موسوعة التفسير

سُورةُ يُوسُفَ
الآيات (22-29)

ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ

 غريب الكلمات:

بَلَغَ أَشُدَّهُ : أي: بلغ مُنْتهَى شَبابِه وقُوَّتِه، والأَشُدُّ قيل: جمعٌ لا واحدَ له، وقيل: مفردُه شَدٌّ، وأصلُ (شدد): يدلُّ على قوَّةٍ في الشَّيءِ [238] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 254)، ((تفسير ابن جرير)) (13/66)،  ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 64)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/180)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 540). .
وَرَاوَدَتْهُ: أي: أرادَتْه على ما تُريدُ، والمُراوَدة: مُفاعَلةٌ مِن راد يَرودُ: إذا جاء وذهبَ، وهي عِبارةٌ عن التحَيُّلِ لِمُواقَعتِه إيَّاها [239] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/1175)، ((المفردات)) للراغب (ص: 371)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 170)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 242). .
هَيْتَ: أي: هَلُمَّ وأقبِلْ إلى ما أدعوك إليه، يقال: هَيَّتَ فلانٌ لفلانٍ؛ إذا دعاه وصاح به، وأصلُ (هَيَتَ): يَدُلُّ عَلَى الصَّيحةِ [240] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 215)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 491)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 847)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 171). .
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا: الهمُّ بالشيءِ: هو حديثُ المرءِ نفسَه بمواقعتِه ما لم يُواقِعْ ، أو: هو المقاربةُ مِن الفعلِ مِن غيرِ دُخولٍ فيه، والهمُّ نوعانِ: همُّ خطراتٍ وكان هذا همَّ يوسفَ عليه السلامُ، وهمُّ اصرارٍ وكان هذا همَّ المرأةِ، وأصل (همَّ): يدلُّ على ذَوْبٍ وجَريانٍ ودبيبٍ وما أشبهَ ذلك [241]  يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/13)، ((تفسير السمعاني)) (3/21)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/427)، ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/261). .
السُّوءَ: السُّوءُ: الْقَبِيحُ، وهو خيانةُ مَن ائتَمَنه، وقيل: هو مُقدِّماتُ الفاحِشَةِ، وأصلُ (سوء): يدُلُّ على القُبحِ [242] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/113)، ((البسيط)) للواحدي (12/78)، ((تفسير الرازي)) (18/444)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/255). .
وَالْفَحْشَاءَ: أي: المَعصيةَ، وهي الزِّنا، وأصلُ (فحش): يدُلُّ على قُبْحٍ فِي شيءٍ وشناعةٍ [243] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس  (4/478)، ((البسيط)) للواحدي (12/78)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/255). .
وَقَدَّتْ: أي: شقَّتْ، وأصلُ (قدَّ): يدلُّ على قَطعِ الشَّيءِ طولًا [244] ((تفسير ابن جرير)) (13/101)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 375)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/6)، ((المفردات)) للراغب (ص: 657). .
دُبُرٍ: أي: خلفٍ، وأصلُ الدبر: آخرُ الشيءِ، وخلفُه، خلافُ قُبُلِه [245] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324)، ((المفردات)) للراغب (ص: 306)، ((تفسير القرطبي)) (9/170). .
وَأَلْفَيَا: أي: وجدَا، وأصلُ (لفا): يدلُّ على انكشافِ شَيءٍ وكَشْفِه [246] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 215)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/258)، ((المفردات)) للراغب (ص: 744)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 242). .
قُبُلٍ: القُبُل مِن كلِّ شيءٍ: خلافُ دُبُرِه، وذلك أنَّ مُقَدَّمَه يُقبِلُ على الشيءِ [247] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/51)، ((المفردات)) للراغب (ص: 653). .
كَيْدِكُنَّ: أي: حيلتِكنَّ، و صنيعِكنَّ، والكَيْدُ: ضربٌ مِن الاحتيالِ، وقد يكونُ مذمومًا وممدوحًا، وإن كان يُستعمَلُ في المذمومِ أكثرَ، وأصلُ (كيد): يدُلُّ على مُعالجةٍ لشيءٍ بشِدَّةٍ [248] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 507)، ((تفسير ابن جرير)) (13/113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/149)، ((المفردات)) للراغب (ص: 728)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 434). .

المعنى الإجمالي:

يخبرُ الله تعالى أنَّه لَمَّا بلغ يوسُفُ مُنتهى قوَّتِه في شبابِه أعطاه النُّبوَّةَ والعِلمَ، ومِثلَ هذا الجزاءِ الذي جَزَينا به يوسُفَ على إحسانِه نَجزي المُحسنينَ على إحسانِهم، ودَعَت امرأةُ العزيزِ يوسُفَ إلى نَفسِها، وغلَّقَت الأبوابَ عليها وعلى يوسُفَ، وقالت: هلمَّ إليَّ، فقال: معاذَ اللهِ! أعتَصِمُ به وأستجيرُ مِن الذي تدعِينَني إليه مِن خيانةِ سَيِّدي الذي أحسنَ مَنزِلتي وأكرَمَني، فلا أخونُه في أهلِه؛ إنَّه لا يُفلِحُ مَن ظَلمَ فَفَعل ما ليس له فِعلُه، ولقد عزَمَت امرأةُ العزيزِ على فِعلِ الفاحِشةِ، وخطرَ ليوسُفَ خاطِرٌ عارِضٌ في قَلبِه لم يَثبُتْ ولم يتحَوَّلْ إلى عَزمٍ، لولا أنْ رأى آيةً مِن آياتِ رَبِّه امتنَعَ بها عن ذلك الخاطِرِ، وإنَّما أريناه ذلك لندفَعَ عنه السُّوءَ والفاحِشةَ في جميعِ أمورِه؛ إنَّه من عبادنا المُطَهَّرينَ المُصطَفَينَ للرِّسالةِ، الذين أخلَصْتُهم من الشِّركِ والسُّوءِ والفَحشاءِ.
وأسرعَ يوسُفُ إلى البابِ يريدُ الخُروجَ، وأسرَعَت تُحاوِلُ الإمساكَ به، وجذَبَت قميصَه مِن خَلْفِه؛ لتَحُولَ بينه وبين الخروجِ فشَقَّته، ووجدا زوجَها عند البابِ، فقالت: ما جزاءُ مَن أراد بامرأتِك فاحِشةً إلَّا أن يُسجَنَ أو يُعذَّبَ العذابَ المُوجِعَ. قال يوسُفُ: هي التي طلَبَت منِّي ذلك، فشَهِدَ شاهِدٌ مِن أهلها فقال: إن كان قميصُه شُقَّ من الأمامِ فصَدَقت في اتِّهامِها له، وهو مِن الكاذبينَ، وإن كان قميصُه شُقَّ من الخَلفِ فكَذَبت في قَولِها، وهو من الصَّادقينَ. فلمَّا رأى زوجُ المرأةِ قميصَ يوسُفَ شُقَّ مِن خَلفِه عَلِمَ براءةَ يوسُفَ، وقال لزَوجتِه: إنَّ هذا الكَذِبَ الذي اتَّهَمتِ به هذا الشَّابَّ هو مِن جملةِ مَكرِكُنَّ- أيَّتُها النِّساءُ- إنَّ مَكرَكُنَّ عظيمٌ، وقال ليوسُفَ: يوسُفُ، اترُكْ ذِكرَ ما كان منها، فلا تَذكُرْه لأحدٍ، واطلُبي- أيَّتُها المرأةُ- المغفرةَ لذَنبِك؛ إنَّك كنتِ من الآثمينَ في مُراودةِ يوسُفَ عن نفسِه، وفي افترائِك عليه.

تفسير الآيات:

وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22).
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا.
أي: ولَمَّا بلغ يوسُفُ مُنتهى شِدَّتِه وقوَّتِه وشَبابِه، واكتمل خَلْقُه وعَقلُه [249] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/66، 68)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/99)، ((تفسير ابن كثير)) (4/378)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/226)، ((تفسير السعدي)) (ص: 395). واختُلِف في مقدارِ المدَّةِ الَّتي بَلَغ فيها أشدَّه، فقيل: ثلاثٌ وثلاثونَ، وممن قال به مِن السلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، ونسَبه الواحديُّ لأكثرِ المفسرين. وقيل: عشرونَ، وممن قال به مِن السلفِ: الضَّحَّاكُ، وقيل: الأشدُّ: الحُلُمُ، وممن قال به من السلفِ: الإمامُ مالكٌ، وربيعةُ، وزيدُ بنُ أسلمَ، والشَّعبيُّ. وقيل غير ذلك. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (2/606)، ((تفسير ابن كثير)) (4/378). قال ابنُ جرير: (جائزٌ أنْ يكونَ آتاه ذلك وهو ابنُ ثماني عَشْرَةَ سَنَةً، وجائزٌ أنْ يكونَ آتاه وهو ابنُ عشرينَ سَنَةً، وجائزٌ أنْ يكونَ آتاه وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سَنَةً، ولا دلالةَ في كتابِ اللَّهِ، ولا أثَرَ عنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا في إجماعِ الأُمَّةِ على أيِّ ذلك كان، وإذالم يكُنْ ذلك موجودًا مِن الوجهِ الَّذي ذكرتُ، فالصَّوابُ أنْ يُقالَ فيه كما قال عزَّ وجلَّ، حتَّى تَثْبُتَ حُجَّةٌ بصحَّةِ ما قيلَ في ذلك مِن الوجهِ الَّذي يجبُ التَّسليمُ له فيُسَلِّمُ لها حينئذٍ). ((تفسير ابن جرير)) (13/68). ؛ أعطَيناه النُّبوَّةَ والعِلمَ [250] ممَّن اختار أنَّ الحُكمَ هنا مرادٌ به النبوَّةُ: البغوي، والرسعني، وابنُ كثير، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/483)، ((تفسير الرسعني)) (3/306)، ((تفسير ابن كثير)) (4/378)، ((تفسير السعدي)) (ص: 395)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/248). وممَّن قال بهذا القول من السلفِ: السُّديُّ، وابنُ السائبِ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2120)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/425). وقيل: المراد بالحُكم هنا: العمَلُ بالعِلمِ، وممَّن ذهب إلى ذلك: ابنُ العربي. يُنظر: ((أحكام القرآن)) (3/64) لابن العربي، ويُنظر أيضًا ((تفسير السمعاني)) (3/20). وقيل: المرادُ: الفَهمُ. وممن اختار ذلك: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/68). وممن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلف: مجاهد. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (7/2119)، ((تفسير ابن جرير)) (13/68). وقوله: عِلْمًا قيل: المراد: عِلمُ تعبير الرُّؤيا. ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/248)، وينظر: ((تفسير الرسعني)) (3/306). وقيل: المراد به: الفقه في الدين. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/483). .
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.
أي: ومِثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي كلَّ مَن أحْسَن [251]  يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/18)، ((تفسير القنوجي)) (6/309) ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن الجوزي)) (2/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 395). وليس المعنى أنَّه يجزي كلَّ مَن أحسَن عينَ ما جزَى يوسفَ عليه السلامُ، ولكن يجزيه جزاءَ الإحسانِ، فالمرادُ مطلقُ المشابهةِ في مقابلةِ الإحسانِ بالإحسانِ مِن غيرِ بخسٍ، لا المماثلةُ مِن كلِّ وجهٍ، فالنبوةُ غيرُ مكتسبةٍ باتفاقِ العلماءِ. ينظر: ((تفسير الماتريدي)) (6/223)، ((تفسير الرازي)) (18/436)، ((تفسير أبي السعود)) (3/158). قال الشوكاني: (فكلُّ مَنْ أحْسَن في عملِه أحْسَنَ اللَّهُ جزاءَه، وجعلَ عَاقبةَ الخيرِ مِنْ جملةِ ما يَجزيه به، وهذا عامُّ يدخلُ تحتَه جزاءُ يوسفَ على صبرِه الحَسنِ دخولًا أَوَّلِيًّا. قال الطَّبريُّ: هذا وإنْ كان مَخْرَجُه ظاهِرًا على كلِّ محسنٍ فالمرادُ به محمدٌ صَلَّى الله عليه وسلَّم، يقولُ اللَّهُ تعالى كما فَعَل هذا بيوسف ثُمَّ أعطيتُه ما أعطيتُه كذلك أُنجيكَ مِنْ مشركي قَوْمِكَ الَّذين يَقْصِدونَك بالعداوةِ، وأُمَكِّنُ لك في الأرضِ. والأولَى ما ذكَرْناه مِنْ حملِ العمومِ على ظاهرِه فيدخُلُ تحتَه ما ذَكَره ابنُ جريرٍ الطَّبريُّ). ((تفسير الشوكاني)) (3/18) وينظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/69). .      
كما قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الأعراف: 56.
وقال سُبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ الزمر: 10.
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23).
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ.
أي: ودعتْ امرأةُ العزيزِ يوسفَ- التي هو مقيمٌ في بيتِها، وتحتَ تدبيرِها- إلى نفسِها، وطلبتْ منه أن يواقعَها [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/69)، ((تفسير القرطبي)) (9/162)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (6/462)، ((تفسير ابن كثير)) (4/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/250). .
وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ.
أي: وغلَّقَت امرأةُ العزيز جميعَ أبوابِ البَيتِ عليها وعلى يوسُفَ [253] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/70)، ((تفسير ابن كثير)) (4/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ.
أي: وقالت ليوسُفَ: تعالَ وأقبِلْ إليَّ [254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/70)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 491)، ((تفسير القرطبي)) (9/163)، ((تفسير ابن كثير)) (4/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ.
أي: قال يوسُفُ لامرأةِ العزيزِ حين دعتْه إلى نفسِها: أعتَصِمُ باللهِ مِن فِعلِ الفاحشةِ التي تَدعينَني إليها؛ إنَّ زوجَكِ سيِّدي، أكرَمَني وأحسنَ إليَّ، فلا أقابِلُ مَعروفَه بخيانتِه في أهلِه [255] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/78، 79)، ((تفسير القرطبي)) (9/165)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/111)، ((تفسير ابن كثير)) (4/379)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). والقولُ بأنَّ قولَه: إِنَّهُ رَبِّي أي: العزيزُ زوجُ المرأةِ، هو قولُ أكثرِ المفسرينَ. ينظر: ((البسيط)) للواحدي (12/71). وقيل: المرادُ: إنَّ الله ربِّي تولَّاني في طولِ مقامي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/101)، ((البسيط)) للواحدي (12/71). .
إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
أي: إنَّه لا يفوزُ ولا ينجَحُ الظَّالِمونَ الذين يفعلونَ ما ليس لهم فِعلُه، وهذا الذي تَدعينَني إليه ظُلمٌ وخِيانةٌ لسَيِّدي الذي أحسَنَ إليَّ [256] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/80)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/101)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/128)، ((تفسير الشوكاني)) (3/21)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24).
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا .
أي: ولقد همَّت امرأةُ العزيزِ- همَّ عزمٍ- بمُواقعةِ الفاحِشةِ مع يوسُفَ، وهمَّ يوسُفُ بامرأةِ العزيزِ، وكان همُّه خطرةً عارضةً، وحديثَ نفسٍ، مِن غيرِ اختيارٍ ولا عزمٍ [257] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/80، 81)، ((تفسير ابن جزي)) (1/384)، ((تفسير ابن كثير)) (4/381). قال ابنُ تَيمية: (فَالهَمُّ اسْمُ جِنْسٍ تحته «نَوعان» كما قال الإمامُ أَحمدُ: الهَمُّ هَمَّان: هَمُّ خَطَراتٍ، وهَمُّ إصْرارٍ، وقد ثَبَتَ في الصَّحيحِ عنِ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم «أنَّ العَبْدَ إذا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ لم تُكتَب عليه، وإذا تَركَها لله كُتِبَت له حَسَنَة، وإن عَمِلَها كُتِبَ له سَيِّئَة واحِدَة» وإن تَرَكَها مِن غَيرِ أن يَتَرُكَها لله لم تُكتَب له حَسنَة ولا تُكتَب عليه سَيِّئَة، ويُوسُف صلَّى الله عليه وسلَّم هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لله، ولذلك صَرَفَ الله عنه السُّوءَ والفَحْشاءَ لإخْلاصِه، وذلك إنَّما يكون إذا قام المُقْتَضَى للذَّنْبِ وهو الهَمُّ، وعارَضَه الإخلاصُ المُوجِب لانْصِرافِ القَلْبِ عن الذَّنْبِ لله. فيُوسُف عليه السَّلام لم يَصدُر منه إلَّا حَسَنَةٌ يُثابُ عليها، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف: 201] . وأمَّا ما يُنقَل: مِن أنَّه حَلَّ سَراوِيلَه، وجَلَس مَجلِس الرَّجُل مِن المَرأَةِ، وأنَّه رأى صُورةَ يَعقوب عاضًّا على يَدِهِ، وأَمثالِ ذلك، فكُلُّه ممَّا لم يُخبِر اللهُ به ولا رَسولُه، وما لم يكُن كذلك فإنَّما هو مَأخُوذٌ عن اليَهودِ الذين هُم مِن أَعظَم النَّاس كَذِبًا على الأَنبِياء وقَدْحًا فيهم، وكُلُّ مَن نَقَلَهُ مِن المسلمين فعنهم نَقَلَهُ، لم يَنْقُلْ مِن ذلك أَحَدٌ عن نَبِيِّنا صلَّى الله عليه وسلَّم حَرْفًا واحِدًا). ((الفتاوى الكبرى)) (5/261). وقال الشَّنقيطي في قوله تعالى: وَهَمَّ بِهَا: (فالجَوابُ مِن وَجهَينِ: الأوَّل: أنَّ المُرادَ بِهَمِّ يُوسُفَ بها خاطِرٌ قَلْبيٌّ صَرَفه عنه وَازِعُ التَّقْوَى، وقال بَعضُهم: هو المَيْلُ الطَّبيعي والشَّهْوَة الغَرِيزِيَّة المَزمومَة بالتَّقْوَى، وهذا لا مَعصِيَة فيه؛ لأنَّه أَمْرٌ جِبلِّي لا يَتعَلَّق به التَّكليف... ومِثالُ هذا مَيْلُ الصَّائِم بطبعِه إلى الماءِ البارِد، مع أن تَقواه تمنعُه مِن الشُّرْب وهو صائِم، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «ومَن هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فلم يَعْمَلْها كُتِبَت له حَسَنَة كامِلَة». لأنَّه تَرَك ما تَميلُ إليه نَفسُه بالطَّبعِ خَوفًا مِن الله، وامتثالًا لِأَمْرِهِ... والجَوابُ الثَّاني وهو اخْتيارُ أبي حَيَّان: أن يُوسُف لم يَقَعْ منه همٌّ أصلًا؛ بل هو مَنْفِيٌّ عنه لوجودِ البُرهان. قال مُقَيِّدُه عَفَا اللهُ عنه: هذا الوَجه الذي اخْتارَهُ أبو حَيَّان وغَيرُه هو أَجْرَى الأقوالِ على قَواعِد اللُّغَة العَربِيَّة؛ لأنَّ الغالِبَ في القُرآن وفي كَلامِ العَرَب: أنَّ الجَوابَ المَحْذُوف يُذكَر قَبلَه ما يَدُلُّ عليه، كقولِه: فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84] أي: إن كُنتُم مُسلمين فتَوَكَّلُوا عليه، فالأَوَّل: دَليلُ الجَوابِ المَحْذوف لا نَفْسُ الجَوابِ؛ لأنَّ جَوابَ الشُّروطِ وجَواب لَوْلَا لا يَتَقَدَّم، ولكن يكون المَذكور قَبلَه دَليلًا عليه كالآيَةِ المَذكورَة... وعلى هذا القَولِ: فمَعنى الآيَة: وهَمَّ بها لولا أن رَأَى بُرهانَ رَبِّه، أي: لولا أن رَآه هَمَّ بها، فما قبلَ «لَوْلَا» هو دليلُ الجوابِ المَحْذوف، كما هو الغالِبُ في القُرآنِ واللُّغَة. ونَظيرُ ذلك قَولُه تعالى: إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا [القصص: 10] ، فما قبلَ «لولا» دليلُ الجَواب، أي: لولا أن رَبَطْنا على قَلبِها لَكادَت تُبدِي به... فبهذين الجَوابَينِ تَعلَم أنَّ يُوسُفَ عليه وعلى نَبِيِّنا الصَّلاةُ والسَّلامُ بَرِيءٌ مِن الوقوعِ فيما لا يَنبَغي، وأنَّه إمَّا أن يكون لم يَقَعْ منه أصلًا بِناءً على أنَّ الهَمَّ مُعَلَّقٌ بأَداةِ الامْتِناعِ التي هي «لَوْلَا» على انْتِفاءِ رؤيةِ البُرهانِ، وقد رَأَى البُرهانَ فانتفَى المُعَلَّقُ عليه، وبانتِفائِه يَنْتَفي المُعَلَّقُ الذي هو هَمُّه بها، وإمَّا أن يكون هَمُّه خاطِرًا قلبِيًّا صَرَفه عنه وازِعُ التَّقْوَى، أو هو الشَّهْوَة والمَيْل الغَرِيزِي المَزْموم بالتَّقْوَى). ((أضواء البيان)) (2/205 - 210)، ويُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/257). ويُنظر أيضًا: ((أحكام القرآن)) لابن العربي (3/46، 47)، ((تفسير القرطبي)) (9/167، 168)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/296، 297)، ((هداية الحيارى)) لابن القيم (2/466)، ((تفسير الشوكاني)) (3/21)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/253). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللَّه عنهما، ((عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما يَرْوي عَن رَبِّه عزَّ وجلَّ قال: قال إِنَّ اللَّهَ كَتَب الحسناتِ والسَّيِّئاتِ ثُمَّ بَيَّن ذلك فمَن هَمَّ بحسنةٍ فلم يَعْمَلْها كَتَبها اللَّهُ له عندَه حسنةً كامِلَةً فإنْ هو هَمَّ بها فعمِلَها كَتَبها اللَّه له عندَه عشرَ حسناتٍ إلى سَبعِمئةِ ضِعْفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ ، ومَن هَمَّ بسَيِّئَةٍ فلم يَعْمَلْها كَتَبها اللَّهُ له عندَه حسنةً كامِلَةً، فإنْ هو هَمَّ بها فعَمِلَها كتَبها اللَّهُ له سَيِّئَةً واحدةً )) [258]  أخرجه البخاري (6491)، واللفظ له، ومسلم (131). .
لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ.
أي: لولا أنْ رأى يوسُفُ آيةً مِن اللهِ قَوِيَ بها إيمانُه، وامتنَعَ بسَبَبِها مِن عِصيانِه [259] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/99، 100)، ((تفسير القرطبي)) (9/169، 170)، ((تفسير ابن كثير)) (4/381، 382)، ((تفسير الشوكاني)) (3/22). قال ابنُ جَرير: (وأَوْلَى الأَقوال في ذلك بالصَّوابِ أن يُقال: إنَّ الله جَلَّ ثَناؤُه أَخبَر عن هَمِّ يُوسُفَ وامرأةِ العَزيز كُلِّ واحِدٍ منهما بصاحبِه، لولا أن رَأَى يُوسُف بُرهانَ رَبِّه، وذلك آيَةٌ مِن الله زَجَرَتْه عن رُكوبِ ما هَمَّ به يُوسُف مِن الفاحِشَة، وجائِزٌ أن تكونَ تلك الآيَةُ صُورَةَ يَعقوبَ، وجائِزٌ أن تكونَ صُورَةَ المَلَكِ، وجائِزٌ أن يكونَ الوَعِيد في الآيات التي ذَكَرَها اللهُ في القُرآن على الزِّنَى، ولا حُجَّةَ للعُذْرِ قاطِعَة بأَيِّ ذلك كان مِن أَيٍّ. والصَّوابُ أن يُقالَ في ذلك ما قالَه الله تَبارَك وتَعالى، والإيمان به، وتَرْك ما عَدَا ذلك إلى عالِمِهِ). ((تفسير ابن جرير)) (13/99). وقال ابنُ تَيمية: (هو بُرهانُ الإيمان الذي حَصَل في قَلْبِه فصَرَف اللهُ به ما كان هَمَّ به). ((مجموع الفتاوى)) (10/101). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 396). وجوابُ لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ محذوفٌ، تقديرُه: لكانَ ما كان، أو: لارتكبَ المعصيةَ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/235)، ((تفسير ابن جزي)) (1/384)، ((تفسير النسفي)) (2/103). وتقدَّم قريبًا ذكرُ الوجهِ الآخرِ، وهو أنَّ ما قبلَ (لَوْلَا) هو دَليلُ الجَوابِ المَحْذوف، ومعنَى الآيَة على ذلك: وهَمَّ بها لولا أن رَأَى بُرهانَ رَبِّهِ، أي: لولا أن رَآهُ هَمَّ بها. .
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء.
أي: أرَينا يوسُفَ كتلك الإراءةِ؛ كي نَقِيَه السُّوءَ والفَحشاءَ في جميعِ أمورِه [260] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/100)، ((تفسير ابن كثير)) (4/381، 382)، ((تفسير الشوكاني)) (3/22)،  ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/254). قال ابن تيمية: (أخبَرَ سُبحانه أنَّه صرفَ عنه السُّوءَ والفَحشاءَ، ومِن السُّوءِ عِشقُها ومحبَّتُها، ومن الفَحشاءِ الزِّنا). ((جامع الرسائل)) (2/263). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/170). قال الشوكاني: (السوء أي: كل ما يسوؤه، والفحشاء: كلُّ أمرٍ مفرطِ القبحِ، وقيل: السوءُ: الخيانةُ للعزيزِ في أهلِه، والفحشاءُ: الزِّنا، وقيل: السوءُ: الشهوةُ، والفحشاءُ: المباشرةُ، وقيل: السوءُ: الثناءُ القبيحُ. والأولَى الحملُ على العمومِ، فيدخلُ فيه ما يدلُّ عليه السياقُ دخولًا أوليًّا). ((تفسير الشوكاني)) (3/22). .
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
في قولِه: الْمُخْلَصِينَ قراءتانِ:
1- قِراءةُ الْمُخْلَصِينَ بفَتحِ اللامِ: اسمُ مفعولٍ، بمعنى: أنَّ اللهَ أخلَصَهم من الشِّركِ والسُّوءِ والفَحشاءِ، فصاروا مُخلَصينَ، أي: اختارَهم اللهُ [261] قرأ بها نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ والكسائيُّ وأبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/295). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (13/100)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 194)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 359). .
2- قِراءةُ الْمُخْلِصِينَ بكسرِ اللامِ: اسمُ فاعلٍ، بمعنى: أنَّهم أخلَصوا لله دينَهم وأعمالَهم مِن الشِّركِ والرِّياءِ [262] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/295). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((تفسير ابن جرير)) (13/101)، ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 194)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 358). قال ابنُ جريرٍ: (والصَّوابُ مِنَ القولِ في ذلك أنْ يُقالَ: إِنَّهما قراءتانِ معروفتانِ قد قرأَ بهما جماعةٌ كثيرةٌ مِنَ القُرَّاءِ، وهما مُتَّفِقَتا المعنَى؛ وذلك أنَّ مَنْ أخْلَصه اللَّهُ لنفسِه فاختارَه، فهو مُخْلِصٌ لِلَّهِ التَّوحيدَ والعبادَةَ، ومَنْ أخْلَص توحيدَ اللَّهِ وعبادتَه فلم يُشْرِكْ باللَّهِ شيئًا، فهو مَن أخْلَصه اللَّهُ). ((تفسير ابن جرير)) (13/101). وقال السعدي عن هاتينِ القراءتينِ: (وهما متلازمتانِ، فأخلَصهم لإخلاصِهم، فمَن أخلَص للهِ أخلَصه، وخلَّصه مِن الشرورِ، وعصَمه مِن السوءِ والفحشاءِ). ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) (ص: 28). .
إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.
أي: إنَّ يوسُفَ مِن عبادِنا المُطَهَّرينَ المختارينَ المصطفَيْنَ، الذين أخلَصوا لله التوحيدَ والعبادةَ [263] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/100)، ((تفسير ابن كثير)) (4/382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا حكى عنها أنَّها همَّت، أتبَعَه بكيفيَّةِ طَلَبِها وهَرَبِه، فقال [264] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/444). :
وَاسُتَبَقَا الْبَابَ.
أي: واستبقَ يوسُفُ وامرأةُ العزيزِ إلى بابِ البيتِ؛ يوسُفُ يفِرُّ منها، وهي تطلُبُه ليرجِعَ إلى البيتِ؛ لتقضيَ حاجَتَها منه، الَّتِي راودَتْه عليها [265] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/101)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ.
أي: وأدرَكَت امرأةُ العزيزِ يوسُفَ، فأمسَكَت بقميصِه، وجَذبَته لتَمنَعَه من الخروجِ، فشَقَّت قميصَه مِن الخَلفِ؛ مِن شِدَّةِ الجَذبِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/101)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/255، 256). .
وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ.
أي: وصادفَ يوسُفُ وامرأةُ العزيزِ زوجَها عند البابِ [267] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/102)، ((تفسير القرطبي)) (9/171)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/256). .
قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
أي: قالت امرأةُ العزيزِ لِزَوجِها لَمَّا وجَدَته عند البابِ، مُتَّهِمةً يوسُفَ بمُراودتِها: ما جزاءُ مَن أراد فِعلَ الفاحِشةِ بزَوجتِك إلَّا أن يُحبَسَ في السِّجنِ، أو يُضرَبَ ضَربًا مُوجِعًا [268] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/103)، ((تفسير القرطبي)) (9/171)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26).
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي.
أي: قال يوسُف للعزيزِ مُدافِعًا عن نفسِه: لم أُراوِدْ زوجَتَك عن نفسِها، بل هي مَن طلَبَت منِّي فِعلَ الفاحشةِ، فأبيتُ [269] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/104)، ((تفسير البغوي)) (2/487)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383). .
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا.
أي: وحكمَ بينَ امرأةِ العزيزِ وبين يوسُفَ حاكِمٌ مِن أهلِها لَمَّا اختلفَ قولاهما [270] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/172)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/257). قال ابنُ كثير: (وقد اخْتَلَفوا في هذا الشَّاهدِ: هل هو صغيرٌ أو كبيرٌ، على قولينِ لعلماءِ السَّلَفِ). ((تفسير ابن كثير)) (4/383). وممن قال مِن السلفِ أنَّه كان رجلًا: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، ومجاهدٌ في روايةٍ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ في روايةٍ، وعكرمةُ، والحسنُ، وقتادةُ، وابنُ أبي مليكةَ، والسُّدِّي، ومحمدُ بنُ إسحاقَ، وزيدُ بنُ أسلَمَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/107، 108، 109)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383). وممن قال من السلف أنَّه كان صغيرًا في المهدِ: ابنُ عباسٍ في الروايةِ الثانية عنه، ورُوي عن أبي هريرةَ، وهلالِ بنِ يَساف، والحسنِ، وسعيدِ بنِ جُبيرٍ في رواية، والضَّحَّاكِ بنِ مُزاحم، ونسَبه الرسعني لأكثرِ المفسرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/105، 111)، ((تفسير الرسعني)) (3/319)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383)، واختاره ابنُ جريرٍ في ((تفسيره)) (13/111)، والشنقيطي في ((أضواء البيان)) (2/217). وقد رُوي مرفوعًا وموقوفًا أنَّ هذا الشاهدَ أحدُ الذين تكلَّموا في المهدِ. يُنظر الكلامُ عن هذه الراوياتِ في: ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) للألباني (2/271- 273). قال ابنُ عطيةَ: (ومما يُضعفَ هذا أنَّ في «صحيحِ البخاريِّ» [3436] ومسلمٍ [2550]: «لم يتكلَّمْ في المهدِ إلَّا ثلاثةٌ:...»، فقال: «لم يتكلمْ» وأسقَط صاحبَ يوسفَ منها، ومنها: أنَّ الصبيَّ لو تكلَّم لكان الدليلُ نفسَ كلامِه دونَ أن يحتاجَ إلى الاستدلالِ بالقميصِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/236). وقال الألباني: (ظاهِرُ القرآنِ في قِصَّةِ الشاهدِ أنَّه كان رجلًا لا صبيًّا في المهد؛ إذ لو كان طفلًا لكان مجرَّدُ قولِه: إنَّها كاذبةٌ، كافيًا وبرهانًا قاطعًا؛ لأنَّه من المعجزات، ولَمَا احتِيجَ أن يقول: مِنْ أَهْلِهَا، ولا أن يأتيَ بدليلٍ حيٍّ على براءةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ، وهو قولُه: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 26- 27] الآية، وقد روى ابنُ جرير بإسنادٍ رجاله ثقات عن ابن عباس: أنَّ الشاهِدَ كان رجلًا ذا لحيةٍ، وهذا هو الأرجَحُ، والله أعلم). ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) (2/273). ويُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/173، 174). .
إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ.
أي: قال الشَّاهِدُ حاكِمًا بين يوسُفَ وامرأةِ العزيزِ: إن كان قميصُ يوسُفَ شُقَّ مِن الأمامِ فصدَقَت في دعواها أنَّ يوسُفَ راودها، وهو مِن الكاذبينَ في دَعواه أنَّها التي راوَدَته، بدليلِ أنَّها دافعتْه عن نفسِها حتَّى شقَّت قميصَه مِن الأمامِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/111)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27).
أي: وإن كان قميصُ يوسُفَ شُقَّ مِن الخَلفِ فكَذَبت في دَعواها أنَّ يوسُفَ راودَها، وهو مِن الصَّادقينَ في دعواه أنَّها التي راوَدَته، بدليلِ أنَّه فرَّ منها حينَ راودتْه، فاتَّبعتْه، وجذَبتْ قميصَه حتَّى شقَّته مِن ورائِه [272] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/112)، ((تفسير ابن كثير)) (4/383)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28).
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ.
أي: فلمَّا رأى زوجُ المرأةِ قميصَ يوسُفَ شُقَّ مِن خلفٍ، وتبيَّن له صِدقُه؛ قال لزوجتِه: إنَّ هذا الكَذِبَ الذي ادَّعَيتِه على يوسُفَ مِن جملةِ مَكرِكُنَّ وحِيَلِكُنَّ- أيَّتُها النِّساءُ [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/113)، ((معاني القرآن)) للنحاس (3/418)، ((تفسير الخازن)) (2/524)، ((تفسير ابن كثير)) (4/384)، ((تفسير الشوكاني)) (3/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/258). .
إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ.
أي: قال العزيزُ لزوجتِه [274] وممَّن اختار أنَّ قائلَ ذلك وما بعدَه إلى قولِه: الْخَاطِئِينَ هو زوجُ المرأةِ العزيزُ: أبو حيان، وابنُ كثيرٍ، والشوكاني، ومحمد رشيد رضا، والسعدي، وابنُ عاشور، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/262)، ((تفسير ابن كثير)) (4/384)، ((تفسير الشوكاني)) (3/23)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/258)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/206). وقيل: القائلُ هو الشاهدُ . يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي))  (2/433). : إنَّ مَكرَكنَّ واحتيالَكنَّ- أيَّتُها النِّساءُ- عظيمٌ، شديدُ التَّأثيرِ في النُّفوسِ [275] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/175)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/337)، ((تفسير أبي السعود)) (4/270)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/238). .
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29).
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا.
أي: وقال ليوسُف عليه السَّلامُ: يا يوسُفُ، أعرِضْ عن ذِكرِ ما جرَى منها، ولا تُخبِرْ به أحدًا [276] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/113)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/119)، ((تفسير ابن كثير)) (4/384)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/259). .
وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ.
أي: قال العزيزُ لامرأتِه: واطلُبي المَغفِرةَ [277] طلَب منها زوجُها الاستغفارَ مِن الله، فقد كان أُولئك الأَقْوامُ يُقرُّون بالربِّ سبحانَه وتعالى وبحقِّه، وإن أشْرَكوا معه غيرَه، بدَليلِ أنَّ يُوسُفَ عليه السَّلامُ قال: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] ، يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/447)، ((روضة المحبين)) لابن القيم  (ص: 321)). وقيل: إنَّ معنَى وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ أي: واعْتَذري إلى زوجِك، واسْتَعْفيه ألَّا يعاقِبَك، وهذا مرويٌّ نحوُه عن ابنِ زيدٍ. وهذا على أنَّ  قائلَ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ... هو الشاهدُ، وممن اختار ذلك: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جريرٍ، وابنُ عطيةَ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/331)، ((تفسير ابن جرير)) (13/113)، ((تفسير ابن عطية)) (3/237)، ((تفسير القرطبي)) (9/175). لذَنبِك الذي وقعَ منكِ، مِن مُراودةِ يوسُفَ عن نفسِه، وخيانةِ زَوجِك، ثمَّ قَذْفِ يوسُفَ بما هو بريءٌ منه؛ إنَّكِ كُنتِ من جملةِ المتعمِّدينَ الوقوعَ في الخَطايا [278] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/113)، ((البسيط)) للواحدي (12/85)، ((تفسير ابن كثير)) (4/384)، ((تفسير الشوكاني)) (3/23)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/238)، ((تفسير السعدي)) (ص: 396)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/258). .

الفوائد التربوية :

1- قولُه: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في ذِكْرِ المحسِنين إيماءٌ إلى أنَّ إحسانَه هو سبَبُ جَزائِه بتِلك النِّعمةِ، وأنَّ اللهَ آتاه الحُكْمَ والعِلمَ جَزاءً على إحسانِه؛ لِكَونِه مُحسِنًا في أعمالِه، مُتَّقِيًا في عُنفُوانِ أمرِه؛ هَلْ جَزَاءُ الإحسانِ إِلاَّ الإحسانُ؟! [279] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/454)، ((تفسير أبي السعود)) (4/264)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/248). .
2- قولُ اللهِ تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ فيه الحذَرُ مِن الخَلوةِ بالنِّساءِ، التي يُخشَى منها الفِتنةُ [280] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:407). .
3- قولُ الله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا فيه أنَّ الهمَّ الذي همَّ به يوسُفُ بالمرأةِ ثمَّ ترَكَه لله، ممَّا يقَرِّبُه إلى اللهِ زُلفى؛ لأنَّ الهمَّ داعٍ مِن دواعي النَّفسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ، وهو طبيعةٌ لأغلَبِ الخَلقِ، فلمَّا قابلَ بينه وبين محبَّةِ اللهِ وخَشيَتِه، غلَبَت محبَّةُ اللهِ وخَشيتُه داعيَ النَّفسِ والهوى، فكان ممَّن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ومِن السَّبعةِ الذين يُظِلُّهم اللهُ في ظِلِّ عَرشِه يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّه؛ أحَدُهم: ((رجلٌ دعَتْه امرأةٌ ذاتُ مَنصبٍ وجمالٍ، فقال: إنِّي أخافُ اللهَ )) [281] أخرجه البخاري (1423)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ، وإنَّما الهمُّ الذي يُلامُ عليه العبدُ: الهمُّ الذي يُساكِنُه، ويصيرُ عزمًا ربَّما اقتَرَن به الفِعلُ [282] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:407). .
4- قال ابنُ الجَوْزِيِّ: (نازَعَتْنِي نَفْسِي إلى أمْرٍ مَكْروهٍ في الشَّرْعِ، وجَعَلَتْ تَنْصِبُ لِيَ التَّأْوِيلاتِ وتَدْفَعُ الكَراهةَ، وكانتْ تَأْويلاتُها فاسِدَةً، والحُجَّةُ ظاهِرةً على الكَراهَةِ، فلجَأْتُ إلى اللَّهِ تعالى في دَفْعِ ذلك عنْ قَلْبي، وأقْبَلْتُ على القِراءةِ، وكان دَرْسي قد بَلَغَ سُورةَ يُوسفَ؛ فاتِحَتَها، وذلك الخاطِرُ قد شَغَلَ قَلْبي حتَّى لا أدْري ما أَقْرَأُ، فلمَّا بَلَغْتُ إلى قولِه تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ انتَبَهْتُ لها، وكأَنِّي خُوطِبْتُ بها، فأَفَقْتُ مِن تلك السَّكْرَةِ، فقُلْتُ: يا نَفْسُ، أَفَهِمْتِ؟ هذا حُرٌّ بِيعَ ظُلْمًا، فَرَاعى حَقَّ مَن أحْسَنَ إليه، وسمَّاه مالِكًا، وإنْ لمْ يكُنْ له عليه مُلْكٌ، فقالَ: إِنَّهُ رَبِّي، ثُمَّ زادَ في بَيانِ مُوجِبِ كَفِّ كَفِّه عمَّا يُؤْذِيه، فقالَ: أَحْسَنَ مَثْوَايَ. فكيف بكَ وأنت عَبْدٌ على الحَقِيقةِ لِمَوْلًى ما زالَ يُحْسِنُ إليك مِن ساعَةِ وُجودِك، وإنَّ سَتْرَه عليك الزَّللَ أكْثرُ مِن عَدَدِ الحصَى؟!
أَفَمَا تَذْكُرِينَ كيف ربَّاكِ، وعلَّمَكِ، ورَزَقَكِ، ودَافَعَ عنكِ، وساقَ الخَيْرَ إليكِ، وهَداكِ أَقْوَمَ طَريقٍ، ونَجَّاكِ مِن كلِّ كيدٍ، ولوْ ذَهَبْتُ أَعُدُّ مِن هذه النِّعَمِ ما سَنَحَ ذِكْرُه امْتَلأتِ الطُّروسُ [283] الطُّروسُ: الكُتبُ والصُّحفُ، جمعُ طِرس. يُنظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/ 713). ، ولمْ تنقَطِعِ الكِتابةُ، فكيف يَحْسُنُ بكِ التَّعرُّضُ لِمَا يَكْرَهُه؟! مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [284] يُنظر: ((صيد الخاطر)) لابن الجوزي (ص: 215) بتصرف. .
5- في قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ بيانُ أنَّ حِفْظَ الإحسانِ لِمَن أَحْسَنَ، هو مِن أخلاقِ الأنبياءِ وذوي الفَضلِ؛ وأنَّ حُرْمَةَ نسائِهم أعظمُ مِن غيرهِنَّ؛ إِذْ في مواقعةِ المعصيةِ معهنَّ- سوى تحريمِ الزِّنا - خيانةٌ، وإضاعةُ حُرْمَةٍ [285] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/612). .
6- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ فيه أنَّ الواجِبَ عند الدُّعاءِ إلى المعصيةِ الاستِعاذةُ باللهِ من ذلك، ليعصِمَه منها، ويدخُلُ فيه دُعاءُ الشَّيطانِ، ودُعاءُ شَياطينِ الإنسِ، ودُعاءُ هوى النَّفسِ [286] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/166). .
7- مَن دخلَ الإيمانُ قَلبَه، وكان مُخلِصًا لله في جميعِ أمورِه، فإنَّ الله يَدفَعُ عنه- ببُرهانِ إيمانِه، وصِدقِ إخلاصِه- مِن أنواعِ السُّوءِ والفَحشاءِ وأسبابِ المعاصي، ما هو جزاءٌ لإيمانِه وإخلاصِه؛ لقَولِ الله تعالى: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ على قراءةِ مَن قرأها بكسرِ اللامِ، ومَن قرأها بالفتحِ، فإنَّه مِن إخلاصِ اللهِ إيَّاه، وهو متضمِّنٌ لإخلاصِه هو بنفسِه، فلمَّا أخلصَ عملَه للهِ أخلَصه اللهُ، وخلَّصه مِن السوءِ والفحشاءِ [287] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:407). ، فالقلْبُ إِذا ذاقَ حَلاوةَ عُبوديَّتِه للَّهِ ومَحَبَّتِه لَهُ لم يكُنْ شَيْءٌ أحَبَّ إليه مِن ذَلِك حَتَّى يُقَدِّمَهُ عليه، وبذلك يُصْرَفُ عن أهلِ الإخلاصِ للَّهِ السُّوءُ والفحشاءُ؛ فَإِنَّ المُخلِصَ للَّهِ ذاقَ مِن حَلاوةِ عُبوديَّتِه للَّهِ مَا يمنَعُهُ عَن عُبوديَّتِه لغيرِه، ومِن حَلاوةِ مَحَبَّتِه للَّهِ مَا يمنَعُهُ عَن مَحَبَّةِ غَيرِه؛ إِذْ ليس عِنْد الْقلبِ السَّلِيمِ أحْلَى وَلَا ألذُّ وَلَا أطْيَبُ وَلَا أسَرُّ وَلَا أنْعَمُ مِن حَلاوةِ الإيمانِ المُتَضَمِّنِ عُبوديَّتَه للَّهِ، ومحبَّتَه لَهُ، وإخْلاصَ الدَّينِ لَهُ، وذَلِك يَقْتَضي انْجِذابَ الْقلبِ إلى اللَّهِ، فَيَصِيرُ الْقلبُ مُنِيبًا إلى اللَّهِ، خَائفًا مِنْهُ، رَاغِبًا رَاهِبًا [288] يُنظر: ((العبودية)) لابن تيمية (ص: 123). .
8- عِشقُ الصُّوَرِ إنَّما تُبتلَى به القلوبُ الفارِغةُ مِن محبَّةِ الله تعالى، المُعرِضةُ عنه، المتعَوِّضةُ بغيرِه عنه، فإذا امتلأ القلبُ مِن محبَّةِ اللهِ، والشَّوقِ إلى لقائِه، دفَعَ ذلك عنه مرَضَ عِشقِ الصُّوَرِ؛ ولهذا قال تعالى في حَقِّ يوسُفَ: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فدَلَّ على أنَّ الإخلاصَ سبَبٌ لدَفعِ العِشقِ، وما يترتَّبُ عليه من السُّوءِ والفَحشاءِ التي هي ثَمرتُه ونَتيجتُه، فصَرفُ المُسَبَّبِ صَرفٌ لِسَبَبِه [289] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/246) ويُنظر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/187). ، بل هو أكبَرُ الأسبابِ لحُصولِ كلِّ خَيرٍ، واندفاعِ كُلِّ شَرٍّ [290] يُنظر: ((فوائد مستنبطة من قصة يوسف عليه السلام)) للسعدي (ص: 28). .
9- معلومٌ أنَّ الزانيَ حين يزني إنَّما يزني لحُبِّ نفسِه لذلك الفعلِ، فلو قام بقَلبِه خشيةُ الله التي تقهَرُ الشَّهوةَ، أو حُبُّ الله الذي يغلِبُها- لم يَزْنِ؛ ولهذا قال تعالى عن يوسُفَ عليه السَّلامُ: كَذَلِكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فمن كان مُخلِصًا لله حَقَّ الإخلاصِ، لم يَزْنِ، وإنَّما يزني لخُلُوِّه عن ذلك، وهذا هو الإيمانُ الذي يُنزَعُ منه، لم يُنزَعْ منه نفسُ التَّصديقِ؛ ولهذا قيل: هو مُسلِمٌ وليس بمؤمِنٍ؛ فإنَّ المسلِمَ المُستحِقَّ للثَّوابِ لا بدَّ أن يكونَ مُصدِّقًا، وإلَّا كان مُناِفًقا؛ لكنْ ليس كلُّ مَن صدَّقَ قام بقَلبِه مِن الأحوالِ الإيمانيَّةِ الواجبةِ مِثلُ كَمالِ محبَّةِ الله ورَسولِه، ومِثلُ خَشيةِ اللهِ، والإخلاصِ له في الأعمالِ، والتوكُّلِ عليه، بل يكون الرجُلُ مصَدِّقًا بما جاء به الرَّسولُ، وهو مع ذلك يُرائي بأعمالِه، ويكونُ أهلُه ومالُه أحبَّ إليه مِن اللهِ ورَسولِه، والجهادِ في سَبيلِه [291] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/306، 307). .
10- قولُ الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ فيه أنَّه ينبغي للعبدِ- إذا رأى محَلًّا فيه فتنةٌ وأسبابُ معصيةٍ- أن يفِرَّ منه، ويهربَ غايةَ ما يُمكِنُه؛ ليتمَكَّنَ مِن التخَلُّصِ مِن المعصيةِ، لأنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لَمَّا راودَتْه التي هو في بَيتِها، فرَّ هاربًا يطلُبُ البابَ؛ ليتخَلَّصَ مِن شَرِّها [292] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:407). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- إنَّما قال: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا ولم يقُلْ: (امرأةُ العَزِيزِ)، ولا ذَكَرَ اسْمَها؛ قَصْدًا إلى زِيادةِ التَّقريرِ مع اسْتِهْجَانِ التَّصْريحِ باسْمِ المرأةِ، والمُحَافظةِ على السِّتْرِ عليها [293] يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (3/20). ، والعرَبُ تُضيفُ البُيوتَ إلى النِّساءِ، فتقولُ: ربَّةُ البَيتِ، وصاحبةُ البيتِ [294] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/256). .
2- قول الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، ذُكِر وصفُ الربِّ على الاحتمالينِ؛ احتمالِ أنَّه اللهُ، واحتمالِ أنَّه سيدُه-؛ لما يؤذنُ به مِن وجوبِ طاعتِه وشكرِه على نعمةِ الإيجادِ بالنسبةِ إلى الله، ونعمةِ التربيةِ بالنسبةِ لمولاه العزيزِ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/252). .
3- في قَولِه تعالى عن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ دَلالةٌ على أنَّ اسمَ «الرَّبِّ» قد يُرادُ به السَّيِّدُ، وكما في قولِ يوسُفَ أيضًا لغُلامِ المَلِك: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يوسف: 42، وكذا عن الغُلامِ: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [296] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/453). يوسف: 42، وفيه حُجَّةٌ في أنَّ تسميةَ المخلوقِ بذلك غيرُ منكَرٍ [297]  يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/612). .
4- قال الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ما أحسَنَ هذا التنَصُّلَ مِن الوقوعِ في السُّوءِ! استعاذ أوَّلًا باللهِ الذي بيَدِه العِصمةُ، ومَلكوتُ كلِّ شَيءٍ، ثمَّ نبَّه على أنَّ إحسانَ اللهِ أو إحسانَ العزيزِ الذي سبقَ منه، لا يُناسِبُ أن يُجازَى بالإساءةِ، ثمَّ نفى الفلاحَ عن الظَّالِمينَ، وهو الظَّفَرُ والفَوزُ بالبُغْيةِ، فلا يناسِبُ أن أكونَ ظالِمًا أضَعُ الشَّيءَ غيرَ مَوضِعِه، وأتعدَّى ما حدَّه اللهُ تعالى لي [298] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/257). .
5- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فيه إرشادٌ لها إلى رعايةِ حقِّ العزيزِ بألطَفِ وجْهٍ، وفيه تحذيرٌ لها مِن عقابِ اللهِ عزَّ وجلَّ [299] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/265). .
6- قوله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ فيه أنَّه يجوزُ تَركُ القبيحِ لِقُبحِه، ورعايةِ حَقِّ غَيرِه، وخشيةِ العار أو الفَقرِ أو الخوفِ، ونحو ذلك. ولا يقالُ: التَّشريكُ غيرُ مُفيدٍ في كونِه تاركًا للقبيحِ، وأنَّه لا يُثابُ [300] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/166). .
7- قوله: إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فيه إشارةٌ إلى أنَّ إجابتَها لِمَا راوَدَتْه: ظُلمٌ؛ لأنَّ فيها ظُلْمَ كِلَيهما نفْسَه بارتكابِ معصيةٍ ممَّا اتَّفقَت الأديانُ على أنَّها كبيرةٌ، وظُلمَ سيِّدِه الَّذي آمَنَه على بيتِه، وآمَنَها على نفْسِها؛ إذ اتَّخَذها زوجًا وأحصَنَها [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/252). .
8- قال الله تعالى: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تدلُّ الآيةُ على لزومِ حُسنِ المكافأةِ بالجَميلِ، وأنَّ من أخلَّ بالمكافأةِ عليه، كان ظالِمًا [302] يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/166). .
9- قول الله تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ في صَرفِ السُّوءِ والفَحشاءِ عنه عليه السَّلامُ، وكَونِه مِن المُخلَصينَ؛ دليلٌ على عِصمتِه [303] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/259). .
10- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ بيانُ أنَّ الحَسَنةَ الثَّانيةَ قد تكون مِن ثوابِ الأولى، وكذلك السَّيئةُ الثَّانيةُ قد تكونُ مِن عقوبةِ الأولى؛ قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [304] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/240). محمد: 1.
11- مِن رَحمةِ اللهِ تعالى بِعَبْدِهِ المُخلصِ أن يصرِفَ عنه ما يَغارُ عليه منه؛ كما قال تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [305] يُنظر: ((الاستقامة)) لابن تيمية (2/59). .
12- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ شاهِدٌ على نَفيِ ما قد ذَكَره طائِفةٌ مِن المفَسِّرينَ مِن أنَّه وُجِدَ مِن يوسُفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بعضُ المُقدِّماتِ، مثل حَلِّ السَّراويلِ، والجلوسِ مَجْلِسَ الخاتنِ، ولو كان قد فَعَلَ صغيرةً لتابَ منها، والقرآنُ ليس فيه ذِكرُ تَوبتِه، بل إنَّه مَن وَقعَ منه بعضُ أنواعِ السُّوءِ والفَحشاءِ لم يكن ذلك قد صُرِفَ عنه، بل يكونُ قد وَقعَ وتاب اللهُ عليه منه، والقرآنُ يدلُّ على خِلافِ هذا، وقد شَهِدت النِّسوةُ له أنَّهنَّ ما عَلِمنَ عليه من سُوءٍ، ولو كان قد بَدَت منه هذه المقَدِّمات لكانت المرأةُ قد رأت ذلك، وهي من النِّسوةِ اللَّاتي شَهِدنَ وقُلنَ: مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وقالت مع ذلك: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وقالت: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [306] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/30). .
13- قال اللَّهُ تعالى: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ولم يقُلْ: سيِّدَهُما؛ لِأنَّ يُوسفَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم يَدْخُلْ في رِقٍّ، ولم يكنْ مملوكًا لذلك الرجلِ على الحقيقةِ [307] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/98)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/66). .
14- في قولِه تعالى: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ حجةٌ في أنَّ تسميةَ المخلوقينَ بالسَّادة جائزٌ [308] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/613). .
15- قال الله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فبادرَتَ إلى الكَذِبِ؛ أنَّ المراودةَ قد كانت من يوسُفَ، وقالت: مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ولم تقُلْ «مَن فعلَ بأهلِك سُوءًا» تبرئةً لها، وتبرئةً له أيضًا مِن الفِعلِ، وإنَّما النِّزاعُ عند الإرادةِ والمُراودةِ [309] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 396). .
16- قَولُ الله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يدلُّ على عِظَمِ مَوقِعِ السَّجنِ مِن ذَوي الأقدارِ؛ حيث قرَنَته بالعذابِ الأليمِ [310] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/260). .
17- في قوله تعالى: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي حُجَّةٌ في إباحةِ الانتصارِ، ومقابلةِ الظَّالمِ بمِثلِ فِعلِه [311] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/614). .
18- قولُ الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إنَّما قال: مِنْ أَهْلِهَا ليكونَ أَولى بالقَبولِ في حَقِّ المرأةِ؛ لأنَّ الظَّاهِرَ مِن حالِ مَن يكونُ مِن أقرِباءِ المرأةِ ومِن أهلِها ألَّا يَقصِدَها بالسُّوءِ والإضرارِ، فالمقصودُ بذِكرِ كَونِ ذلك الرَّجُلِ مِن أهلِها تَقويةُ قَولِ ذلك الرَّجُلِ [312] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/446). .
19- إنْ قيل: كيف جاز الجَمْعُ بين إِنْ الَّذي هو للاستِقْبالِ وبينَ كَانَ؟ فالجوابُ: لأنَّ المعنى: إنْ يَعلَمْ أنَّه كان قميصُه قُدَّ، ونحوُه، كقولِك: إنْ أحسَنْتَ إليَّ فقد أحسَنتُ إليك مِن قبلُ، لِمَن يَمتَنُّ عليك بإحسانِه، تُريدُ: إنْ تَمتَنَّ عليَّ أمتَنَّ عليك [313] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/461). .
20- قولُ الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ يَحتَجُّ به من يرى الحُكمَ بالقرائنِ والأماراتِ والعَلاماتِ فيما لا تحضُرُه البيِّناتُ؛ كاللُّقَطةِ والسَّرِقة والوديعةِ [314] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص:154). ، فالقرائنُ الجازمةُ رُبَّمَا قَامَتْ مقامَ البيِّناتِ؛ ذلك لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ لَمَّا بَهَتَتْه امرأةُ العزيزِ، واضْطُرَّ إلى الدفاعِ، ولم تَكُنْ هناك بينةٌ، ولا شيءٌ يُصدِّقُه أو يُصدِّقُها، جاءَ ذلك الشاهدُ، وجعَل شقَّ قميصِه مِن دُبُرٍ قرينةً على صدقِه، وكذبِ المرأةِ، فذِكرُه تعالى لهذا مقرِّرًا له يدلُّ على جوازِ العملِ به [315] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/380)،  ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/490). .
21- قال الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ في الآيةِ دَليلٌ على القياسِ والاعتبارِ، والعمَلِ بالعُرفِ والعادةِ؛ لِمَا ذُكِرَ مِن قَدِّ القميصِ مُقبِلًا ومُدبِرًا [316] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (9/171). .
22- قال الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ قدَّمَ أمارةَ صِدقِها؛ لأنَّه ممَّا يُحبُّه سَيِّدُها، فهو في الظاهرِ اهتمامٌ بها، وفي الحقيقةِ تقريرٌ لِكَذِبها مرَّتينِ: الأُولَى باللُّزومِ، والثَّانية بالمُطابقة [317] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/69). دلالةُ اللزومِ: هي دلالةُ اللفظِ على لازمِ مسمَّاه، كدلالةِ السقفِ على الجدارِ. ودلالةُ المطابقةِ: هي دلالةُ اللفظِ على كمالِ مسمَّاه، كدلالةِ لفظ البيتِ على جميعِه. يُنظر: ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جزي (ص: 145). .
23- مِن اللَّطائِفِ في قولِه تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ما قيل: إنَّ هذا الشَّاهِدَ أراد ألَّا يكونَ هو الفاضِحَ لها، ووَثِقَ بأنَّ انقِطاعَ قَميصِه إنَّما كان مِن دُبُر، فنَصَبه أمارةً لصِدقِه وكَذِبِها، ثمَّ ذكَرَ القِسمَ الآخَر، وهو قدُّه مِن قُبُلٍ، على علمٍ بأنَّه لم ينقَدَّ مِن قُبُلٍ حتى ينفِيَ عن نَفسِه التُّهمةَ في الشهادةِ وقَصْدَ الفَضيحةِ، ويُنصِفَهما جميعًا، فيَذكُر أمارةً على صِدقِها المعلومِ نَفيُه، كما ذكَرَه أمارةً على صِدقِه المعلومِ وُجودُه؛ ومِنَ ثمَّ قَدَّمَ أمارةً على صِدقِها، على أمارةِ صِدقِه في الذِّكرِ؛ إزاحةً للتُّهمةِ، ووُثوقًا بأنَّ الأمارةَ الثَّانيةَ هي الواقِعةُ، فلا يَضُرُّه تأخيرُها [318]  يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/170). .
24- قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وُصِفَ كَيدُ النِّساءِ بالعِظَم، وإن كان قد يُوجَدُ في الرِّجالِ؛ لأنهُنَّ ألطَفُ كَيدًا بما جُبِلنَ عليه، وبما تفرَّغنَ له، واكتسَبَ بعضُهنَّ مِن بَعضٍ، وهنَّ أنفَذُ حِيلةً [319] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/262). .
25- في قولِه تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ تَعميمُ الخِطابِ للتَّنبيهِ على أنَّ ذلك خُلُقٌ لهنَّ عريقٌ [320] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/269). .
26- قال الله تعالى: فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ كيف وُصِفَ كَيدُ النِّساءِ بالعَظيمِ مع قَولِه تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا النساء: 28 وهلَّا كان مكرُ الرِّجالِ أعظمَ مِن مَكرِ النِّساءِ؟
الجوابُ: أمَّا كونُ الإنسانِ خُلِقَ ضَعيفًا فهو بالنِّسبةِ إلى خَلقِ ما هو أعظَمُ منه؛ كخَلقِ الملائكةِ، والسَّمواتِ والأرضِ، والجبالِ ونحو ذلك، وأمَّا عِظَمُ كَيدِ النِّساءِ ومَكرِهنَّ في هذا البابِ فهو أعظَمُ مِن كيدِ جَميعِ البشَرِ؛ لأنَّ لهنَّ مِن المَكرِ والِحيَل والكيدِ في إتمامِ مُرادِهنَّ ما لا يَقدِرُ عليه الرِّجالُ في هذا البابِ [321] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/524). .
27- قولُ الله تعالى: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ هذه الآيةُ الكريمةُ إذا ضُمَّت لها آيةٌ أُخرَى حصَل بذلك بيانُ أنَّ كيدَ النساءِ أعظمُ مِن كيدِ الشيطانِ، والآيةُ المذكورةُ هي قولُه: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا النساء: 76 ؛ لأنَّ قولَه في النساءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ، وقوله في الشيطانِ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا يدلُّ على أنَّ كيدهنَّ أعظمُ مِن كيدِه [322] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/217). ، وعن بعضِ العلماءِ: (إنِّي أخافُ مِن النساءِ ما لا أخافُ مِن الشيطانِ؛ فإنَّه تعالى يقولُ: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا، وقال للنساءِ: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، ولأنَّ الشيطانَ يوسوسُ مسارقةً، وهنَّ يواجِهْنَ به الرجالَ) [323] يُنظر: ((تفسير القنوجي)) (6/320). .
وقيل: لا دلالةَ فيه، فالمقامُ مختلفٌ؛ فإنَّ ضعفَ كيدِ الشيطانِ إنَّما هو في مقابلةِ كَيْدِ الله تعالى، وعظمَ كيدِهنَّ إنَّما هو بالنسبةِ الى كيدِ الرجالِ، وإنَّما كيدُ النسوانِ بعضُ كيدِ الشيطانِ [324] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (6/415)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/238). وقال القنوجي: (وفي «حاشيةِ الخفاجي»: وقيل عليه: إنَّ ضعفَ كيدِ الشيطانِ في مقابلةِ كيدِ الله، وعظم كيدِهنَّ بالنسبةِ للرجالِ، وهو ليس بشيءٍ؛ لأنَّه استدلَّ بظاهرِ إطلاقِهما، ومثلُه مما تنقبضُ له النفسُ وتنبسطُ يكفي فيه ذلك القدر. انتهى. قال الحفناوي: هذا فيما يتعلَّقُ بأمرِ الجماعِ والشهوةِ لا عظيمٌ على الإطلاقِ؛ إذ الرجالُ أعظمُ منهنَّ في الحيلِ والمكايدِ في غيرِ ما يتعلَّقُ بالشهوةِ). ((تفسير القنوجي)) (6/320). .
28- بَيَّنَ القُرآنُ العَظيمُ بَراءةَ يُوسُف عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن الوُقوعِ فيما لا يَنبَغِي؛ حيث بَيَّنَ شَهادةَ كُلِّ مَن له تَعَلُّق بالمَسأَلَةِ بِبَراءَتِه، وشَهادةَ الله له بذلك، واعْتِراف إبليس به. أمَّا الذين لهم تَعَلُّق بتِلك الواقِعَة فهم: يُوسُف، والمَرأَةُ، وزَوْجُها، والنِّسْوَةُ، والشُّهودُ. أمَّا جَزْمُ يُوسُف بأنَّه بَرِيءٌ مِن تِلك المَعصِيَة فذَكَرَهُ تعالى في قوله: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، وأمَّا اعْتِرافُ المَرأَةِ بذلك ففي قولِها للنِّسْوَةِ: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ يوسف: 32. وأمَّا اعْتِراف زَوْجِ المَرأَةِ ففي قوله: قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ. وأمَّا اعْتِراف الشُّهود بذلك ففي قوله: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ.... وأمَّا شَهادَةُ الله جَلَّ وعَلَا بِبَراءَتِه ففي قولِه: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. وأمَّا إِقْرار إبليس بطَهارَةِ يُوسُف ونَزاهَتِه ففي قولِه تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ص: 82-83، فأَقَرَّ بأنَّه لا يُمكِنُه إِغْواءُ المُخْلَصِين، ولا شَكَّ أنَّ يُوسُف مِن المُخْلَصِين، كما صَرَّحَ تعالى به في قوله: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، فظَهَرَت دِلالَةُ القُرآنِ مِن جِهاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ على بَراءَتِه ممَّا لا يَنْبَغي [325] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/205). .
29- في قَولِه تعالى عن العزيزِ: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ دَلالةٌ على أنَّهم كانوا يَرَونَ ذلك ذنبًا ويَستَغفِرونَ منه- وإن كانوا مع ذلك مُشرِكينَ- وقد كانت العرَبُ مُشرِكينَ، وهم يُحَرِّمونَ الفواحِشَ ويَستغفِرونَ اللهَ منها، وكان الزِّنا معروفًا عندهم في الإماءِ [326] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/146). ، وذلك على القولِ بأنَّه طلبَ منها استغفارَ الله.

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
- التنكيرُ في قوله: حُكْمًا وعِلْمًا للتفخيمِ [327]  يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/263)، ((تفسير الألوسي)) (6/400). .
- ومِن قولِه تعالى: وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ إلى قولِه: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ اعتراضٌ جيءَ به أُنموذَجًا للقِصَّةِ؛ لِيَعلَمَ السَّامعُ مِن أوَّلِ الأمرِ أنَّ ما لَقِيه عليه السَّلامُ مِن الفتنِ الَّتي ستُحْكَى بتَفاصيلِها له غايةٌ جميلةٌ وعاقبةٌ حميدةٌ، وأنَّه عليه السَّلامُ مُحسِنٌ في جَميعِ أعمالِه لم يَصدُرْ عنه في حالَتَيِ السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ ما يُخِلُّ بنَزاهتِه، ومَدارُ حُسنِ التَّخليصِ إلى هذا الاعتِراضِ قبلَ تَمامِ الآيةِ الكريمةِ: هو التَّمكينُ البالغُ المفهومُ مِن كلامِ العزيزِ [328] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/264). .
2- قولُه تعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
- قولُه: وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا فيه تشبيهُ حالِ المحاوِلِ أحَدًا على فِعْلِ شيءٍ مُكرِّرًا ذلك بحالِ مَن يَذهَبُ ويَجيءُ في المعاوَدةِ إلى الشَّيءِ المذهوبِ عنه، فأُطلِقَ (راوَد) بمعنى (حاوَل) [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/250). ؛ فالمراودةُ المطالَبةُ، مِن: رادَ يَرُودُ؛ إذا جاء وذهَب لطَلَبِ شيءٍ، وهي مُفاعَلةٌ مِن واحدٍ نَحوُ مُطالبةِ الدَّائنِ ومُماطَلةِ المديونِ ونَظائِرِها ممَّا يكونُ مِن أحَدِ الجانِبَين الفِعلُ ومِن الآخَرِ سبَبُه؛ فإنَّ هذه الأفعالَ وإن كانت صادِرةً عن أحَدِ الجانِبَين لكنْ لَمَّا كانت أسبابُها صادِرةً عن الجانبِ الآخَرِ جُعِلَت كأنَّها صادِرةٌ عنهما، وهذا بابٌ لَطيفُ المسلَكِ مَبنيٌّ على اعتبارٍ دقيقٍ، تَحقيقُه: أنَّ سببَ الشَّيءِ يُقامَ مَقامَه، ويُطلَقُ عليه اسمُه، كما في قولِهم: كما تَدينُ تُدانُ، أي: كما تَجْزي تُجْزى؛ فإنَّ فعْلَ البادي وإن لم يَكُنْ جَزاءً، لكنَّه لِكَونِه سببًا للجزاءِ أُطلِقَ عليه اسمُه، وهذه قاعدةٌ مُطَّرِدةٌ مُستمِرَّةٌ، ولَمَّا كانت أسبابُ الأفعالِ المذكورةِ هنا صادِرةً عن الجانبِ المقابلِ لجانبِ فاعِلِها؛ فإنَّ مُراودَتَها لِجَمالِ يوسُفَ عليه السَّلامُ نُزِّلَ صُدورُها عن مَحالِّها بمَنزِلةِ صُدورِ مُسبِّباتِهما التي هي تلك الأفعالُ، فبُني الصيغةُ على ذلك، ورُوعيَ جانبُ الحقيقةِ بأن أُسند الفعلُ إلى الفاعل، وأُوقِعَ على صاحبِ السَّببِ. ويَجوزُ أن يُرادَ بصيغةِ المغالَبةِ مجرَّدُ المبالَغةِ، وقيل: الصِّيغةُ على بابِها، بمعنى أنَّها طَلَبَت منه الفِعلَ، وطلَب هو مِنها التَّرْكَ، ويَجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الرُّوَيدِ، وهو الرِّفْقُ والتَّحمُّلُ، وتَعدِيَتُها بـ (عَنْ)؛ لتَضمينِها معنى المخادَعةِ؛ فالمعنى: خادَعَتْه عَنْ نَفْسِه [330] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/264)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (6/256). .
- والتَّعبيرُ عن امرأةِ العزيزِ بطَريقِ الموصوليَّةِ في قولِه: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا؛ لِقَصدِ ما تُؤْذِنُ به الصِّلةُ مِن تقريرِ عِصْمةِ يوسُفَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّ كوْنَه في بيتِها مِن شأنِه أن يُطوِّعَه لِمُرادِها [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/250). .
- قولُه: عَنْ نَفْسِهِ و(عَن) للمُجاوَزةِ، أي: راوَدَتْه مُباعِدةً له عن نَفسِه، أي: بأنْ يَجعَلَ نفْسَه لها؛ قيل: وهذا التَّركيبُ مِن مُبتكَراتِ القرآنِ؛ فالنَّفسُ هنا كِنايةٌ عن غرَضِ المواقَعةِ، أي: فالنَّفسُ أُريدَ بها عَفافُه، وتَمكينُها مِنه لِما تُريدُ، فكأنَّها تُراوِدُه عن أن يُسلِّمَ إليها إرادتَه، وحُكمَه في نفسِه، بخلافِ تَعْديَةِ هذا الفعلِ بـ (على)؛ فإنَّ ذلك إلى الشَّيءِ المطلوبِ حُصولُه [332] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/250)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عطية)) (3/232). .
- قولُه: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ فيه تضعيفُ (غَلَّقَتْ)؛ لإفادةِ شِدَّةِ الفعلِ وقوَّتِه، أي: أغلَقَت إغلاقًا مُحْكَمًا [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/250). ، فقال: وغَلَّقَتْ؛ للمبالَغةِ في الإيثاقِ والإحكامِ، وقيل: كانت الأبوابُ سَبعةً؛ ولذلك جاء الفعلُ بصيغةِ التَّفعيلِ دون الإفعالِ؛ للتكثيرِ [334] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/160)، ((تفسير أبي السعود)) (4/265). .
- قولُه: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ تعليلٌ لامتناعِه، وتعريضٌ بها في خيانةِ عهدِها [335] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/265)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/252). .
- والضَّميرُ في إِنَّهُ ضميرُ الشَّأنِ، ومدارُ وضْعِه مَوضعَه ادِّعاءُ شُهرتِه المُغْنيةِ عن ذِكرِه، وفائدةُ تصديرِ الجملةِ به: الإيذانُ بفَخامةِ مَضمونِها، مع ما فيه مِن زيادةِ تقريرِه في الذِّهنِ؛ فإنَّ الضَّميرَ لا يُفهَمُ مِنه مِن أوَّلِ الأمرِ إلَّا شأنٌ مُبهَمٌ له خطَرٌ، فيَبْقَى الذِّهنُ مُترقِّبًا لِما يَعقُبُه، فيَتمَكَّنُ عِندَ وُرودِه له فَضْلَ تَمكُّنٍ؛ فكأنَّه قيل: إنَّ الشَّأنَ الخطيرَ هذا وهو ربِّي، أي: سيِّدي العزيزُ- وقيل: الضَّميرُ للهِ عزَّ وجلَّ- أحسَنَ مَثواي؛ فكيف يُمكِنُ أن أُسيءَ إليه بالخيانةِ في حَرَمِه، وفي الاقتصارِ على ذِكْرِ هذه الحالةِ، مِن غيرِ تَعرُّضٍ لاقتِضائِها الامتناعَ عمَّا دعَتْه إليه إيذانٌ بأنَّ هذه المرتبةَ مِن البيانِ كافيةٌ في الدَّلالةِ على استِحالتِه، وكونِه ممَّا لا يَدخُلُ تحتَ الوُقوعِ أصلًا [336] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/265). .
- وجملةُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تعليلٌ ثانٍ للامتناعِ المذكورِ، وهو تعليلٌ بعدَ تعليلٍ، والضَّميرُ المجعولُ اسْمًا لـ (إنَّ) ضميرُ الشَّأنِ يُفيدُ أهميَّةَ الجملةِ المجعولةِ خبَرًا عنه؛ لأنَّها موعِظةٌ جامعةٌ [337] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/265)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/252). .
3- قولُه تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ
- جملةُ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ مستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، وأكَّد همَّها بـ (قد) ولامِ القَسَمِ؛ لِيُفيدَ أنَّها عزَمَت عَزْمًا مُحقَّقًا [338] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/252). .
- قولُه: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ أشيرَ إلى اختلافِ الهَمَّينِ باختلافِ التَّعبيرِ عنهُما، حيث لم يَقُلْ: (ولَقَد هَمَّا) بالمخالَطةِ أو (هَمَّ كُلٌّ مِنهما بالآخَرِ)، وصُدِّر الأوَّلُ بما يُقرِّرُ وُجودَه مِن التَّوكيدِ القَسَميِّ وَلَقَدْ، وعُقِّب الثَّاني بما يَعْفو أثَرَه مِن قولهِ عزَّ وجلَّ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [339] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/266). .
- قولُه: وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ التَّقديرُ فيها: (ولولا أنْ رأَى بُرهانَ ربِّه هَمَّ بها)؛ فقُدِّم الجوابُ هَمَّ بِهَا على شَرْطِه لَوْلا؛ للاهتمامِ به، وقد يُجعَلُ المذكورُ وَهَمَّ بها قبلَ لَولا دليلًا للجوابِ، والجوابُ محذوفٌ لِدَلالةِ ما قَبْل لَوْلَا عليه، فيَحْسُنُ الوقفُ على قولِه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ؛ لِيَظهَرَ مَعْنى الابتداءِ بجُملَةِ وَهَمَّ بِهَا واضِحًا، وبذلك يَظهَرُ أنَّ يوسُفَ عليه السَّلامُ لم يُخالِطْه همٌّ بامرأةِ العزيزِ؛ لأنَّ اللهَ عصَمَه مِن الهمِّ بالمعصيةِ بما أراه مِن البُرهانِ [340] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/253). . وذلك على أحدِ أوجهِ تفسيرِ الآيةِ.
- وجملةُ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ تعليلٌ لحِكْمَةِ صَرفِه عن السُّوءِ والفحشاءِ [341] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/255). .
4- قولُه تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
- قولُ الله تعالى: وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وحَّدَ البابَ هنا، وجمَعَه قبلُ في قَولِه تعالى: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ؛ لأنَّ إغلاقَ البابِ للاحتياطِ لا يتِمُّ إلَّا بإغلاقِ الجَميعِ، وأمَّا هُروبُه منها فلا يكونُ إلَّا إلى بابٍ واحدٍ، حتى لو تعدَّدَت أمامَه، لم يقصِدْ منها أوَّلًا إلَّا الأوَّلَ؛ فلهذا وحَّدَ البابَ هنا، وجمَعَه ثَمَّ [342] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص:278). .
- وإسنادُ القَدِّ إليها خاصَّةً مع أنَّ لِقُوَّةِ يوسفَ أيضًا دَخْلًا فيه؛ إمَّا لأنَّها الجُزءُ الأخيرُ للعِلَّةِ التَّامَّةِ، وإمَّا للإيذانِ بمُبالَغتِها في منْعِه عن الخروجِ، وبَذلِ مَجهودِها في ذلك؛ لِفَوْتِ المحبوبِ، أو لخوفِ الافتضاحِ [343] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/267). .
- قولُه: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مستأنف استئنافًا بيانيًّا؛ لأنَّ السَّامِعَ يَسأَلُ: ماذا حدَث عِندَ مُفاجَأَةِ سيِّدِها وهُما في تلك الحالةِ [344] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/267)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/256). ؟
- قوله: قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا لم تُصرِّحْ في قَولِها بذِكْرِ يوسُفَ، وأنَّه أراد بها سُوءًا؛ قَصدًا للعُمومِ، وأنَّ كلَّ مَن أراد بأهلِك سوءًا فحَقُّه أن يُسجَنَ أو يُعذَّبَ؛ لأنَّ ذلك أبلَغُ فيما قصَدَتْه مِن تخويفِ يوسُفَ؛ ففي إبهامِ المُريدِ تَهويلٌ لشأنِ الجزاءِ المذكورِ بكَونِه قانونًا مطَّرِدًا في حقِّ كلِّ أحدٍ كائنًا مَنْ كان [345] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/459)، ((تفسير أبي السعود)) (4/268). .
وقيل: إنَّها لم تَذكُر أنَّ يُوسُفَ يجِبُ أن يُعامَل بِأَحَدِ هَذينِ الأَمْرَينِ، بل ذَكَرت ذلك ذِكْرًا كُلِّيًّا صَوْنًا للمَحْبوب عن الذِّكْرِ بالسُّوءِ والأَلَم [346]  يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/445). .
وفي ذِكْرِ نفْسِها بعُنوانِ أهليَّةِ العزيزِ بِأَهْلِكَ إعظامٌ للخَطْبِ، وإغراءٌ له على تَحقيقِ ما تتوخَّاه بحُكْمِ الغضَبِ والحَميَّةِ [347] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/268). .
- وبَدأَت بِذِكْرِ السِّجْنِ، وأَخَّرَت ذِكْرَ العَذابَ قيل: لشدَّةِ حبِّها يوسفَ؛ فالمُحِبُّ لا يَسعَى في إيلامِ المَحْبوبِ، ولذلك قالت: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ، والمُرادُ: أنْ يُسْجَنَ يومًا أو أَقَلَّ على سَبيلِ التَّخْفِيف، فأمَّا الحَبْسُ الدَّائِم فإنَّه لا يُعَبَّر عنه بهذه العِبارَةِ؛ بل يُقال: يجبُ أن يُجْعَلَ مِن المَسجونينَ، كما قال فِرعَونُ حين تَهَدَّدَ موسَى عليه السَّلام في قولِه: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [348] يُنظر:  ((تفسير الرازي)) (18/445). الشعراء: 29.
5- قولُه تعالى: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
- قولُه: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي فيه تقديمُ المبتدَأِ هِيَ على خبَرِه الفعليِّ رَاوَدَتْنِي وهو يُفيدُ القَصْرَ، وهو قصْرُ قلْبٍ [349]  قصر القلب: هو أنْ يَقلِبَ المتكلمُ فيه حُكمَ السامع، كقولك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لمن يعتقد أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معينةٍ أو طرفٍ معينٍ، لكنَّه يقول: ما زيدٌ هناك بشاعر. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 288). ؛ للرَّدِّ عليها [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/257). .
- وفي التَّعبيرِ عنها بضَميرِ الغيبةِ هِيَ دونَ الخطابِ أو اسْمِ الإشارةِ: مُراعاةٌ لحُسنِ الأدبِ، مع الإيماءِ إلى الإعراضِ عنها [351] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/268). ، وقيل: أتَى بضَميرِ الغَيبةِ؛ لاستيحائِه عن مواجهتِها بإشارةٍ أو ضميرِ خِطابٍ؛ إذ كان غلبَ عليه الحَياءُ أنْ يُشيرَ إليها ويُعيِّنَها بالإشارةِ، فيقول: هذِه راودتْني، أو تِلك راودتْني؛ لأنَّ في المواجهةِ بالقبيحِ ما ليس في الغَيبةِ [352] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/260)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (10/67). .
- قولُه: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا سُمِّي قولُه شهادةً؛ لأنَّه يؤولُ إلى إظهارِ الحقِّ في إثباتِ اعتداءِ يُوسُفَ عليه السَّلامُ على امرأة العزيزِ أو دَحْضِه [353] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/257). .
- قوله: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ جملةُ إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ مُبيِّنةٌ لفِعل (شَهِد)، وفي زيادةِ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ بعدَ فَصَدَقَتْ، وزيادةِ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ بعدَ فَكَذَبَتْ: تأكيدٌ لزيادةِ تَقْريرِ الحقِّ، كما هو شأنُ الأحكامِ [354] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/258). .
- ولَمَّا كانت كلُّ جملةٍ مُستقِلَّةً بنَفْسِها أبرَزَ اسْمَ كانَ بلَفْظِ المظْهَرِ: قَمِيصُهُ، ولم يُضْمِرْ ويَقُلْ: (إن كان قُدَّ) لِيَدُلَّ على الاستقلالِ، ولكونِ التَّصريحِ به أوضَحَ [355] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/262). .
6- قولُه تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ
- قولُه: يُوسُفُ حَذَف منه حَرْفَ النِّداءِ؛ لأنَّه مُنادًى قريبٌ، مُفاطِنٌ [356] فاطَنه في الكلامِ، أي: راجَعه. يُنظر ((تاج العروس)) للزبيدي (35/511). للحديثِ، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ لِمَحلِّه [357] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/461)، ((تفسير أبي حيان)) (6/262)، ((تفسير أبي السعود)) (4/270). .
- قولُه: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ جملةُ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ عطفٌ على جملة يُوسُفُ أَعْرِضْ وهو عطفُ أمرٍ على أمرٍ، والمأمورُ مُختلِفٌ؛ فبَعدَ أنْ خاطبَها بأنَّ ما دَبَّرتْه هو من كيدِ النِّساءِ وجَّه الخِطابَ إلى يُوسُفَ عليه السَّلامُ بالنِّداء، ثم أعادَ الخِطابَ إلى المرأةِ، وهذا الأسلوبُ من الخِطابِ يُسمَّى بالإقبالِ، وقد يُسمَّى بالالتفاتِ بالمعنى اللُّغويِّ، وهو عزيزٌ في الكلامِ البَليغِ [358] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/259). .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيث قال: مِنَ الْخَاطِئِينَ بلَفْظِ التَّذكيرِ تَغليبًا للذُّكورِ على الإناثِ؛ لأنَّه لم يَقصِدْ بذلك قصْدَ الخبَرِ عن النِّساءِ، وإنَّما قصَد به الخبَرَ عمَّن يفعَلُ ذلك فيَخطَأُ، ولأنَّ الخاطِئين أعَمُّ [359] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/114)، ((تفسير الزمخشري)) (2/461)، ((تفسير ابن عطية)) (3/237)، ((تفسير أبي حيان)) (6/262). .