موسوعة التفسير

سورةُ يس
الآيات (13-19)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَعَزَّزْنَا: أي: قَوَّيْنا، وشَدَدْنا، وأصلُ (عزز): يدُلُّ على شِدَّةٍ وقُوَّةٍ [136] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 364)، ((تفسير ابن جرير)) (19/415)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/38)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 314)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 348). .
تَطَيَّرْنَا: أي: تشاءَمْنا، وأصلُه: التَّفاؤُلُ بالطَّيرِ (جمعُ طائرٍ)، ثمَّ يُستعمَلُ في كلِّ ما يُتفاءَلُ به ويُتشاءَمُ، وأصلُ (طير): يدُلُّ على خِفَّةِ الشَّيءِ في الهواءِ [137] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/416)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 109)، ((المفردات)) للراغب (ص: 528، 529)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 325). .
مُسْرِفُونَ: أي: مُفْرِطونَ ومُتجاوِزونَ الحَدَّ، والسَّرَفُ: تجاوُزُ الحدِّ في كلِّ فِعلٍ يَفعَلُه الإنسانُ، وأصلُه يدُلُّ على تَعدِّي الحدِّ [138] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 102)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /153)، ((المفردات)) للراغب (ص: 407)، ((تفسير القرطبي)) (15/17)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 131). .

المعنى الإجماليُّ:

يأمُرُ الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ يَقرأَ على النَّاسِ قصَّةَ أصحابِ القريةِ؛ لِيَعتَبِروا ويتَّعِظوا، فيقولُ: واذكُرْ لِقَومِك -يا محمَّدُ- خبَرَ أصحابِ القَريةِ إذ جاءَها رُسُلٌ مِن اللهِ لِدَعوةِ أهلِها؛ إذ أرسَلْنا إليهم رَسولَينِ فكَذَّبوهما، فقَوَّيْناهما برَسولٍ ثالثٍ، فقال الرُّسُلُ الثَّلاثةُ لهم: إنَّا رُسُلُ اللهِ إليكم. فردَّ عليهم أهلُ القريةِ: ما أنتم إلَّا بَشَرٌ مِثلُنا، وما أنزَلَ الرَّحمنُ إليكم مِن شَيءٍ مِمَّا تَدْعونَنا إليه، ما أنتم إلَّا كاذِبونَ!
فقال لهم رُسُلُهم: ربُّنا يَعلَمُ أنَّا مُرسَلونَ إليكم، وما علينا إلَّا أن نُبَلِّغَكم ما أرسَلَنا اللهُ به إليكم. قال أهلُ القريةِ لرُسُلِهم: إنَّا تشاءَمْنا بكم، لئِنْ لم تَكُفُّوا عن دعوتِكم لَنَرجُمَنَّكم بالحِجارةِ، ولَيُصيبَنَّكم مِنَّا عذابٌ أليمٌ! قالت لهم رُسُلُهم: شُؤمُكم الَّذي جَلَب لكم البلاءَ معكم؛ بسَبَبِ ضَلالِكم، أئِنْ دَعَوْناكم للحَقِّ قُلْتُم هذا؟ بل أنتم قومٌ مُجاوِزون للحَدِّ!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
في مُناسَبةِ هذه الآيةِ لِما قَبْلَها أوجُهٌ:
الوَجهُ الأوَّلُ: لَمَّا قال الله تعالى: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3] ، وقال: لِتُنْذِرَ [يس: 6] ؛ قال: قُلْ لهم: مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 9] ! بل قَبْلي جاء أصحابَ القَريةِ مُرسَلونَ، وأنذَروهم بما أنذَرْتُكم، وذكَروا التَّوحيدَ، وخَوَّفوا بالقيامةِ، وبَشَّروا بنَعيمِ دارِ الإقامةِ، وذلك على أنَّ المعنى: واضرِبْ لأجْلِهم مَثَلًا.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّه لَمَّا قال الله تعالى: إنَّ الإنذارَ لا يَنفَعُ مَن أضَلَّه اللهُ وكَتَب عليه أنَّه لا يُؤمِنُ؛ قال للنَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فلا تَأْسَ، واضرِبْ لِنَفْسِك ولِقَومِك مَثَلًا، أي: مَثِّلْ لهم عندَ نَفْسِك مَثَلًا؛ حيث جاءهم ثلاثةُ رُسُلٍ ولم يُؤمِنوا، وصبَرَ الرُّسُلُ على القَتلِ والإيذاءِ، وأنت جِئتَهم واحِدًا، وقَومُك أكثَرُ مِن قَومِ الثَّلاثةِ؛ فإنَّهم جاؤوا قريةً وأنت بُعِثْتَ إلى العالَمِ، وذلك على أنَّ المعنى: واضرِبْ لأجْلِ نَفْسِك أصحابَ القَريةِ لهم مَثَلًا، أي: مَثِّلْهم عند نَفْسِك بأصحابِ القَريةِ [139] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/259). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّه أعقَبَ وَصْفَ إعراضِهم وغَفْلَتِهم عن الانتِفاعِ بهَدْيِ القُرآنِ، بتَهديدِهم بعَذابِ الدُّنيا؛ إذ قد جاء في آخِرِ هذه القصَّةِ قولُه تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [140] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/357، 358). [يس: 29] .
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13).
أي: واذكُرْ لِقَومِك -يا محمَّدُ- خبَرَ أصحابِ القَريةِ الَّتي جاءها رُسُلٌ مِن اللهِ لِدَعوةِ أهلِها إلى الحَقِّ؛ فلْيَعتبِروا ويَتَّعِظوا بقِصَّتِهم [141] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/413)، ((معاني القرآن)) للنحاس (5/482)، ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (2/245 - 254)، ((تفسير ابن كثير)) (6/568)، ((تفسير السعدي)) (ص: 693)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/358). وقد نقل الماوَرْديُّ إجماعَ المفَسِّرينَ على أنَّ هذه القَريةَ هي أنْطاكِيَةُ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/10). قال ابنُ كثيرٍ بعدَ أن ذكَرَ عن كثيرٍ مِن السَّلَفِ أنَّ هذه القريةَ هي أنطاكيةُ، وأنَّ هذا القولَ لم يُذكَرْ عن واحدٍ مِن مُتأخِّري المفَسِّرين غَيرُه، قال: (وفي ذلك نظرٌ مِن وُجوهٍ). وذكَرَ ثلاثةَ وُجوهٍ، ثمَّ قال: (فعلى هذا يَتعَيَّنُ أنَّ هذه القريةَ المذكورةَ في القُرآنِ العَظيمِ قَريةٌ أُخرى غيرُ أنطاكيَةَ، كما أطلَقَ ذلك غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ أيضًا، أو تكونُ أنطاكيَّةُ إن كان لَفْظُها مَحفوظًا في هذه القِصَّةِ مَدينةً أخرى غيرَ هذه المشهورةِ المعروفةِ؛ فإنَّ هذه لم يُعرَفْ أنَّها أُهلِكَت؛ لا في المِلَّةِ النَّصرانيَّةِ، ولا قبْلَ ذلك، واللهُ سُبحانه وتعالى أعلَمُ). ((تفسير ابن كثير)) (6/573). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 104). قال ابنُ تيميَّةَ: (الأمرُ المنقولُ عندَ النَّصارى أنَّ هؤلاء المذكورينَ في القُرآنِ لَيسوا مِن الحواريِّينَ، وهذا أصَحُّ القولَينِ عندَ عُلَماءِ المُسلِمينَ وأئمَّةِ المفَسِّرينَ، وذكَروا أنَّ المذكورينَ في القُرآنِ في سورةِ يس ليسوا مِن الحواريِّينَ، بل كانوا قبْلَ المَسيحِ، وسَمَّوْهم بأسماءِ غيرِ الحواريِّينَ... وهذا القَولُ هو الصَّوابُ، وأنَّ هؤلاء المُرسَلينَ كانوا رُسُلًا لله قبْلَ المسيحِ، وأنَّهم كانوا قد أُرسِلوا إلى أنطاكيةَ... ولم يؤمِنْ أهلُ المدينةِ بالرُّسُلِ، بل أهلَكَهم اللهُ تعالى كما أخبَرَ في القرآنِ، ثمَّ بعدَ هذا عَمَرت أنطاكيةُ وكان أهلُها مُشرِكينَ حتَّى جاءهم مَن جاءَهم مِن الحواريِّينَ، فآمَنوا بالمسيحِ على أيديهم ودخَلوا دينَ المسيحِ. ويُقالُ: إنَّ أنطاكيةَ أوَّلُ المدائِنِ الكبارِ الَّذين آمَنوا بالمسيحِ عليه السَّلامُ، وذلك بعدَ رَفْعِه إلى السَّماءِ، ولكِنْ ظَنَّ مَن ظَنَّ مِن المفَسِّرينَ أنَّ المذكورينَ في القُرآنِ هم رُسُلُ المسيحِ وهم مِن الحواريِّينَ، وهذا غلَطٌ). ((الجواب الصحيح)) (2/245-249). .
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14).
أي: حينَ أرسَلْنا إلى أصحابِ القَريةِ رَسولَينِ فكَذَّبوهما، فقَوَّيْناهما برَسولٍ ثالثٍ، فقال ثلاثتُهم: إنَّا رُسُلُ اللهِ إليكم [142] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/414، 415)، ((تفسير ابن كثير)) (6/569)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694). قال الواحدي: (قال أبو إسحاقَ [الزَّجَّاج]: «فقَوَّيْنا وشَدَدْنا الرِّسالةَ برَسولٍ ثالثٍ». وهو قَولُ جميعِ المفَسِّرينَ). ((البسيط)) (18/464). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (4/282). .
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15).
قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا.
أي: قال أصحابُ القَريةِ لهم: ما أنتم إلَّا أُناسٌ مِثلُنا، فكيف أُوحِيَ إليكم [143] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/415)، ((تفسير البيضاوي)) (4/265)، ((تفسير ابن كثير)) (6/569). ؟!
وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ.
أي: وما أنزَل الرَّحمنُ إليكم أيَّ شَيءٍ مِمَّا تَدَّعونَ [144] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/576)، ((تفسير ابن جرير)) (19/415، 416)، ((تفسير الشوكاني)) (4/418). !
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ.
أي: ما أنتم إلَّا تَكذِبونَ في دَعْواكم أنَّكم رُسُلٌ مِنَ اللهِ إلينا [145] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/416)، ((البسيط)) للواحدي (18/465)، ((تفسير القرطبي)) (15/16). .
قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16).
أي: قالت رُسُلُهم لهم: اللهُ ربُّنا يَعلَمُ أنَّا رُسُلُه إليكم، وأنَّنا صادِقونَ [146] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/416)، ((تفسير ابن كثير)) (6/569)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694). قال الزمخشري: (قولُه: رَبُّنَا يَعْلَمُ جارٍ مَجرى القَسَمِ في التوكيدِ). ((تفسير الزمخشري)) (4/9). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 59). .
وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17).
أي: وما يجِبُ علينا إلَّا أن نُبَلِّغَكم ما أرسَلَنا اللهُ به إليكم بلاغًا مُبِينًا للحَقِّ، فإنْ لم تَقْبَلوا دَعوتَنا فقد أدَّيْنا ما علينا، وليس لنا مِن الأمرِ شَيءٌ [147] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/416)، ((تفسير ابن كثير)) (6/569)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 60). !
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18).
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ.
أي: قال أصحابُ القَريةِ لِرُسُلِهم: إنَّا تشاءَمْنا بكم [148] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/416)، ((تفسير القرطبي)) (15/16)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/113)، ((تفسير ابن كثير)) (6/569)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/362، 363). اختُلِفَ في سَبَبِ تطيُّرِهم؛ فقيل: تطيَّروا بهم بسببِ عُقوباتٍ حَلَّت بهم، أو بلاءٍ نزَل بهم؛ فقيل: احتَبَس المطَرُ عنهم. وقيل: لأنَّهم جاؤوهم بدِينٍ غيرِ دينِهم. وقيل: قد يكونُ تَطيُّرُهم مُجرَّدَ دعوى لا أصلَ لها. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (3/511)، ((تفسير ابن جزي)) (2/180)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 64، 65). قال ابنُ عطيَّة: (والأظهَرُ: أنَّ تَطَيُّرَ هؤلاء إنَّما كان بسبَبِ ما دخَلَ قَريتَهم مِن اختلافِ الكَلِمةِ، وافتِتانِ النَّاسِ، وهذا على نحوِ تطيُّرِ قُرَيشٍ بمُحمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى نحوِ ما خُوطِبَ به موسى). ((تفسير ابن عطية)) (4/449). !
لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: لئِنْ لم تَترُكوا دَعْواكم لَنَرْجُمَنَّكم [149] قال الماوَرْديُّ: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحدُها: لَنَرجُمنَّكم بالحِجارةِ. قاله قَتادةُ. الثَّاني: لَنقتُلَنَّكم. قاله السُّدِّيُّ. الثَّالثُ: لَنَشتُمَنَّكم ونُؤذيكم. قاله النَّقَّاشُ). ((تفسير الماوردي)) (5/12). وقال الألوسي: (لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحِجارةِ، قاله قَتادةُ، وذُكِرَ فيه احتِمالان: احتِمالُ أن يكونَ الرَّجمُ للقَتلِ، أي: لَنَقْتُلَنَّكم بالرَّجمِ بالحِجارةِ، واحتِمالُ أن يكونَ للأذى، أي: لَنُؤذِيَنَّكم بذلك). ((تفسير الألوسي)) (11/395). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: القتلُ رجمًا بالحجارةِ: الواحديُّ، والسمعاني، والعُلَيمي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 898)، ((تفسير السمعاني)) (4/372)، ((تفسير العليمي)) (5/474)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 65). وقيل: المرادُ بقولِه: لَنَرْجُمَنَّكُمْ أي: لَنَقْتُلَنَّكم. وممَّن اختار هذا القولَ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ قُتَيْبةَ، والسمرقنديُّ، والبغوي، وابنُ الجوزي، والخازن. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/576)، ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 274)، ((تفسير السمرقندي)) (3/120)، ((تفسير البغوي)) (4/10)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/521)، ((تفسير الخازن)) (4/6). بل ذهَب الفرَّاءُ إلى أنَّ عامَّةَ ما في القرآنِ مِن الرَّجمِ المرادُ به: القتلُ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/374). قال ابنُ قُتَيْبةَ: (الرَّجمُ: أصلُه الرَّميُ، ... ثمَّ يُستعارُ فيُوضَعُ مَوضِعَ القَتلِ؛ لأنَّهم كانوا يَقتُلونَ بالرَّجمِ. ورُوِيَ أنَّ ابنَ آدَمَ قَتَل أخاه رجمًا بالحجارةِ، وقُتِلَ رَجمًا بالحجارةِ، فلمَّا كان أوَّلُ القتلِ كذلك سُمِّيَ رَجْمًا وإن لم يكُنْ بالحِجارةِ، ومنه قَولُه تعالى: لَنَرْجُمَنَّكُمْ أي: لَنَقْتُلَنَّكم). ((تأويل مشكل القرآن)) (ص: 274). ، ولَيُصيبَنَّكم مِنَّا عذابٌ مُوجِعٌ [150] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/416، 417)، ((تفسير ابن كثير)) (6/569، 570)، ((تفسير الشوكاني)) (4/418)، ((تفسير الجاوي)) (2/286)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694). قال ابنُ عثيمين: (قَولُه: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ هل هذا على سَبيلِ التَّنويعِ أو على سَبيلِ الجَمعِ؟ يعني: أنَّهم يَرجُمونَهم ويُعَذِّبونَهم قبْلَ الرَّجمِ، أو أنَّه على سبيلِ التَّنويعِ وأنَّ «الواوَ» بمعنى «أو»، أي: نَرجُمَنَّكم حتَّى تموتوا أو لَيَمَسَّنَّكم مِنَّا عذابٌ أليمٌ دون الرَّجمِ؟ الآيةُ تَحتَمِلُ المعنيَينِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 66). .
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19).
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ.
أي: قالت رُسُلُهم لهم: شُؤمُكم الَّذي جَلَب لكم البلاءَ إنَّما هو معكم؛ بسبَبِ ضَلالِكم، وليس بسَبَبِنا كما زعمتُم [151] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/417)، ((تفسير الزمخشري)) (4/9)، ((تفسير ابن عطية)) (4/450)، ((تفسير القرطبي)) (15/16)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/108)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/364). .
كما قال تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 78، 79].
وقال اللهُ سُبحانَه: أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الأعراف: 131].
أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ.
أي: أئِنْ وعَظْناكم وأمَرْناكم باتِّباعِ الحَقِّ تُقابِلونَنا بهذا الرَّدِّ [152] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 898)، ((تفسير ابن كثير)) (6/570)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/364)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 67، 68). ؟!
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ.
أي: ليس الأمرُ كما تقولون، بل أنتم قومٌ عادتُكم مُجاوَزةُ الحُدودِ، والطُّغيانُ [153] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/419)، ((تفسير ابن كثير)) (6/570)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 694)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/364). قال الألوسي: (وهو إضرابٌ انتِقاليٌّ عن الإنكارِ المذكورِ إلى الإخبارِ بما أدَّى إلى ذلك، وهو اعتيادُ الإسرافِ في كُلِّ شَيءٍ، أو إلى بيانِ استِجماعِهم للعُيوبِ كُلِّها، ويَحتمِلُ أن يكونَ إضرابًا عن غيرِ مَذكورٍ، وهو ما تَوهَّموه مِنَ العُذرِ في ذلك، أي: لا عُذرَ لكم فيه، بل أنتم قومٌ عادتُكم الإسرافُ والخروجُ عن الحُدودِ). ((تفسير الألوسي)) (4/408). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 68). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- إنَّ العِبرةَ تكونُ بما في القِصَّةِ مِن ضَربِ الأمثالِ؛ فليس مِن الضَّروريِّ أنْ يُعَيَّنَ المَثَلُ المضروبُ؛ فهنا قال: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ ولم يُعَيِّنِ القَريةَ، ولم يُعَيِّنْ أولئك الأصحابَ بأعيانِهم؛ لأنَّه ليس هذا محَلَّ عِبرةٍ، بلِ العِبرةُ في القِصَّةِ كلِّها [154] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 61). ؛ فتَعيينُ تلك القريةِ لو كان فيه فائدةٌ لَعَيَّنَها اللهُ تعالى؛ فالتَّعرُّضُ لذلك -وما أشْبَهَه- مِن بابِ التَّكَلُّفِ والتَّكَلُّمِ بلا عِلمٍ؛ ولهذا إذا تكَلَّمَ أحدٌ في مِثلِ هذا تجِدُ عِندَه مِن الخَبطِ والخَلطِ والاختِلافِ الَّذي لا يَستقِرُّ له قرارٌ: ما تَعرِفُ به أنَّ طَريقَ العِلمِ الصَّحيحِ الوقوفُ مع الحقائِقِ، وتَرْكُ التَّعَرُّضِ لِما لا فائِدةَ فيه، وبذلك تَزْكو النَّفسُ، ويَزيدُ العِلمُ، مِن حيثُ يَظُنُّ الجاهِلُ أنَّ زيادةَ العِلمِ هي بذِكرِ الأقوالِ الَّتي لا دَليلَ عليها، ولا حُجَّةَ عليها، ولا يَحصُلُ منها مِنَ الفائدةِ إلَّا تشويشُ الذِّهنِ، واعتيادُ الأُمورِ المشكوكِ فيها [155] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 693). !
2- قولُه تعالى: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ فيه أنَّ التَّطيُّرَ كان مِن شأنِ المُكَذِّبِينَ للرُّسُلِ [156] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/559). ، فالتَّطيُّرُ والتَّشاؤُمُ مِن صِفاتِ الكُفَّارِ، وعلى المُسلِمينَ اجتِنابُه، وأن يَتوكَّلوا على اللهِ، وأن يَعلَموا أنَّ الأمورَ بيَدِ اللهِ، وأنَّ الشُّؤمَ الحقيقيَّ الَّذي يَستجلِبُ كُلَّ الضَّرَرِ هو مُخالَفةُ رَبِّ العالَمينَ جلَّ وعلا، أمَّا كُلُّ فِعلٍ لم يُخالَفْ به اللهُ فهذا لا ضرَرَ فيه ولا طِيَرةَ؛ لأنَّ الله ما أباحه إلَّا لأنَّه لا ضَرَر فيه. وعلى المُسلِمِ أن يَتحَرَّزَ مِن هذا كُلِّه، ولا يَتشاءَمَ بشَيءٍ، وأن يَبنيَ الأمورَ على التَّوكُّلِ على اللهِ، ومُراعاةِ أوامِرِه ونواهيه [157] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/108). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ جوازُ تَعَدُّدِ الرُّسُلِ مع اتِّحَادِ المُرْسَلِ إليه؛ لأنَّ اللهَ أرسَلَ لهذه القريةِ اثنَينِ ثمَّ عزَّزَهما بثالثٍ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 61). .
2- إنَّ الَّذين يُكَذِّبون الرُّسلَ ليس عندَهم إلَّا المكابرةُ، وليس عندَهم حُجَّةٌ عقليَّةٌ أو نقليَّةٌ؛ لقولِهم: قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، فهذه الجُمَلُ الثَّلاثُ ليس فيها أيُّ حُجَّةٍ تُسَوِّغُ تكذيبَ هؤلاء الرُّسُلِ؛ فالأُولى: أنَّهم رَدُّوهم لأنَّهم بشَرٌ مثلُهم! والرَّدُّ عليها: أنَّه لا يمكِنُ أنْ يُرْسَلَ للبشَرِ إلَّا بشَرٌ مِثلُهم، حتَّى لو أُنزِلَ إليهم ملائكةٌ؛ فإنَّ الملائكةَ لا بُدَّ أنْ يَكونوا على صورةِ البشَرِ، وحينَئذٍ تعودُ الشُّبهةُ. الثَّانيةُ: وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ، فهذا نفيٌ مُجَرَّدٌ بدون ذِكرِ حُجَّةٍ! وليس هذا بدليلٍ للخصمِ إطلاقًا؛ لأنَّ نفْيَ قولِ الخصمِ بدونِ حُجَّةٍ ما هو إلَّا مكابرةٌ. والثَّالثةُ كذلك في قولِهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ [159] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 61). .
3- قولُه تعالى: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَعْظٌ مِن المرسَلينَ وَعَظوا به القومَ؛ لِيَعْلَموا أنَّهم لا مَنفعةَ تَنجَرُّ لهم مِن إيمانِ القومِ، وإعلانٌ لهم بالتَّبرُّؤِ مِن عُهدةِ بَقاءِ القومِ على الشِّركِ؛ وذلك مِن شأْنِه أنْ يُثِيرَ النَّظرَ الفِكريَّ في نُفوسِ القومِ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/362). .
4- في قَولِه تعالى: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ أنَّه يَلزَمُ الرُّسُلَ أن يكونَ بلاغُهم مُبِينًا مُظهِرًا للأمرِ على حقيقتِه، ويَتفرَّعُ على ذلك أنَّه لا إبهامَ في الشَّرائعِ، وأنَّ الشَّرائعَ كلَّها واضِحةٌ؛ فإنْ جاء إبهامٌ في نَصٍّ فهو مُبَيَّنٌ مُوضَّحٌ في نَصٍّ آخَرَ، وإن بَقِيَ الإبهامُ قائمًا فالعِلَّةُ في فَهمِ المُخاطَبِ؛ إمَّا لقُصورِه، أو لتَقصيرِه، أمَّا ما جاءتْ به الرُّسلُ فإنَّه يحصُلُ به البلاغُ المُبينُ المُظهِرُ لكُلِّ ما تحتاجُ إليه الرِّسالةُ؛ لِقَولِه: وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [161] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 63). .
5- في قَولِه تعالى: طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أنَّ الذُّنوبَ والتَّكذيبَ للرُّسُلِ يكونُ سَببًا للمَحْقِ والبَلاءِ، وهذه هي سُنَّةُ اللهِ عزَّ وجلَّ في جميعِ المكذِّبِينَ للرُّسُلِ: أنَّ اللهَ يَبتليهم بالعُقوباتِ؛ لعلَّهم يَرجِعونَ [162] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 70). .
6- في قَولِه تعالى: أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ جوازُ حَذْفِ ما عُلِمَ بالسِّياقِ؛ ولا يُعَدُّ هذا نقصًا في الكلامِ وبلاغتِه! فهنا جوابُ الشَّرطِ محذوفٌ لدَلالتِه عليه، ورُبَّما يكونُ الحذفُ أبلَغَ [163] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة يس)) (ص: 71). .

 بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ
- قولُه: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لأمْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنْ يَضرِبَ لِقَومِه مَثلًا بأصحابِ القَريةِ [164] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/182). .
2- قولُه تعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ
- قولُه: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ نُسِبَ الإرسالُ إليه تعالى بِناءً على أنَّه كان بأمْرِه تعالى؛ لِتَكميلِ التَّمثيلِ، وتَتميمِ التَّسليةِ [165] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/161). .
- وفي قولِه: فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ إيجازٌ بالحَذفِ؛ فقد حُذِفَ مَفعولُ (عَزَّزْنَا)، والتَّقديرُ: فعَزَّزْناهما بثالثٍ، وإنَّما جُنِحَ إلى هذا الحذْفِ؛ لانصِبابِ الغرَضِ على المُعزَّزِ به الثَّالثِ، وإذا كان الغرَضُ هو المرادَ، وكان الكلامُ مُنصَبًّا عليه؛ كان ما سِواه مَطروحًا [166] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/184). . وقيل: حُذِف المفعولُ -حيث لم يَقُلْ: «فعزَّزْناهما»-؛ لمعنًى لطيفٍ، وهو أنَّ المقصودَ مِن بَعثِهما نُصرةُ الحَقِّ لا نُصرتُهما، والكُلُّ مُقَوُّونَ للدِّينِ المتينِ بالبُرهانِ المُبينِ [167] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/260). .
- وأكَّدوا قولَهم: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ؛ لأجْلِ تَكذيبِهم إيَّاهم، فأكَّدوا الخبَرَ تأْكيدًا وَسَطًا، ويُسمَّى هذا ضَرْبًا طَلبيًّا [168] تختلِفُ صوَرُ الخبرِ في أساليبِ اللُّغةِ باختلافِ أحوالِ المُخاطَبِ، ولا يخلو المخاطَبُ مِن أن يكونَ واحدًا مِن ثلاثةٍ: 1- خالي الذِّهنِ مِن الحُكمِ، ومِن التَّرَدُّدِ فيه؛ فهذا يُلْقى إليه الكلامُ ساذَجًا غُفلًا مِن أدواتِ التَّوكيدِ. ويُسمَّى هذا الضَّربُ: (ابتدائيًّا)؛ نحو: محمَّدٌ سافرَ. 2- المُترَدِّدُ في ثبوتِ الحكمِ وعدَمِه، بألَّا يَترجَّحَ عندَه هذا على ذلك، وحينَئذٍ يَحسُنُ تقويةُ الحُكمِ بمؤكِّدٍ؛ لِيُزيلَ ذلك التَّردُّدَ. ويُسمَّى هذا الضَّربُ: (طلبيًّا). 3- المُنكِرُ للحُكمِ، وهذا يجبُ أن يؤكَّدَ له الكلامُ بقدرِ إنكارِه قوَّةً وضَعفًا؛ ذاك أنَّ المتكلِّمَ أحْوَجُ ما يكونُ إلى الزِّيادةِ في تثبيتِ خبرِه إذا كان هناك مَن يُنكِرُه ويَدفَعُ صِحَّتَه، فهو حينَئذٍ يُبالِغُ في تأكيدِه حتَّى يزيلَ إنكارَه. ويُسمَّى هذا الضَّربُ: (إنكاريًّا). يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 170)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 57، 58)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 49، 50)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة الميداني (1/178- 182). . وتَقديمُ المجرورِ إِلَيْكُمْ؛ للاهتمامِ بأمْرِ المُرسَلِ إليهم [169] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/161)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/360). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال اللهُ تعالى لمُوسى عليه السَّلامُ في سُورةِ (القصصِ): سَنَشُدُّ عَضُدَكَ [القصص: 35] ، فذكَرَ المفعولَ، ولم يَذكُرْه هاهنا في قولِه: فَعَزَّزْنَا، مع أنَّ المقصودَ هناك أيضًا نُصرةُ الحقِّ؛ ووَجْهُه: أنَّ مُوسى عليه السَّلامُ كان أفضَلَ مِن هارونَ، وهارونُ بُعِثَ معه بطَلَبِه حيثُ قال: فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ [القصص: 34] ؛ فكان هارونُ مَبعوثًا لِيُصَدِّقَ مُوسى فيما يقولُ، ويَقومَ بما يأمُرُه، وأمَّا هما فكُلُّ واحدٍ مُستقِلٌّ ناطقٌ بالحقِّ، فكان المقصودُ في سُورةِ (القصصِ) تَقويةَ مُوسى وإرسالَ مَن يُؤنَسُ معه -وهو هارونُ-، وأمَّا هاهنا فالمقصودُ تَقويةُ الحقِّ؛ فظهَرَ الفرْقُ [170] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/260). .
3- قولُه تعالى: قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ
- اختيارُ وصْفِ الرَّحمنِ في حِكايةِ قَولِ الكفَرةِ: وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ قيل: فيه إشارةٌ إلى الرَّدِّ عليهم؛ لأنَّ اللهَ لَمَّا كان رَحمنَ الدُّنيا، والإرسالُ رَحمةٌ؛ فكيف لا يُنزِلُ رَحمتَه وهو رَحمنٌ [171] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/261). ؟!
4- قولُه تعالى: قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ
- قولُه: رَبُّنَا يَعْلَمُ قَسَمٌ؛ لأنَّه استِشهادٌ باللهِ على صِدقِ مَقالتِهم، واضطَرَّهم إلى شِدَّةِ التَّوكيدِ بالقَسَمِ ما رأَوا مِن تَصميمِ كَثيرٍ مِن أهلِ القريةِ على تَكذيبِهم. ويُسمَّى هذا المقدارُ مِن التَّأكيدِ ضَرْبًا إنكاريًّا [172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/361، 362). وسبق تعريفُ الإخبارِ الإنكاريِّ قبْلُ. .
- وفي هذه الآياتِ يَبْدو التَّأكيدُ بأروَعِ صُوَرِه للخبَرِ؛ فقد قال أوَّلًا: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فأورَدَ الكلامَ ابتدائيَّ الخبَرِ، ثمَّ قال: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ فأكَّده بمُؤكِّدينِ، وهو (إنَّ) واسميَّةُ الجُملةِ، فأورَدَ الكلامَ طَلبيًّا، ثمَّ قال: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، فتَرقَّى في التَّأكيدِ بثَلاثةٍ، وهي (إنَّ)، واللَّامُ، واسميَّةُ الجُملةِ، فأورَدَ الكلامَ إنكاريَّ الخبَرِ جوابًا عن إنكارِهم. وقيل: إنَّ في قولِه: رَبُّنَا يَعْلَمُ تأْكيدًا رابعًا، وهو إجراءُ الكلامِ مُجرى القسَمِ في التَّأكيدِ به، وفي أنَّه يُجابُ بما يُجابُ به القسَمُ. وفي هذه الآيةِ ائتلافُ الفاصِلةِ مع ما يدُلُّ عليه سائرُ الكلامِ؛ فإنَّ ذِكرَ الرِّسالةِ مَهَّدَ لِذِكْرِ البلاغِ والبَيانِ [173] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/9)، ((تفسير البيضاوي)) (4/265)، ((تفسير أبي حيان)) (9/53)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 471)، ((تفسير أبي السعود)) (7/162)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/362)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (8/185). .
5- قولُه تعالى: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
- لَمَّا كانوا -لِمَا يَرَون على الرُّسلِ مِن الآياتِ وظاهرِ الكراماتِ ممَّا يَشهَدُ ببَركتِهم، ويُمْنِ نُفوسهم وأفعالِهم- إذا ذَمُّوهم تَوقَّعوا تَكذيبَ النَّاسِ لهم؛ أكَّدوا قولَهم: إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ [174] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/107). .
- وقولُهم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا ... استأنفوه استِئنافَ النَّتائجِ على سَبيلِ التَّأكيدِ؛ إعلامًا بأنَّ ما أخبَروا به لا فَتْرةَ لهم عنه [175] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/108). .
- ولَمَّا كان الإنسانُ قد يَفعَلُ ما لا يُوجدُ أثرُه، فقالوا مُعبِّرينَ بالمَسِّ دونَ الإمساسِ: وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا، أي: عاجلًا، لا مِن غيرِنا، كما تقولونَ أنتم في تَهديدِكم إيَّانا بما يَحُلُّ بنا ممَّن أرسَلَكم عذابٌ أليمٌ [176] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (16/108). .
6- قولُه تعالى: قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ حُكِيَ قَولُ الرُّسلِ بما يُرادِفُه ويُؤدِّي معناهُ بأُسلوبٍ عَرَبيٍّ؛ تَعريضًا بأهْلِ الشِّركِ مِن قُرَيشٍ الَّذين ضُرِبَت القَريةُ مَثَلًا لهم؛ فالرُّسلُ لم يَذْكُروا مادَّةَ الطِّيَرةِ والطَّيرِ، وإنَّما أَتَوا بما يدُلُّ على أنَّ شُؤمَ القومِ مُتَّصلٌ بذَواتِهم، لا جاء مِن المرسَلينَ إليهم؛ فحُكِيَ بما يُوافِقُه في كَلامِ العربِ؛ تَعريضًا بمُشْركي مكَّةَ، وهذا بمَنزلةِ التَّجريدِ [177] التَّجريد: أن يُنتزَعَ مِن أمرٍ ذي صِفةٍ أمرٌ آخَرُ مِثلُه في تلك الصِّفةِ، حتَّى تَصِيرَ الذاتُ الواحدةُ ذاتَينِ؛ مُبالَغةً لكمالِ الوصفِ في تلكَ الذَّاتِ. كقَولِهم: لي مِنكَ صديقٌ حميمٌ، و: لَئِنْ سألْتَ فُلانًا، لَتَسْأَلَنَّ به بحرًا. يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (13/229)، ((التبيان في البيان)) للطيبي (ص: 160 - 163)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/448، 449)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 46). لِضَرْبِ المثَلِ لهم؛ بأنْ لُوحِظَ في حِكايةِ القصَّةِ ما هو مِن شُؤونِ المُشبَّهينَ بأصحابِ القصَّةِ [178] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/363، 364). .
- والاسِتفهامُ في قولِه: أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ استِفهامٌ إنكاريٌّ داخلٌ على (إنِ) الشَّرطيَّةِ؛ فهو استِفهامٌ على مَحذوفٍ دلَّ عليه الكلامُ السَّابقُ، وقُيِّدَ ذلك المحذوفُ بالشَّرطِ الَّذي حُذِفَ جوابُه أيضًا؛ استِغناءً عنه بالاستفهامِ عنه، والتَّقديرُ: أتتَشاءمُون بالتَّذكيرِ إنْ ذُكِّرْتُم [179] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/364، 365). ؟!
- قولُه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ قيل: هو إضرابٌ عمَّا تَقْتضيه الشَّرطيَّةُ -أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ- مِن كَونِ التَّذكيرِ سَببًا للشُّؤمِ، أو مُصحِّحًا للتَّوعُّدِ، أي: ليس الأمرُ كذلك، بل أنتُم قَومٌ عادتُكم الإسرافُ في العِصيانِ؛ فلذلك أتاكُم الشُّؤمُ، أو في الظُّلْمِ والعُدوانِ؛ ولذلك تَوعَّدتُم وتَشاءَمْتُم بمَن يجِبُ إكرامُه والتَّبركُ به [180] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (7/163). .
- وفي ذِكرِ كَلمةِ قَوْمٌ إيذانٌ بأنَّ الإسرافَ مُتمكِّنٌ منهم، وبه قِوامُ قَوميَّتِهم [181] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (22/365). .