موسوعة التفسير

سورة هود
الآيات (100 - 108)

ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ

غريب الكلمات:

وَحَصِيدٌ: خَرابٌ قد مُحِيَ أثَرُه، وأصلُ (حصد): يدلُّ على قَطعِ شَيءٍ [1087] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 209)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/71)، ((البسيط)) للواحدي (11/546)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 193). .
تَتْبِيبٍ: أي: تَخسيرٍ وهلاكٍ، وأصلُ (تبب): يدلُّ على خُسرانٍ [1088] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 209)، ((تفسير ابن جرير)) (12/569)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 143)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/341)، ((المفردات)) للراغب (ص: 162)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 239). .
زَفِيرٌ: الزَّفيرُ: إخراجُ النَّفَسِ بقُوَّةٍ وشِدَّةٍ مِن الهَمِّ والكَربِ، وهو بمَنزلةِ ابتداءِ صَوتِ الحِمارِ بالنَّهيقِ، وأصلُ (زفر): يدلُّ على صَوتٍ [1089] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 251)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/14)، ((البسيط)) للواحدي (11/555)، ((المفردات)) للراغب (ص: 380)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 490)، ((تفسير الألوسي)) (4/188). .
وَشَهِيقٌ: الشَّهيقُ: النَّشيجُ في البُكاءِ، إذا اشتَدَّ ترَدُّدُه في الصَّدرِ، وارتفَعَ به الصَّوتُ، وهو بمنزلةِ آخرِ صَوتِ الحِمارِ، وأصلُ (شهق): يدُلُّ على عُلُوٍّ [1090] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/222)، ((البسيط)) للواحدي (11/555)، ((المفردات)) للراغب (ص: 468)، ((تفسير المنار)) لرشيد رضا (12/132). .
مَجْذُوذٍ: أي: مَقطوعٍ، وأصلُ (جذذ): يدلُّ على قَطعٍ [1091] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 210)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/409)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 239)، ((تفسير القرطبي)) (9/103). .

المعنى الإجمالي:

يُخاطِبُ الله تعالى نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا له: ذلك الذي ذكَرْناه لك- يا محمَّدُ- مِن أخبارِ القُرى التي أهلَكْنا أهلَها نُخبِرُك به، ومِن تلك القُرى ما له آثارٌ باقيةٌ، ومنها ما قد مُحِيَت آثارُه، فلم يَبقَ منه شيءٌ، وما كان إهلاكُهم بغيرِ سَبَبٍ وذنبٍ يستَحِقُّونَه، ولكِنْ ظَلَموا أنفُسَهم بشِرْكِهم، وإفسادِهم في الأرضِ، فما نفَعَتْهم آلهتُهم- التي كانوا يدعُونَها، ويطلُبونَ منها أن تدفَعَ عنهم الضُّرَّ- لـمَّا جاء أمرُ رَبِّك بعَذابِهم، وما زادَتْهم آلهتُهم غيرَ تدميرٍ وإهلاكٍ وخُسرانٍ، وكما أخذتُ أهلَ القُرى الظَّالمةِ بالعذابِ؛ لِمُخالفتِهم أمري وتكذيبِهم برُسلي، آخُذُ غيرَهم مِن أهلِ القُرى إذا ظلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي، إنَّ أخْذَ اللهِ للظَّالِمينَ لأليمٌ مُوجِعٌ شَديدٌ، إنَّ في أخْذِنا لأهلِ القُرى السَّابقةِ الظَّالِمةِ لَعِبرةً وعِظةً لِمَن خاف عقابَ اللهِ وعذابَه في الآخرةِ، ذلك اليومُ الذي يُجمَعُ له النَّاسُ جميعًا للمُحاسَبةِ والجَزاءِ، ويشهَدُه الخلائِقُ كُلُّهم، وما نُؤخِّرُ يومَ القيامةِ عنكم إلَّا لانتهاءِ مُدَّةٍ معدودةٍ في عِلمِنا، لا تزيدُ ولا تَنقُصُ عن تَقديرِنا لها بحِكمَتِنا.
يوم يأتي يومُ القيامةِ لا تتكَلَّمُ نَفسٌ إلَّا بإذنِ رَبِّها؛ فمنهم شقيٌّ مستَحِقٌّ للعذابِ، وسعيدٌ مُتفَضَّلٌ عليه بالنَّعيمِ؛ فأمَّا الذين شَقُوا فالنَّارُ مُستَقَرُّهم، لهم فيها- مِن شِدَّةِ ما هم فيه مِن العذابِ- زفيرٌ وشَهيقٌ، وهما أشنَعُ الأصواتِ وأقبَحُها، ماكثينَ في النَّارِ أبدًا ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرضُ، فلا ينقَطِعُ عذابُهم ولا ينتهي، إلَّا ما شاء ربُّك من إخراجِ عُصاةِ الموحِّدينَ بعدَ مُدَّةٍ مِن مُكثِهم في النَّارِ، إنَّ رَبَّك- أيُّها الرَّسولُ- فعَّالٌ لِما يريدُ، وأمَّا الذين رزَقَهم اللهُ السَّعادةَ فيدخُلونَ الجنَّةَ خالدينَ فيها ما دامَتِ السَّمواتُ والأرضُ، إلَّا الفريقَ الذي شاء اللهُ تأخيرَه، وهم عُصاةُ الموَحِّدينَ؛ فإنَّهم يَبقَونَ في النَّارِ مدَّةً مِن الزَّمَن، ثمَّ يخرُجونَ منها إلى الجنَّةِ بمشيئةِ اللهِ ورَحمتِه، ويُعطي ربُّك هؤلاءِ السُّعَداءَ في الجنَّةِ عطاءً غيرَ مَقطوعٍ عنهم.

تفسير الآيات:

ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100).
ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ.
أي: ذلك الذي قصَصْناه عليك- يا محمَّدُ- في هذه السُّورةِ مِن أخبارِ القُرى التي أهلَكْنا أهلَها نُخبِرُك به؛ لتُنذِرَ به النَّاسَ، ويكونَ آيةً على رسالتِك، وموعظةً وذِكرى للمُؤمنينَ [1092] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/566)، ((تفسير ابن كثير)) (4/349)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (12/127)، ((تفسير السعدي)) (ص: 389). .
مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ.
أي: مِن تلك القرى التي قَصَصْنا عليك قُرًى عامِرٌ بُنيانُها، ومنها خَرابٌ قد تهدَّمَ بُنيانُها [1093] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/566)، ((تفسير القرطبي)) (9/95)، ((تفسير ابن كثير)) (4/349)، ((تفسير السعدي)) (ص: 389). .
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101).
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ.
أي: وما ظَلَمْنا أهلَ تلك القرَى حينَ أهلَكْناهم، ولكنْ ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ والمعاصي فاستحَقُّوا العِقابَ [1094] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/568، 569)، ((تفسير القرطبي)) (9/95)، ((تفسير ابن كثير)) (4/349)، ((تفسير السعدي)) (ص: 389). .
فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ.
أي: فما نفعَتْهم آلهتُهم التي كانوا يعبُدونَها من دونِ اللهِ، ولم تدفَعْ عنهم شيئًا لَمَّا أتاهم عذابُ الله [1095] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/569)، ((تفسير القرطبي)) (9/95)، ((تفسير ابن كثير)) (4/349)، ((تفسير أبي السعود)) (4/240). .
وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ.
أي: وما زادت هذه الآلهةُ عابِدِيها غيرَ تخسيرٍ وإهلاكٍ وتدميرٍ، عندَما جاءَ أمرُ اللهِ بعقابِهم [1096] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/569)، ((تفسير القرطبي)) (9/95)، ((تفسير السعدي)) (ص: 389). قال ابن الجوزي: (فإن قيل: الآلهةُ جَمادٌ، فكيف قال: زَادُوهُمْ؟! فعنه جوابان: أحدهما: وما زادتهم عبادتُها. والثاني: أنَّها في القيامة تكونُ عونًا عليهم فتزيدُهم شَرًّا). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/400). وقال ابن عطية: (صورةُ زيادة الأصنام التتبيبَ إنَّما يُتصَوَّر: إمَّا بأنَّ تأليهَها والثِّقةَ بها والتعَبَ في عبادتِها، شغَلَت نُفوسَهم وصَرفَتْها عن النظَرِ في الشَّرعِ وعاقَتْها، فلَحِقَ عن ذلك عنَتٌ وخُسرانٌ، وإمَّا بأنَّ عذابَهم على الكُفرِ يزادُ إليه عذابٌ على مجرَّدِ عبادةِ الأوثانِ). ((تفسير ابن عطية)) (3/206). .
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في كتابِه بما فعلَ بأُممِ من تقَدَّمَ مِن الأنبياءِ- لَمَّا خالفوا الرُّسُلَ وردُّوا عليهم- مِن عذابِ الاستئصالِ، وبيَّنَ أنَّهم ظَلَموا أنفُسَهم فحَلَّ بهم العذابُ في الدُّنيا- بيَّن بَعدَه أنَّ عذابَه ليس بمقتَصِرٍ على من تقدَّمَ، بل الحالُ في أخذِ كُلِّ الظالمينَ يكونُ كذلك [1097] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/396). .
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ.
أي: وكما أهلَك ربُّك- يا محمَّدُ- أهلَ القُرى التي قصَصْنا عليك، كذلك نُهلِكُ أمثالَهم مِن الظَّالمينَ لأنفُسِهم بالكُفرِ والمعاصي [1098] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/571)، ((تفسير القرطبي)) (9/95)، ((تفسير ابن كثير)) (4/349). .
عن أبي موسى رَضِيَ الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ لَيُملِي للظَّالمِ ، حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْه، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ)) [1099] أخرجه البخاري (4686) واللفظ له، ومسلم (2583). .
إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
أي: إنَّ إهلاكَ اللهِ وعِقابَه للظَّالمينَ مُوجِعٌ، شديدُ الإيلامِ [1100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/571)، ((تفسير القرطبي)) (9/96)، ((تفسير البيضاوي)) (3/148). .
كما قال تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا كان ممَّا جَرَّ هذه القِصَص وهذه المواعِظَ تكذيبُ الكافرينَ لِما يُوعَدونَ مِن العذابِ النَّاشئِ عن إنكارِ البَعثِ المذكورِ في قَولِه تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؛ أشار تعالى إلى تحقُّقِ أمرِ الآخرةِ، وأنَّه ممَّا ينبغي الاهتمامُ به؛ إعلامًا بأنَّه لا فرقَ بينه وبين ما تحقَّقَ إيقاعُه من عذابِ هذه الأمَمِ في القُدرةِ عليه، بقولِه مؤكِّدًا لأجلِ جُحودِهم أن يكونَ في شيءٍ ممَّا مضى دلالةٌ عليه بوجهٍ مِن الوجوهِ [1101] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/374-375). .
وأيضًا فهي بَيانٌ للتَّعريضِ وتَصريحٌ بعد تلويحٍ، والمعنى: وكذلك أخذُ ربِّك فاحذَرُوه، واحذَرُوا ما هو أشدُّ منه، وهو عذابُ الآخرةِ [1102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/160). .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ.
أي: إنَّ في إهلاكِ اللهِ للظَّالمينَ لَعِبرةً وعِظةً لِمَن يخافُ عذابَ اللهِ في الآخرةِ [1103] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/573)، ((تفسير القرطبي)) (9/96)، ((تفسير الخازن)) (2/502)، ((تفسير السعدي)) (ص: 389). .
ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ.
أي: هذا اليومُ- يومُ القيامةِ- يَجمَعُ اللهُ فيه كُلَّ النَّاسِ أوَّلَهم وآخِرَهم؛ ليُجازيَهم فيه بأعمالِهم [1104] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/573)، ((تفسير ابن كثير)) (4/350)، ((تفسير السعدي)) (ص: 389). .
وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ.
أي: وهو يومٌ يشهَدُه جميعُ الخلائقِ؛ مِن الملائكةِ والإنسِ، والجِنِّ والطَّيرِ، والوُحوشِ والدوابِّ [1105] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/573)، ((تفسير القرطبي)) (9/96)، ((تفسير ابن كثير)) (4/350)، ((تفسير السعدي)) (ص: 390). .
كما قال تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام: 38] .
وقال سُبحانه: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93 - 95] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير: 5] .
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104).
أي: وما نؤخِّرُ مجيءَ يومِ القيامةِ إلَّا لوقتٍ مُحدَّدٍ معدودٍ عندَ الله، لا يُزادُ فيه ولا يُنقَصُ منه [1106] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/574)، ((تفسير القرطبي)) (9/96)، ((تفسير ابن كثير)) (4/350). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: 49-50] .
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّ جُملةَ يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ تفصيلٌ لِمَدلولِ جُملةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] ، وبيَّنَت عظَمةَ ذلك اليومِ في الشَّرِّ والخيرِ تبعًا لذلك التَّفصيلِ. فالقصدُ الأوَّلُ من هذه الجملةِ هو قولُه تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وما بعدَه، وأمَّا ما قَبلَه فتمهيدٌ له أفصحَ عن عظَمةِ ذلك اليومِ [1107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/163).
يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ.
أي: حينَ يأتي يومُ القيامةِ لا تتكلَّمُ أيُّ نَفْسٍ إلَّا إذا أذِنَ اللهُ لها بذلك [1108] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/575، 576)، ((تفسير ابن كثير)) (4/350)، ((تفسير السعدي)) (ص: 390)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/163). .
كما قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38] .
وعن أبي هريرةَ رَضِيَ الله عنه في حديثِ الشَّفاعةِ الطَّويلِ: أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ولا يتكَلَّمُ يومَئذٍ إلَّا الرُّسُلُ، ودعوى الرُّسُلِ يومَئذٍ: اللهُمَّ سلِّمْ سلِّمْ )) [1109] أخرجه البخاري (7437) ومسلم (182). .
فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.
أي: فمِن النَّاسِ أشقياءُ يومئذٍ، وهم الكافرونَ، وسُعَداءُ، وهم المُؤمِنونَ المُتَّقون [1110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/576)، ((تفسير ابن كثير)) (4/350)، ((تفسير السعدي)) (ص: 390). .
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106).
أي: فأمَّا الذين حصَلَت لهم الشَّقاوةُ، فهم مُنغَمِسونَ في عذابِ النَّارِ، لهم فيها زفيرٌ قبيحٌ يخرجُ مِن حُلوقِهم، وشَهيقٌ شديدٌ في صُدورِهم؛ مِن شِدَّةِ العذابِ الذي هم فيه [1111] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/576)، ((معاني القرآن)) للزجاج (3/79)، ((تفسير ابن كثير)) (4/351)، ((تفسير السعدي)) (ص: 390). .
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107).
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.
أي: لابثينَ في النَّارِ أبدًا [1112] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 53)، ((تفسير ابن جرير)) (12/578)، ((تفسير القرطبي)) (9/99)، ((تفسير الألوسي)) (6/336)، ((تفسير السعدي)) (ص: 390). قال ابنُ الجوزي في قولِه: ما دامَتِ السَّمواتُ وَالْأَرْضُ: (فيه قولان: أحدُهما: أنَّها السَّمواتُ المعروفة عندنا، والأرضُ المعروفة. قال ابن قتيبة، وابن الأنباري: للعربِ في معنى الأبدِ ألفاظٌ؛ تقول: لا أفعل ذلك ما اختلف الليلُ والنَّهار، وما دامت السَّموات والأرض... في أشباه لهذا كثيرةٍ؛ ظنًّا منهم أنَّ هذه الأشياءَ لا تتغيَّرُ، فخاطبَهم الله بما يستعمِلونَ في كلامِهم. والثاني: أنَّها سمواتُ الجنَّة والنارِ وأرضُهما). ((تفسير ابن الجوزي)) (2/401). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/351)، ((تفسير الألوسي)) (6/336). وقال ابن تيميَّة: (قال طوائِفُ من العُلَماءِ: إنَّ قولَه: مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أراد بها سماءَ الجنَّة وأرضَ الجنَّة كما ثبت في الصَّحيحينِ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه قال: «إذا سألتُم اللهَ الجنَّةَ فاسألوه الفِردوسَ؛ فإنَّه أعلى الجنةِ، وأوسَطُ الجنَّة، وسَقفُه عرشُ الرَّحمنِ»، وقال بعض العلماءِ في قولِه تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] هي أرضُ الجنة. وعلى هذا فلا مُنافاة بين انطواءِ هذه السَّماء وبقاءِ السَّماءِ التي هي سقفُ الجنَّة؛ إذ كلُّ ما علا فإنَّه يسمَّى في اللغة سماءً، كما يُسمَّى السحابُ سماءً، والسَّقفُ سماءً، وأيضًا فإنَّ السَّمواتِ وإن طُوِيَت وكانت كالمُهلِ واستحالَت عن صورتِها؛ فإنَّ ذلك لا يوجِبُ عدَمَها وفسادَها، بل أصلُها باقٍ بتحويلِها من حالٍ إلى حالٍ، كما قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم: 48] وإذا بُدِّلَت فإنَّه لا يزالُ سماءٌ دائمةٌ وأرضٌ دائمة. والله أعلم). ((مجموع الفتاوى)) (15/109-110). .
إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ.
أي: إلَّا من [1113] ومعنى مَا شَاءَ: (من شاء)؛ لأنَّه لما كان هؤلاء صنفًا ساغَتْ في العبارةِ عنهم مَا، وإطلاقُ مَا وإرادةُ (من) نظيرُه في القرآنِ: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/345)، ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 93). شاء ربُّك- يا محمَّدُ- أن يُخرِجَهم من النَّارِ مِن عُصاةِ الموحِّدينَ، فيُدخِلهم الجنَّةَ برَحمتِه [1114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/583)، ((تفسير السمعاني)) (2/460). وممَّن ذهب إلى هذا القولِ المُختارِ في معنى الاستثناءِ المذكور: ابنُ جرير، والسمعانيُّ، ونسبه ابنُ كثير إلى كثيرٍ مِن  العلماءِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/583)، ((تفسير السمعاني)) (2/460)، ((تفسير ابن كثير)) (4/351، 352). وممن قال بهذا القولِ من السلفِ: ابنُ عباس، وأبو سنان، والضحاكُ بنُ مزاحم، وخالدُ بنُ معدان، والحسنُ البصري. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/579)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/402). وقيل المعنى: إلَّا المدَّةَ التي شاء الله أن لا يكونوا فيها، وذلك قبل دخولِها، فالاستثناءُ على هذا راجعٌ إلى ما قبل دخولِها، فهم خالدون فيها جميعَ الأزمانِ، سوى الزَّمَن الذي قبل الدُّخولِ فيها. وممَّن اختار هذا القول: السعدي، ونسبه إلى جمهورِ المفَسِّرين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 390). وذهب القاسمي إلى أنَّ الاستثناءَ بالمشيئةِ قد استُعمِلَ في أسلوبِ القُرآنِ للدَّلالةِ على الثبوتِ والاستمرارِ، والنُّكتةُ في الاستثناءِ بيانُ أنَّ هذه الأمورَ الثَّابتةَ الدائمة إنَّما كانت كذلك بمشيئةِ الله تعالى لا بطبيعتِها في نفسِها، ولو شاء تعالى أن يغيِّرَها لفعل. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (6/132). قال ابن القيم: (الذي دلَّ عليه القُرآنُ أنَّ الكُفَّارَ خالدونَ في النَّارِ أبدًا، وأنَّهم غير خارجينَ منها، وأنَّه لا يُفَتَّرُ عنهم عذابُها وأنَّهم لا يموتونَ فيها، وأنَّ عذابَهم فيها مقيمٌ، وأنَّه غرامٌ لازِمٌ لهم، وهذا كلُّه ممَّا لا نزاع فيه بين الصَّحابة والتابعين وأئمَّة المُسلِمينَ). ((حادي الأرواح)) (ص: 363). وممَّن ذكر الإجماعَ على هذه المسألةِ: القرطبي، والألوسي. يُنظر: ((التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة)) (ص: 920)، ((تفسير الألوسي)) (6/340). .
كما قال تعالى: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام: 128] .
وفي حديثِ الشَّفاعةِ الطَّويلِ عن أنسٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ثمَّ أعودُ الرَّابعةَ فأحمَدُه بتلك المحامدِ، ثمَّ أخِرُّ له ساجدًا، فيُقال: يا محمَّدُ، ارفَعْ رأسَك، وقُل يُسمَعْ، وسَلْ تُعطَه، واشفَعْ تُشَفَّعْ، فأقولُ: يا ربِّ، ائذَنْ لي فيمن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فيقول: وعِزَّتي وجلالي، وكبريائي وعظَمتي لأُخرجَنَّ منها من قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ )) [1115] أخرجه البخاري (7510) واللفظ له، ومسلم (193). .
وعن أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ الله عنه، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَخرُجُ من النَّارِ مَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، وفي قَلبِه وزنُ شعيرةٍ مِن خَيرٍ، ويخرجُ من النَّارِ من قال: لا إلهَ إلَّا الله، وفي قلبِه وزنُ بُرَّةٍ مِن خيرٍ، ويخرجُ مِن النَّارِ من قال: لا إلهَ إلَّا الله، وفي قلبه وزن ذَرَّةٍ من خيرٍ)) [1116] أخرجه البخاري (44) واللفظ له، ومسلم (193). .
وعن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللّهُ عنه، أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يُدخِلُ اللهُ أهلَ الجَنَّةِ الجنَّةَ، يُدخِلُ مَن يشاءُ برَحمَتِه، ويُدخِلُ أهلَ النَّارِ النَّارَ، ثمَّ يقولُ: انظُروا مَن وجدْتُم في قلبِه مِثقالَ حبَّةٍ مِن خردلٍ مِن إيمانٍ فأخرِجوه، فيخرجونَ منها حُمَمًا [1117] الحممُ: الفحمُ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (3/36). قد امْتَحَشُوا [1118] امتَحَشوا: أي: احتَرَقوا. يُنظر ((النهاية)) لابن الأثير (4/302). ، فيُلقَونَ في نَهرِ الحياةِ أو الحَيا، فيَنبُتونَ فيه كما تَنبُتُ الحِبَّةُ [1119] الحِبَّةُ (بالكسر): بُزورُ البُقولِ وحَبُّ الرَّياحين. وقيل: هو نبتٌ صغيرٌ يَنبُتُ في الحَشيشِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/326). إلى جانبِ السَّيلِ، ألم تَرَوها كيف تَخرُجُ صَفراءَ مُلتَويةً؟!) ) [1120] أخرجه البخاري (22) ومسلم (184)، واللفظ له. .
وعن عمرانَ بنِ حصينٍ رضي الله عنهما، عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَخرجُ قومٌ مِن النارِ بشفاعةِ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيدخلونَ الجنةَ، يُسمَّون الجهنَّميينَ )) [1121] أخرجه البخاري (6566). .
إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ.
أي: إنَّ ربَّك- يا محمَّدُ- لا يمنَعُه مانِعٌ مِن فِعلِ ما يُريدُه، بحسَبِ ما تقتَضيه حِكمتُه سُبحانه [1122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/584)، ((تفسير السعدي)) (ص: 390). .
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108).
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ.
أي: وأمَّا الذين رزَقَهم اللهُ السَّعادةَ برَحمتِه، فهم في الجنَّةِ لابثينَ فيها أبدًا [1123] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 53)، ((تفسير ابن جرير)) (12/584، 585)، ((تفسير ابن كثير)) (4/352). .
إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ.
أي: إلَّا من شاء ربُّك- يا مُحمَّدُ- أن يُدخِلَهم النَّارَ مِن عُصاةِ الموحِّدينَ، ثمَّ يُخرِجهم إلى الجنَّةِ برَحمتِه [1124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/588)، ((تفسير السمعاني)) (2/460). وممَّن ذهب إلى هذا القولِ المختارِ في معنى الاستثناءِ المذكور: ابن جرير، والسمعاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/588)، ((تفسير السمعاني)) (2/460)، و((تفسير ابن عاشور)) (12/165). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عبَّاس، والضحَّاك، ومقاتلٌ، وخالدُ بنُ مهران، والحسنُ البصري. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/2086)، ((تفسير ابن جرير)) (12/585)، ((تفسير ابن الجوزي)) (2/402)، ((تفسير ابن كثير)) (4/352). وقال ابن كثير: (معنى الاستثناءِ هاهنا: أنَّ دوامَهم فيما هم فيه من النَّعيمِ ليس أمرًا واجبًا بذاتِه، بل هو موكولٌ إلى مشيئةِ الله تعالى، فله المنَّةُ عليهم دائمًا؛ ولهذا يُلهَمونَ التَّسبيحَ والتَّحميدَ، كما يُلهَمونَ النَّفَس). ((تفسير ابن كثير)) (4/352). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: أبو سنان. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (6/2088). .
عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ.
أي: عطاءً مِن اللهِ لأهلِ الجنَّةِ مُستمِرًّا غيرَ مَقطوعٍ عنهم [1125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/588)، ((تفسير القرطبي)) (9/103)، ((تفسير ابن كثير)) (4/352). .

الفوائد التربوية :

1- قال الله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ هذا الخبَرُ مِن الله تعالى ذِكرُه، وإن كان خبرًا عمَّن مضى من الأمَمِ قبلَنا، فإنَّه وعيدٌ مِن الله جلَّ ثناؤُه لنا- أيَّتُها الأمَّةُ- أنَّا إن سلَكْنا سبيلَ الأمَمِ قَبْلَنا في الخلافِ عليه وعلى رَسولِه، سلَكَ بنا سبيلَهم في العُقوبةِ، وإعلامٌ منه لنا أنَّه تعالى لا يظلِمُ أحدًا مِن خَلْقِه، وأنَّ العِبادَ هم الذين يظلِمونَ أنفُسَهم [1126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/570-571). .
2- قولُ الله تعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وهكذا كلُّ من التجأ إلى غيرِ اللهِ، لم ينفَعْه ذلك عند نزولِ الشَّدائدِ [1127] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:389). .
3- قولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ بيَّنَ أنَّ عذابَه تعالى ليس بمقتَصِرٍ على من تقَدَّمَ، بل الحالُ في أخذِ كلِّ الظالمينَ يكونُ كذلك، والآيةُ تدُلُّ على أنَّ من أقدَمَ على ظُلمٍ فإنَّه يجِبُ عليه أن يتدارَكَ ذلك بالتَّوبةِ والإنابةِ؛ لئلَّا يقعَ في الأخذِ الذي وصفَه الله تعالى بأنَّه أليمٌ شَديدٌ [1128] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/396). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُ الله تعالى: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ عُومِلَ زَادُوهُمْ مُعاملةَ العُقلاءِ في الإسنادِ إلى واوِ الضَّميرِ الذي هو لِمَن يعقِلُ؛ لأنَّهم نزَّلوهم منزلةَ العُقَلاءِ في اعتقادِهم أنَّها تنفَعُ، وعبادتِهم إيَّاهم [1130] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/207). .
2- قولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ هذه آيةُ وعيدٍ تعُمُّ قُرى المؤمنينَ؛ فإنَّ (ظَالِمة) أعَمُّ مِن (كافرة)، وقد يمُهِلُ الله تعالى بعضَ الكَفَرةِ، وأمَّا الظَّلَمةُ في الغالبِ فمُعاجَلونَ [1131] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (3/206). . وقوله: إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ فيه تحذيرٌ عظيمٌ عن الظلمِ كفرًا كان أو غيرَه، لغيرِه أو لنفسِه، ولكلِّ أهلِ قريةٍ ظالمةٍ [1132]  يُنظر: ((شرح البخاري)) للقسطلاني (7/172). .
3- لَمَّا ذكر سُبحانَه عقوباتِ الأُمَمِ المكَذِّبينَ للرسُلِ وما حَلَّ بهم في الدُّنيا من الخِزيِ، قال بعد ذلك: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ فأخبَرَ أنَّ عُقوباتِه للمُكذِّبينَ عِبرةٌ لِمَن خاف عذابَ الآخرةِ، وأمَّا من لا يؤمِنُ بها ولا يخافُ عذابَها، فلا يكونُ ذلك عبرةً وآيةً في حَقِّه؛ إذا سَمِعَ ذلك قال: لم يزَلْ في الدَّهرِ الخَيرُ والشَّرُّ، والنَّعيمُ والبُؤسُ، والسَّعادةُ والشَّقاوةُ، وربما أحال ذلك على أسبابٍ فلَكيَّةٍ وقُوًى نفسانيَّةٍ [1133] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 131). .
4- قَولُ الله تعالى: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أشار إلى يُسرِ البَعثِ وسُهولتِه عليه وأنَّه أمرٌ ثابِتٌ لا بدَّ منه، باسمِ المفعولِ، مِن قَولِه: مَجْمُوعٌ لَهُ [1134] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (9/375). .
5- قولُ الله تعالى: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فيه سُؤالٌ: كيف الجمعُ بين هذه الآيةِ وبين سائِرِ الآياتِ التي تُوهِمُ كونَها مُناقِضةً لهذه الآيةِ؛ منها قولُه تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل: 111] ، ومنها أنَّهم يَكذِبونَ ويَحلِفونَ بالله عليه، وهو قولُه تعالى: قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ، ومنها قولُه تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:4] ، ومنها قولُه تعالى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ * وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35-36] .
والجوابُ من أوجهٍ:
الأولُ: أنَّه حيث ورد المنعُ مِن الكلامِ، فهو محمولٌ على الجواباتِ الصَّحيحةِ.
الثاني: أنَّ ذلك اليومَ يومٌ طويلٌ وله مواقِفُ؛ ففي بعضِها يُجادِلونَ عن أنفُسِهم، وفي بعضِها يكُفُّونَ عن الكلامِ، وفي بعضِها يُؤذَنُ لهم فيتكَلَّمون، وفي بعضِها يُختَمُ على أفواهِهم، وتتكَلَّمُ أيديهم، وتشهَدُ أرجُلُهم [1135] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/398). .
الثالثُ: أنَّهم لا ينطقونَ بما لهم فيه فائدةٌ، وما لا فائدةَ فيه كالعدمِ.
الرابعُ: أنَّهم بعدَ أن يقولَ الله لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ينقطعُ نطقُهم، ولم يبقَ إلَّا الزَّفيرُ والشهيقُ [1136] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 249). .
6- قول الله تعالى: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ هذا الاستِثناءُ يُفيدُ إخراجَ أهلِ التَّوحيدِ مِن النَّارِ؛ لأنَّ قَولَه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ يفيدُ أنَّ جُملةَ الأشقياءِ مَحكومٌ عليهم بهذا الحُكمِ، ثمَّ قَوله تعالى: إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ يُوجِبُ ألَّا يبقى ذلك الحُكمُ على ذلك المَجموعِ، ويكفي في زوالِ حُكمِ الخُلودِ عن المَجموعِ زوالُه عن بعضِهم، فوجبَ ألَّا يبقى حُكمُ الخلودِ لبَعضِ الأشقياءِ، ولَمَّا ثَبَت أنَّ الخُلودَ واجِبٌ للكُفَّارِ، وجَبَ أن يُقالَ: الذين زال حُكمُ الخُلودِ عنهم هم الفُسَّاقُ من أهلِ الصَّلاةِ [1137] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (18/403). ويُنظر أيضًا: ((دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب)) للشنقيطي (ص: 93). .
7- قال الله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ثمَّ عقَّبَ ذلك بقَولِه تعالى: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي: غير مقطوع؛ لئلَّا يتوهَّمَ مُتَوهِّمٌ بعد ذِكرِه المَشيئةَ أنَّ ثَمَّ انقطاعًا، أو لبسًا، أو شيئًا، بل ختَمَ له بالدَّوامِ وعدمِ الانقطاعِ، كما بيَّنَ هنا أنَّ عذابَ أهلِ النَّارِ في النَّارِ دائمًا مردودٌ إلى مشيئتِه، وأنَّه بعَدلِه وحِكمتِه عذَّبَهم؛ ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ كما قال تعالى: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ، وهنا طَيَّبَ القُلوبَ وثَبَّتَ المقصودَ بقَولِه تعالى: عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [1138] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/352). .
8- في قولِه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ دلالةٌ على أبديَّةِ الجنَّةِ؛ وأنَّها لا تفنى ولا تَبيدُ [1139] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 345). .
9- دلَّ الاستثناءُ في قَولِه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ على خُلُودِ السُّعَدَاءِ في الجنَّةِ كلَّ وقتٍ؛ إلَّا وقتًا يشاءُ اللهُ ألَّا يكونوا فيها، وذلك يتناولُ وَقتَ كونِهم في الدُّنيا، وفي البَرزَخِ، وفي موقفِ يومِ القيامةِ، وعلى الصِّراطِ، وكَونِ بعضِهم في النَّارِ مُدَّةً [1140] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 347). . هذا على أحدِ أوجهِ تأويلِ الآيةِ.

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ
- جملةُ نَقُصُّهُ عَلَيْكَ حالٌ مِن اسْمِ الإشارةِ ذَلِكَ، وعبَّر بالمضارِعِ نَقُصُّهُ مع أنَّ القَصصَ مَضى؛ لاستِحْضارِ حالةِ هذا القَصصِ البليغِ [1141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/158). .
- قولُه: مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ فيه تَشبيهٌ بليغٌ؛ فالقائمُ: الزَّرعُ المستقِلُّ على سُوقِه. والحَصيدُ: الزَّرعُ المحصودُ، وكِلاهما مُشبَّهٌ به للباقي مِن القرى والعافي. والمرادُ بالقائمِ ما كان مِن القرى الَّتي قصَّها اللهُ في القرآنِ قُرًى قائمًا بعضُها كآثارِ بلَدِ فِرعونَ، وقُرى بائدةً مِثلَ دِيارِ عادٍ، وقُرى قومِ لوطٍ، والمقصودُ مِن هذه الجملةِ الاعتبارُ [1142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/158). .
- قولُه: وَحَصِيدٌ جعَل حَصْدَ الزَّرعِ كنايةً عن الفَناءِ [1143] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (6/207). .
2- قوله تعالى: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ
- قولُه: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ تفريعٌ على قولِه: وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ؛ ووجهُ ذلك التَّفريعِ: أنَّ ظُلمَهم أنفُسَهم مَظهَرُه في عِبادتِهم الأصنامَ، والغرضُ مِن هذا التَّفريعِ التَّعريضُ بتَحذيرِ المشرِكين مِن العرَبِ من الاعتمادِ على نَفعِ الأصنامِ [1144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/159). .
- وأُوثِرَت صيغةُ المضارِعِ في قولِه: يَدْعُونَ؛ حِكايةً للحالِ الماضيَةِ، أو دَلالةً على استمرارِ عِبادتِهم لها [1145] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/240). .
3- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
- قولُه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ تذييلٌ فيه تعريضٌ بتهديدِ مُشرِكي العرَبِ مِن أهلِ مكَّةَ وغيرِها [1146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/160). .
- قولُه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ فيه تشبيهٌ في الكيفيَّةِ والعاقبةِ؛ إذِ الإشارةُ بـ كَذَلِكَ إلى استِئْصالِ تلك القُرى، وهو ما يدُلُّ عليه قولُه: أَخْذُ رَبِّكَ، والتَّقديرُ: وكذلك الأخذِ الَّذي أخَذْنا به تلك القُرى أخْذُ ربِّك إذا أخَذَ القُرى [1147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/160). .
- وقولُه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ قولُه: وَهِيَ ظَالِمَةٌ حالٌ مِن القُرى، وهي في الحقيقةِ لأهلِها، لكنَّها لَمَّا أُقيمَت مَقامَهم في الأخْذِ أُجرِيَتِ الحالُ عليها، وفائدتُها: الإشعارُ بأنَّهم إنَّما أُخِذوا بظُلمِهم؛ لِيَكونَ ذلك عِبْرةً لكلِّ ظالمٍ [1148] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/240). .
- وقولُه: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ في موضِعِ البيانِ لِمَضمونِ قولِه: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ، وفيها إشارةٌ إلى وجْهِ الشَّبهِ [1149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/160). ، وفيه ما لا يَخفْى مِن التَّهديدِ والتَّحذيرِ [1150] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/240). .
4- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ
- قولُه: ذَلِكَ إشارةً إلى يومِ القيامةِ؛ لأنَّ عذابَ الآخِرةِ دَلَّ عليه؛ وتذكيرُ اسْمِ الإشارةِ مُراعاةً لِمَعنى الآخِرةِ [1151] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/427)، ((تفسير ابن عاشور)) (12/161). .
- وأوثِرَ اسْمُ المفعولِ مَجْمُوعٌ على فِعْلِه (يُجْمَعُ)؛ لِما في اسْمِ المفعولِ مِن دَلالةٍ على ثَباتِ مَعنى الجمْعِ لليومِ، وأنَّه يومٌ لا بدَّ مِن أن يَكونَ ميعادًا مَضروبًا لجَمْعِ النَّاسِ له، وأنَّه الموصوفُ بذلك صِفةً لازِمةً، وهو أثبَتُ أيضًا لإسنادِ الجمعِ إلى النَّاسِ، وأنَّهم لا يَنفكُّون منه [1152] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/427- 428)، ((تفسير أبي حيان)) (6/209). .
- وعَطفُ جُملةِ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ على جُملَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ له النَّاسُ؛ لزِيادةِ التَّهويلِ لليَومِ بأنَّه يُشهَدُ، وطُوِيَ ذِكْرُ الفاعلِ- فلم يُقَلْ: (يَشْهَدُه الشَّاهِدون)-؛ إذ ليس القَصْدُ إلى شاهِدِين مُعيَّنِين [1153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/161). .
- قولُه: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ مُعتَرِضٌ بينَ قولِه: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وبينَ قولِه: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، والمقصودُ بالاعتراضِ الرَّدُّ على المنكِرين للبعثِ [1154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/162). .
5- قولُه تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
- قوله: نَفْسٌ يَعمُّ جميعَ النُّفوسِ؛ لوقوعِه في سِياق النَّفيِ مع كونِه نَكِرةً؛ فشَمِلَ النُّفوسَ البرَّةَ والفاجرِةَ، وشمِلَ كلامَ الشافعِ وكلامَ المجادِلِ عن نفْسِه، وقد فُصِّلَ عُمومُ النفوسِ باختلافِ أحوالِها، وهذا التَّفصيلُ مُفيدٌ تَفصيلَ النَّاسِ في قوله: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، ولكنَّه جاء على هذا النَّسْجِ لأجلِ ما تَخلَّل ذلك مِن شِبْهِ الاعتراضِ بقولِه: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [هود: 104] ، إلى قولِه: بِإِذْنِهِ، وذلك نسيجٌ بديعٌ [1155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/164). .
- وقولُه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فيه تقديمُ الشَّقيِّ على السَّعيدِ؛ لأنَّ المقامَ مَقامُ تحذيرٍ وإنذارٍ [1156] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/241). ، وقد جاء نَظْمُ الكلامِ على تَقديمٍ وتأخيرٍ اقتَضاه وضْعُ الاستطرادِ بتَعظيمِ هَولِ اليومِ في موضِعِ الكلامِ المتَّصِلِ؛ لأنَّه أسعَدُ بتَناسُبِ أغراضِ الكلامِ، والظُّروفُ صالِحةٌ لاتِّصالِ الكلامِ كصَلاحيةِ الحروفِ العاطفةِ وأدواتِ الشَّرطِ [1157] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/163). .
- قولُه: وَسَعِيدٌ، أي: (ومِنْهم سَعيدٌ)؛ حُذِف الخبَرُ؛ لِدَلالة الأوَّلِ عليه [1158] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/241). .
6- قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ
خَصَّ بالذِّكرِ مِن أحوالِهم في جَهنَّمَ الزَّفيرَ والشَّهيقَ؛ تَنفيرًا مِن أسبابِ المصيرِ إلى النَّارِ؛ لِما في ذِكْرِ هاتَينِ الحالَتَينِ مِن التَّشويهِ بهم؛ وذلك أخوَفُ لهم مِن الألَمِ [1159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (12/165). .
7- قولُه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذ
- في قولِه: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا... الآيات: ما يُعرَفُ بالجمعِ مع التفريقِ والتقسيمِ؛ فالجمعُ في قولِه: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ لأنَّها مُتعدِّدةٌ معنًى؛ إذ النَّكرةُ في سِياقِ النفيِ تعمُّ، والتفريقُ في قولِه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، والتقسيمُ في قولِه: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا [1160] يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/315)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (4/430). .