزَّوجين حبٌّ ومودَّة، فقد يَتجاوزانِ ذلك إلى الوقوع في الحرام، وقد يَرتاب فيهما وليُّها وهُما بَريئانِ من ذلك [2117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/197-198)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/340)، ((تفسير ابن عطية)) (1/310)، ((تفسير ابن كثير)) (1/632)، ((تفسير السعدي)) (ص: 103-104)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/428)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/136). .
وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
أي: فلا تستغربوا أنْ أمركم الله عزَّ وجلَّ بخلاف ما جرت به عادتُكم من عضلهنَّ، بل امتثلوا أمْر مَن هو عالِمٌ بمصالحكم وما فيه خيركم ونقاؤكم وطُهركم في الدُّنيا والآخِرة، وذلك في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه، أمَّا أنتم- أيُّها العبادُ- فلا تعلمون أين الخِيَرة فيما تأتون وتتركون، إلَّا ما علَّمكم الله تعالى [2118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/198)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/340)، ((تفسير ابن كثير)) (1/632)، ((تفسير السعدي)) (ص: 104)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/428)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/137). .

الفوائد التربويَّة :

1- أنَّ للقلوب كسبًا، كما للجوارح؛ فأمَّا ما حدَّث به الإنسان نفسه دون اطمئنان إليه، فإنَّه لا يؤاخذ به؛ لأنَّه ليس بعمل، قال تعالى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [2119] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/94). .
2- أنَّ رجوع الإنسان عمَّا هو عليه من المعصية سببٌ للمغفرة؛ لقوله تعالى: فَإِنْ فَاؤُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [2120] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/97). .
3- أنَّه ينبغي تحذير المؤتَمن- الذي لا يَعلم بأمانتِه إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ- من عذاب اليوم الآخِر، إنْ هو لم يقُمْ بواجب الأمانة؛ لقوله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [2121] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/104). .
4- يُستفاد من قوله تعالى: وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ اعتبار المفاسد، وسلوك الأهون لدفع الأشدِّ؛ لأنَّ الأخذ من مال الزوجة محرَّم بلا شكٍّ؛ لكن إذا أريد به دفْع ما هو أعظم من تضييع حدود الله عزَّ وجلَّ، صار ذلك جائزًا [2122] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/113). .
5- الاكتفاء بالظنِّ في الأمور المستقبلة؛ لأنَّ طلب اليقين في المستقبل من باب التكليف بما لا يُطاق؛ لقوله تعالى: إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ؛ وقد قال الله- تبارك وتعالى -: رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة: 286] ، فقال: ((قد فعلتُ )) كما في الحديث [2123] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/119). والحديث أخرجه مسلم (126) من طريق ابن عباس رضي الله عنهما. .
6- أنَّه لا يَعرِف هذه الحدودَ، ويتبيَّنها إلَّا مَن كان من ذوي العِلم؛ فكلَّما كان أعلمَ كانت الحدود في حقِّه أبينَ وأظهر؛ فطالب العلم يتعلَّم من اللَّفظ مسائل أخرى؛ فالعلم يُغذِّي بعضه بعضًا؛ وطالب العلم رابحٌ بكلِّ حال؛ فهو ليس كطالب المال قد يشتري السِّلعة وهو يظنُّ الرِّبحَ، ثم يخسر؛ فطالب العلم إذا تعلَّم مسألة، فإنَّها مفتاح له لأبواب أخرى؛ ولهذا قال تعالى: يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [2124] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/120). .
7- في قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ: إغراء المخاطَب باجتناب ظلم غيره؛ لأنَّ الظالم قد يَظنُّ أنَّه منتصرٌ على المظلوم؛ فإذا علِم أنَّه ظالم لنفْسه تهيَّب ذلك، واستقام على العَدل [2125] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/129). .
8- أنَّ الاتِّعاظ بأحكام الله تزكية للنفس؛ لقوله تعالى: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ؛ فهو ينمِّي النفس، وينمِّي الإيمان، وينمي الأخلاق، ويُنمِّي الآداب؛ فكلَّما كان الإنسان أشدَّ تطبيقًا لأحكام الله كان ذلك أزكى له [2127] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/141). .
9- أنَّ تطبيق الأحكام أطهرُ للإنسان، أي: أطهرُ للقلب؛ لأنَّ الأعمال الصالحة تُطهِّر القلب من أرجاسِ المعاصي؛ ولذلك تجد عند الإنسانِ المؤمنِ من الحيوية، والنشاط، والسرور، والفرح ما ليس عند غيرِه؛ قال تعالى: ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ [2128] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/141). .

الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- يُستفاد من قوله تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، عدمُ مؤاخذة العبدِ بما لم يَقصدْه في لفظه؛ وهذه الفائدة تُعَدُّ قاعدة عظيمة تترتَّب عليها مسائلُ كثيرة؛ منها: لو جرى لفظُ الطلاق على لِسانه بغير قصدٍ لم تطلق امرأته؛ ولو طلَّق في حال غضبٍ شديدٍ لم تطلق امرأته؛ ولو قال كفرًا في حال فرحٍ شديد لم يَكفُر [2129] يُنظر:((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/93). .
2- أنَّ الطلاق بيَدِ الزوج؛ لقوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ؛ والضمير يعود على (الذين يُؤلُون من نِسائهم) [2130] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/97). .
3- أنَّ الطلاق لا يقع بمجرَّد تمام مدَّة الإيلاء؛ لقوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ [2131] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/97-98). . وفي هذا إشارة إلى أنَّ الفَيْئة أحبُّ إلى الله تعالى من الطلاق [2132] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/98). .
4- قوَّة الداعي في المرأة للزواج؛ لقوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ؛ فكأن النفس تحثُّها على أن تُنهِيَ عَلاقتها بالأول، وتتزوج؛ فقيل: (تربصي بنفسك) أي: انتظري [2133] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/101). .
5- استعمال الاحتراز؛ فلا ينبغي الإطلاقُ في موضعٍ يخشى فيه من التعميم؛ لقوله تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [2134] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/105). .
6- أهميَّة النِّكاح، وبيان أنَّه راجع إلى الأسرة كلِّها؛ لقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ، ولم يقل: فإنْ خافا [2135] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/112). .
7- عناية الله سبحانه وتعالى بعباده في بيان ما يجب عليهم في عبادتهم، وفي معاملة بعضهم لبعض حتى لا تحصُل الفوضى المؤدِّية إلى النِّزاع [2136] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/119). .
8- أنَّه إذا لزِم من فِعل المباح شيء محرَّم صار الشيء المباح حرامًا؛ لأنَّ رجوع الزوجة حلال في الأصل؛ فإذا لم يظنَّ الإنسان أنَّه يقوم بالحدود صار حرامًا؛ وهو في الأصل حلال، كما قال تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ [2137] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/120). .
9- عناية الله عزَّ وجلَّ بعباده في أن يتعاملوا بينهم بالمعروف، سواء في حال الاتِّفاق، أو في حال الاختلاف؛ لأنَّ ذلك هو الذي يُقِيم وَحْدة الأمة؛ فإنَّ الأمَّة إذا لم تتعامل بالمعروف- بل بالمنكر، والإساءة- تفرَّقت، واختلفت؛ فالأمَّة الإسلاميَّة أمَّة واحدة، كما قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103] [2138] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/127). .
10- في قوله تعالى: وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللهِ هُزُوًا دلالةٌ على أنَّ المعصية نوع من الاستهزاء بالله عزَّ وجلَّ- وإن كانت لا تُخرِج الإنسانَ من الإسلام [2139] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/132). .
11- أنَّ منَّةَ الله علينا بإنزال الكتاب والحِكمة أعظمُ من كلِّ مِنَّة؛ وذلك لتخصيصِها بعد تعميمِ النِّعم؛ لأنَّ التَّخصيص بعد التَّعميم يدلُّ على أهميتها، قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ [2140] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/133). .
12- أنَّه لا بدَّ في النِّكاح من وليٍّ؛ فالمرأة لا تزوِّج نفسها؛ لأنَّه لو كانت تملك العقد لنفسها لما كان للعضل أي تأثير؛ ولما قال الله تعالى: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [2141] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/137). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
خبَرٌ في مَعْنَى الأمْر، وأصل الكلام: وليتربَّصِ المطلقات، وفائدة إخراج الأمْر في صورة الخبر التأكيدُ للأمر، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يُتلقَّى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهنَّ امتثلن الأمر بالتربُّص، فهو يُخبِر عنه كأنَّما وُجِد؛ مثل قولهم في الدُّعاء: رحِمك اللهُ، أُخرج في صورة الخبر؛ ثِقةً بالاستجابة، كأنَّما وُجِدت الرحمة، فهو يُخبِرُ عنها [2142] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/270)، ((تفسير أبي السعود)) (1/225). .
وفيه تقديمُ الاسم (المُطلَّقات) على الفِعل (يَتربَّصْن)، وهذا يُفيد من التأكيد والقوة ما لا يُفيده العكس (يتربَّص المطلقات) [2143] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (6/434)، ((تفسير أبي السعود)) (1/225). .
2- قوله: وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا هذا كالتوكيد لقوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ؛ فنَهاهم ألَّا يكون الإمساكُ ضرارًا [2144] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/489). .
3- قوله: تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ: فيه إبراز (الحدود) بالاسم الظَّاهر، لا بالضمير؛ للدَّلالة على تعظيم حدود الله تعالى [2145] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/476). .
وفي تَكرار الإضافة في حُدُودُ اللهِ تخصيصٌ لها وتشريف، ويُحسِّن التَّكرارَ بالظاهر كونُ ذلك في جُملٍ مختلفة [2146] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/476). .
 فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ   : فيه حصْر الظلم في حدود الله تعالى، وتأكيدٌ بالإتيان به في الجملة الاسميَّة الخبريَّة؛ للدَّلالة على أنَّ التعدِّي لحدود الله ظلم عظيم [2147] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (3/114). .
4- قوله: وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ تخصيصٌ بعدَ تعميم؛ إذ هو معطوفٌ على نِعْمَةَ اللهِ، وهو مِن النِّعمة، وهذا يُسمَّى التجريد [2148] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/491). .
5- وقد تضمَّنت هذه الآية: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ... والتي تليها، أنواعًا من ضروب الفَصاحة والبَلاغة، من عِلم البيان [2149] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/495). :
منها: الطِّباق [2150] الطِّباق: هو الجمْع بين متضادين مع مراعاة التقابل، كالبياض والسواد، والليل والنهار، وهو قسمان: لفظي، ومعنوي؛ فمِن الطِّباق اللفظي: قوله تعالى: فَلْيَضْحَكُوا قَليلًا وَلْيَبْكُوا كَثيرًا [التوبة: 82] ، طابَق بين الضَّحك والبكاء والقليل والكثير. ومن الطِّباق المعنوي: قوله تعالى: إنْ أَنْتُمْ إلا تَكْذبُونَ قَالُوا رَبنَا يَعْلَمُ إنا إلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 15-16] ؛ معناه: ربُّنا يعلم إنَّا لصادقون. ومنه طباق ظاهر: وهو ما كان وجه الضدية فيه واضحًا. وطباق خفي: وهو أن تكون الضِّديَّة في الصورة متوهَّمة، فتبدو المطابقة خفيَّةً لتعلق أحد الركنيين بما يقابل الآخَر تعلُّقَ السببية أو اللزوم، كقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح: 25] ؛ فإن إدخال النار يستلزم الإحراقَ المضادَّ للإغراق، ومنه: قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حياة [البقرة: 179] ؛ لأنَّ معنى القصاص القتل فصار القتْل سبب الحياة. وهذا من أملح الطِّباق وأخفاه. يُنظر: ((البرهان)) للزركشي (3/455-457)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 567). : بين الطلاق والإمساك؛ فإنَّهما ضدان، والتسريح طباق ثانٍ؛ لأنَّه ضد الإمساك، وبين العِلم وعدَم العلم؛ لأنَّ عدم العلم هو الجهل.
ومنها: المقابلة [2151] المقابلة: هي ذِكر الشيء مع ما يوازيه في بعض صفاته ويخالفه في بعضها، وهي قريبة من الطِّباق، والفرق بينهما من وجهين: الأول: أنَّ الطباق لا يكون إلا بين الضدين غالبًا، والمقابلة تكون لأكثر من ذلك غالبًا. والثاني: لا يكون الطباق إلَّا بالأضداد، والمقابلة بالأضداد وغيرها؛ ولهذا جعل بعض العلماء الطباقَ أحدَ أنواع المقابلة. وللمقابلة عدة أنواع وتقسيمات. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 423 وما بعدها)، ((البرهان)) للزركشي (3/458 وما بعدها). في فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا؛ قابَل المعروف بالضرار، والضرار منكَر؛ فهذه مقابلة معنويَّة.
ومنها: التَّكرار في: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ كرَّر اللفظ لتغيير المعنيين.
ومنها: الالتِفات في قوله سبحانه: وَإِذَا طَلَقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، ثم التَفت إلى الأولياء، فقال: فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ.