موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (68-71)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ

غريب الكلمات:

أَثَامًا: أي: عُقوبةً ونَكالًا، وأصلُ (أثم): يدُلُّ على بُطءٍ وتأخُّرٍ، والإثمُ مشتقٌّ مِن ذلك؛ لأنَّ ذا الإثمِ بطيءٌ عن الخَيرِ، متأخِّرٌ عنه [1018] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 315)، ((تفسير ابن جرير)) (17/505)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 71)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/60)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 265). .
مُهَانًا: أي: ذليلًا مُبعَدًا، وأصلُ (هون): يدُلُّ على ذِلَّةٍ [1019] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/21)، ((تفسير القرطبي)) (13/77). .
مَتَابًا: أي: رجوعًا، وأصلُ (توب): يدُلُّ على الرُّجوعِ [1020] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/357)، ((تفسير الشوكاني)) (4/103). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ
يُضَاعَفْ: مضارعٌ مجزومٌ بَدَلُ اشتِمالٍ مِنْ يَلْقَ؛ إذ كان مِن مَعناه؛ لأنَّ مُضاعَفةَ العذابِ لُقِيُّ الأثامِ [1021] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/76)، ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (2/526)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/503). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: وعِبادُ الرَّحمنِ هم الذين لا يُشرِكونَ باللهِ غَيرَه، ولا يَقتُلون نفْسًا حرَّم اللهُ قَتلَها إلَّا بسبَبٍ شَرعيٍّ، ولا يقَعون في فاحِشةِ الزِّنا، ومَن يفعَلْ ذلك الذي نَهَينا عنه مِمَّا تقدَّمْ، يجِدْ عِقابًا شَديدًا؛ يُضاعَفْ له العذابُ يومَ القيامةِ، ويَبْقَ في ذلك العذابِ ذليلًا مُهانًا، إلَّا مَن تاب وآمنَ وعَمِلَ أعمالًا صالِحةً؛ فأولئك يجعَلُ اللهُ مكانَ سَيِّئاتِهم حَسَناتٍ بفَضلِه وكَرَمِه، وكان اللهُ تعالى واسِعَ المَغفِرة والرَّحمةِ لِمَن تاب إليه وأناب، ومَن تاب عن المعاصي وداوَمَ على العمَلِ الصالحِ لِيَستدرِكَ ما فاته منه؛ فإنَّه يكونُ قد تاب ورجعَ إلى الله تعالى رُجوعًا صحيحًا مَقبولًا منه.

تفسير الآيات:

وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ سُبحانَه ما تَحَلَّوا به مِن أصولِ الطَّاعاتِ بما لهم مِن العَدلِ والإحسانِ بالأفعالِ والأقوالِ في الأبدانِ والأموالِ؛ أتبَعَه ما تَخَلَّوا عنه مِن أمَّهاتِ المعاصي التي هي الفَحشاءُ والمُنكَرُ [1022] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/425). .
سَبَبُ النُّزولِ:
عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: (أنَّ ناسًا مِن أهلِ الشِّركِ كانوا قد قَتَلوا وأكثَروا، وزَنَوا وأكثَروا، فأتَوا محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّم فقالوا: إنَّ الذي تقولُ وتدعو إليه لَحَسَنٌ، لو تخبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْنا كفَّارةً، فنزل: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، ونزلت: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ) [1023] رواه البخاري (4810) واللفظ له، ومسلم (122). .
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ.
أي: والذين لا يَدْعون مع اللهِ مَعبودًا آخَرَ، بل يُخلِصون العبادةَ للهِ وحْدَه، ولا يُشرِكون به شَيئًا [1024] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/505)، ((تفسير الشوكاني)) (4/102)، ((تفسير السعدي)) (ص: 587). قال ابن عثيمين: (و لَا يَدْعُونَ... يعني: لا يدْعون دعاءَ مسألةٍ، ولا يَدْعون دعاءَ عبادةٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 282). .
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ الله عنه، قال: ((سألتُ، أو سُئِلَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: أيُّ الذنبِ عند الله أكبَرُ؟ قال: أن تجعَلَ لله ندًّا وهو خلَقَك. قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: ثمَّ أن تقتُلَ ولَدَك خَشيةَ أن يَطعَمَ معك، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: أن تُزانيَ بحَليلةِ جارِك. قال: ونزَلَت هذه الآيةُ تصديقًا لِقَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ) [1025] رواه البخاري (4761) واللفظ له، ومسلم (86). .
وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا نفى عنهم ما يُوجِبُ قتْلَ أنفُسِهم بخَسارتِهم إيَّاها؛ أتبَعَه نفيَ قتْلِ غَيرِهم [1026] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/674). .
وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
أي: ولا يَقتُلون مَن حرَّم اللهُ قَتْلَهم إلَّا بسبَبٍ شَرعيٍّ يخوِّلُ قَتْلَهم [1027] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/505)، ((تفسير ابن عطية)) (4/220)، ((تفسير النسفي)) (2/549)، ((تفسير أبي السعود)) (6/229)، ((تفسير السعدي)) (ص: 587). قال ابنُ عثيمين: (والنَّفسُ التي حرَّم اللهُ: أربعةُ أنفُسٍ: المسلمُ، والذمِّيُّ، والمعاهَدُ، والمستأمِنُ. هذه هي الأنفُسُ التي حرَّم اللهُ، فهذه الأربعةُ أنفُسٍ مُحرَّمةٌ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 284). .
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، أنَّ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((أُمِرتُ أن أقاتِلَ النَّاسَ حتى يشهَدوا أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رَسولُ الله، ويُقيموا الصَّلاةَ، ويُؤتوا الزَّكاةَ، فإذا فعَلوا ذلك عَصَموا منِّي دماءَهم وأموالَهم إلَّا بحَقِّ الإسلامِ [1028] إلَّا بحَقِّ الإسلامِ: أي: مِن قَتْلِ نَفْسٍ، أو حَدٍّ، أو غَرامةٍ بمُتْلَفٍ، أو تَركِ صَلاةٍ. يُنظر: ((شرح القسطلاني)) (1/108). ، وحِسابُهم على اللهِ)) [1029] رواه البخاري (25) واللفظ له، ومسلم (22). .
وَلَا يَزْنُونَ.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَرَ سُبحانَه القتلَ الجليَّ؛ أتبَعَه الخفيَّ بتضييعِ نَسَبِ الولَدِ، فقال: وَلَا يَزْنُونَ أي: رحمةً لِمَا قد يحدُثُ مِن ولَدٍ؛ إبقاءً على نَسَبِه، ورحمةً للمَزْنيِّ بها ولأقاربِها أنْ تُنتَهكَ حُرُماتُهم، مع رحمتِه لنَفْسِه، على أنَّ الزِّنا جارٌّ أيضًا إلى القَتلِ والفِتَنِ، وفيه التسبُّبُ لإيجادِ نَفْسٍ بالباطلِ، كما أنَّ القتلَ تَسَبُّبٌ إلى إعدامِها بذلك [1030] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/426). .
وَلَا يَزْنُونَ.
أي: ولا يقَعونَ في الزِّنا فيأتونَ الفَرْجَ الحرامَ بلا نِكاحٍ ولا مِلكِ يَمينٍ [1031] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/505)، ((تفسير القرطبي)) (13/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 587). .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لمَّا ذَكَر في صدرِ الآيةِ نَفْيَ تلك المعاصي عن عبادِ الرحمنِ -الذي يُفيدُ النهيَ عنها-؛ ذَكَرَ هذا الوعيدَ لبيانِ سوءِ عاقبتِها، وقُبحِ أثَرِها [1032] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 222). .
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا.
أي: ومَن يفعَلْ تلك الأفعالَ؛ مِن الشِّركِ باللهِ، وقَتلِ النَّفسِ التي حرَّم اللهُ، والزِّنا- يجِدْ جزاءَه وعِقابَه في الآخرةِ [1033] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/240)، ((تفسير ابن جرير)) (17/505)، ((تفسير ابن جزي)) (2/86)، ((تفسير ابن كثير)) (6/126)، ((تفسير الألوسي)) (10/48). قال ابنُ عاشور: (المتبادِرُ مِن الإشارةِ أنَّها إلى المجموعِ، أي: مَن يفعَلْ مجموعَ الثلاثِ. ويُعلَمُ أنَّ جزاءَ من يفعَلُ بعضَها ويتركُ بعضًا عدا الإشراكِ: دونَ جزاءِ من يفعَلُ جميعَها، وأنَّ البعضَ أيضًا مراتِبُ، وليس المرادُ: من يفعلْ كُلَّ واحدةٍ مِمَّا ذُكِرْ يلقَ أثامًا؛ لأنَّ لُقِيَّ الآثامِ بُيِّن هنا بمُضاعفةِ العذابِ والخلودِ فيه، وقد نَهَضت أدِلَّةٌ مُتظافرةٌ من الكتابِ والسنَّةِ على أنَّ ما عدا الكُفرَ من المعاصي لا يوجِبُ الخلودَ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/74). وممَّن قال بأنَّ الجزاءَ هنا على المجموعِ، أي: ما ذُكِر مِن الشِّركِ بالله، وقتلِ النفْسِ بغيرِ حقٍّ، والزِّنا: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والثعلبيُّ، والنسفيُّ، وأبو حيَّان، وابنُ جُزي، والقاسميُّ، والألوسيُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/240)، ((تفسير ابن جرير)) (17/505)، ((تفسير السمرقندي)) (2/545)، ((تفسير الثعلبي)) (7/148)، ((تفسير النسفي)) (2/549)، ((تفسير أبي حيان)) (8/130)، ((تفسير ابن جزي)) (2/86)، ((تفسير القاسمي)) (7/438)، ((تفسير الألوسي)) (10/48)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 291، 292). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الماوردي)) (4/157)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيميَّة (24/301). وممن ذهَب إلى أنَّ المرادَ: ومَن يفعَلْ شَيئًا ممَّا ذُكِر: مكِّي، والماوردي، والبغوي، والخازن، وجلال الدين المحلي، والبِقاعي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (8/5258)، ((تفسير الماوردي)) (4/157)، ((تفسير البغوي)) (3/457)، ((تفسير الخازن)) (3/319)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 478)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/428)، ((تفسير الشوكاني)) (4/102)، ((تفسير السعدي)) (ص: 587). قال البقاعي: (ولا يُقالُ: إنَّ الإشارةَ تَرجِعُ إلى المجموعِ؛ فالتهويلُ خاصٌّ بمَن ارتكَبَ مجموعَ هذه الذُّنوبِ؛ لأنَّا نقول: السِّياقُ يأباه؛ لأنَّ تَكرارَ «لا» أفاد -كما حقَّقه الرَّضِيُّ- وُرودَ النَّفيِ على وقوعِ الخِصالِ الثلاثِ حالَ الاجتِماعِ والانفرادِ، فالمعنى: لا يوقِعون شَيئًا منها، فكان معنى وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ: ومَن يفعَلْ شَيئًا من ذلك؛ لِيَرِدَ الإثباتُ على ما وردَ عليه النَّفيُ، فيحصُلَ التناسُبُ). ((نظم الدرر)) (13/428). .
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا.
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
أي: يُغلِّظِ اللهُ له عذابَه يومَ القيامةِ ويُكَرِّرْه [1034] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/33)، ((تفسير القرطبي)) (13/77)، ((تفسير ابن كثير)) (6/126)، ((نظم الدرر)) (13/427)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/74). قال الزمخشري: (إذا ارتكب المُشرِكُ معاصيَ مع الشِّركِ، عُذِّب على الشِّركِ وعلى المعاصي جميعًا؛ فتُضاعَفُ العقوبةُ لمُضاعَفةِ المعاقَبِ عليه). ((تفسير الزمخشري)) (3/294). وقال ابن عثيمين: (إنما ضُوعِفَ له العذابُ لأنَّه فعَل ثلاثةَ أسبابٍ للعذابِ، وهي: الإشراكُ بالله، وقتلُ النفْسِ، والزِّنا، ومعلومٌ أنَّ الأسبابَ إذا اجتمعَت صار لكلِّ واحدٍ منها أثَرُه، فمَن فعَل شيئًا واحدًا مِن الثلاثةِ فعليه إثمُه، ومَن فعَل اثنين فعليه إثمُهما، ومَن فعَل ثلاثًا فعليه إثمُهن. فهذا وجْهُ التضعيفِ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 292). ويُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/74). وقال البقاعي: (ومُضاعَفةُ العذابِ -والله أعلمُ- إتيانُ بعضِه في إثرِ بَعضٍ بلا انقِطاعٍ، كما كان يُضاعِفُ سيِّئتَه كذلك). ((نظم الدرر)) (13/427). .
وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا.
أي: ويَبْقَ المُشرِكُ العاصي في العذابِ المُضاعَفِ إلى الأبَدِ ذَليلًا حَقيرًا [1035] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/516)، ((تفسير القرطبي)) (13/77)، ((تفسير ابن كثير)) (6/126)، ((تفسير الشوكاني)) (4/102، 103)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/75). قال السعدي: (الوعيدُ بالخلودِ لمن فعلها كلَّها ثابتٌ لا شكَّ فيه، وكذا لمن أشرَك بالله، وكذلك الوعيدُ بالعذابِ الشديدِ على كلِّ واحدٍ مِن هذه الثلاثةِ؛ لكونِها إمَّا شركٌ وإما مِن أكبرِ الكبائرِ، وأمَّا خلودُ القاتلِ والزاني في العذابِ، فإنَّه لا يتناوَلُه الخلودُ؛ لأنَّه قد دلَّت النصوصُ القرآنيةُ والسنَّةُ النبويَّةُ أنَّ جميعَ المؤمنينَ سيخرجون من النارِ، ولا يخلدُ فيها مؤمنٌ ولو فعَل مِن المعاصي ما فعَل). ((تفسير السعدي)) (ص: 587). وأيضًا قيل: يُرادُ مِن الخُلودِ المُكثُ الطويلُ الصادقُ بالخلودِ الأبَديِّ وغيرِه، ويكونُ لِمَن أشرَك باعتبارِ فَردِه الأوَّلِ، ولِمَنِ ارتكَب إحدى الكبيرتينِ الأخيرتينِ باعتبارِ فَردِه الآخرِ. يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (10/49). .
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَرَ تعالى عظائمَ الذنوبِ وأكبرَ كبائرِها، وتَوَعَّدَ بالوعيدِ الشَّديدِ عليها؛ عَقَّبَها بذِكْرِ التوبةِ منها، ورَغَّبَ فيها؛ لِيُنَبِّهَ عِبادَه على طريقِ الرجوعِ إليه، وأنَّ مَن تاب منهم إلى اللهِ تاب اللهُ عليه [1036] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 224). .
سَببُ النُّزولِ:
عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: ((نزَلَت هذه الآيةُ بمكَّةَ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا فقال المُشرِكون: وما يُغْني عنَّا الإسلامُ، وقد عدَلْنا باللهِ، وقد قتَلْنا النفْسَ التي حرَّم اللهُ، وأتَيْنا الفواحِشَ؟! فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)) [1037] رواه البخاري (3855)، ومسلم (3023) واللفظ له. .
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ.
أي: إلَّا مَن تاب مِن الشِّركِ وقتْلِ النَّفسِ المحرَّمةِ والزِّنا، فنَدِمَ على ذلك وأقلَعَ عنه، وآمَنَ بما وجَبَ عليه الإيمانُ به، وعَمِلَ أعمالًا صالِحةً بإخلاصٍ لله ومُتابعةٍ لِرَسولِه- فأولئك يجعَلُ اللهُ مكانَ سَيِّئاتِهم حَسَناتٍ بفَضلِه ورَحمتِه [1038] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (4/34)، ((تفسير القرطبي)) (13/78)، ((تفسير ابن كثير)) (6/126 - 128)، ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/76، 77)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 303). قال ابن جرير: (قَوْلُهُ: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ اختَلَف أهلُ التَّأويلِ في تأويلِ ذلك؛ فقالَ بعضُهم: معناه: فأولئك يُبَدِّلُ اللهُ بقبائحِ أعمالِهم في الشِّركِ محاسِنَ الأعمالِ في الإسلامِ، فيُبَدِّلُه بالشِّركِ إيمانًا، وبقِيلِ أهلِ الشِّركِ بالله قِيلَ أهلِ الإيمانِ به، وبالزِّنا عِفَّةً وإحصانًا... وقال آخرونَ: بل معنَى ذلك: فأولئك يبدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهم في الدُّنيا حسناتٍ لهم يومَ القيامةِ). ((تفسير ابن جرير)) (17/516، 519). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: أنَّ اللهَ يبدِّلُ سيِّئاتِهم حسناتٍ يومَ القيامةِ: الثعلبيُّ، والسمعانيُّ، والبغويُّ، وابنُ كثير، وجلال الدين المحليُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (7/150)، ((تفسير السمعاني)) (4/34)، ((تفسير البغوي)) (3/458)، ((تفسير ابن كثير)) (6/127)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 478). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: سَلمانُ الفارسيُّ، وسعيدُ بنُ المسيِّبِ، ومَكحولٌ، وعليُّ ابن الحسينِ، وعمرُو بنُ ميمونٍ، والحسَنُ في روايةٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/519)، ((الوسيط)) للواحدي (3/347)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/330). قال ابن كثير: (... تلك السيِّئاتُ الماضيةُ تنقلِبُ بنفْسِ التَّوبةِ النَّصوحِ حسناتٍ، وما ذاك إلَّا أنَّه كُلَّما تذَكَّر ما مضى نَدِم واسترجَع واستغفَر، فيَنقلِبُ الذنبُ طاعةً بهذا الاعتِبارِ. فيومَ القيامةِ وإنْ وجَدَه مكتوبًا عليه لكنَّه لا يضُرُّه، ويَنقلِبُ حسنةً في صحيفتِه، كما ثبتَت السُّنَّةُ بذلك، وصحَّت به الآثارُ المَرويَّةُ عن السلَفِ رحمهم اللهُ تعالى). ((تفسير ابن كثير)) (6/127). وقال السمعاني: (قال الحسَنُ البَصريُّ ومُجاهِدٌ وجماعةٌ: هذا في الدُّنيا. ومعناه: تَبديلُ الكُفرِ بالإيمانِ، والشِّركِ بالإخلاصِ، والمَعصيةِ بالطَّاعةِ. وقال سعيدُ بنُ المُسيِّبِ وجماعةٌ: هذا في الآخرةِ، واللهُ تعالى يُبدِّلُ سَيِّئاتِ التَّائبِ بالحَسناتِ في صحيفتِه. وقد ورد في القولِ الثاني خبرٌ صحيحٌ ... عن أبي ذَرٍّ، أن النبيَّ قال: «يؤتَى بالمؤمِنِ يومَ القيامة فيُعرَضُ عليه صِغارُ ذنوبِه، ويخبَّأُ عنه كِبارُها، فيُسألُ ويعترِفُ وهو مشفِقٌ من الكبائرِ، فيقولُ الله تعالى: أعطوه مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حَسنةً، فيقولُ: يا ربِّ، إنَّ لي ذنوبًا ولا أراها هاهنا؟ فضَحِك رسولُ الله حتى بدت نَواجِذُه». أخرجه مسلم في صحيحه. وعن أبي هريرة أنه قال: يُعطى المؤمِنُ صَحيفتَه يومَ القيامةِ، فيَقرأُ بَعضَها وإذا هي سيِّئاتٌ، فإذا وصَل إلى الحَسَناتِ ينظُرُ نظرةً فيما قبْلَها، فإذا هي كلُّها صارت حسناتٍ. وقد أنكر جماعةٌ مِن المتقدِّمينَ أن تنقَلِبَ السيِّئةُ حسنةً، منهم الحسنُ البصريُّ وغيرُه، وإذا ثبت الخبَرُ عن النبيِّ لم يَبْقَ لأحدٍ كلامٌ). ((تفسير السمعاني)) (4/34). وقال ابن القيم: (فهذا حديثٌ صحيحٌ، ولكِنْ في الاستدلالِ به على صِحَّةِ هذا القول نظَرٌ؛ فإنَّ هذا قد عُذِّب بسيِّئاتِه ودخَل بها النارَ، ثمَّ بعْدَ ذلك أُخرِجَ منها، وأُعطِيَ مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةً، صَدقةً تصَدَّقَ الله بها عليه ابتِداءً بعددِ ذنوبِه، وليس في هذا تبديلُ تلك الذنوبِ بحسناتٍ؛ إذ لو كان كذلك لَما عوقِب عليها كما لم يعاقَبِ التائِبُ، والكلامُ إنَّما هو في تائبٍ أُثبِتَ له مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةٌ، فزادت حسناتُه، فأين في هذا الحديثِ ما يدُلُّ على ذلك؟ والناسُ استقبَلوا هذا الحديثَ مستدِلِّينَ به في تفسيرِ هذه الآيةِ على هذا القولِ، وقد عَلِمتَ ما فيه، لكنْ للسَّلَفِ غَورٌ ودقَّةُ فَهمٍ لا يُدرِكُها كثيرٌ مِن المتأخِّرينَ. فالاستدلالُ به صحيحٌ بعْدَ تمهيدِ قاعدةٍ إذا عُرِفت عُرِف لُطفُ الاستدلالِ به ودقَّتُه، وهي أنَّ الذنبَ لا بدَّ له مِن أثرٍ، وأثرُه يرتفِعُ بالتوبة تارةً، وبالحسناتِ الماحيةِ تارةً، وبالمصائبِ المكَفِّرةِ تارةً، وبدخولِ النَّارِ ليتخلَّصَ مِن أثرِه تارةً، وكذلك إذا اشتَدَّ أثَرُه، ولم تَقْوَ تلك الأمورُ على مَحوِه، فلا بدَّ إذنْ مِن دخولِ النارِ؛ لأنَّ الجنةَ لا يكونُ فيها ذرَّةٌ مِن الخبيثِ، ولا يدخلُها إلَّا مَن طاب مِن كلِّ وجهٍ، فإذا بقِيَ عليه شيءٌ مِن خَبَثِ الذُّنوبِ أُدخِلَ كِيرَ الامتحانِ؛ ليَخلُصَ ذهَبُ إيمانِه مِن خَبَثِه، فيصلُحَ حينَئذٍ لدارِ المَلِكِ. إذا عُلِمَ هذا فزوالُ موجبِ الذنبِ وأثرِه تارةً يكونُ بالتوبةِ النصوحِ، وهي أقوى الأسبابِ، وتارةً يكونُ باستيفاءِ الحقِّ منه وتطهيرِه في النارِ، فإذا تطهَّر بالنارِ وزال أثرُ الوسَخِ والخَبَثِ عنه، أُعطيَ مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، فإذا تطهَّر بالتوبةِ النصوحِ وزال عنه بها أثَرُ وسَخِ الذنوبِ وخَبَثِها، كان أَوْلى بأن يُعطى مكانَ كلِّ سيِّئةٍ حسنةً؛ لأنَّ إزالةَ التوبةِ لهذا الوسخِ والخبَثِ أعظمُ من إزالةِ النارِ، وأحَبُّ إلى الله، وإزالةُ النَّارِ بَدَلٌ منها، وهي الأصلُ؛ فهي أَولى بالتبديلِ ممَّا بعْدَ الدخولِ). ((مدارج السالكين)) (1/310، 311). وممَّن اختار أنَّ التَّبديلَ في الدُّنيا، وأنَّ المعنى: فأولئك يبَدِّلُ اللهُ سيِّئاتِهم حَسَناتٍ، بنَقلِهم عمَّا يَسخَطُه اللهُ مِن الأعمالِ إلى ما يَرضى، ويكونُ ذلك سببًا لِرَحمتهم: مقاتلُ بن سليمان، وابنُ جرير، السمرقنديُّ، وابن أبي زمنين، والواحدي، وابن عطية. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/240)، ((تفسير ابن جرير)) (17/519، 520)، ((تفسير السمرقندي)) (2/546)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/268)، ((الوسيط)) للواحدي (3/347)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 784)، ((تفسير ابن عطية)) (4/221). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والحسَنُ البصريُّ في روايةٍ، وعطاءُ بن أبي رباح، وقتادةُ، والضحَّاكُ، ومجاهدٌ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (8/2733)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/330). قال البغوي: (ذهَب جماعةٌ إلى أنَّ هذا التَّبديلَ في الدُّنيا. قال ابنُ عبَّاسٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، والحَسَنُ، ومجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، والضحَّاكُ: يُبَدِّلُهم اللهُ بقبائِحِ أعمالِهم في الشِّركِ محاسِنَ الأعمالِ في الإسلامِ؛ فيُبَدِّلُهم بالشِّركِ إيمانًا، وبقَتلِ المؤمِنينَ قَتلَ المُشرِكينَ، وبالزِّنا عِفَّةً وإحصانًا. وقال قومٌ: يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهم التي عَمِلوها في الإسلامِ حَسَناتٍ يومَ القيامةِ. وهو قَولُ سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ، ومَكحولٍ). ((تفسير البغوي)) (3/458). وقال ابنُ القيم: (وأصلُ القولَينِ أنَّ هذا التبديلَ هل هو في الدنيا أو يومَ القيامةِ؟ فمَن قال: إنَّه في الدُّنيا؛ قال: هو تبديلُ الأعمال القبيحةِ والإراداتِ الفاسدةِ بأضْدادِها، وهي حَسَناتٌ، وهذا تبديلٌ حقيقةً ... الصوابُ إن شاء الله في هذه المسألةِ أن يُقال: لا ريبَ أنَّ الذنْبَ نفْسَه لا ينقلِبُ حَسنةً، والحسنةُ إنَّما هي أمرٌ وجوديٌّ يقتضي ثوابًا؛ ولهذا كان تاركُ المنهيَّاتِ إنَّما يُثابُ على كفِّ نفْسِه وحَبْسِها عن مُواقَعةِ المنهيِّ، وذلك الكفُّ والحبسُ أمرٌ وجوديٌّ، وهو متعلَّقُ الثَّوابِ ... وإذا كانت الحسَنةُ لا بدَّ أن تكونَ أمرًا وجوديًّا فالتَّائِبُ مِن الذُّنوبِ التي عَمِلها قد قارَن كلَّ ذَنبٍ منها ندمًا عليه، وكفَّ نفْسَه عنه، وعَزَم على تركِ معاودتِه، وهذه حَسَناتٌ بلا ريبٍ، وقد محَتِ التوبةُ أثرَ الذَّنبِ، وخَلَفَه هذا النَّدمُ والعزمُ، وهو حسنةٌ قد بَدَّلت تلك السيِّئةَ حَسنةً... فإذا كانت كلُّ سيئةٍ مِن سيِّئاتِه قد تاب منها فتوبتُه منها حسَنةٌ حَلَّت مكانَها، فهذا معنى التَّبديلِ، لا أنَّ السيِّئةَ نفْسَها تنقلِبُ حسنةً. وقال بعضُ المفَسِّرينَ في هذه الآيةِ: يُعطيهم بالنَّدَمِ على كلِّ سيِّئةٍ أساؤوها حسنةً، وعلى هذا فقد زال -بحمدِ الله- الإشكالُ، واتَّضَح الصَّوابُ، وظهَر أنَّ كلَّ واحدةٍ مِنَ الطائفتَينِ ما خرجت عن موجبِ العلمِ والحُجَّةِ. وأمَّا حديثُ أبي ذَرٍّ -وإن كان التبديلُ فيه في حَقِّ المُصِرِّ الذي عُذِّب على سيِّئاته- فهو يدُلُّ بطَريقِ الأَولى على حصولِ التبديلِ للتائبِ المقلِعِ النادِمِ على سيئاتِه؛ فإنَّ الذُّنوبَ التي عُذِّب عليها المصِرُّ لَمَّا زال أثرُها بالعقوبةِ بَقِيَت كأنْ لم تكُنْ، فأعطاه الله مكانَ كُلِّ سيئةٍ منها حسَنةً؛ لأنَّ ما حصَل له يومَ القيامةِ مِن النَّدَمِ المُفرِطِ عليها مع العُقوبةِ، اقتضى زوالَ أثرِها وتبديلَها حَسَناتٍ، فإنَّ النَّدَمَ لم يكُنْ في وقتٍ ينفَعُه، فلمَّا عوقِبَ عليها وزال أثَرُها بدَّلها اللهُ له حسناتٍ، فزوالُ أثَرِها بالتَّوبةِ النصوحِ أعظَمُ من زوالِ أثَرِها بالعُقوبةِ، فإذا بُدِّلت بعْدَ زوالِها بالعقوبةِ حَسَناتٍ فلَأنْ تُبدَّلَ بعْدَ زوالِها بالتَّوبةِ حَسَناتٍ أَولى وأَحرى). ((طريق الهجرتين)) (ص: 245-250). ويُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/310 - 312). وممَّن جمَع بيْن القولينِ: السعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 587)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 306). قال السعدي: (تتبدَّلُ أفعالُهم وأقوالُهم التي كانت مُستَعِدَّةً لعملِ السيِّئاتِ، تتبدَّلُ حَسَناتٍ، فيتبدَّلُ شِركُهم إيمانًا، ومعصيتُهم طاعةً، وتتبدَّلُ نفْسُ السيِّئاتِ التي عمِلوها ثمَّ أحدَثوا عن كلِّ ذنْبٍ منها توبةً وإنابةً وطاعةً، تُبدَّلُ حسناتٍ كما هو ظاهِرُ الآيةِ، وورد في ذلك حديثُ الرجُلِ الذي حاسبه اللهُ ببعضِ ذنوبِه فعدَّدها عليه، ثم أُبدِلَ مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، فقال: يا ربِّ، إنَّ لي سيئاتٍ لا أراها هاهنا. واللهُ أعلمُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 587). وقال ابنُ عثيمين: (التبديل: جَعْلُ شَيءٍ مكانَ شَيءٍ، وهذا التبديلُ هل هو تبديلٌ قَدَريٌّ أو تبديلٌ جزائيٌّ؟ اختلَف في ذلك أهلُ العِلمِ؛ فمِنهم مَن قال: إنَّه تبديلٌ قدَريٌّ، ومنهم مَن قال: إنَّه تبديلٌ جزائيٌّ، كيف ذلك؟ الذين يقولون: إنَّه تبديلٌ قدَريٌّ يقولون: إنَّ معنى تبديلِ السَّيِّئاتِ حَسَناتٍ أنَّه لَمَّا آمَن وعَمِل عمَلًا صالحًا صار بدَلَ الشِّركِ إيمانٌ، وصار بدَلَ الزنا وقَتلِ النَّفسِ عمَلٌ صالحٌ، معناه: أنَّ هذا الإيمانَ والعَمَلَ الصَّالحَ صار بدلًا عن الكُفرِ والزِّنا وقَتلِ النَّفسِ، فالمعنى أنَّ إيمانَه وعمَلَه الصَّالحَ الذي فعَلَه هو الحَسَناتُ التي أبدَل اللهُ السيِّئاتِ بها؛ فيكونُ هذا التبديلُ قدَريًّا. وقيل: بل هو جزائيٌّ، بمعنى أن هذه المعاصيَ نفْسَها تكونُ حَسَناتٍ، يُبدِّلُ الله السيِّئاتِ السابقةَ يجعَلُها حسَناتٍ، بالإضافةِ إلى حَسَناتِه الأخيرةِ التي قُدِّرت له ففعَلَها، وكيف ذلك؟ يقولون: لأنَّ هذه السيِّئاتِ لَمَّا تاب منها صار له بكلِّ توبةٍ مِن هذه السيِّئاتِ حَسَنةٌ، فأُبدِلت السيِّئاتُ حَسَناتٍ بالتوبةِ منها، ولأنَّه كلَّما تذكَّر ما سبَق مِن أعمالِه السيِّئةِ أحدَثَ لها توبةً؛ فصارت هذه الأعمالُ السابقةُ حسناتٍ بالتوبةِ منها. والصحيحُ شُمولُ الآيةِ لهذا ولهذا، وأنَّ الآيةَ شاملةٌ للأمْرينِ؛ فإنَّ مَن تاب وآمَن وعَمِل عملًا صالحًا تبدَّلت سيئاتُه السابقةُ فصارت حسناتٍ، لكنَّها ليست هي الأُولى نفْسَها، وكذلك إذا تاب منها جُوزِيَ على هذه التوبةِ بالثَّوابِ؛ فصارت السيِّئاتُ بالتَّوبةِ منها حَسَناتٍ). ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 305، 306). .
عن أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنِّي لأعلَمُ آخِرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولًا الجنَّةَ، وآخِرَ أهلِ النَّارِ خُروجًا منها: رجُلٌ يؤتَى به يومَ القيامةِ، فيُقالُ: اعرِضوا عليه صِغارَ ذُنوبِه، وارفَعوا عنه كِبارَها، فتُعرَضُ عليه صِغارُ ذُنوبِه، فيُقال: عَمِلتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا، وعَمِلتَ يومَ كذا وكذا كذا وكذا، فيقولُ: نعَمْ، لا يَستطيعُ أن يُنكِرَ، وهو مُشفِقٌ مِن كِبارِ ذُنوبِه أن تُعرَضَ عليه، فيُقالُ له: فإنَّ لك مكانَ كُلِّ سَيِّئةٍ حَسَنةً، فيقولُ: ربِّ، قد عَمِلتُ أشياءَ لا أراها هاهنا! فلقد رأيتُ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ضَحِك حتى بَدَت نَواجِ ذُه)) [1039] رواه مسلم (190). .
وعن أبي طويلٍ شَطبٍ الممدودِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه أتى رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ((أرأيتَ رجُلًا عَمِلَ الذُّنوبَ كُلَّها، فلم يترُكْ منها شيئًا، وهو في ذلك لم يترُكْ حاجَةً ولا داجَةً [1040] حاجَةً ولا داجَةً: أي: ما تَركْتُ شَيئًا دعَتْني إليه نَفْسي إلَّا رَكِبْتُه مِن الذُّنوبِ. وداجةً: في هذا الموضِعِ: إِتْباعٌ. وقيل: الدَّاجَةُ: ما لا يُذكَرُ؛ احتِقارًا له، أي: قد قَضَيتُ الحوائِجَ التي لها مَوقِعٌ مِن قلبي، وقَضَيتُ ما لا يُذكَرُ؛ احتِقارًا له. يُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/410)، ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) للأنباري (2/227)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (2/506). إلَّا أتاها، فهل له مِن توبةٍ؟ قال: فهل أسلَمْتَ؟ قال: أمَّا أنا فأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَه لا شريكَ له، وأنَّك رَسولُ الله، قال: نعَمْ، تفعَلُ الخَيراتِ، وتَترُكُ السيِّئاتِ، فيَجعَلُهنَّ اللهُ لك خيراتٍ كُلَّهنَّ، قال: وغَدَراتي وفَجَراتي؟! قال: نعَمْ، قال: الله أكبَرُ! فما زال يُكبِّر حتى توارى)) [1041] أخرجه ابن أبي عاصم في ((الآحاد والمثاني)) (2718)، والبزَّار كما في ((مجمع الزوائد)) للهيثمي (1/36)، والطبراني (7/314) (7235). جوَّد إسنادَه وقوَّاه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/128)، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (144): حسنٌ صحيحٌ غريب. وصحَّحه الألباني في ((الترغيب والترهيب)) (3164). قال ابن حَجر: (قال البغويُّ: أظنُّ أنَّ الصوابَ عن عبد الرحمن بن جُبَيرٍ أنَّ رجُلًا أتىَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم طويلًا شَطبًا، والشَّطبُ يعني في اللغة: الممدودَ، يعني: فظنَّه الراوي اسمًا، فقال فيه: عن شَطبٍ أبي طويلٍ). ((الإصابة في تمييز الصحابة)) (3/283). ويُنظر: ((معجم الصحابة)) للبغوي (3/323)، ((الاستيعاب)) لابن عبد البر (2/709). .
وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا.
أي: ولم يَزَلِ اللهُ يستُرُ ذُنوبَ التَّائبينَ مِن عبادِه، ويتجاوَزُ عن مُؤاخَذتِهم بها ويَرحَمُهم [1042] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/521)، ((تفسير السمرقندي)) (2/546)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/429، 430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 587). وقال السعدي: (رَحِيمًا بعبادِه؛ حيثُ دعاهم إلى التوبةِ بعْدَ مبارزتِه بالعظائمِ، ثم وفَّقهم لها، ثم قَبِلها منهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 587). .
كما قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أفادتِ الآيةُ السابقةُ أنَّ التوبةَ تمحو السيِّئاتِ، جاءتْ هذه الآيةُ إثرَها تُبَيِّنُ ما لأهلِها مِن جزيلِ الإنعاماتِ، وعظيمِ الدرجاتِ [1043] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 228). .
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا.
أي: ومَن تاب إلى اللهِ وعَمِلَ بعْدَ تَوبتِه الأعمالَ الصَّالحةَ، فإنَّه يَرجِعُ إلى اللهِ رُجوعًا صَحيحًا حَسَنًا، مَقبولًا مَرضِيًّا [1044] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/521)، ((تفسير ابن جزي)) (2/87)، ((تفسير ابن كثير)) (6/130)، ((تفسير الشوكاني)) (4/103)، ((تفسير السعدي)) (ص: 587)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 308، 309). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 110] .
 وقال سُبحانَه: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة: 104] .

الفوائد التربوية:

1- مَن راضَ نفْسَه على الطاعةِ، ودانتْ نفْسُه بالإخباتِ والانقيادِ للأوامرِ الشرعيَّةِ؛ ضَعُفَتْ منه أو زالتْ دواعي الشَّرِّ والفسادِ؛ فانكفَّ عنِ المعصيةِ، لذا قدَّم الله تعالى إثباتَ الطاعاتِ في قولِه: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ  ... على انتفاءِ المعاصي في قولِه: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ ...؛ تنبيهًا على ذلك، ومِن هنا نعلَمُ أنَّ على المسلمِ الذي يعملُ لتزكيةِ نفْسِه أن يُواظِبَ على الطاعاتِ بأنواعِها، وأن يجتهِدَ في حصولِ الأُنسِ بها، والخشوعِ فيها؛ فإنَّ ذلك -زيادةً على ما يثبِّتُ فيه مِن أصولِ الخَيرِ- يَقلَعُ منه أصولَ الشَّرِّ، ويُميتُ منه بواعثَه [1045] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 219). .
2- في قَولِه تعالى: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا يُذَكِّرُنا القرآنُ بمضاعَفةِ العذابِ على كبائرِ الآثامِ؛ لِنَذكُرَ عندما تُحدِّثُنا أنفُسُنا بالمعصيةِ سوءَ عاقبتِها، وتَعَدُّدَ شرورِها، وتَشَعُّبَ مفاسِدِها، ومُضاعَفةَ العذابِ بحسَبِ ذلك عليها؛ لِنَزدجِرَ ونَنكَفَّ، فنَسلَمَ مِن الشَّرِّ المتراكمِ، والعذابِ المضاعَفِ، ونفوزَ بأجرِ التذكُّرِ، وثمرةِ التذكيرِ [1046] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 223). .
3- قال الله تعالى: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا أي: فلْيعلَمْ أنَّ توبتَه في غايةِ الكمالِ؛ لأنَّها رجوعٌ إلى الطريقِ الموصِلِ إلى اللهِ الذي هو عينُ سعادةِ العبدِ وفلاحِه؛ فلْيُخلِصْ فيها، ولْيُخَلِّصْها مِن شوائبِ الأغراضِ الفاسدةِ، فالمقصودُ مِن هذا الحَثُّ على تكميلِ التوبةِ، وإيقاعُها على أفضلِ الوجوهِ وأَجَلِّها؛ لِيَقدَمَ على مَن تاب إليه فيوفِّيَه أجرَه بحسَب كمالِها [1047] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 587). .
4- في قَولِه تعالى: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا دعا اللهُ بهذا عبادَه المذنبِينَ حتى لا يَتَسَرَّبَ القنوطُ إلى قلوبِهم -وهو مُحَرَّمٌ عليهم- ولا يَحُولَ بيْنهم وبيْنَ خالقِهم ذنْبٌ وإنْ عَظُمَ، ورغَّبَهم في التَوبةِ بأنَّها رجوعٌ إليه وكفَى، وأنَّ الرجوعَ إليه فيه مِن الخَيرِ والشرفِ فوقَ ما تُصَوِّرُه الألفاظُ، فما أحلَمَه مِن ربٍّ كريمٍ، وما أرحمَه بعبادِه المذنِبِين! فهذا داعي اللهِ فأجيبوه، وهذا بابُ اللهِ فَلِجُوه؛ فإنَّكم مهما رجعتُم إليه لا تُطرَدوا، ومهما قصَدتُم إليه تُقبَلوا وتُكْرَموا [1048] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 229). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قامتِ الشَّريعةُ على المحافظةِ على حقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادِه، وحَقُّ اللهِ على عبادِه أنْ يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، فمَن دعا مع اللهِ غيرَه، وأشركَ به سِواه فقد أبطَلَ حقَّ اللهِ، وأعدمَ عبادتَه، ومَن قتَلَ النَّفْسَ فقد تعدَّى على أولِ حقٍّ جَعَلَه اللهُ لعبادِه بفضلِه -وهو حقُّ الوجودِ- وعَمِلَ على إبطالِ وجودِهم، وفناءِ نوعِهم، وزوالِ عبادتِهم؛ فلهذا قُرِنَ قَتلُ النَّفسِ بدعاءِ غيرِ اللهِ معه [1049] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 220). .
2- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ هذه أكبَرُ الكبائرِ، وأعظَمُها ضَررًا، وأشَدُّها فسادًا للعالَمِ، وإذا تأمَّلَ العاقِلُ فَسادَ الوجودِ رآه مِن هذه الجِهاتِ الثَّلاثِ [1050] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/83). ، وهي: الكفرُ، ثم قتلُ النفْسِ بغَيرِ الحقِّ، ثمِّ الزنا، كما رتَّبها الله [1051] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/428). ؛ فالشِّركُ فيه فَسادُ الأديانِ، والقَتلُ فيه فَسادُ الأبدانِ، والزِّنا فيه فَسادُ الأعراضِ [1052] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 587). .
3- أصولُ المعاصي كلِّها؛ كبارِها وصغارِها، ثلاثةٌ: تعلُّقُ القلبِ بغيرِ الله، وطاعةُ القوَّةِ الغضبيَّةِ، والقوَّةِ الشَّهوانيَّةِ، وهي: الشِّركُ، والظُّلْمُ، والفواحِشُ؛ فغايةُ التعلُّقِ بغيرِ الله شِركٌ، وأن يُدعَى معه إلهٌ آخَرُ، وغايةُ طاعةِ القوَّةِ الغضبيَّةِ القَتلُ، وغايةُ القوةِ الشهوانيَّةِ الزِّنا؛ ولهذا جمَع الله سُبحانَه بينَ الثلاثةِ في قَولِه تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ، وهذه الثلاثةُ يدعو بعضُها إلى بعضٍ؛ فالشركُ يدعو إلى الظُّلمِ والفواحشِ، كما أنَّ الإخلاصَ والتوحيدَ يَصرِفُهما عن صاحبِه؛ قال تعالى: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] ، فالسوءُ: العِشقُ، والفحشاءُ: الزِّنا، وكذلك الظُّلمُ يدعو إلى الشركِ والفاحشةِ؛ فإنَّ الشِّركَ أظلَمُ الظُّلمِ، كما أنَّ أعدلَ العدلِ التوحيدُ؛ فالعدلُ قرينُ التوحيدِ، والظلمُ قرينُ الشركِ؛ ولهذا يجمع سُبحانَه بيْنهما: أمَّا الأولُ، ففي قولِه تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] ، وأما الثاني فكقولِه تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، والفاحشةُ تدعو إلى الشِّركِ والظُّلمِ، ولا سيَّما إذا قَوِيت إرادتُها ولم تحصُلْ إلا بنوعٍ مِن الظُّلمِ والاستعانةِ بالسِّحرِ والشيطانِ، وقد جمَع سُبحانَه بينَ الزنا والشِّركِ في قَولِه تعالى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: 3] ، فهذه الثلاثةُ يجُرُّ بعضُها إلى بعضٍ، ويأمُرُ بعضُها ببعضٍ؛ ولهذا كلَّما كان القلبُ أضعَفَ توحيدًا وأعظَمَ شِركًا، كان أكثَرَ فاحشةً، وأعظَمَ تعلُّقًا بالصُّوَرِ وعِشقًا لها [1053] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 81). .
4- قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا دلَّت هذه الآيةُ على أنَّه ليس بعْدَ الكُفرِ أعظَمُ مِن قَتلِ النَّفسِ بغيرِ الحَقِّ، ثمَّ الزِّنا؛ ولهذا ثَبَت في حَدِّ الزِّنا القَتلُ لِمَن كان مُحصَنًا، أو أقصَى الجَلدِ لِمن كان غيرَ مُحصَنٍ [1054] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (13/76). .
5- قال الله تعالى: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مضاعفةُ العذابِ: أن يُعَذَّبَ على كلِّ جُرْمٍ ممَّا ذُكِرَ عذابًا مُناسبًا؛ ولا يُكتفَى بالعذابِ الأكبرِ عن أكبرِ الجرائمِ، وهو الشِّركُ؛ تنبيهًا على أنَّ الشِّركَ لا يُنجي صاحبَه مِن تَبِعةِ ما يَقترفُه مِن الجرائمِ والمفاسدِ؛ وذلك لأنَّ دعوةَ الإسلامِ للناسِ جاءتْ بالإقلاعِ عن الشركِ وعن المفاسدِ كلِّها، وهذا معنى قولِ مَن قال مِن العلماءِ بأنَّ الكفارَ مخاطَبون بفروعِ الشريعةِ، يَعنون خطابَ المؤاخَذةِ على ما نُهوا عن ارتكابِه، وليس المرادُ أنهم يُطْلَبُ منهم العملُ؛ إذْ لا تُقْبَلُ منهم الصالحاتُ بدونِ الإيمانِ [1055] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/74). .
6- في قَولِه تعالى: وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ إلى قَولِه سُبحانَه: إِلَّا مَنْ تَابَ دَلالةٌ على أنَّ التَّوبةَ تمحو آثامَ كلِّ ذنبٍ مِن هذه الذُّنوبِ المعدودةِ، ومنها قتلُ النَّفْسِ بدونِ حقٍّ، وهو المعروفُ مِن عُموماتِ الكتابِ والسُّنَّةِ [1056] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/76). ، فالآيةُ فيها دَلالةٌ على صحَّةِ توبةِ القاتلِ، ولا تعارُضَ بينَ هذه وبينَ آيةِ (النساء): وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] ؛ فإنَّ هذه وإن كانت مدَنيَّةً إلَّا أنَّها مطلقةٌ، فتُحمَلُ على مَن لم يتُبْ؛ لأنَّ هذه مقيدةٌ بالتوبةِ، ثم قد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48، 116]. وقد ثبتت السنَّةُ الصحيحةُ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم بصحَّةِ توبةِ القاتلِ [1057] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/126، 127). ، فالقاتِلُ إذا تاب لا يستحِقُّ الوعيدَ بنَصِّ القُرآنِ [1058] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/266). قال ابن تيميَّة: (قاتِلُ النَّفسِ بغير حقٍّ عليه حقَّان: حقٌّ لله بكَونِه تعدَّى حدودَ الله، وانتهَك حُرُماتِه. فهذا الذنْبُ يغفرُه الله بالتوبةِ الصحيحةِ. والحقُّ الثاني: حقُّ الآدميِّينَ، فعلى القاتلِ أن يُعطيَ أولياءَ المقتولِ حقَّهم، فيُمكِّنَهم مِن القِصاصِ، أو يصالحَهم بمالٍ، أو يطلُبَ منهم العفوَ، فإذا فعَل ذلك فقد أدَّى ما عليه مِن حقِّهم، وذلك مِن تمامِ التوبةِ. وهل يبقَى للمَقتولِ عليه حقٌّ يطالبُه به يومَ القيامةِ؟ على قولينِ للعُلَماءِ في مذهبِ أحمدَ وغَيرِه، ومَن قال: يبقَى له فإنَّه يستكثرُ القاتِلُ مِن الحَسَناتِ حتى يعطيَ المقتولَ مِن حَسَناتِه بقَدْرِ حقِّه، ويبقَى له ما يبقَى، فإذا استكثرَ القاتِلُ التائبُ مِن الحسناتِ رُجِيَت له رحمةُ الله، وأنجاه مِن النَّارِ). ((الفتاوى الكبرى)) (3/407، 408). وأمَّا ما ورد عن ابنِ عبَّاسٍ، وزَيدِ بنِ ثابتٍ: أنَّ القاتِلَ لا تَوبةَ له، فقد حُمِلَ على التَّغليظِ؛ فقد رُوِيَ عنهما أنَّ له توبةً، أو: أنَّه لا توبة له بالنِّسبةِ لحقِّ المقتولِ؛ فإنَّه لا يمكنُ استحلالُه. أمَّا إن مات القاتِلُ مِن غيِر توبةٍ فإنَّه تحتَ مشيئةِ الله تعالى؛ إنْ شاء غَفَر له، وأرضى خَصْمَه، وإنْ شاء عذَّبه على فِعْلِه، ثم يُدخِلُه الجنَّةَ بإيمانِه؛ فضلًا منه ورَحمةً. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (1/589)، ((تفسير القرطبي)) (5/332)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/396)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الفرقان)) (ص: 300). قال القرطبي: (ثمَّ إنَّ الجَمعَ بيْنَ آيةِ «الفُرقانِ» وهذه الآيةِ -أي: قَولِه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النساء: 93] - مُمكِنٌ، فلا نَسْخَ ولا تعارُضَ؛ وذلك أن يُحمَلَ مُطلَقُ آيةِ «النساء» على مُقَيَّدِ آيةِ «الفرقان»، فيكونَ معناه: فجزاؤُه كذا إلَّا مَن تاب، لا سيَّما وقد اتَّحَد المُوجِبُ، وهو القَتلُ، والموجَبُ وهو التوعُّدُ بالعِقابِ. وأمَّا الأخبارُ فكثيرةٌ؛ كحَديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ الذي قال فيه: «تُبايِعوني على ألَّا تُشرِكوا باللهِ شَيئًا، ولا تَزْنُوا، ولا تَسرِقوا، ولا تَقتُلوا النَّفْسَ التي حرَّم اللهُ إلَّا بالحَقِّ، فمَن وَفَى منكم فأجرُه على اللهِ، ومَن أصاب شيئًا مِن ذلك فعُوقِبَ به فهو كفَّارةٌ له، ومَن أصاب مِن ذلك شَيئًا فسَتَرَه اللهُ عليه فأمْرُه إلى اللهِ؛ إنْ شاء عفا عنه، وإنْ شاء عَذَّبَه»). ((تفسير القرطبي)) (5/334). .
7- في قَولِه تعالى: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ دَلالةٌ على أنَّ المنتَقِلَ مِن الضَّلالِ إلى الهُدى يُضاعَفُ له الثَّوابُ [1059] يُنظر: ((المستدرك على مجموع الفتاوى)) (1/209). .
8- في قَولِه تعالى: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا سؤالٌ؛ ما فائدةُ هذا التَّكريرِ مع ما سَبَقَ: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا؟
الجوابُ مِن وجهينِ:
الأولُ: أنَّ هذا ليس بتَكريرٍ؛ لأنَّ الأولَ لَمَّا كان في تلك الخصالِ بَيَّنَ تعالى أنَّ جميعَ الذُّنوبِ بمنزلتِها في صِحَّةِ التَّوبةِ منها.
الثاني: أنَّ التَّوبةَ الأُولى رجوعٌ عن الشِّركِ والمعاصي، والتَّوبةَ الثَّانيةَ رُجوعٌ إلى اللهِ تعالى للجَزاءِ والمكافأةِ، كقَولِه تعالى: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ [الرعد: 30] ، أي: مَرجِعي [1060] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/485). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا
- هذا شروعٌ في نفي أُمَّهاتِ المعاصي عنهم بعدَما أثبَت لهم أصولَ الطاعاتِ؛ إظهارًا لكمالِ إيمانِهم، وتنبيهًا على أنَّ الإيمانَ الكاملَ هو ما تثبتُ معه الطاعاتُ، وتنْتَفي المعاصي، وذلك هو غايةُ الامتثالِ للأوامرِ والنَّواهي، وإشعارًا بأنَّ الأجرَ المذكورَ موعودٌ للجامعِ بينَ ذلك، وفيه تعريضٌ بما كان عليه المشركونَ مِن الاتِّصافِ بهذه المعاصي؛ مِن دعائِهم آلهتَهم معَ الله، وقتلِهم النفسَ، وارتكابِهم فاحشةَ الزِّنا. كأنَّه قيل: والذين برَّأهم الله وطهَّرهم ممَّا أنتم عليه، ولذلك عقَّبه بالوعيدِ تهديدًا لهم؛ فقال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [1061] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/294)، ((تفسير البيضاوي)) (4/130)، ((تفسير أبي السعود)) (6/229)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 219). .
- والتَّصريحُ بوصفِ عباد الرحمن بنَفيِ الإشراكِ -معَ ظُهورِ إيمانِهم-؛ لإظهارِ كمالِ الاعتِناءِ بالتَّوحيدِ والإخلاصِ، وتَهويلِ أمْرِ القَتلِ والزِّنا بنَظْمِهما في سِلْكِه [1062] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/229). .
- وقد جُمِع في قولِه: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ التَّخلِّي عن هذه الجَرائمِ الثَّلاثِ في صِلَةِ مَوصولٍ واحدٍ، ولم يُكرَّرِ اسمُ المَوصولِ كما كُرِّر في ذِكرِ خِصالِ تَحلِّيهم؛ للإشارةِ إلى أنَّهم لَمَّا أَقلَعوا عنِ الشِّركِ، ولمْ يَدْعوا مع اللهِ إلهًا آخَرَ؛ فقد أَقلَعوا عن أشدِّ القبائحِ لُصوقًا بالشِّركِ، وذلك قَتْلُ النَّفْسِ والزِّنا. فجُعِل ذلك شَبِيهَ خَصلةٍ واحدةٍ، وجُعِل في صِلَةِ مَوصولٍ واحدٍ. وقد يكونُ تَكريرُ (لا) مُجْزِئًا عن إعادةِ اسمِ المَوصولِ، وكافيًا في الدَّلالةِ على أنَّ كلَّ خَصلةٍ مِن هذه الخِصالِ مُوجِبةٌ لمُضاعَفةِ العذابِ [1063] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/73، 74). .
- قولُه: وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَصْفُ النَّفْسِ بـ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ بيانٌ لحُرمةِ النَّفْسِ الَّتي تَقرَّرَتْ مِن عهْدِ آدَمَ فيما حكَى اللهُ مِن مُحاوَرةِ ولَدَيْ آدَمَ بقَولِه: قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ [المائدة: 27] الآياتِ، فتَقرَّرَ تحريمُ قتْلِ النَّفْسِ مِن أقدَمِ أزمانِ البَشرِ، ولم يَجْهَلْه أحدٌ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ، فذلك معنَى وصْفِ النَّفْسِ بالمَوصولِ في قَولِه: الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ؛ فإنَّه وصَف النَّفْسَ بالاسمِ الموصولِ المعروفِ الصِّلةِ؛ لأنَّ تَحريمَ اللهِ لها أمرٌ مَركوزٌ في النُّفوسِ، معروفٌ للبشَرِ بما جاءَهم مِن جَميعِ الشَّرائعِ [1064] يُنظر: ، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 220)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/73). .
- وكان النَّفيُ للفعلِ بصِيغَةِ المُضارِعِ وَلَا يَقْتُلُونَ؛ للإشارةِ إلى استمرارِ ذلك النَّفيِ [1065] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 220). .
- قولُه: الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، أي: التي حرَّمَها، بمعنى: حَرَّم قتْلَها، فحُذِف المُضافُ، وأُقيمَ المُضافُ إليه مقامَه؛ مُبالَغةً في التَّحريمِ [1066] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/229). .
- قولُه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا مِن بَلاغةِ القرآنِ: أنَّه إذا أمَرَ بشَيءٍ ذكَرَ فائدتَه وثمرتَه للعِبادِ في الدَّارينِ، وكذلك إذا نهَى عن شَيءٍ ذكَرَ مضرَّتَه، وسُوءَ عاقبتِه عليهم فيهما؛ فلمَّا ذكَرَ في صدْرِ الآيةِ نفْيَ تلك المعاصي عن عِبادِ الرَّحمنِ الَّذي يُفِيدُ النَّهيَ عنها؛ ذَكَر هذا الوعيدَ؛ لبَيانِ سُوءِ عاقبتِها، وقُبْحِ أثَرِها [1067] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 222). .
- الإشارةُ بأداةِ البُعدِ في قولِه: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أي: الفعلَ العظيمَ القُبحِ، مع قُربِ المذكوراتِ؛ دلَّ على أنَّ البعدَ في رُتَبِها [1068] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/426). .
- والتَّنوينُ في قَولِه: أَثَامًا للتَّفخيمِ [1069] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/230). .
2- قولُه تعالى: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا
- قولُه: يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَضعيفُ العذابِ: مُضاعَفتُه؛ لانضِمامِ المعصيةِ إلى الكُفرِ، ويَجوزُ أنْ تَكونَ مضاعَفةُ العذابِ مُستعمَلةً في معنى قُوَّتِه، أي: يُعَذَّبُ عذابًا شديدًا، وليستْ لتكريرِ عذابٍ مُقدَّرٍ [1070] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/131)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/74). .
- قولُه: مُهَانًا حالٌ قُصِد منها تَشنيعُ حالِهم في الآخِرةِ [1071] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/75). .
3- قولُه تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
- قولُه: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا رُوعِيَتِ الحالةُ الأُولى فذُكِرَتِ التَّوبةُ، والثَّانيةُ فذُكِر الإيمانُ، والثَّالثةُ فذُكِر العملُ الصَّالحُ؛ لأنَّ العاصيَ يكونُ في غَمَراتِ مَعصيتِه، فإذا ذكَرَ اللهَ، ووفَّقَه اللهُ، أَسِفَ على حالِه، ورجَعَ إلى ربِّه، وهذه أوَّلُ الدَّرجاتِ في تَوبتِه، فإذا استشعَرَ قلْبُه اليقينَ، واطمأَنَّ قلْبُه بذِكْرِ اللهِ؛ صمَّمَ على الإعراضِ عن المعصيةِ، والإقبالِ على الطَّاعةِ، فإذا كان صادقًا في هذا العزمِ، فلا بُدَّ أن يَظهَرَ أثرُ ذلك على عمَلِه [1072] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 225). .
- وعَطْفُ وَآَمَنَ على مَنْ تَابَ؛ للتَّنويهِ بالإيمانِ، ولِيُبْنَى عليه قَولُه: وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، وهو شرائعُ الإسلامِ؛ تحريضًا على الصَّالحاتِ، وإيماءً إلى أنَّها لا يُعتَدُّ بها إلَّا مع الإيمانِ، كما قال تعالى في سورة (البلد): ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا [البلد: 17] ، وقال في عكسِه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [1073] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/76). [النور: 39] .
- وقولُه: وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فيه ذِكرُ المَوصوفِ مع جرَيانِ الصَّالحِ والصَّالحاتِ مَجرَى الاسمِ؛ للاعتِناءِ والتَّنصيصِ على مُغايَرتِه للأعمالِ السَّابقةِ [1074] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/230). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ؛ حيثُ قال هنا: وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، وقال في سورةِ (طه): وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [طه : 82] ؛ وذلك لأنَّه في سُورةِ (طه) أَوْجَزَ في ذِكرِ المعاصي فأَوجَزَ في التَّوبةِ، وأطالَ في الفُرقانِ فأطالَ في التَّوبةِ [1075] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 173). .
- قولُه: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ ... كلامٌ مَسوقٌ لبيانِ فضْلِ التَّوبةِ المَذكورةِ، واسمُ الإشارةِ أفادَ التَّنبيهَ على أنَّهم أَحْرياءُ بما أخبَرَ عنهم به بعْدَ اسمِ الإشارةِ؛ لأجْلِ ما ذُكِر مِنَ الأوصافِ قبْلَ اسمِ الإشارةِ [1076] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/295)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/77). . واسمُ الإشارةِ فَأُولَئِكَ إشارةٌ إلى المَوصولِ (مَن)، والجَمعُ باعتِبارِ معناهُ، كما أنَّ الإفراد في الأفعالِ الثَّلاثةِ -(تَابَ)، و(آمَنَ)، و(عَمِلَ)- باعتِبارِ لفْظِه [1077] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/230). .
- قولُه: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ ... ذكَر الاسمَ الأعظمَ؛ تعظيمًا للأمرِ، وإشارةً إلى أنَّه سبحانَه لا منازعَ له [1078] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/429). .
- ولم تَتعرَّضِ الآيةُ لمِقدارِ الثَّوابِ، وهو مَوكولٌ إلى فضلِ اللهِ؛ ولذلك عَقَّبَ هذا بقَولِه: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا المُقتضِي أنَّه عظيمُ المغفرةِ [1079] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/77). .
- قولُه: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا اعتِراضٌ تَذْييليٌّ مُقرِّرٌ لِما قَبْلَه مِنَ المَحوِ والإثباتِ [1080] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/230). .
4- قولُه تعالى: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا تعميمٌ بعْدَ تَخصيصٍ [1081] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/131)، ((تفسير أبي السعود)) (6/230). ؛ فهو تَذْييلٌ لِما قبْلَه [1082] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/295). .
- والتَّوكيدُ بـ (إنَّ)؛ لتَحقيقِ مَضمونِ الخبرِ [1083] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/78). .
- وقد وقَعَ الإخبارُ عنِ التَّائبِ بأنَّه تائبٌ؛ إذِ المَتابُ مَصدرٌ مِيميٌّ بمعنَى التَّوبةِ، فيَتعيَّنُ أن يُصرَفَ إلى معنًى مُفيدٍ، فيَجوزُ أن يكونَ المُقصودُ هو قَولَه: إِلَى اللَّهِ؛ فيكونَ كِنايةً عن عظيمِ ثَوابِه. ويَجوزُ أن يكونَ المقصودُ ما في المضارعِ مِنَ الدَّلالةِ على التَّجدُّدِ، أي: فإنَّه يَستمِرُّ على تَوبتِه، ولا يَرتَدُّ على عَقِبَيْهِ؛ فيكونَ وعْدًا مِنَ اللهِ تعالى أن يُثبِّتَه على القَولِ الثَّابتِ إذا كان قد تابَ وأيَّدَ تَوبتَه بالعملِ الصَّالحِ. ويَجوزُ أن يكونَ المقصودُ ما للمفعولِ المُطلَقِ مِن معنَى التَّأكيدِ، أي: مَن تاب وعمِلَ صالحًا فإنَّ تَوبتَه هي التَّوبةُ الكاملةُ الخالِصةُ للهِ [1084] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/77، 78). .
- وخالَفَ جوابُ الشَّرطِ -وهو يَتُوبُ- فِعلَ الشَّرطِ -وهو تَابَ- بمُتعلَّقِه -وهو إِلَى اللَّهِ- ومَعمولِه -وهو مَتَابًا-، وعُبِّرَ بالمُضارِعِ في الجوابِ؛ لِيُفيدَ التَّجدُّدَ باعتِبارِ تجدُّدِ المَثوباتِ للرَّاجعينَ إلى اللهِ [1085] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 228). .
- وتَنوينُ مَتَابًا تَنوينُ تَفخيمٍ وتَعظيمٍ [1086] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 228). .