موسوعة التفسير

سُورةُ النَّبَأِ
الآيات (37-40)

ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ

غريب الكلمات:

مَآَبًا: أي: مَرْجِعًا يَرْجِعُ إليه بالطَّاعةِ والعملِ الصَّالحِ، وأصلُ (أوب): يدُلُّ على الرُّجوعِ [275] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 511)، ((تفسير ابن جرير)) (24/52)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/152)، ((البسيط)) للواحدي (23/149)، ((تفسير القرطبي)) (19/188)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310)، ((تفسير الشوكاني)) (5/447)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908). .

مشكل الإعراب:

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا
 رَبِّ بَدَلٌ أو نَعتٌ لـ رَبِّكَ في قولِه: جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ [النبأ: 36] ، مجرورٌ مِثْلَه.
الرَّحْمَنِ نَعتٌ أو بَدَلٌ لـ رَبِّ الثَّاني.
- وقُرِئَ برَفعِ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والرَّحْمَنُ مِن أوجُهٍ؛ أحدُها: أن يكونَ «رَبُّ» خبَرَ مُبتدَأٍ محذوفٍ، أي: هو رَبُّ. و«الرَّحمنُ» كذلك، أو هو مبتدأٌ خَبَرُه «لا يَملِكونَ». الثَّاني: أن يكونَ «رَبُّ» مبتدأً، و«الرَّحمنُ» خبَرَه، و«لا يملِكونَ» خَبَرًا ثانيًا، أو مُستأنَفٌ.
الثَّالثُ: أن يكونَ «رَبُّ» مُبتدَأً، و«الرَّحمنُ» نعتًا له، و«لا يملِكونَ» خبَرَ «رَبُّ».
- وقُرِئَ بَجِّر الأوَّلِ رَبِّ السَّمَاوَاتِ على البَدَلِ أو النَّعْتِ لـ رَبِّكَ كما تقَدَّمَ، ورَفعِ الثَّاني الرَّحْمَنُ على الابتداءِ [276] قرأ ابنُ عامرٍ، ويعقوبُ، والكوفيُّونَ: رَبِّ بكسرِ الباءِ، والباقونَ بضَمِّها. وقرأ الرَّحْمَنِ بالكسرِ: ابنُ عامرٍ وعاصِمٌ ويعقوبُ، والباقونَ بضَمِّها. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/397). ، والخَبَرُ لَا يَمْلِكُونَ، أو على أنَّه خَبَرُ مبتدأٍ محذوفٍ، ولَا يَمْلِكُونَ مُستأنفٌ أو خَبَرٌ ثانٍ [277] يُنظر: ((إعراب القرآن)) للنحاس (5/86)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1268)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/663 - 665)، ((تفسير الألوسي)) (15/218)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/48). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا عَظَمتَه وجلالَه: جزاءً مِن ربِّك ربِّ السَّمواتِ السَّبعِ والأرضِ وما بيْنَهما مِنَ الخَلْقِ؛ الرَّحْمَنِ، لا يَقْدِرُ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ على مُخاطَبتِه -سُبحانَه وتعالى- يومَ القيامةِ بلا إِذْنٍ، يَومَ يقومُ جِبريلُ والملائِكةُ مُصْطَفِّينَ بخُضوعٍ للهِ تعالى، لا يَتكَلَّمونَ إلَّا مَن أَذِنَ اللهُ له، وقال قَولًا حَقًّا مَرْضِيًّا للهِ تعالى، ذلك اليَومُ واقِعٌ لا مَحالةَ، فمَن شاء عَمِلَ عَمَلًا صالِحًا يَرجِعُ به إلى اللهِ تعالى.
ثمَّ يختمُ اللهُ سُبحانَه السُّورةَ الكريمةَ بإنذارٍ بليغٍ، فيقولُ: إنَّا حَذَّرْناكم -أيُّها النَّاسُ- عَذابًا قَريبًا يومَ يَنظُرُ كُلُّ إنسانٍ إلى ما عَمِلَه في حياتِه، ويَقولُ الكافِرُ: يا لَيْتَني كُنتُ تُرابًا؛ فلا أُعذَّبَ!

تفسير الآيات:

رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ سُبحانَه سَعةَ فَضْلِه؛ وَصَف نَفْسَه الأقدَسَ بما يَدُلُّ على عَظَمتِه؛ زيادةً في شَرَفِ المُخاطَبِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ عَظَمةَ العبدِ على حسَبِ عَظَمةِ السَّيِّدِ، فقال [278] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/211). :
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ.
أي: خالِقِ ومالِكِ ومدَبِّرِ السَّمواتِ والأرضِ وما بيْنَهما مِن المخلوقاتِ، الرَّحمنِ الَّذي وَسِعَتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/45)، ((تفسير ابن كثير)) (8/309)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/49). .
لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا.
أي: لا يَقْدِرُ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ على مُخاطَبةِ اللهِ -سُبحانَه وتعالى- يومَ القيامةِ بلا إِذْنٍ [280] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/45)، ((تفسير القرطبي)) (19/186)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/397)، ((تفسير ابن كثير)) (8/309)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/50). ممَّن اختار أنَّ الضَّميرَ في قولِه: لَا يَمْلِكُونَ يعودُ على جميعِ الخَلقِ مِن أهلِ السَّمواتِ والأرضِ: ابنُ جرير، ومكِّي، والزمخشري، والرازي، والبيضاوي، والعُلَيمي، والألوسي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/45)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8010)، ((تفسير الزمخشري)) (4/691)، ((تفسير الرازي)) (31/24)، ((تفسير البيضاوي)) (5/281)، ((تفسير العليمي)) (7/266)، ((تفسير الألوسي)) (15/219)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908). وقال ابن عثيمين: (وقولُه: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا يعني: أنَّ النَّاسَ لا يَملِكونَ الخِطابَ مِن الله، ولا يَستطيعُ أحدٌ أن يَتكلَّمَ إلَّا بإذْنِ اللهِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 36). وقال ابن عطيَّة: (وقولُه تعالى: لَا يَمْلِكُونَ الضَّميرُ للكفَّارِ، أي: لا يَملِكونَ مِن أفضالِه وأجمالِه أن يُخاطِبوه بمَعذِرةٍ ولا غيرِها، وهذا في موطنٍ خاصٍّ). ((تفسير ابن عطية)) (5/428). وقال أبو حيَّان: (والضَّميرُ في لَا يَمْلِكُونَ عائدٌ على المشرِكين، قاله عَطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ، أي: لا يُخاطِبُ المشرِكون اللهَ. أمَّا المؤمنونَ فيشفَعون، ويَقبَلُ اللهُ ذلك منهم. وقيل: عائدٌ على المؤمنينَ، أي: لا يَملِكونَ أن يُخاطِبوه في أمرٍ مِن الأمورِ؛ لعِلْمِهم أنَّ ما يَفعَلُه عدلٌ منه. وقيل: عائدٌ على أهلِ السَّمواتِ والأرضِ. والضَّميرُ في مِنْهُ عائدٌ عليه تعالى). ((تفسير أبي حيان)) (10/390). وقال الشوكاني: (لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا أي: لا يَملِكونَ أن يَسألوا إلَّا فيما أذِن لهم فيه. وقال الكِسائيُّ: لا يَملِكونَ منه خِطابًا بالشَّفاعةِ إلَّا بإذْنِه. وقيل: الخِطابُ: الكلامُ، أي: لا يَملِكونَ أن يُخاطِبوا الرَّبَّ سُبحانَه إلَّا بإذْنِه؛ دليلُه: لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 105] ). ((تفسير الشوكاني)) (5/446). وممَّن اختار أنَّ المعنى: لا يَتكلَّمونَ مع الله، ويُمنَعون مِن الكلامِ معه: الثعلبيُّ، والسمعاني، والخازن، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/119)، ((تفسير السمعاني)) (6/142)، ((تفسير الخازن)) (4/389)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 36). وممَّن اختار أنَّ المعنى: لا يَملِكونَ الكلامَ بالشَّفاعةِ إلَّا بإذْنِه: السمرقنديُّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/539)، ((تفسير العليمي)) (7/266). قال البيضاوي: (لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا ... أي: لا يَملِكونَ خِطابَه، والاعتِراضَ عليه في ثَوابٍ أو عِقابٍ؛ لأنَّهم مَمْلوكونَ له على الاطلاقِ، فلا يَستَحِقُّونَ عليه اعتِراضًا، وذلك لا يُنافي الشَّفاعةَ بإذْنِه). ((تفسير البيضاوي)) (5/281). وقال الماتُريدي: (قولُه عزَّ وجلَّ: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا؛ هَيْبةً مِن الله تعالى، وتعظيمًا لحقِّه؛ فلا يَملِكونَ مِن هَيْبَتِه الخِطابَ بالشَّفاعةِ أو بالخُصومةِ أو بأيِّ شيءٍ كان). ((تفسير الماتريدي)) (10/400). .
كما قال الله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] .
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا ذَكَر أنَّ أحَدًا مِنَ الخَلْقِ لا يُمكِنُه أن يُخاطِبَ اللهَ في شَيءٍ، أو يُطالِبَه بشَيءٍ؛ قرَّر هذا المعنى وأكَّدَه [281] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/24). ، فقال:
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا.
أي: وذلك واقِعٌ يَومَ يقومُ جِبريلُ وجميعُ الملائِكةِ مُصْطَفِّينَ بخُضوعٍ للهِ تعالى [282] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 511)، ((تفسير النسفي)) (3/593)، ((تفسير ابن جزي)) (2/446)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/213)، ((تفسير القاسمي)) (9/393)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908). قال النَّسَفي: (يَوْمَ يَقُومُ إنْ جعَلْتَه ظَرفًا لـ لَا يَمْلِكُونَ لا تَقِفُ على خِطابًا، وإنْ جعَلْتَه ظَرفًا لـ لَا يَتَكَلَّمُونَ تَقِفُ). ((تفسير النسفي)) (3/593). وممَّن ذَهَب إلى أنَّه ظَرفٌ لِقَولِه تعالى: لَا يَتَكَلَّمُونَ: البِقاعي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/213)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 36). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالرُّوحِ هنا جِبريلُ عليه السَّلامُ: القاسميُّ، والسعدي، وابن عثيمين، ونَسَبه النَّسَفيُّ إلى الجُمهورِ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/393)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 36)، ((تفسير النسفي)) (3/593). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ، والشَّعبيُّ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/47)، ((تفسير الماوردي)) (6/190)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/392)، ((تفسير ابن كثير)) (8/309). وقيل: هم بنو آدَمَ. وقد مال إلى هذا القولِ: ابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/310). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/49)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/392). وقيل غَيرُ ذلك. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (6/190)، ((تفسير ابن كثير)) (8/309). قال ابن حجر: (وقد روى ابنُ إسحاقَ في تفسيرِه بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ عبَّاسٍ، قال: الرُّوحُ مِن الله، وخَلقٌ مِن خَلقِ الله، وصوَرٌ كبني آدَمَ، لا يَنزِلُ ملَكٌ إلَّا ومعه واحدٌ مِن الرُّوحِ. وثبت عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه كان لا يُفسِّرُ الرُّوحَ، أي: لا يُعَيِّنُ المرادَ به في الآيةِ). ((فتح الباري)) (8/402). وقد توقَّفَ ابنُ جَريرٍ في معنى الرُّوحِ في هذه الآيةِ، فذَهَب إلى أنَّه خَلقٌ مِن خَلْقِ اللهِ تعالى، اللهُ أعلَمُ به؛ فجائِزٌ أن يكونَ الرُّوحُ جِبريلَ، أو أرواحَ بني آدَمَ، أو غيرَ ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/50). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 192-193] .
وقال سُبحانَه: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] .
لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا.
أي: لا يَتكَلَّمونَ يومَ القيامةِ إلَّا مَن أَذِنَ اللهُ له في الكلامِ، وقال قَولًا حَقًّا صائِبًا مُوافِقًا لِمَرْضاةِ اللهِ تعالى [283] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/52)، ((تفسير القرطبي)) (19/187، 188)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/53)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 37). قيل: الضَّميرُ في قَولِه تعالى: لَا يَتَكَلَّمُونَ عائدٌ على جميعِ الخَلْقِ. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/52)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/213). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 37). واستظهر الواحديُّ أنَّ المرادَ الملائكةُ، واختاره السَّمعانيُّ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/148)، ((تفسير السمعاني)) (6/142). وقيل: هو عائِدٌ على الرُّوحِ والملائكةِ. وقد جوَّز هذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/213). .
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قَرَّر أحوالَ المكَلَّفينَ في دَرَجاتِ الثَّوابِ والعِقابِ، وقَرَّر عَظَمةَ يَومِ القيامةِ؛ قال بَعْدَه [284] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/25). :
ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ.
أي: ذلك اليَومُ العَظيمُ كائِنٌ لا مَحالةَ، ولا شَكَّ في وُقوعِه [285] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/52)، ((تفسير القرطبي)) (19/188)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/214). قال الماوَرْدي: (ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ يعني: يومَ القيامةِ، وفي تسميتِه الْحَقُّ وجْهانِ؛ أحدُهما: لأنَّ مجيئَه حقٌّ، وقد كانوا على شَكٍّ. الثَّاني: أنَّ اللهَ تعالى يَحكُمُ فيه بالحقِّ بالثَّوابِ والعِقابِ). ((تفسير الماوردي)) (6/190). ممَّن اختار الوجهَ الأوَّلَ -أي: أنَّه الكائنُ لا مَحالةَ، المُتحَقِّقُ الواقعُ الثَّابتُ وُقوعُه-: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابن عطية، وابن الجوزي، والقرطبي، والبيضاوي، والنسفي، وابن جُزَي، والخازن، وأبو حيَّان، وابن كثير، وجلال الدين المحلي، والعُلَيمي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/52)، ((تفسير السمرقندي)) (3/540)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8014)، ((البسيط)) للواحدي (23/149)، ((الوسيط)) للواحدي (4/417)، ((تفسير السمعاني)) (6/142)، ((تفسير البغوي)) (5/203)، ((تفسير ابن عطية)) (5/429)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/ 392)، ((تفسير القرطبي)) (19/188)، ((تفسير البيضاوي)) (5/281)، ((تفسير النسفي)) (3/593)، ((تفسير ابن جزي)) (2/446)، ((تفسير الخازن)) (4/389)، ((تفسير أبي حيان)) (10/390)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 788)، ((تفسير العليمي)) (7/267)، ((تفسير الشوكاني)) (5/447)، ((تفسير القاسمي)) (9/394). قال السعدي: (ذَلِكَ الْيَوْمُ هو الْحَقُّ الَّذي لا يَرُوجُ فيه الباطِلُ، ولا يَنفَعُ فيه الكَذِبُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 908). وقال ابن عثيمين: (الثَّابِتُ الَّذي يقومُ فيه الحَقُّ، ويقومُ فيه العَدْلُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88، 89]). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 37). .
فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا.
أي: فمَن شاء عَمِلَ عَمَلًا صالِحًا يَرجِعُ به إلى اللهِ تعالى [286] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/52)، ((تفسير ابن عطية)) (5/429)، ((تفسير القرطبي)) (19/188)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 37). قال البِقاعي: (مَآَبًا أي: مَرجِعًا هو المرجِعُ مِمَّا يَحصُلُ له فيه الثَّوابُ بالإيمانِ والطَّاعةِ). ((نظم الدرر)) (21/214). وقال السعدي: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا أي: عَمَلًا وقَدَمَ صِدْقٍ يَرجِعُ إليه يومَ القيامةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 908). .
كما قال تعالى: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان: 29-30].
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40).
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا.
أي: إنَّا حَذَّرْناكم -أيُّها النَّاسُ- عَذابًا قد دنا وقرُبَ منكم [287] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/53)، ((تفسير القرطبي)) (19/188)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 37). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ العذابُ في الآخرة، فكُلُّ ما هو آتٍ قريبٌ: السمرقنديُّ، والثعلبي، والبغوي، وابن عطية، وابن كثير، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/540)، ((تفسير الثعلبي)) (10/120)، ((تفسير البغوي)) (5/203)، ((تفسير ابن عطية)) (5/429)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310)، ((تفسير الشوكاني)) (5/447)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 37). قال القرطبي: (الأظهَرُ أنَّه عذابُ الآخرةِ، وهو الموتُ والقيامةُ؛ لأنَّ مَن مات فقد قامت قيامتُه، فإن كان مِن أهلِ الجنَّةِ رأى مَقعَدَه مِنَ الجَنَّةِ، وإن كان مِن أهلِ النَّارِ رأى الخِزْيَ والهَوانَ). ((تفسير القرطبي)) (19/188). وقال البيضاوي: (أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يعني: عذابَ الآخِرةِ، وقُرْبُه لتحَقُّقِه؛ فإنَّ كُلَّ ما هو آتٍ قريبٌ، ولأنَّ مَبدَأَه الموتُ). ((تفسير البيضاوي)) (5/281). وقيل: المرادُ بقَولِه: عَذَابًا قَرِيبًا: العذابُ في الدُّنيا، يعني: القَتلَ ببَدرٍ، وهلاكَ الأُمَمِ الخاليةِ، وإنَّما قال: قَرِيبًا؛ لأنَّها أقرَبُ مِن الآخرةِ. قاله مقاتِلٌ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/566). وقال ابنُ عاشور: (العَذابُ يَصْدُقُ بعذابِ الآخِرةِ، وهو ما تقَدَّم الإنذارُ به، ويَصدُقُ بعذابِ الدُّنيا مِن القَتْلِ والأسْرِ في غَزَواتِ المسلِمينَ لأهلِ الشِّرْكِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/56). .
كما قال تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج: 6-7] .
وقال سُبحانَه: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [النازعات: 46] .
يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ.
أي: وذلك يومَ يَنظُرُ كُلُّ إنسانٍ إلى ما عَمِلَه مِن قَبْلُ في حياتِه [288] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/417)، ((تفسير القرطبي)) (19/188)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/56، 57)، ((تفسير ابن عثيمين - جزء عم)) (ص: 38). ممَّن اختار أنَّ قولَه: الْمَرْءُ عامٌّ للمؤمنِ والكافرِ: السمرقنديُّ، والواحدي، والرازي، والبيضاوي، والعُلَيمي، والشربيني، والألوسي، وابن عثيمين، ونسَبَه الرَّسْعَنيُّ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/540)، ((البسيط)) للواحدي (23/150)، ((الوسيط)) للواحدي (4/417)، ((تفسير الرازي)) (31/26)، ((تفسير البيضاوي)) (5/281)، ((تفسير العليمي)) (7/268)، ((تفسير الشربيني)) (4/474)، ((تفسير الألوسي)) (15/222)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 38)، ((تفسير الرسعني)) (8/460). قال الواحدي: (والظَّاهِرُ أنَّ الْمَرْءُ عامٌّ في كُلِّ أحدٍ؛ لأنَّ كُلَّ أحدٍ يرى في ذلك اليومِ ما كَسَب وقَدَّم وأخَّرَ مِن خيرٍ وشَرٍّ مُثبَتًا عليه في صحيفتِه). ((البسيط)) (23/150). وقال البِقاعي: (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ أي: جِنْسُه، الصَّالحُ منه والطَّالِحُ، نظرًا لا مِرْيةَ فيه مَا أي: الَّذي قَدَّمَتْ يَدَاهُ أي: كَسَبَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ). ((نظم الدرر)) (21/215). وقيل: المرادُ به هنا: المؤمنُ. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، والشَّوكانيُّ، وهو قولُ الحسَنِ، وقَتادةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/53)، ((تفسير الشوكاني)) (5/447)، ((تفسير الرازي)) (31/26). وقيل: المرادُ بالمرءِ هنا: الكافرُ. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، وهو قولُ عَطاءٍ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/691)، ((تفسير الرازي)) (31/26). قال الزمخشري: (مَا يجوزُ أن تكونَ استفهاميَّةً منصوبةً بـ قَدَّمَتْ، أي: ينظُرُ أيَّ شَيءٍ قدَّمَتْ يَداه، ومَوصولةً منصوبةً بـ يَنْظُرُ). ((تفسير الزمخشري)) (4/692). .
كما قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران: 30] .
وقال سُبحانَه: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 6 - 8] .
وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا.
أي: ويَقولُ الكافِرُ مُتحَسِّرًا يَومَئِذٍ: يا لَيْتَني كُنتُ تُرابًا [289] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/54)، ((تفسير الماوردي)) (6/191)، ((تفسير البيضاوي)) (5/281)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310، 311)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/215)، ((تفسير السعدي)) (ص: 908)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 38). قال ابنُ عثيمين: (كُنْتُ تُرَابًا تحتَمِلُ ثلاثةَ مَعانٍ: المعنى الأوَّلُ: يا لَيْتَني كنتُ ترابًا فلم أُخلَقْ؛ لأنَّ الإنسانَ خُلِقَ مِن ترابٍ. المعنى الثَّاني: يا ليتَني كنتُ ترابًا فلم أُبعَثْ، يعني: كُنتُ ترابًا في أجوافِ القُبورِ. المعنى الثَّالثُ: أنَّه إذا رأى البهائِمَ الَّتي قضى اللهُ بيْنَها، وقال لها: كُوني تُرابًا، فكانت ترابًا؛ قال: لَيْتَني كنتُ تُرابًا، أي: كما كانت هذه البهائِمُ. واللهُ أعلَمُ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 38). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/692)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/392)، ((تفسير ابن جزي)) (2/447). وممَّن ذهب إلى المعنى الأوَّلِ: الكرمانيُّ، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير الكرماني)) (2/1298)، ((تفسير ابن كثير)) (8/310). وممَّن ذهب إلى المعنى الثَّالثِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والواحدي، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/54)، ((تفسير السمرقندي)) (3/540)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8016)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1168)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 789). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عبدُ الله بنُ عَمرٍو، وأبو هُرَيرةَ، وأبو الزِّنادِ عبدُ الله بنُ ذَكْوانَ، وسُفْيانُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/54-56). قال الواحدي: (قال جماعةُ المفسِّرينَ: وذلك أنَّ اللهَ تعالى يَحشُرُ الدَّوابَّ، والبهائمَ، والوحشَ، فيقتصُّ لبعضِها مِن بعضٍ، ثمَّ يُقالُ لها: كُوني تُرابًا، فيَتمَنَّى الكافرُ عندَ ذلك أنَّه كان ترابًا). ((البسيط)) (23/150). وقال ابن كثير: (وقد ورد معنى هذا في حديثِ الصُّورِ المشهورِ، وورد فيه آثارٌ عن أبي هُرَيرةَ، وعبدِ الله بنِ عَمرٍو، وغيرِهما). ((تفسير ابن كثير)) (8/311). !
كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [290] قال مكِّي: (قولُه: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 42] الآيةَ. يومَ يَجيءُ مِن كلِّ أُمَّةٍ شهيدٌ، يتمنَّى الكافِرون لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي: يَصيرون ترابًا مِثلَها، كما قال: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا). ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) (2/1333). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/241). [النساء: 42] .

الفوائد التربوية:

قال اللهُ تعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ذِكْرُ وَصْفِ الكافِرِ يُفهَمُ منه أنَّ المؤمِنَ ليس كذلك؛ لأنَّ المؤمِنَ وإن عَمِلَ بَعضَ السَّيِّئاتِ، وتوَقَّع العِقابَ على سَيِّئاتِه؛ فهو يَرْجو أن تكونَ عاقِبتُه إلى النَّعيمِ [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/58). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قولُه تعالى: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا (ما) مَوصولةٌ، وهي مِن صِيَغِ العُمومِ، وقد استُفيدَ مِن ذلك تعميمُ رُبوبيَّتِه سُبحانَه على جميعِ المصنوعاتِ [292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/49). .
2- قولُه تعالى: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا الغرضُ مِن ذِكرِ هذا إبطالُ اعتذارِ المُشرِكينَ حينَ استشعَروا شناعةَ عبادتِهم الأصنامَ الَّتي شهَّرَ القرآنُ بها، فقالوا: هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ، وقالوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [293] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/50). [الزمر: 3] .
3- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا لِمَن يقولُ بتفضيلِ الملَكِ على البَشَرِ أن يتمَسَّكَ بهذه الآيةِ؛ وذلك لأنَّ المقصودَ مِن الآيةِ أنَّ الملائِكةَ لَمَّا بَقُوا خائِفينَ خاضِعينَ وَجِلينَ مُتحَيِّرينَ في مَوقِفِ جَلالِ اللهِ، وظُهورِ عِزَّتِه وكِبْريائِه، فكيف يكونُ حالُ غَيْرِهم؟! ومعلومٌ أنَّ هذا الاستِدلالَ لا يَتِمُّ إلَّا إذا كانوا أشرَفَ المخلوقاتِ [294] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/24). والصَّوابُ في هذه المسألةِ التَّفصيلُ: وهو أنَّ صالِحي البَشَرِ أفضَلُ باعتبارِ كَمالِ النِّهايةِ، والملائكةَ أفضَلُ باعتبارِ البدايةِ؛ فإنَّ الملائكةَ الآنَ في الرَّفيقِ الأعلى مُنزَّهينَ عمَّا يُلابِسُه بنو آدَمَ، مُستَغرِقينَ في عبادةِ الرَّبِّ سُبحانَه، ولا ريبَ أنَّ هذه الأحوالَ الآنَ أكمَلُ مِن أحوال البَشَرِ، وأمَّا يومَ القيامةِ بعدَ دُخولِ الجنَّةِ، فيَصيرُ حالُ صالِحي البَشَرِ أكمَلَ مِن حالِ الملائكةِ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/352)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/163). .
4- قال اللهُ تعالى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا إطلاقُ صِفةِ الرَّحمنِ على مَقامِ الجلالةِ إيماءٌ إلى أنَّ إذْنَ اللهِ لِمَن يَتكلَّمُ في الكلامِ أثَرٌ مِن آثارِ رحْمَتِه؛ لأنَّه أَذِنَ فيما يحصُلُ به نفعٌ لأهلِ المَحشَرِ مِن شفاعةٍ أو استغفارٍ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/53). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا فيه سؤالٌ: لَمَّا أَذِنَ له الرَّحمنُ في ذلك القَولِ عُلِمَ أنَّ ذلك القَولَ صوابٌ لا محالةَ، فما الفائِدةُ في قَولِه تعالى: وَقَالَ صَوَابًا؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ الرَّحمنَ أذِنَ له في مُطلَقِ القَولِ، ثمَّ إنَّهم عندَ حُصولِ ذلك الإذْنِ لا يتكَلَّمونَ إلَّا بالصَّوابِ، فكأنَّه قيل: إنَّهم لا يَنطِقونَ إلَّا بعدَ وُرودِ الإذنِ في الكلامِ، ثمَّ بَعْدَ وُرودِ ذلك الإذْنِ يَجتَهِدونَ ولا يتكَلَّمونَ إلَّا بالكلامِ الَّذي يَعلَمونَ أنَّه صِدقٌ وصَوابٌ، وهذا مُبالَغةٌ في وَصْفِهم بالطَّاعةِ والعُبوديَّةِ.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ تقديرَه: لا يَتكَلَّمونَ إلَّا في حَقِّ مَن أَذِنَ له الرَّحمنُ، وقال صوابًا، والمعنى: لا يَشفَعونَ إلَّا في حَقِّ شَخصٍ أَذِنَ له الرَّحمنُ في شفاعتِه، وذلك الشَّخصُ كان ممَّن قال صَوابًا [296] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/25). .
أو أنَّه لا يتكلَّمُ أحدٌ إلَّا بهذَينِ الشَّرطَينِ: أن يأذَنَ اللهُ له في الكلامِ، وأن يكونَ ما تكلَّمَ به صوابًا [297] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 908). .
6- أنَّ الإيمانَ بالقَدَرِ لا يُنافي أنْ يكونَ للعَبْدِ مَشيئةٌ في أفعالِه الاختياريَّةِ وقُدْرتِه عليها؛ قال تعالى: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا [298] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 112). .
7- قال تعالى: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا قولُه: إِلَى رَبِّهِ دلَّ على أنَّه مآبُ خَيرٍ؛ لأنَّ اللهَ لا يَرضى إلَّا بالخيرِ [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/55). .
8- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا سَمَّاه إنذارًا؛ لأنَّه تعالى بهذا الوَصْفِ قد خَوَّف منه نهايةَ التَّخويفِ، وهو معنى الإنذارِ [300] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/26). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا
- قولُه: رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ قُرِئَ برفعِ رَبِّ ورفعِ الرَّحْمَنِ، فـ (ربُّ) خبرُ مُبتدأٍ مَحذوفٍ هو ضميرٌ يعودُ على قولِه: مِنْ رَبِّكَ [النَّبأ: 36]، على طَريقةِ حذفِ المسنَدِ إليه لاتِّباعِ الاستِعمالِ الواردِ على تَرْكِه، أي: في المقامِ الَّذي يَجْري استِعمالُ البُلغاءِ فيه على حذْفِ المسنَدِ إليه [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/48). .
- وأُتْبِعَ وصفُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ بذِكرِ اسمٍ مِن أسمائِه الحُسنى، وهو اسمُ الرَّحْمَنِ، وخُصَّ بالذِّكرِ دونَ غيرِه مِن الأسماءِ الحُسنى؛ لأنَّ في معناه إيماءً إلى أنَّ ما يُفيضُه مِن خيرٍ على المتَّقينَ في الجنَّةِ هو عطاءُ رحمنٍ بهم [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/49). .
- وفي ذِكرِ هذه الصِّفةِ الجليلةِ تعريضٌ بالمُشرِكينَ؛ إذ أنكَروا اسمَ الرَّحمنِ الواردَ في القرآنِ، كما حَكى اللهُ عنهم بقولِه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/49). [الفرقان: 60] .
- قولُه: لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا استِئنافٌ مقرِّرٌ لِما أفادَهُ الرُّبوبيَّةُ العامَّةُ مِن غايةِ العظَمةِ والكبرياءِ، واستقلالِه تعالى بما ذُكِر مِن الجزاءِ والعطاءِ مِن غيرِ أنْ يكونَ لأحدٍ قُدرةٌ عليه، والمرادُ نفيُ قُدرتِهم على أنْ يُخاطِبوه تعالى بشيءٍ مِن نقصِ العذابِ أو زيادةِ الثَّوابِ مِن غيرِ إذْنِه على أبلَغِ وجْهٍ وآكَدِه [304] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/93). .
ويجوزُ أنْ تكونَ هذه الجُملةُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا حالًا مِن (مَا بَيْنَهُمَا)؛ لأنَّ ما بيْنَ السَّمواتِ والأرضِ يَشملُ ما في ذلك مِن المخلوقاتِ العاقلةِ، أو المزعومِ لها العقلُ مِثلِ الأصنامِ، فيُتوهَّمُ أنَّ مِن تلك المخلوقاتِ مَن يَستطيعُ خِطابَ اللهِ ومُراجَعتَه. ويجوزُ أنْ تكونَ استِئنافًا ابتدائيًّا لإبطالِ مَزاعمِ المُشرِكينَ، أو للاحتراسِ لدفْعِ توهُّمِ أنَّ ما تُشعِرُ به صلةُ (ربِّ) مِن الرِّفقِ بالمَربوبينَ في تدبيرِ شؤونِهم يُسيغُ إقدامَهم على خِطابِ الرَّبِّ تعالى [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/49). .
- وفعلُ يَمْلِكُونَ يعُمُّ؛ لوُقوعِه في سِياقِ النَّفيِ كما تعُمُّ النَّكِرةُ المنفيَّةُ، وخِطَابًا عامٌّ أيضًا، وكِلاهُما مِن العامِّ المخصوصِ بمُخصِّصٍ منفصِلٍ؛ كقولِه عَقِبَ هذه الآيةِ: لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النَّبأ: 38]، وقولِه: يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ [هود: 105] ، وقولِه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، وقولِه: وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/50). [الأنبياء: 28] .
- والتَّنكيرُ في خِطَابًا للتَّقليلِ، و(مِنْ) بيانٌ، والظَّرفُ حالٌ مِن خِطَابًا، المعنى: ليس في أيديهِم خِطابٌ كائنٌ مِن عِندِ اللهِ في أمرِ الشَّفاعةِ قَطُّ، أي: ليس لهم مَمْسَكٌ ونصٌّ يَتصرَّفونَ به في أمرِ الشَّفاعةِ [307] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/691)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/258). .
2- قولُه تعالَى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا الجُملةُ استِئنافٌ مُقرِّرٌ لمَضمونِ قولِه تعالَى: لَا يَتَكَلَّمُونَ إلخ، ومُؤكِّدٌ له، على مَعْنى: أنَّ أهلَ السَّمواتِ والأرضِ إذا لم يَقدِروا يَومَئذٍ على أنْ يَتكلَّموا بشَيءٍ مِن جِنسِ الكلامِ إلَّا مَنْ أَذِنَ اللهُ تعالَى له منهم في التَّكلُّمِ، وقال ذلكَ المأذونُ له قَولًا صَوابًا؛ فكيفَ يَملِكون خِطابَ ربِّ العِزَّةِ مع كَونِه أخصَّ مِن مُطلَقِ الكلامِ، وأعزَّ منه مَرامًا [308] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/94). ؟!
- قولُه: الرُّوحُ هو جِبريلُ، وتَخصيصُه بالذِّكرِ قبْلَ ذِكرِ الملائكةِ المعطوفِ عليه؛ لتشريفِ قدْرِه بإبلاغِ الشَّريعةِ [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/51). .
وقيل: اللَّامُ في الرُّوحُ لتعريفِ الجِنسِ؛ فالمفردُ معها والجمعُ سواءٌ، والمعنى: يومَ تحضُرُ الأرواحُ مَصفوفةً لِتُودَعَ في أجسادِها، وتقومُ الملائكةُ صفًّا، وإنَّما يَصطفُّ النَّاسُ في المقاماتِ الَّتي يكونُ فيها أمرٌ عظيمٌ، فصَفُّ الملائكةِ تعظيمٌ للهِ، وخضوعٌ له [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/51، 52). .
- وجملةُ لَا يَتَكَلَّمُونَ مُؤكِّدةٌ لجُملةِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا [النَّبأ: 37]، أُعيدَتْ بمعناها لتقريرِ المعنَى؛ إذ كان المَقامُ حَقيقًا، فالتَّقريرُ لقَصدِ التَّوصُّلِ به إلى الدَّلالةِ على إبطالِ زعْمِ المُشرِكينَ شَفاعةَ أصنامِهم لهم عِندَ اللهِ، وهي دَلالةٌ بطريقِ الفَحْوى [311] فَحْوَى الخِطابِ -ويُسمَّى تنبيهَ الخطابِ، ومفهومَ الموافقةِ-: هو إثباتُ حُكمِ المنطوقِ به للمَسكوتِ عنه بطريقِ الأَولَى، كقولِه تعالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء: 23] ، فيه تنبيهٌ على النَّهيِ عن ضربِهما وسَبِّهما؛ لأنَّ الضَّربَ والسَّبَّ أعظَمُ مِن التَّافيفِ، وكذلك قولُه تعالَى: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: 75]، فيه تنبيهٌ على أنَّه يُؤدِّي ما كان دونَ القِنطارِ، ففي هذه الآيةِ نَبَّه بالأعلَى على الأدنَى، وفي الآيةِ الأُولى نَبَّه بالأدنَى على الأعلَى. يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) للخطيب البغدادي (1/233)، ((تقريب الوصول إلي علم الأصول)) لابن جُزَي (ص: 163). ؛ فإنَّه إذا نُفِيَ تَكلُّمُهم بدونِ إذْنٍ نُفِيَتْ شفاعتُهم؛ إذ الشَّفاعةُ كلامُ مَن له وجاهةٌ وقَبولٌ عِندَ سامِعِه [312] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/691)، ((تفسير البيضاوي)) (5/281)، ((تفسير أبي السعود)) (9/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/51). .
- ومتعلَّقُ أَذِنَ محذوفٌ، دلَّ عليه لَا يَتَكَلَّمُونَ، أي: مَن أُذِن له في الكلامِ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/52). .
- وإظهارُ الرَّحْمَنُ في موضعِ الإضْمارِ؛ للإيذانِ بأنَّ مناطَ الإذنِ هو الرَّحمةُ البالغةُ، لا أنَّ أحدًا يَستحِقُّه عليه سبحانَه وتعالى [314] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/94). .
- وفعلُ وَقَالَ صَوَابًا مُستعمَلٌ في معنى المُضارِعِ، أي: ويقولُ صوابًا، فعُبِّر عنه بالماضي؛ لإفادةِ تحقُّقِ ذلك [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/53). .
3- قولُه تعالَى: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا استِئنافٌ ابتدائيٌّ كالفَذْلَكةِ [316] الفَذْلَكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكةً، أي: أنْهاهُ وفَرَغ منه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلَكةُ كلمةٌ منحوتةٌ كـ (البَسملةِ) و(الحَوقَلةِ)، مِن قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُرادُ بالفَذْلَكةِ: النَّتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتَّفريعُ عليه، ومنها فَذْلَكةُ الحسابِ، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقولِه تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). لِما تَقدَّمَ مِن وَعيدٍ ووعدٍ، وإنذارٍ وتبشيرٍ، سِيقَ مساقَ التَّنويهِ بيومِ الفصلِ الَّذي ابتُدِئ الكلامُ عليه مِن قولِه عزَّ وجلَّ: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا [النَّبأ: 17]، والمقصودُ التَّنويهُ بعظيمِ ما يقَعُ فيه مِن الجزاءِ بالثَّوابِ والعِقابِ، وهو نتيجةُ أعمالِ النَّاسِ مِن يومِ وُجودِ الإنسانِ في الأرضِ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/53). .
- والإشارةُ بقولِه: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ إلى اليومِ المتقدِّمِ في قولِه: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا، ومُفادُ اسمِ الإشارةِ ذَلِكَ في مِثلِ هذا المَقامِ التَّنبيهُ على أنَّ المُشارَ إليه حقيقٌ بما سيُوصَفُ به بسببِ ما سبَقَ مِن حِكايةِ شُؤونِه؛ فمِن أجْلِ جميعِ ما وُصِف به يومُ الفصلِ كان حقيقًا بأنْ يُوصَفَ بأنَّه اليومُ الحقُّ، وما تَفرَّع عن ذلك مِن قولِه: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/54). .
- وتَعريفُ الْيَوْمُ باللَّامِ؛ للدَّلالةِ على معنى الكمالِ، أي: هو الأعظَمُ مِن بيْنِ ما يَعُدُّه النَّاسُ مِن أيَّامِ النَّصرِ للمُنتصِرينَ؛ لأنَّه يومٌ يُجمَعُ فيه النَّاسُ كلُّهم، ويُعطى كلُّ واحدٍ منهم ما هو أهلُه مِن خيرٍ أو شرٍّ، فكأنَّ ما عداهُ مِن الأيَّامِ المشهورةِ في تاريخِ البشرِ غيرُ ثابتِ الوُقوعِ [319] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/54). .
- قولُه: فَمَنْ شَاءَ هذا وعيدٌ وتهديدٌ [320] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/390). .
- وفُرِّعَ قولُه: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا بالفاءِ الفصيحةِ على قولِه: ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ؛ لإفصاحِها عن شَرْطٍ مُقدَّرٍ ناشئٍ عن الكلامِ السَّابقِ، والتَّقديرُ: فإذا عَلِمتُم ذلك كلَّه، فمَن شاءَ اتِّخاذَ مآبٍ عِندَ ربِّه فلْيَتَّخِذْه، فقدْ بانَ لكم ما في ذلك اليومِ مِن خيرٍ وشرٍّ، فلْيَختَرْ صاحبُ المشيئةِ ما يَليقُ به للمَصيرِ في ذلك اليومِ، والتَّقديرُ: مآبًا فيه، أي: في اليومِ. وهذا التَّفريعُ مِن أبدَعِ الموعظةِ بالتَّرغيبِ والتَّرهيبِ عِندَما تَسنَحُ الفُرصةُ للواعظِ مِن تهيُّؤِ النُّفوسِ لقَبولِ الموعظةِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/54)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/359). .
- والاتِّخاذُ: مُبالَغةٌ في الأخْذِ، أي: أخَذَ أخْذًا يُشبِهُ المطاوَعةَ في التَّمكُّنِ [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/55). .
4- قولُه تعالَى: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا
- قولُه: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا اعتِراضٌ بيْن مَآَبًا [النَّبأ: 39] وبيْن يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [النَّبأ: 40]، والمقصودُ مِن هذه الجُملةِ الإعذارُ للمُخاطَبينَ بقَوارعِ هذه السُّورةِ؛ بحيثُ لم يَبقَ بيْنَهم وبيْنَ العِلمِ بأسبابِ النَّجاةِ وضِدِّها شُبهةٌ ولا خَفاءٌ، فالخبرُ -وهو إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا- مُستعمَلٌ في قطْعِ العُذرِ، وليس مُستعمَلًا في إفادةِ الحُكمِ؛ لأنَّ كونَ ما سبَقَ إنذارًا أمرٌ مَعلومٌ للمُخاطَبينَ [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/55). .
- وافتُتِح الخبرُ بحَرفِ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للمُبالَغةِ في الإعذارِ بتَنزيلِهم مَنزلةَ مَن يَتردَّدُ في ذلك [324] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/55). .
- وفي قولِه: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا جُعِلَ المسنَدُ أَنْذَرْنَاكُمْ فِعلًا مُسنَدًا إلى الضَّميرِ المنفصِلِ؛ لإفادةِ تَقَوِّي الحُكمِ، مع تَمثيلِ المتكلِّمِ في مَثَلِ المتبرِّئِ مِن تَبِعةِ ما عَسى أنْ يَلحَقَ المخاطَبينَ مِن ضُرٍّ إنْ لم يَأخُذوا حِذرَهم ممَّا أنذَرَهم به [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/55). .
- والإنذارُ: الإخبارُ بحُصولِ ما يَسوءُ في مُستقبَلٍ قَريبٍ، وعُبِّر عنه بالمُضيِّ؛ لأنَّ أعظَمَ الإنذارِ قدْ حصَلَ بما تَقدَّمَ مِن قولِه: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآَبًا [النَّبأ: 21-22] إلى قولِه: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/55، 56). [النَّبأ: 30].
- قولُه: عَذَابًا قَرِيبًا هو عَذابُ الآخِرةِ؛ ووُصِفَ بالقَريبِ لتَحقيق إتيانِه حَتْمًا، ولأنَّ مَبدَأَه الموتُ، ولأنَّه قَريبٌ بالنِّسبةِ إليه تعالى وإنْ رَأَوْه بعيدًا، وسَيَرَونَه قريبًا [327] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/281)، ((تفسير أبي حيان)) (10/390)، ((تفسير أبي السعود)) (9/94)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/56). .
- والمَرءُ: اسمٌ للرَّجُلِ؛ إذ هو اسمٌ مُؤنَّثُه امرأةٌ. والاقتصارُ على المرْءِ جَرَى على غالِبِ استعمالِ العرَبِ في كَلامِهم؛ فالكلامُ خرَجَ مَخرَجَ الغالبِ في التَّخاطُبِ [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/56). .
- قَولُه: مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، أي: كَسَبَه في الدُّنيا مِن خَيرٍ وشَرٍّ، وعَبَّرَ بهما -أي: اليدَينِ-؛ لأنَّهما مَحَلُّ القُدرةِ، فكَنَّى بهما عنها، مع أنَّ أكثَرَ ما يُعمَلُ كائِنٌ بهما مُستقِلَّتَينِ به أو مُشارِكتَينِ فيه؛ خيرًا كان أو شَرًّا [329] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/215). .
- قولُه: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا خُصَّ بالذِّكرِ مِن عُمومِ المرْءِ الإنسانُ الكافرُ الَّذي يقولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا؛ وذلك تلهُّفٌ وتندُّمٌ على ما قدَّمتْ يداهُ مِن الكُفرِ، وقد كانوا يقولونَ: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 49] ، فجعَلَ اللهُ عِقابَهم بالتَّحسُّرِ وتمنِّي أنْ يكونوا مِن جِنسِ التُّرابِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/58). .
 وخصَّ قولَ الكافرينَ دونَ المؤمنينَ؛ لأنَّ قولَ الكافرينَ دلَّ على غايةِ الخَيبةِ، ونِهايةِ التَّحسُّرِ، ودلَّ حَذْفُ قولِ المؤمنينَ على غايةِ التَّبجُّحِ، ونِهايةِ الفرَحِ ممَّا لا يُحيطُ به الوصفُ [331] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/261). .
وعلى القولِ بأنَّ المرادَ بقولِه: الْمَرْءُ: الكافرُ؛ لقولِه: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ، فيكونُ الْكَافِرُ ظاهرًا وُضِعَ مَوضعَ الضَّميرِ؛ لزِيادةِ الذَّمِّ [332] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/691)، ((تفسير البيضاوي)) (5/281)، ((تفسير أبي حيان)) (10/390، 391)، ((تفسير أبي السعود)) (9/95). .
- وهذه الآيةُ جامعةٌ لِما جاءَ في السُّورةِ مِن أحوالِ الفَريقينِ، وفي آخِرِها رَدُّ العَجُزِ على الصَّدْرِ [333] رَدُّ العَجُزِ على الصَّدرِ -ويُعرَفُ أيضًا بالتَّصديرِ-: هو أنْ تكونَ اللَّفظةُ بعَيْنِها تقدَّمتْ في أوَّلِ الكَلامِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِه، وبتعبيرٍ آخَرَ: هو أنْ يُجعَلَ أحدُ اللَّفظَينِ المُكرَّرَينِ، أو المُتجانِسَينِ، أو المُلحَقَينِ بهما في أوَّلِ الفِقرةِ، ثُمَّ تُعادُ في آخِرِها، وهو على ثلاثةِ أقسامٍ؛ الأوَّلُ: أن يُوافِقَ آخِرُ الفاصِلةِ آخِرَ كَلِمةٍ في الصَّدرِ؛ كقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء: 166] ، والثَّاني: أنْ يُوافِقَ أوَّلَ كَلمةٍ منه؛ كقولِه: وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 8] ، والثَّالثُ: أنْ يُوافِقَ بعضَ كَلِماتِه؛ كقولِه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [الأنعام: 10] . يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/461)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/354)، ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 333)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/514). مِن ذِكرِ أحوالِ الكافِرينَ الَّذين عُرِفوا بالطَّاغينَ، وبذلك كان خِتامُ السُّورةِ بها بَراعةَ مَقطعٍ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/58). وبراعةُ المقطعِ: أن يكونَ آخِرُ الكلامِ مُستعَذبًا حسَنًا؛ لتبقى لَذَّتُه في الأسماع، مُؤذنًا بالانتهاءِ، بحيث لا يبقى للنَّفْسِ تشَوُّفٌ إلى ما وراءَه. يُنظر: ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/135)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لحبنكة (2/563). .