موسوعة التفسير

سُورةُ النَّازِعاتِ
الآيات (42-46)

ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ

غريب الكلمات:

أَيَّانَ مُرْسَاهَا: أي: في أيِّ وَقتٍ وُقوعُها وقيامُها وثَباتُها واستِقرارُها؟ وأَيَّانَ: يُسأَلُ به عن الزَّمانِ المُستَقبَلِ، وأصلُ (رسو): يدُلُّ على ثُبوتٍ [270] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 175، 513)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 354)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 122)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 213)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/245)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 222، 225). .
عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا: العَشِيُّ: مِن زَوالِ الشَّمسِ إلى الصَّباحِ، أو: آخِرُ النَّهارِ، وأصلُ (عشو): يدُلُّ على ظلامٍ، وقِلَّةِ وُضوحِ الشَّيءِ، والضُّحَى: أوَّلُ اليومِ، أو انبِساطُ الشَّمسِ وامتِدادُ النَّهارِ، وسُمِّيَ الوقْتُ به، وأَصْلُه يدُلُّ على بُروزِ الشَّيءِ [271] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/391) و(4/322)، ((المفردات)) للراغب (ص: 502، 567)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 336)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 982). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: يَسأَلُك المكَذِّبونَ بالبَعْثِ -يا محمَّدُ- عن مَوعِدِ القيامةِ، فيقولونَ: متى وَقتُ قيامِها؟
ثمَّ يقولُ تعالى مجيبًا: ليس مِن شأنِك مَعرِفةُ وَقتِ قيامِ السَّاعةِ، وليس ذلك إليك، إلى رَبِّك وَحْدَه مُنتهى عِلمِها، إنَّما أنت مُكَلَّفٌ بإنذارِ مَن يَخشى قيامَ السَّاعةِ.
ثمَّ يختمُ الله تعالى السُّورةَ الكريمةَ ببيانِ حالِهم عندَ قيامِ السَّاعةِ، فيقولُ: كأنَّهم يَومَ يَرَوْنَ السَّاعةَ لم يَمكُثوا في الدُّنيا إلَّا وَقتًا قليلًا كمِقدارِ آخِرِ النَّهارِ أو أوَّلِه.

تفسير الآيات:

يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّن بالبُرهانِ العَقليِّ إمكانَ القيامةِ، ثمَّ أخبَرَ عن وُقوعِها، ثمَّ ذَكَر أحوالَها العامَّةَ، ثمَّ ذَكَر أحوالَ الأشقياءِ والسُّعَداءِ فيها؛ قال تعالى [272] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/50). :
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42).
أي: يَسأَلُك المكَذِّبونَ بالبَعْثِ -يا محمَّدُ- عن مَوعِدِ القيامةِ، فيقولونَ: متى وَقتُ قيامِها [273] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/99)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/244)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/94). وممَّن قال بأنَّ السَّائِلينَ هم المكَذِّبونَ بالبَعْثِ: ابنُ جرير، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: المصادر السَّابقة. قال ابن عاشور: (كان سؤالُهم استِهزاءً واستِخفافًا). ((تفسير ابن عاشور)) (30/94). وقال ابن عثيمين: (سؤالُ النَّاسِ عن السَّاعةِ يَنقَسِمُ إلى قِسمَينِ: سؤالُ استبعادٍ وإنكارٍ، وهذا كُفرٌ... وسؤالٌ عن السَّاعةِ يَسألُ متى السَّاعةُ؛ لِيَستعِدَّ لها، وهذا لا بأسَ به... فالنَّاسُ يَسألون النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولكِنْ تختَلِفُ نيَّاتُهم في هذا السُّؤالِ، ومهما كانت نيَّاتُهم ومهما كانت أسئلتُهم، فعِلمُ السَّاعةِ عندَ اللهِ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 56). ؟
كما قال تعالى: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ [الأحزاب: 63] .
وقال سُبحانَه: يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12].
وقال عزَّ وجَلَّ: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ [القيامة: 5-6] .
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43).
أي: ليس مِن شأنِك مَعرِفةُ وَقتِ قيامِ السَّاعةِ، وليس ذلك إليك [274] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/99)، ((تفسير القرطبي)) (19/209)، ((تفسير ابن كثير)) (8/318)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/95)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 56). قال القاسمي: (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا أي: في أيِّ شَيءٍ أنت مِن ذِكرِ ساعتِها لهم، أي: ليس إليك ذِكرُها؛ لأنَّها مِن الغُيوبِ، فلا معنى لسؤالِهم إيَّاك عنها). ((تفسير القاسمي)) (9/403). وقيل: فِيمَ إنكارٌ لسُؤالِهم، أي: فيمَ هذا السُّؤالُ؟ ثمَّ قيل: أنتَ مِن ذِكْراها، أي: أرسلَك وأنت خاتَمُ الأنبياءِ وآخِرُ الرُّسُلِ ذكرًا مِن أنواعِ علاماتِها، وواحِدًا مِن أقسامِ أشراطِها، فكفاهم بذلك دليلًا على دُنُوِّها ووُجوبِ الاستعدادِ لها، ولا فائِدةَ في سُؤالِهم عنها. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/50). .
إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44).
أي: إلى رَبِّك -يا محمَّدُ- وَحْدَه مُنتهى عِلمِ السَّاعةِ، فلا يَعلَمُ مَوعِدَ إتيانِها سِواه [275] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/100)، ((تفسير القرطبي)) (19/209)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/96). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] .
وقال سُبحانَه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] .
وقال عزَّ وجَلَّ: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ [فصلت: 47] .
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45).
أي: إنَّما أنت -يا محمَّدُ- مُكَلَّفٌ بتحذيرِ مَن يَخشى قيامَ السَّاعةِ؛ فهو الَّذي ينتَفِعُ بذلك، فيَعمَلُ لها، ويَستَعِدُّ مِن أجْلِها، ولم تُكَلَّفْ مَعرِفةَ وَقْتِها، أو إعلامَ النَّاسِ بمَوعِدِها [276] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/100)، ((تفسير القرطبي)) (19/210)، ((تفسير ابن كثير)) (8/318)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/24)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/97)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 57). .
كما قال تعالى: وَمَا تُغْنِي الْآَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] .
وقال سُبحانَه: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: 11] .
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46).
أي: كأنَّهم يَومَ يَرَونَ القيامةَ لم يَعِيشوا في الدُّنيا إلَّا وَقتًا قليلًا لا يَتجاوَزُ مِقدارَ آخِرِ النَّهارِ أو أوَّلِه [277] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/100)، ((الوسيط)) للواحدي (4/421)، ((تفسير القرطبي)) (19/210)، ((تفسير ابن كثير)) (8/318)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/246)، ((تفسير السعدي)) (ص: 910)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/98)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 58). الضَّميرُ في قَولِه تعالى: كَأَنَّهُمْ قيل: عائِدٌ على الكُفَّارِ المكَذِّبينَ بالبَعثِ. وممَّن ذهب في الجملةِ إلى هذا: ابنُ جرير، والواحديُّ، والقرطبي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/ 100)، ((الوسيط)) للواحدي (4/421)، ((تفسير القرطبي)) (19/210)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/246). ممَّن اختار أنَّ المعنى: كأنَّهم يومَ يَرَوْنَ القيامةَ، لم يَلْبَثوا في الدُّنيا إلَّا عَشيَّةً أو ضُحاها: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، والثعلبيُّ، ومكي، والبغوي، والزمخشري، وابن الجوزي، والرازي، والرَّسْعَني، والقرطبي، والنسفي، والخازن، وأبو حيَّان، وابن كثير، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/581)، ((تفسير الثعلبي)) (10/129)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8047)، ((تفسير البغوي)) (5/208)، ((تفسير الزمخشري)) (4/699)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/398)، ((تفسير الرازي)) (31/51)، ((تفسير الرسعني)) (8/482)، ((تفسير القرطبي)) (19/210)، ((تفسير النسفي)) (3/600)، ((تفسير الخازن)) (4/ 393)، ((تفسير أبي حيان)) (10/403)، ((تفسير ابن كثير)) (8/318). ((تفسير الشوكاني)) (5/460). قال ابن كثير: (وقولُه: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا أي: إذا قاموا مِن قُبورِهم إلى المَحشَرِ يَستقصِرونَ مدَّةَ الحياةِ الدُّنيا، حتَّى كأنَّها عِندَهم كانت عَشيَّةً مِن يَومٍ، أو ضُحًى مِن يَومٍ). ((تفسير ابن كثير)) (8/318). وقيل: المعنى لَمْ يَلْبَثُوا في قُبورِهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا. وممَّن اختاره: السمرقنديُّ، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/545)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 791). قال ابنُ عثيمين: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا أي: يَرَونَ القيامةَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا العَشِيَّةُ مِن الزَّوالِ إلى غروبِ الشَّمسِ، والضُّحى مِن طُلوعِ الشَّمسِ إلى زَوالِها، يعني: كأنَّهم لم يَلْبَثوا إلَّا نِصفَ يَومٍ). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 58). .
كما قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ [يونس: 45] .
وقال سُبحانَه وتعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف: 35] .
وقال الله عزَّ وجَلَّ: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون: 112 - 114] .

الفوائد التربوية:

1- أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ آياتِه الإيمانيَّةَ القرآنيَّةَ إنَّما يَنتَفِعُ بها أهلُ التَّقوى والخَشيةِ والإنابةِ، ومَن كان قصْدُه اتِّباعَ رِضوانِه، وأنَّها يَتذكَّرُ بها مَن يَخْشاه سُبحانَه، كما قال سُبحانَه: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه: 1 - 3] ، وقال هنا: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا، وأمَّا مَن لا يُؤْمِنُ بها ولا يَرجوها ولا يَخْشاها، فلا تَنفَعُه الآياتُ العِيانيَّةُ ولا القُرآنيَّةُ [278] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 131). .
2- قوله تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا أي: فيه أهليَّةٌ أن يَخافَها خَوفًا عظيمًا، فيَعمَلَ لها؛ لعِلْمِه بإتيانِها لا محالةَ، وعِلْمِه بمَوتِه لا محالةَ، وعِلْمِه بأنَّ كُلَّ ما تحقَّقَ وُقوعُه فهو قريبٌ، وذلك لا يناسِبُ تَعيينَ وَقْتِها؛ فإنَّ مَن فيه أهليَّةُ الخَشيةِ لا يَزيدُه إبهامُها إلَّا خَشيةً، وغَيرُه لا يَزيدُه ذلك إلَّا اجتِراءً وإجرامًا [279] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/245، 246). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا لَمَّا كان عِلمُ العِبادِ للسَّاعةِ ليس لهم فيه مَصلَحةٌ دِينيَّةٌ ولا دُنيويَّةٌ، بل المصلحةُ في خَفائِه عليهم؛ طوَى سُبحانَه عِلْمَ ذلك عن جميعِ الخَلْقِ، واستأثَرَ بعِلْمِه [280] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 910). .
2- قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا يقولُ القائِلُ: إنَّما الإرساءُ للسَّفينةِ والجِبالِ، وما أشبَهَهنَّ، فكيف وُصِفَت السَّاعةُ بالإرساءِ؟
الجوابُ: هي بمنزلةِ السَّفينةِ إذا كانت جاريةً فَرَسَتْ، ورُسُوُّها قيامُها، وليس قيامُها كقيامِ القائِمِ على رِجْلِه ونحوِه، إنَّما هو كقَولِك: قد قام العَدلُ، وقام الحَقُّ، أي: ظَهَر وثَبَت [281] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/234). .
3- في قَولِه تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا قُدِّمَ الخَبَرُ في قَولِه: إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا؛ ليفيدَ اختصاصَ ذلك به تبارك وتعالى، وهذا صريحٌ في أنَّ عِلْمَ السَّاعةِ خاصٌّ باللهِ تعالى، لا يَطَّلِعُ عليه مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ولا نبيٌّ مُرْسَلٌ [282] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (2/70). .
4- قَولُ اللهِ تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا فيه سؤالٌ: قَولُه: أَوْ ضُحَاهَا، معناه: ضُحى العَشِيَّةِ، وهذا غيرُ مَعقولٍ؛ لأنَّه ليس للعَشِيَّةِ ضُحًى؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّ الهاءَ والألِفَ صِلةٌ للكلامِ -أي: زائدةٌ-، يريدُ: لم يَلْبَثوا إلَّا عَشِيَّةً أو ضُحًى.
الوَجهُ الثَّاني: المرادُ بإضافةِ الضُّحى إلى العَشِيَّةِ إضافتُها إلى يومِ العَشِيَّةِ، كأنَّه قيل: إلَّا عَشِيَّةً أو ضُحى يَومِها، والعَرَبُ تقولُ: (آتيك العَشِيَّةَ أو غَدَاتَها).
الوجهُ الثَّالثُ: أنَّ النَّحْويِّينَ قالوا: يَكفي في حُسْنِ الإضافةِ أَدنى سَبَبٍ، فالضُّحى المتقَدِّمُ على عَشِيَّةٍ يَصِحُّ أن يُقالَ: إنَّه ضُحَى تلك العَشِيَّةِ، وزَمانُ المحنةِ قد يُعَبَّرُ عنه بالعَشِيَّةِ، وزَمانُ الرَّاحةِ قد يُعَبَّرُ عنه بالضُّحى؛ فالَّذين يَحضُرونَ في مَوقِفِ القيامةِ يُعَبِّرونَ عن زَمانِ مِحنتِهم بالعَشِيَّةِ، وعن زمانِ راحتِهم بضُحى تلك العَشِيَّةِ، فيقولونَ: كأنَّ عُمُرَنا في الدُّنيا ما كان إلَّا هاتَينِ السَّاعتَينِ [283] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/51). .
5- قال تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا المرادُ: ساعةٌ من نهارٍ؛ أوَّلِه أو آخِرِه، لم يَستَكْمِلوا نهارًا تامًّا، ولم يَجَمعوا بيْن طَرَفَيه، على أنَّ الكُفَّارَ أيضًا يَستَقصِرونَ مدَّةَ لُبثِهم، فكأنَّهم أصنافٌ؛ بعضُهم يقولُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا [طه: 103] ، وبعضُهم يقولُ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [طه: 104] ، وبعضُهم يتحَيَّرُ فيقولُ: (اسْأَلِ العادِّينَ). أو أنَّ تلك أقوالُهم، والحَقُّ مِن ذلك هو ما أخبَرَ اللهُ به غيرَ مُضافٍ إلى أقوالِهم مِن أنَّ ما مضى لهم في جَنْبِ ما يأتي كأنَّه ساعةٌ مِن نهارٍ بالنِّسبةِ إلى النَّهارِ الكامِلِ! كما قال تعالى في سُورةِ يُونُسَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس: 45] ، على أنَّ مِنهم مَن يقولُ ذلك أيضًا، كما قال تعالى في سورةِ المؤمنينَ حينَ قال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [284] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/247). [المؤمنون: 112-113] .

بلاغة الآيات :

1- قولُه تعالَى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا استئنافٌ بيانيٌّ مَنشؤُه أنَّ المُشرِكينَ كانوا يَسألونَ عن وقتِ حُلولِ السَّاعةِ الَّتي يَتوعَّدُهم بها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما حَكاهُ اللهُ عنهم غيرَ مرَّةٍ في القُرآنِ؛ كقولِه: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] ، وكان سؤالُهم استِهزاءً واستخفافًا؛ لأنَّهم عقَدوا قلوبَهم على استِحالةِ وُقوعِ السَّاعةِ، ورُبَّما طلَبوا التَّعجيلَ بوُقوعِها، وأَوهَموا أنفُسَهم وأشْياعَهم أنَّ تأخُّرَ وُقوعِها دليلٌ على اليأسِ منها؛ لأنَّهم يَتوهَّمونَ أنَّهم إذا فعَلوا ذلك مع الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لو كان صادقًا لَحَمِيَ غضَبُ اللهِ مُرسِلِه سُبحانَه فبادَرَ بإراءَتِهم العذابَ، وهم يَتوهَّمونَ شؤونَ الخالقِ كشُؤونِ النَّاسِ إذا غَضِبَ أحدُهم عَجِل بالانتقامِ طيشًا وحَنَقًا! فلا جَرَمَ لَمَّا قُضِيَ حقُّ الاستِدلالِ على إمكانِ البعثِ بإقامةِ الدَّليلِ وضربِ الأمثالِ، وعُرِّض بعِقابِ الَّذين استَخَفُّوا بها في قولِه: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى [النازعات: 34] ؛ كان ذلك مَثارًا لسؤالِهم أنْ يَقولوا: هلْ لِمَجيءِ هذه الطَّامَّةِ الكُبرى وقتٌ معلومٌ؟ فكان الحالُ مقتضيًا هذا الاستئنافَ البيانيَّ؛ قضاءً لحقِّ المَقامِ، وجوابًا عن سابقِ الكلامِ [285] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/94). .
- وحُكِي فِعلُ السُّؤالِ بصِيغةِ المضارعِ يَسْأَلُونَكَ؛ للدَّلالةِ على تجدُّدِ هذا السُّؤالِ وتكرُّرِه [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/95). .
- والسَّاعةُ: هي الطَّامَّةُ، فذِكرُ السَّاعةِ إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لقصدِ استقلالِ الجملةِ بمَدلولِها، مع تَفنُّنٍ في التَّعبيرِ عنها بهذَينِ الاسمينِ: الطَّامَّةُ والسَّاعَةِ [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/95). .
- وجُملةُ أَيَّانَ مُرْسَاهَا جُملةٌ مبيِّنةٌ للسُّؤالِ. وأَيَّانَ: اسمٌ يُستفهَمُ به عن تَعيينِ الوقتِ، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في الاستبعادِ، وهو أيضًا كِنايةٌ عن الاستحالةِ [288] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/95). .
2- قولُه تعالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا
- قولُه: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا واقعٌ موقعَ الجوابِ عن سؤالِهم عن السَّاعةِ باعتبارِ ما يَظهَرُ مِن حالِ سؤالِهم عن السَّاعةِ مِن إرادةِ تعيينِ وقتِها، وصرْفِ النَّظرِ عن إرادتِهم به الاستهزاءَ، فهذا الجوابُ مِن تخريجِ الكلامِ على خلافِ مُقتضى الظَّاهرِ، وهو مِن تَلَقِّي السَّائلِ بغيرِ ما يَتطلَّبُ؛ تَنبيهًا له على أنَّ الأَولى به أنْ يَهتمَّ بغيرِ ذلك، وهو مضمونُ قولِه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ [النازعات: 45] ، وهذا ما يُسمَّى بالأسلوبِ الحَكيمِ. والخِطابُ وإنْ كان موجَّهًا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فالمقصودُ بُلوغُه إلى مَسامِعِ المُشرِكينَ؛ فلذلك اعتُبِر اعتبارَ جوابٍ عن كلامِهم، وذلك مُقتضى فصْلِ الجملةِ عن الَّتي قبْلَها شأنَ الجوابِ والسُّؤالِ [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/95). .
- و(ما) في قولِه: فِيمَ اسمُ استفهامٍ بمعنى: أيُّ شيءٍ؟ مُستعمَلةٌ في التَّعجيبِ مِن سُؤالِ السَّائلينَ عنها، ثمَّ توبيخِهم [290] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/95). ؛ فقولُه: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا تعجُّبٌ مِن كَثرةِ ذِكرِه لها، كأنَّه قيل: في أيِّ شُغلٍ واهتمامٍ أنت مِن ذِكرِها والسُّؤالِ عنها؟ والمعنى: أنَّهم يَسألونَك عنها، فلِحرصِك على جوابِهم لا تَزالُ تذكُرُها وتَسألُ عنها [291] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/699). .
وقيلَ: فِيمَ إنكارٌ لسُؤالِهم، وما بَعْدَه مِن الاستِئنافِ تعليلٌ للإنكارِ، وبيانٌ لبُطلانِ السُّؤالِ، أيْ: فيمَ هذا السؤالُ؟ ثمَّ ابتُدِئَ فقيلَ: أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا أي: إرسالُك وأنتَ خاتمُ الأنبياءِ المبعوثُ في نَسَمِ السَّاعةِ [292] نَسَمِ السَّاعةِ: مِن النَّسيمِ، وهو أوَّلُ هُبوبِ الرِّيحِ الضَّعيفةِ: والمعنى أنَّه مبعوثٌ في أوَّلِ أشراطِ السَّاعَةِ وضَعْفِ مَجيئِها. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (5/ 49). علامةً مِن علاماتِها: دليلٌ يَدُلُّهم على العِلمِ بوُقوعِها عن قريبٍ، فحَسْبُهم هذه المرتبةُ مِن العِلمِ، فـ فِيمَ ليس خبرًا مقدَّمًا لِما بعدَه، بل هو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أي: فِيمَ هذا السُّؤالُ الواقعُ مِن الكفَرةِ؟ فتَمَّ الكلامُ عندَه، ثمَّ استأنَفَ بجملةِ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا بيانًا لسببِ الإنكارِ عن سؤالِهم، كأنَّه قيل: إنَّها قريبةٌ غيرُ بعيدةٍ؛ لأنَّك علامةٌ مِن علاماتِها، فإرسالُك يَكْفيهِم دليلًا على دُنُوِّها، والاهتمامِ بتحصيلِ الاعتدادِ لها، فلا معنَى لسؤالِهم عنها، فمعنى أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا: أنت مِن علاماتِها ومُذكِّراتِها [293] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/699)، ((تفسير البيضاوي)) (5/285)، ((تفسير أبي حيان)) (10/402)، ((تفسير أبي السعود)) (9/105)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/372). .
- و(في) للظَّرفيَّةِ بجعْلِ المُشرِكينَ في إحْفائِهم بالسُّؤالِ عن وقتِ السَّاعةِ كأنَّهم جعَلوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ محوطًا بذِكرِ وقتِ السَّاعةِ، أي: مُتلبِّسًا به تلبُّسَ العالِمِ بالمعلومِ [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/95، 96). .
- وتَقديمُ فِيمَ على المبتدأِ أَنْتَ للاهتِمامِ به؛ ليُفيدَ أنَّ مضمونَ الخبرِ هو مَناطُ الإنكارِ، بخلافِ ما لو قيل: أأنت في شيءٍ مِن ذِكْراها [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/96). ؟
3- قولُه تعالَى: إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا جُملةٌ في موقعِ العِلَّةِ للإنكارِ الَّذي اقتضاهُ قولُه: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا؛ ولذلك فُصِلَتْ -أي: لم تُعطَفْ على الَّتي قبْلَها [296] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/96). .
- وفي الكلامِ إيجازٌ بالحذْفِ، تَقديرُه: إلى ربِّك عِلمُ مُنتهاها [297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/96). .
- وتَقديمُ المجرورِ إِلَى رَبِّكَ على المبتدأِ مُنْتَهَاهَا؛ لإفادةِ القَصْرِ [298] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، أي: لا إليك، وهذا قصرُ صِفةٍ على مَوصوفٍ [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/96). .
4- قولُه تعالَى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا استِئنافٌ بيانيٌّ ناشئٌ عن جملةِ فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا [النازعات: 43-44] ؛ وهو أنْ يَسألَ السَّامعُ عن وجْهِ إكثارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذِكرَها وأنَّها قريبةٌ، فأُجيبَ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حظُّه التَّحذيرُ مِن بَغْتَتِها، وليس حظُّه الإعلامَ بتعيينِ وقتِها [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/97). .
وقيلَ: قولُه: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا إمَّا تقريرٌ لِما قبْلَه مِن قولِه تعالَى: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا [النازعات: 43] ، وتحقيقٌ لِما هو المرادُ منه، وبيانٌ لوظيفتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في ذلكَ الشأنِ؛ فإنَّ إنكارَ كَونِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في شيءٍ مِن ذِكْراها ممَّا يُوهِمُ بظاهِرِه أنْ ليس له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يَذكُرَها بوجهٍ مِن الوُجوهِ، فأُزيحَ ذلك ببيانِ أنَّ المَنفيَّ عنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذِكرُها لهم بتعيينِ وقتِها حسبَما كانوا يَسألونَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عنها، فالمَعْنى: إنَّما أنت مُنذِرُ مَن يَخْشاها، وظيفتُكَ الامتثالُ بما أُمِرتَ به مِن بيانِ اقترابِها، وتفصيلِ ما فيها مِن فُنونِ الأهوالِ كما تُحيطُ به خُبْرًا، لا تعيينُ وقتِها الَّذي لم يُفوَّضْ إليك، فما لَهم يَسألونَكَ عمَّا ليس مِن وظائفِكَ بيانُه؟! أو هو تَقريرٌ لقولِه تعالى: أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا ببَيانِ أنَّ إرسالَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -وهو خاتَمُ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ- مُنذِرٌ بمجيءِ السَّاعةِ [301] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/105، 106). .
- وأفادَتْ إِنَّمَا قصْرَ المخاطَبِ على صِفةِ الإنذارِ، أي: تخصيصَه بحالِ الإنذارِ، وهو قصْرُ موصوفٍ على صفةٍ، فهو قصرٌ إضافيٌّ [302] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، أي: بالنِّسبةِ إلى ما اعتقَدوه فيه بما دلَّ عليه إلحافُهم في السُّؤالِ مِن كَونِه مُطَّلِعًا على الغَيبِ [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/97). .
- وفي إضافةِ مُنْذِرُ إلى مَنْ يَخْشَاهَا أو نصْبِه به -على قِراءة أبي جعْفر: مُنذِرٌ بالتَّنوينِ [304] قرأها أبو جعفرٍ بالتَّنوينِ، والباقونَ بدونِ تنوينٍ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/398). - إيجازُ حذْفٍ تَقديرُه: مُنذِرُها فيَنتذِرُ مَن يَخْشاها، وقرينةُ ذلك حاليَّةٌ؛ للعِلمِ المتواترِ مِنَ القُرآنِ بأنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان يُنذِرُ جميعَ النَّاسِ، لا يخُصُّ قَومًا دُونَ آخَرينَ؛ فإنَّ آياتِ الدَّعوةِ مِن القرآنِ ومَقاماتِ دَعوةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ لم تكُنْ إلَّا عامَّةً، ولا يُعْرَفُ مَن يَخْشى السَّاعةَ إلَّا بعْدَ أنْ يُؤمِنَ المؤمنُ، ولو عُرِف أحدٌ بعَينِه أنَّه لا يُؤمِنُ أبدًا لَما وُجِّهَتْ إليه الدَّعوةُ؛ فتَعيَّنَ أنَّ المرادَ: أنَّه لا يَنتفِعُ بالإنذارِ إلَّا مَن يَخْشى السَّاعةَ، ومَن عَداهُ تمُرُّ الدَّعوةُ بسَمْعِه فلا يَأبَهُ بها؛ فكان ذِكرُ مَنْ يَخْشَاهَا تنويهًا بشأنِ المؤمِنينَ، وإعلانًا لمَزيَّتِهم، وتحقيرًا للَّذين بَقُوا على الكفرِ [305] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/97). .
- وتَخصيصُ الإنذارِ بمَن يَخْشَى مع عُمومِ الدَّعوةِ؛ لأنَّه المنتفِعُ به [306] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/285)، ((تفسير أبي السعود)) (9/106). .
5- قولُه تعالَى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا إمَّا تقريرٌ وتأكيدٌ لِما يُنبِئُ عنه الإنذارُ مِن سرعةِ مجيءِ المُنذَرِ به، أيْ: كأنَّهم يومَ يرَوْنَها لم يَلبَثوا بعدَ الإنذارِ بها إلَّا عَشيَّةَ يومٍ واحدٍ أو ضُحاهُ. وإمَّا ردٌّ لِما أَدْمَجوهُ في سؤالِهم؛ فإنَّهم كانوا يَسألونَ عنها بطريقِ الاستبطاءِ مُستعجِلينَ بها، وإنْ كانَ على نهجِ الاستِهزاءِ بها وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 48] ، فالمَعْنى: كأنَّهم يومَ يَرَوْنَها لم يَلبَثوا بعدَ الوعيدِ؛ تحقيقًا للإنذارِ، ورَدًّا لاستبطائِهم؛ فهو على هذا جوابٌ عمَّا تَضمَّنَه قولُه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [النازعات: 42] باعتبارِ ظاهِرِ حالِ السُّؤالِ مِن طلبِ المعرفةِ بوقتِ حلولِ السَّاعةِ، واستبطاءِ وُقوعِها الَّذي يَرْمونَ به إلى تكذيبِ وُقوعِها، فأُجيبوا على طريقةِ الأسلوبِ الحكيمِ، أي: إنْ طالَ تأخُّرُ حصولِها فإنَّها واقعةٌ، وأنَّهم يومَ وقوعِها كأنَّه ما لَبِثوا في انتظارٍ إلَّا بعضَ يومٍ [307] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/106)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/98). .
- والعَشيَّةُ: مُعبَّرٌ بها عن مُدَّةٍ يسيرةٍ مِن زَمانٍ طويلٍ على طَريقةِ التَّشبيهِ، وهو مُستفادٌ مِن كَأَنَّهُمْ، فهو تَشبيهُ حالِهم بحالةِ مَن لم يَلبَثْ إلَّا عشيَّةً، وهذا التَّشبيهُ مقصودٌ منه تقريبُ معنى المُشبَّهِ مِن المُتعارَفِ [308] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/98). .
- وقولُه: أَوْ ضُحَاهَا تخييرٌ في التَّشبيهِ، وفي هذا العطفِ زِيادةٌ في تقليلِ المُدَّةِ؛ لأنَّ حِصَّةَ الضُّحى أقصَرُ مِن حصَّةِ العَشيَّةِ [309] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/98). .
- وصحَّتْ إضافةُ الضُّحى إلى العَشيَّةِ؛ لِما بيْنَهما مِن الملابَسةِ؛ لاجتماعِهما في نهارٍ واحدٍ، ولم يقل: (إلا عشية أو ضحى)، بل أضافَ الضُّحى إلى العَشيِّ؛ للدَّلالةِ على أنَّ مدَّةَ لَبْثِهم كأنَّها لم تَبلُغْ يومًا كاملًا، ولكنْ ساعةً منه عَشِيَّتَه أو ضُحاهُ، فلمَّا تُرِك اليومُ أضافَهُ إلى عشيَّتِه، فهو كقولِه: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [الأحقاف: 35] ، فأصْلُ الكلامِ: لم يَلْبَثوا إلَّا ساعةً مِن نَهارٍ عَشيَّتَه أو ضُحاهُ، فوُضِعَ هذا المختصَرُ مكانَه، وقيل: الظَّاهرُ أنَّ إضافةَ (ضُحى) إلى (عَشِية) للبيانِ، ولكنَّ المرادَ التَّوكيدُ وَتحقيقُهما، نحْو: أخذْتُ بيَدِي ورأيتُ بعَيْني؛ لأنَّه مِن الإمكانِ أنْ يُرادَ بضُحى وساعةٍ النَّهارُ كلُّه [310] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/699)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/287، 288)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/372). .
وقيلَ: مُسوِّغُ الإضافةِ أنَّ الضُّحى أسبَقُ مِن العَشيَّةِ؛ إذ لا تقَعُ عشيَّةٌ إلَّا بعدَ مرورِ ضُحًى، فصارَ ضُحَى ذلك اليومِ يُعرَّفُ بالإضافةِ إلى عشيَّةِ اليومِ؛ لأنَّ العشيَّةَ أقرَبُ إلى عِلمِ النَّاسِ؛ لأنَّهم يكونونَ في العشيَّةِ بعدَ أنْ كانوا في الضُّحى، فالعشيَّةُ أقرَبُ، والضُّحى أسبَقُ. وفي هذه الإضافةِ أيضًا رعايةٌ على الفواصلِ الَّتي هي على حرفِ الهاءِ المفتوحةِ مِن أَيَّانَ مُرْسَاهَا [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/98، 99). .