موسوعة التفسير

سُورَةُ البَقَرَةِ
الآيات (196 - 203)

ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﰜ ﰝ ﰞ ﰟ ﰠ ﰡ ﰢ ﰣ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ

غريب الكلمات:

أُحْصِرْتُمْ: مُنِعتُم، وأصل الحصْر: الجمْع والحبْس والمنع [1782] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 78)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 91)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/72)، ((المفردات)) للراغب (ص: 239)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 104، 122). .
اسْتَيْسَرَ: تَيَسَّرَ، وَسَهُلَ [1783] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 78)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 101)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/156)، ((المفردات)) للراغب (ص: 891)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 104). .
الْهَدْيِ: مُختصٌّ- في هذا الموضِع- بما يُهْدَى إلى البيتِ من الأنعام؛ قربةً إلى الله، وواحدتُه: هديَّة، وهي: كلُّ ما يُهدَى إلى ذِي مَوَدَّةٍ [1784] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/43)، ((المفردات)) للراغب (ص: 839)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 104). .
مَحِلَّهُ: المَحِلُّ: الموضِع الذي يَحلُّ فيه نَحْر الهدْي [1785] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 78)، ((المفردات)) للراغب (ص: 251)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 246)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 104). .
أَذًى: مَا يُكره ويُغتمُّ به [1786] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 51)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/78)، ((المفردات)) للراغب (ص: 71)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 104). .
نُسُكٍ: جَمْع نسيكة، وهي الذَّبيحة التي تُوزَّع على فُقراء الحرم، وأصل (نسك): يدُلُّ على عبادةٍ وتقَرُّبٍ إلى اللهِ تعالى؛ ومنه قيل للعابد: ناسِك، واختصَّ بأعمال الحجِّ [1787] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 78)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 472)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/420)، ((المفردات)) للراغب (ص: 802)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 94). .
جُنَاحَ: إثْمَ، سمِّي بذلك لِمَيله عن طريق الحقِّ؛ فأصله: جَنَح، إذا مال وتعدَّى [1788] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 66)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/484)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 98). .
أَفَضْتُمْ: دَفعتُم بِكَثْرَة، وأصل الفيض: جَريانُ الشيء بسُهولة [1789] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 79)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 50)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/465)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 30)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 105). .
خَلَاق: نصيبٌ، وحظٌّ في الخير [1790] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 59)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 205)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/214)، ((المفردات)) للراغب (ص: 297)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 87). .

مشكل الإعراب:

قوله: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ:
فَمَا: الفاء رابطةٌ لجواب الشرط، و(ما) موصولةٌ بمعنى الذي، وهي مبتدأ في محلِّ رفْع، والخبر محذوف، أي: فعليه ما استيسر، ويجوزُ أن تكون (ما) في موضِع نصب مفعول لفِعلٍ محذوف، والتقدير: فلْيُهدِ ما استيسر [1791]  يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/123)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/313)، ((إعراب القرآن الكريم)) لدعاس (1/82). .

المعنى الإجمالي:

يأمر اللهُ تعالى مَنْ شرعوا في الحجِّ أو العمرة بإتمام ما شَرَعوا فيه منهما، بأركانه وواجباته، مُخلِصين لله تعالى في ذلك، فإنْ مُنعُوا من الوصول للبيت الحرام لمانعٍ من خوفٍ أو مرضٍ أو لسبب آخر، فلْيَذبحوا ما تيسَّرَ لهم من الإبل، أو البقر، أو الغنم، وأمرهم سبحانه ألَّا يحلُّوا من إحرامهم إذا أُحصروا إلَّا بعد أن يَبلُغَ الهديُ الذي أوجبه الله عليهم محلَّ نَحْره، وهو موضع الإحصار- فأمَّا غير المُحصَر فيذبحه في الحرم، وإنْ كان في حجٍّ فينحره في يوم النحر منه- ومَن احتاج إلى حلْق رأسه لمرض، أو كان في رأسه ما يُؤذيه كالقمل، فله أنْ يَحلقَه، فإنْ فعل فهو مخيَّرٌ بين أن يصومَ عِوضًا عن ذلك ثلاثةَ أيَّام، أو يُطعِمَ سِتَّةَ مساكين، لكلِّ مسكين نصفُ صاع، أو يذبح شاةً.
فإذا زال المانعُ، وقدَروا على الوصول إلى البيت الحرام، فمَنْ أتى بعمرةٍ ثمَّ حلَّ منها متمتِّعًا بذلك الحلِّ إلى أن يَشرَع في أعمال الحجِّ- وكذا مَن قرَن بين الحج والعمرة- فإنَّ عليه ذبحَ ما قدر على ذبْحِه من الإبل، أو البقر، أو الغنم، فمَن لم يجِد، فلْيصُمْ بدلًا من ذلك، عشرة أيام، ثلاثة منها في أثناء الحجِّ، وسبعة إذا عاد إلى أهلِه وموطنِه بعد فراغه من أداء نُسكه، وهذا الحُكم للمتمتِّع الذي ليس أهله من حاضري المسجد الحرام، ثم أمَر سبحانه وتعالى بتقواه، وذلك بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ولْيعلمِ العبادُ أنَّ الله شديدُ العقوبة لمَنْ خالف ما أمرَ به، وارتكبَ ما نهى عنه سبحانه وتعالى.
ثمَّ يخبر عزَّ وجلَّ عن توقيت الحجِّ، وأنه واقعٌ في أشهرٍ معلومة هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فمَن أحرم بالحجِّ في تلك الأشهر فعليه أن يجتنبَ جِماعَ النِّساء ومقدِّماته، ولا يتحدَّثَ بذلك في حضرتهنَّ، ويجتنبَ أيضًا جميعَ المعاصي والتي منها محظورات الإحرام، وسبابَ المسلم، ويدَعَ الجدالَ بالباطل، ومنه المجادلة في وقتِ الحجِّ وأحكامه، فقد بيَّنها تعالى أتمَّ بيان وأوضحَه، وعليه أن يدعَ المراءَ والمنازعة والمخاصمة. وأخبر سبحانه عبادَه أنَّ ما يعملونه من خيرٍ فإنَّه به عالمٌ، وسيجزيهم عليه أفضلَ الجزاء، وأمَرَهم بالتزوُّد من الأقوات التي تُعينهم على الوصول إلى البيتِ الحرام، وأداء العبادة، وأعْلمهم أنَّ خيرَ الزاد هو ما أعانهم على الوصول إلى نعيمِ الآخرة، وهو التقوى بامتثال أوامرِه سبحانه وتعالى، واجتناب نواهيه، وأمَر بها أصحابَ العقول الذين يُدركون حقيقةَ التقوى وثمارها.
ثم شرَع سبحانه في بيان بعض أفعال الحجِّ، فأمر الحُجَّاجَ أن يذكروه سبحانه عند المزدلفة بعدَ أن يدفعوا إليها من عَرفات، وهذا الذِّكر الذي أمر الله به يدخُل فيه الصلاةُ والدعاء عندها، ولْيذكروه سبحانه شُكرًا له على أنْ أرشدهم إلى طريق الهداية وإنْ كانوا من قبلِ أن يرشدهم إليها لفي زيغٍ وضلال، واذكروه كذلك وفقَ الصِّفة المشروعة التي هداكم إليها.
ثم أمَر الله عزَّ وجلَّ عبادَه من الحُمْس [1792] الحُمْس: هم قريش، ومَن ولدتْه قريش، وكنانة، وجديلة قيس؛ سُمُّوا حمسًا؛ لأنَّهم تحمَّسوا في دِينهم، أي: تشددوا، وقيل : سمُّوا حمسًا بالكعبة؛ لأنَّها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السَّواد. ((شرح مسلم)) للنووي (8/197). وهم قريش الذين كانوا لا يُفيضون من عرفات، أمرهم بالإفاضة منها كما كانتِ العرب قاطبةً تُفيض منها، وأمرَ سبحانه الحجاجَ أيضًا أن يطلبوا منه التجاوزَ عن ذنوبهم، وسترها لأنه جلَّ وعلا غفَّار الذنوب، والرَّحيم بعباده المؤمنين.
ثم خاطَب اللهُ عباده الحجاج أنَّهم إن أتمُّوا مناسك حجهم، وتحللوا من إحرامهم فلْيكثروا من ذكره سبحانه وتعالى، ولْيكن ذكرهم له كذكرهم مآثر آبائهم، بل عليهم أن يذكروه بأشدَّ من ذلك.
ثمَّ أَرشدَ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى دُعائه بعد الأمْر بالإكثار من ذكره؛ فإنَّ ذلك أَحْرى بالإجابة، وذمَّ سبحانه مَن لا يسأله إلَّا متاعَ الدُّنيا، وليس له في ثواب الآخرة أي نصيب، ومدَحَ المؤمنين الذين يسألون الله عزَّ وجلَّ من خيرَيِ الدنيا والآخرة، ويَطلُبون منه سبحانه أن يَصرِفَ عنهم عذابَ النار، فأصحابُ هذا القِسم لهم ثوابٌ عظيم على حَجِّهم الذي قاموا به، وسيُجيبهم الله إلى ما دَعوا به من خيرَيِ الدنيا والآخرة، والله سريعٌ في إحصاء أعمال عبادِه، سريعٌ في مجازاتهم.
ثم أمرَ جلَّ وعلا عبادَه بالتكبير في أيَّام التشريق، ويشمل ذلك التكبيرَ عند ذبح الأضاحي، والتكبيرَ المطلَقَ في سائر الأوقات، والتكبيرَ المقيَّد بعدَ الصلوات المفروضة، والتكبيرَ عند رمي الجِمار، ثم يُخبر تعالى أنه لا حرَجَ على الحاجِّ في تعجُّله بخروجه من مِنًى قبل غروب شمس اليوم الثاني من أيَّام التشريق، أو تأخُّره ببقائه فيها إلى اليوم الثالث لرمْي الجمرات، ما دام أنَّه في كلا الأمرين ممتثلٌ ما أمر الله به، مجتنبٌ ما نهاه عنه، ثم أوصى اللهُ عبادَه بتقواهُ بإطاعةِ أوامرهِ والانزجارِ عن نواهيه، وليتيقنوا أنَّهم سيُحشرون إليه سبحانه يوم القيامة.

تفسير الآيات:

وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196).
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ.
أي: يا مَن شرَعتم في أعمال الحجِّ والعمرة، عليكم إتمامَهما بأركانِهما وواجباتهما، بإخلاصٍ لله تبارك وتعالى [1793] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/341)، ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (27/265)، ((تفسير ابن كثير)) (1/530)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/392). قال ابنُ كثير: (اتَّفق العلماء على أنَّ الشروع في الحجِّ والعُمرة ملزمٌ، سواء قيل بوجوب العُمرة أو باستحبابها، كما هما قولانِ للعُلماء) ((تفسير ابن كثير)) (1/530). وحكَى ابنُ تيميَّة وابنُ عاشور الاتِّفاقَ على أنَّ آية: وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ نزلت عام الحُديبية سَنَة ست). ينظر: ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (17/193)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/216). .
فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
أي: فإنْ منَعكم وحبسكم خوفُ عدوٍّ، أو إصابةٌ بمرض، أو وقوع علَّةٍ أخرى، عن الوصول إلى البيت الحرام، فاذبحوا ما تيسَّر من بهيمة الأنعام، من الإبل أو البقر أو الغنم [1794] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/347-348)، ((تفسير ابن كثير)) (1/534)، ((تفسير السعدي)) (ص: 90)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/392-398). وممَّن قال من السَّلف بنحو ما ذُكر في معنى الإحصار: ابن عبَّاس-في رواية عنه-وابن مسعود، وابن الزُّبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيَّب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، وقتادة، والنَّخَعي، وعطاء، ومقاتل بن حيَّان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/342)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/334). وممن رُويَ عنه في قوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ مثلما ذُكر: ابن عباس، وقتادة، والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/349)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/335). .
وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ.
أي: لا تَحِلُّوا من إحرامِكم إذا أُحصِرْتم عن حجٍّ أو عُمرة، حتى يبلغَ الهديُ- الذي أوجبتُه عليكم- محلَّ ذَبْحه، وهو موضع الإحصار [1795] وهو اختيارُ ابنِ جَرير في ((تفسيره)) (3/359-375). وقال البَغويُّ: (والهدايا كلُّها يَختصُّ ذَبحُها بالحرَم، إلَّا هَدْي المُحصَر؛ فإنَّ محلَّ ذَبحِه حيث يُحصَر عند أكثرِ أهل العِلم) ((شرح السُّنة)) (7/285). وقال الشِّنقيطيُّ: (وجمهورُ العلماء على أنَّه يَنحرُه في المحلِّ الذي حُصِر فيه، حِلًّا كان أو حَرَمًا) ((أضواء البيان)) للشِّنقيطي (1/83). ويُنظر: ((مختصر فقه الحج)) إعداد القسم العلمي بالدُّرر السَّنية (ص: 384). .
وحُكم الآية عامٌّ يَشمل غيرَ المُحصَر كذلك، فمحلُّ نَحْره في الحجِّ: في الحَرم يومَ النَّحر، وأمَّا في العُمرة ففي الحرم أيضًا [1796] وهذا اختيارُ ابن عَطيَّة في ((تفسيره)) (1/367). وقال ابنُ تَيميَّة: (الآية عامَّةٌ في هَدْي المُحصَر وغَيرِه؛ لعمومِ لفظِها وحُكمها) ((شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة والحج)) (2/332، 373 - 374). .
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
سبب النُّزول:
عن عبد الرَّحمن بنِ أبي لَيلى أنَّ كعبَ بن عُجْرة حدَّثه قال: ((وقفتُ على رسول الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم بالحُديبيَة ورأسي يتهافت قملًا، فقال: يؤذيك هوامُّكَ، قلت: نَعم، قال: فاحلِقْ رأسَك، أو احلِقْ، قال: فيَّ نزلت هذه الآيةُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ إلى آخرِها، فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: صُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو تصدَّق بفَرَقٍ [1797] الفَرَق-بفتحتين -: مكيالٌ ضَخمٌ بالمدينة، واختُلف في مقداره؛ فقيل: يَسَع سِتَّة عشر رطلًا (اثنا عشر مدًّا، أو ثلاثة آصع). وقيل: خمسة أقساط، والقسط: نِصف صاع. فأمَّا الفرْق بالسكون فمِئة وعشرون رطلًا، وهو ما يُعادِل (10كغ) تقريبًا.  ((النهاية)) لابن الأثير (3/437)، ((تاج العروس)) للزبيدي (26/281)، ((الفقه الإسلامي وأدلته)) للزحيلي (1/143). بين سِتَّةٍ، أو انسُكْ ممَّا تيسَّر )) [1798] رواه البخاري (1815)، ومسلم (1201). .
وعن عبد الله بن مَعقِل قال: ((قعدْتُ إلى كعبِ بنِ عُجْرَةَ في هذا المسجدِ- يعني مسجد الكوفة- فسألتُه عن فديةٍ من صيام، فقال: حُمِلْتُ إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ والقَمْلُ يَتَناثَرُ على وجهي، فقال: ما كنتُ أرى أنَّ الجَهْدَ قد بلَغَ بك هذا، أمَا تَجِدُ شاةً؟ قلتُ: لا، قال: صُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ، أو أَطْعِمْ ستَّةً مساكينَ، لكلِّ مسكينٍ نصفُ صاعٍ مِن طعامٍ، واحلِقْ رأسَك، فنزلت فيَّ خاصَّةً، وهي لكم عامَّة )) [1799] رواه البخاري (4517)، ومسلم (1201). .
فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ.
أي: إنَّ مَن مرض فاحتاج إلى حلق رأسه، أو كان برأسه أذًى كالقمل فحلَق رأسه، فعليه أن يقومَ- عِوضًا عن هذا الفعل- بصِيام ثلاثة أيَّام، أو إطعام سِتَّة مساكين لكلِّ مسكين نصف صاع، أو ذبح شاة، فهو مخيَّرٌ بين هذه الثلاثة [1800] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/377، 381، 391، 398)، ((تفسير السعدي)) (ص: 91)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/393). ونقَل إجماعَ العلماء على أنَّ المراد بالنسك في هذه الآية، الشاة: ابنُ عطية في ((تفسيره)) (1/268). وقال ابنُ عبد البر: (كلُّ مَن ذكر النسك في هذا الحديث مفسِّرًا فإنما ذكَره بشاة، وهو أمرٌ لا خلاف فيه بين العلماء)، ((التمهيد)) (2/237). ونقَل إجماعَ العلماء على أنَّ الكفَّارة هنا على التخيير بين الصيام والإطعام والذبح: ابن جرير في ((تفسيره)) (8/704). وقال ابن عبد البرِّ: (أجمَعوا أنَّ الفدية ما جاءت به السُّنة في كعب بن عجرة من التخيير في الصيام أو الصدقة أو النسك)، ((الاستذكار)) (4/184). والرَّاجح من أقوال أهل العلم أنَّ الصدقة توزَّع على مساكين الحرم. ونقَل بعضُ أهل العِلم الإجماعَ على أنَّ الصوم يجوزُ أن يكون مفرَّقًا، وأن يكون متتابعًا، وأنَّ له أن يصوم في أيِّ مكانٍ شاءه. يُنظر: ((مختصر فقه الحج)) إعداد القِسم العِلمي بالدُّرر السَّنية (ص: 108-109). .
فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
أي: إذا زالتِ الموانعُ وقدَرتُم على الوصولِ إلى البيت الحرام، فمَن أتى منكم بالعمرة متمتِّعًا بحِلِّه منها بما أحلَّه الله تعالى له من محظوراتِ الإحرامِ- إلى أنْ يَشْرَعَ في أعمال الحج- ومِثل ذلك مَن كان قارنًا بين الحجِّ والعُمرة- فعليه ذبحُ ما قدَر عليه من بهيمةِ الأنعام؛ من الإبل، أو البقر، أو الغَنم [1801] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/537)، ((تفسير السعدي)) (ص: 91)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/226). .
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ.
أي: إنْ لم يَجِد المتمتِّعُ هديًا أو لم يجِدْ ثَمنَه، فعليه أن يصوم عوضًا عن ذلك ثلاثةَ أيَّام في أثناءِ الحج، وسبعةً إذا فرَغ من أعمال الحجِّ ورجَع إلى أهلِه وموطنِه، ثمَّ أكَّد الله تعالى صيامَ هذه الأيام بذِكر كامِلِ عددِها [1802] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/419، 433، 434، 437)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 91)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/394). وممَّن قال من السلف في قوله تعالى: إِذَا رَجَعْتُمْ مِثلما ذُكر: ابن عمر، وسعيد بن جُبير، وأبو العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، والزهري، وقتادة، والربيع بن أنس. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/342). .
ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
أي: إنَّ وجوب الهدي وبدله من الصيام، إنَّما هو للمتمتِّع إنْ كان أهله من غيرِ حاضري المسجد الحرام، وقد قِيل بأنَّ حاضري المسجد الحرام هم مَن حوله ممَّن بينهم وبينه من المسافةِ ما لا تُقصر إليه الصلوات [1803] اختار هذا القول: ابن جرير في ((تفسيره)) (3/441-442)، والواحدي في ((التفسير الوسيط)) (1/299-300)، والسعدي في ((تفسيره)) (ص: 91)، والشنقيطي في ((أضواء البيان)) (5/124). ، وقيل: هم أهلُ الحرم فقط [1804] اختار هذا القول: ابن عثيمين في ((تفسير الفاتحة والبقرة)) (2/394-395، 410). .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: امتثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ، واجتنبوا نواهيَه، ومن ذلك: امتثالُ المأموراتِ، واجتنابُ المحظورات المذكورة في هذه الآية، واعتقِدوا جازمين بأنَّه سبحانه شديدُ العقوبةِ لِمَن خالَف أمْرَه، وارتكَب نَهْيَه [1805] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/442-443)، ((تفسير ابن كثير)) (1/540)، ((تفسير السعدي)) (ص: 91)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/230)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/395). .
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197).
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ.
أي: إنَّ وقتَ الحجِّ واقعٌ في أشهُرٍ معلومات، وهي: شوَّال، وذو القَعدة، وعشرٌ من ذي الحجَّة [1806] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/443، 452)، ((تفسير السعدي)) (ص: 91)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/481)، (5/158). وممَّن قال من السَّلَف بهذا القول: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وابن الزبير، وابن عبَّاس، وابن عمر، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وإبراهيم، والحسن، والضحَّاك، والسُّدِّي، ومحمد بن سِيرين، والزُّهري، وقتادة، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حَيَّان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/444)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/344). .
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ قراءتان:
1- فَلَا رَفَثٌ وَلَا فُسُوقٌ على أنَّ لا هنا ناهية، أي يحرم وقوع ذلك [1807] قرَأ بها ابنُ كَثير وأبو عَمرٍو وأبو جعفر والبصريان. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/211). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 128-129)، ((الكشف)) لمكِّي (1/285 ، 286). .
2- فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ على أنَّ لا هنا نافية، تدلُّ على النفي العام لجميع الرَّفث وجميع الفسوق، وهذا النفي بمعنى النهي [1808] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/211). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 128-129)، ((الكشف)) لمكِّي (1/285 ، 286). .
فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ.
أي: إنَّ مَن أحرَم بالحجِّ (ذلك لأن الشُّروعَ فيه يُصيِّره فرضًا ولو كان تطوُّعًا في حقِّه)، فعليه أنْ يجتنبَ جِماعَ النِّساء ومقدِّماته، ولا يتحدَّث بذلك في حَضرتِهنَّ، وعليه اجتنابُ جميع المعاصي، ومن ذلك: محظورات الإحرام، وسِباب المسلِم، ويجتنب الجدالَ بالباطل، ومن ذلك: المجادَلة في وقت الحجِّ وأحكامِه؛ فقد بيَّنها اللهُ عزَّ وجلَّ أتمَّ بيانٍ، وعليه أنْ يترُكَ المِراءَ والمنازَعة والمخاصَمة [1809] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/453-488)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/301)، ((مجموع فتاوى ابن تيميَّة)) (26/107-108)، ((مختصر الفتاوى المصرية)) لابن تيميَّة (ص: 293-294)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/413-414). وممَّن قال من السَّلَف: إنَّ معنى فَرَضَ فِيهِنَّ أحْرم: ابن عبَّاس، وإبراهيم، وعَطاء، والحسن، وقَتادة يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/455). قال ابن جرير: (وإنَّما قُلنا: إنَّ فَرْض الحجِّ الإحرامُ؛ لإجماعِ الجميع على ذلك) ((تفسير ابن جرير)) (3/456). وممَّن قال في معنى الرَّفَث بنحو هذا المعنى: ابنُ عُمر، وعطاء. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/459). وممَّن قال من السَّلَف: إنَّ الفسوق بمعنى المعاصي: عبد الله بن عمر، وابن عبَّاس، ومجاهد، وعَطاء بن يَسار، وعَطاء بن أبي رَباح، وعِكْرمة، ومحمَّد بن كَعْب، والزُّهري، وسعيد بن جُبَير، والرَّبيع بن أنس، وعَطاء الخُراساني، ومقاتل بن حَيَّان، وإبراهيم النَّخَعي، وقَتادة، وطاوس، ومكحول، والحسن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/470)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/346). وممَّن قال من السَّلَف في معنى الجدال بنحو المعنى المذكور: ابن عبَّاس، وأبو العالية، وعطاء، ومجاهد، والضَّحَّاك، وعِكْرمة، وجابر بن زيد، وعَطاء الخُراساني، ومكحول، وعمرو بن دينار، والرَّبيع بن أنس، وقَتادة، والزُّهري، ومقاتل بن حَيَّان، والسُّدِّي، وابن الزُّبير، والحسن، وإبراهيم، وطاوس، ومحمَّد بن كعب. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/347). .
عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، قال: سَمعتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولُ: ((مَن حجَّ للهِ، فلم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ، رجَع كيومَ ولدَتْه أمُّه )) [1810] رواه البخاريُّ (1521) واللَّفظ له، ومسلم (1350). .
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ.
مُناسبة الآية لِمَا قبلها:
لَمَّا نهاهم اللهُ عزَّ وجلَّ عن فِعل الرَّذائل والمنكَرات، حثَّهم على فِعْل الفضائل والخيرات بقوله [1811] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/547). :
وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ.
أي: كل ما يُقدِّمه العبادُ من الخيرِ من كثيرٍ أو قليل، فالله عزَّ وجلَّ عالمٌ به فيُحصيه لهم، ويَجزيهم عليه بالثَّوابِ الجزيل [1812] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/493)، ((تفسير ابن كثير)) (1/547)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/302). .
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
سبب النُّزول:
عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((كان أهلُ اليمن يحجُّون ولا يتزوَّدون، يقولون: نحن المتوكِّلون، فإذا قدِموا مكَّةَ سأَلوا النَّاس؛ فأنزَل الله عزَّ وجلَّ : وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) [1813] رواه البخاري (1523). .
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى.
أي: تزوَّدوا مِن أقواتكم بما يُعِينكم على الوصولِ للبيت الحرام، وأداءِ مناسِكِ الحجِّ؛ فإنَّ في التزوُّدِ استغناءً عن المخلوقين، وإعانةً للمحتاجين، ولَمَّا أمَرهم الله عزَّ وجلَّ بأخذِ الزَّاد الدُّنيويِّ غذاءً لأجسادهم، أرشَدهم إلى الزَّاد الأخرويِّ الموصل لدار النَّعيم الأبديِّ، غذاءً لقلوبهم، وهو استصحابُ التَّقوى؛ بامتثالِ أوامرِه، واجتنابِ نواهيه [1814] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/500)، ((تفسير ابن كثير)) (1/548)، ((تفسير السعدي)) (ص: 92)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/415). .
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.
أي: واتَّقونِ يا أصحابَ العُقولِ الصَّحيحة والأفهام السَّليمة، التي تُدركون بها حقيقةَ التَّقوى وثَمرتَها، وتُميِّزون بها بين الحقِّ والباطل [1815] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/501)، ((تفسير ابن كثير)) (1/549)، ((تفسير السعدي)) (ص: 92)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/415). .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198).
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
سبب النُّزول:
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: ((كانت عُكاظٌ ومَجنَّةُ وذو المجاز أسواقًا في الجاهليَّة، فلمَّا كان الإسلامُ تأثَّموا من التِّجارة؛ فأنزَل اللهُ تعالى: «لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ» قرأ ابنُ عبَّاس هكذا)) [1816] رواه البخاري (2050). .
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
أي: إنَّه لا حرَجَ على المؤمنين في التكسُّب من التِّجارةِ في مواسم الحجِّ [1817] يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 157)، ((تفسير السعدي)) (ص: 92)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/89)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/420-421). ونفَى الخلافَ بين العلماء في أنَّ المراد بالفضل المذكور في الآية، رِبْح التجارة: القرطبي في ((تفسيره)) (12/41)، والشنقيطي في ((أضواء البيان)) (1/89). .
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ.
أي: إذا دفَعْتُم مِن عرفاتٍ إلى مزدلفة، فاذكروا اللهَ تعالى عند مزدَلِفة، ويدخُلُ في ذلك الصَّلاةُ والدُّعاء عندها [1818] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/515)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 92)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/421-423).   .
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.
أي: اذكُروا اللهَ عزَّ وجلَّ شُكرًا على هِدايتِه لكم، ومِن ذلك: الإرشادُ إلى مناسِكِ الحجِّ الصَّحيحةِ، واذكروه على الصِّفة الَّتي هداكم لها، أي: وَفْق ما شرَعه سبحانه، وقد كنتم مِن قبلِ هذا الهُدى في ضلالٍ عن الطَّريق المستقيم، كأداءِ مَناسِكِ الحجِّ في الجاهليَّة خلافًا لِما جاء به إبراهيمُ الخليلُ عليه الصَّلاة والسَّلام [1819] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/523-524)، ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/304)، ((تفسير ابن كثير)) (1/555)، ((تفسير السعدي)) (ص: 92)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/241-242)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/423-424). .
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199).
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ.
أي: أمر الله عزَّ وجلَّ عباده من الحُمْس، وهم قريش الذين كانوا لا يقفون بعرفات، بأن يُفيضوا منها كما كانتِ العربُ كلُّها تُفيض منها [1820] واختار هذا المعنى ابنُ جرير في ((تفسيره)) (3/530-531). وابن كثير في ((تفسيره)) (1/555)، والشنقيطي في ((أضواء البيان)) (1/89-90). قال ابن جرير: (والذي نراه صوابًا من تأويلِ هذه الآيَة: أنَّه عَنَى بهذه الآية قُريشًا وَمَن كان مُتَحَمِّسًا معها من سائرِ العَرَبِ؛ لإجماعِ الحُجَّة من أهل التأويل على أنَّ ذلك تَأويلُه)، ((تفسير ابن جرير)) (3/530) يعني بقوله: (بإجماع الحُجَّة) الأكثر، وإلَّا فقد ذكر القول الآخَر بأنَّه إبراهيم عليه السلام، وأنَّ الإفاضة من مُزدلفة؛ لأنَّه ذكر الإفاضة الأولى من عَرفة إلى مزدلفةَ. وهذا اختيارُ السعدي في ((تفسيره)) (ص: 92). .
عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ((كانت العربُ تطوف بالبيتِ عُراةً، إلَّا الحُمْسَ، والحُمْسُ قريشٌ وما ولَدَتْ، كانوا يطوفون عُراةً، إلَّا أنْ تعطيَهم الحُمْسُ ثيابًا، فيُعطي الرِّجالُ الرِّجالَ، والنِّساء النِّساء، وكانت الحُمْسُ لا يخرُجون من المزدَلِفة، وكان النَّاس كلُّهم يبلغون عرفاتٍ، قال هشام: فحدَّثني أبي، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: الحُمْسُ هم الَّذين أنزَل الله عزَّ وجلَّ فيهم: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، قالت: كان النَّاسُ يُفِيضون من عرفاتٍ، وكان الحُمْس يُفيضون من المزدلفة، يقولون: لا نُفِيض إلَّا من الحرَم، فلمَّا نزلت: أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، رجَعوا إلى عرفاتٍ )) [1821] رواه البخاري (1665)، ومسلم (1219). .
وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
أي: أمَر اللهُ تعالى حُجَّاج بيته أنْ يطلبوا المغفرةَ منه سبحانه، أي: ستْرَ ذنوبهم، والتجاوز عنها؛ فهو سبحانه وتعالى أهلٌ لأنْ يُطلَبَ منه ذلك؛ لأنَّه غفورٌ ورحيمٌ بعباده المؤمنين [1822] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/532)، ((تفسير ابن عطية)) (1/276)، ((تفسير السعدي)) (ص: 92)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/428-429). .
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200).
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا.
أي: فإذا أتممتُم أداءَ مناسكِ الحجِّ، وتحلَّلتُم من النُّسك، فأَكْثِروا مِن ذِكْر الله عزَّ وجلَّ؛ شُكرًا له سُبحانه على إنعامِه بالتَّوفيق لأداء هذه العبادةِ العظيمة، وليكُن ذِكرُكم لله تعالى لا يقلُّ عن ذِكركم لآبائِكم، وذِكرِ مآثرِهم، بل عليكم أنْ تَذكروه بأشدَّ من ذلك [1823] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/276)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/245)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/431). .
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
مُناسبتُها لِمَا قبلها:
لَمَّا أمَر الله تعالى بذِكره، أرشدَ إلى دُعائه؛ فإنَّه مظنَّةُ الإجابة [1824] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/558). ، فقال:
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ.
أي: فمِن الناس مَن لا يَسألُ اللهَ تعالى إلَّا مصالحَ دُنياه، فيَسأله متاعَها وزِينتَها، ولا نَصيبَ له في ثواب الآخِرة؛ لرغبتِه عنها، وقُصورِ همَّته على الدُّنيا [1825] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/541، 544)، ((تفسير ابن كثير)) (1/558)، ((تفسير السعدي)) (ص: 93)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/247-248)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/432-433). .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201).
أي: ومن النَّاس مؤمِنون يسألون اللهَ تعالى من خيريِ الدُّنيا والآخرة- سواءٌ في مناسِك الحجِّ، أو بعدَ أدائها، أو في غيرِ ذلك من الأوقات- وهذا شاملٌ للعِلم النَّافِع والعمَل الصالح، والرِّزق الحسَن، والعافية، وغير ذلك، وأما حسنةُ الآخرةِ الَّتي يطلُبونها فهي نعيمُ الجنَّة، كما أنَّهم يسأَلون ربَّهم عزَّ وجلَّ أنْ يصرِفَ عنهم عذابَ النَّار [1826] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/547)، ((تفسير ابن كثير)) (1/558)، ((تفسير السعدي)) (ص: 93)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/200). قال ابنُ عَطيَّة: (اللَّفْظة تَقتضي هذا كلَّه وجميعَ محابِّ الدُّنيا، وحَسَنةُ الآخرةِ الجَنَّةُ، بإجماع) ((تفسير ابن عطية)) (1/277). وممَّن قال من السَّلَف بأنَّ الحَسنة في الآخرة هي الجنة: الحسَن، ومجاهد، والسُّدِّي، ومقاتل بن حَيَّان، وإسماعيل بن أبي خالد. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/359). .
كما قال تعالى حكايةً عن موسى عليه السَّلام: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف: 156] .
وعن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه: ((أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عاد رجلًا من المسلمينِ قد خَفَتَ [1827] قد خَفَتَ: أي: ضَعُفَ، ومنه خَفَتَ الصوتُ إذا ضَعُفَ وسَكَنَ، ومنه قيل للميت: قدْ خَفَتَ إذا انقطعَ كلامُه. ((شرح النووي على مسلم)) (17/ 13)، ((لسان العرب)) لابن منظور (2/31). فصار مِثلَ الفرْخِ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: هل كنتَ تدعو بشيءٍ أو تسأله إياه؟ قال: نعم، كنتُ أقولُ: اللهم ما كنتَ مُعاقِبي به في الآخرةِ، فعَجِّلْه لي في الدُّنيا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: سبحان اللهِ! لا تُطيقُه- أو لا تستطيعُه- أفلا قلتَ: اللهمَّ آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ؟ قال: فدعا اللهَ له، فشفاه )) [1828] رواه مسلم (2688). .
وسأل قَتادةُ أنسًا رضي الله عنه: ((أيُّ دعوةٍ كان يدعو بها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أكثرُ؟ قال: كان أكثرُ دعوةٍ يدعو بها يقولُ: اللهمَّ آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرِة حسنةً، وقِنا عذابَ النارِ، قال: وكان أنسٌ إذا أراد أنْ يدعوَ بدعوةٍ، دعا بها، فإذا أراد أنْ يدعوَ بدعاءٍ، دعا بها فيهِ )) [1829] رواه البخاري (6389)، ومسلم (2690) واللفظ له. .
وعن عبد الله بن السَّائبِ رضي الله عنه، قال: ((سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ يقول ما بين الرُّكنين: ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النَّارِ )) [1830] رواه ابنُ أبي شَيبة (3/443)، وأبو داود (1892)، والنَّسائي في ((السنن الكبرى)) (2/403، رقم 3934)، والحاكم (2/304)، والبيهقي (5/84) (9557). والحديث قال عنه الحاكم: صحيحُ الإسناد ولم يُخرجاه. وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1892). .
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202).
 أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا.
أي: إنَّ أُولئك الَّذين يقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ- لهم ثوابٌ جَزيل على حَجِّهم الَّذي باشَروا معاناتَه بأنفسهم وأموالهم، وسيؤتيهم اللهُ تعالى حظًّا ممَّا سألوه من خيريِ الدنيا والآخرة، وذلك بحسَب أحوالهم، وما تقتضيه حِكمة الله عزَّ وجلَّ [1831] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/547-548)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 158)، ((تفسير القرطبي)) للقربي (2/434)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/248-450)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/435-436). .
وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
أي: إنَّه سبحانه يُحصي أعمالَ العباد بسرعة، دون الحاجة إلى عقد أصابع، أو استخدام آلةٍ، وبلا حاجةٍ إلى فِكرٍ أو رَوِيَّة، كما يفعَلُ الخَلق، وهو سريع المحاسَبة للخَلْق يوم القيامة دون أنْ يظلِمَ أحَدًا شيئًا، ودون الحاجةِ إلى تذكُّرٍ أو تأمُّلٍ، كما أنَّه سبحانه سريعُ المجازاة لعباده [1832] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/549)، ((تفسير ابن عطية)) (1/277)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/436). وقيل: المراد: سريع مجيء يوم الحساب. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (1/277). وممَّن قال بهذا القول من السَّلف: مقاتل. يُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/168). قال ابن عثيمين: (والسرعة هنا قد تكون سرعةَ الزمن؛ بمعنى: أنَّ حساب الله قريب... وقد يكون المراد سرعةَ محاسبة الله للخلق- أي: إنَّ نفْس حسابه سريع- والثاني أبلغ؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يحاسب الخلائق كلَّها في يومٍ واحد، ويُعطي كلَّ إنسان ما يستحقُّه من ذلك الحساب)) ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/436). .
وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203).
وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ.
أي: أمَر اللهُ تعالى عبادَه- مِن حُجَّاج بيته وغيرِهم- بتكبيرِه في أيَّام منًى، وهي أيَّامُ التَّشريق الَّتي تشمَل ثلاثةَ أيَّام بعد يوم النَّحر، ويتعلَّقُ بذلك التكبيرُ عند ذَبْح الهدي والأضاحيِّ، والتكبير المطلَق في سائر الأحوال، والتكبير المقيَّد بعد الصلوات الخمسِ المفروضة، والتكبير عند رَمْيِ الجِمار [1833] نقَل إجماعَ المفسِّرين على أنَّ المراد بالأيَّام المعدودات أيَّامُ مِنًى: الماورديُّ ((النكت والعيون)) (1/263)، والقرطبي في ((تفسيره)) (3/1). ونقَل الإجماعَ على أنَّ المراد بالذِّكر في هذه الآية، التَّكبير، وعلى أنَّ الحاجَّ مخاطَب بهذه الآية: ابنُ العربي في ((أحكام القرآن)) (1/197، 199)، ونقَل الإجماعَ على الثاني القرطبيُّ  في ((تفسيره)) (3/3). وقال ابنُ العربي: (فأمَّا غير الحاجِّ؛ فهل يدخُل فيه أم لا؟... فنقول: أجمَع فقهاءُ الأمصار والمشاهير من الصَّحابة والتابعين رضِي الله عنهم، على أنَّ المراد به التَّكبير لكلِّ أحد، وخصوصًا في أوقات الصَّلوات؛ فيُكبِّر عند انقضاء كلِّ صلاة، كان المصلِّي في جماعةٍ، أو وحْده، يُكبِّر تكبيرًا ظاهرًا في هذه الأيام) ((أحكام القرآن)) (1/199). ويُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/549-553)، ((تفسير ابن كثير)) (1/561-562)، ((تفسير السعدي)) (ص: 93). وممَّن فسَّر مِن السَّلَف الأيَّام المعدودة بمِثل ما ذُكر: ابنُ عبَّاس، وابنُ عُمر، وابن الزُّبير، وأبو موسى، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وإبراهيم، والضَّحَّاك، وأبو مالك، وعِكْرمة، وسعيد بن جُبَير، والسُّدِّي، والزُّهري، وقَتادة، والرَّبيع بن أنس، ومقاتل بن حَيَّان، وعطاء الخراساني، ويَحيى بن أبي كثير. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (2/361). .
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى.
أي: إنَّه لاحرَج على الحاجِّ، سواءٌ خرَج من منًى قبل غروب شمس اليوم الثَّاني مِن أيَّام التَّشريق، أو بقِي فيها إلى اليومِ الثَّالث لرَمْيِ الجمَرات، فله أنْ يختارَ ما شاء، ما دام أنَّه ممتثلٌ ما أمَر اللهُ تعالى به، ومجتنبٌ ما نهى عنه، وخاصَّةً فيما يتعلَّقُ بالحجِّ من مأموراتٍ ومحظورات [1834] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (1/309)، ((تفسير ابن عطية)) (1/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 93). ، كما أنَّ كُلًّا من المتعجِّلين والمتأخِّرين إذا اتَّقَوُا اللهَ تعالى في حجِّهم فلم يرفُثوا أو يفسُقوا، خرَجوا من حَجِّهم بلا إثمٍ، طاهرينَ من الذُّنوب كيوم ولَدَتْهم أمَّهاتهم [1835] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/565-569). وهو قول كثيرٍ من السلف. يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 289). .
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
مناسبتها لِمَا قبلها:
لَمَّا ذكَر الله عزَّ وجلَّ تفرُّق النَّاس مِن الحجِّ إلى سائر البلدان بعد اجتماعهم في مشاعرِ الحج، ذكَّرهم باجتماعِهم عنده يومَ القيامة، فأمَرهم بما ينفَعُهم في ذلك اليوم فقال [1836] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/562). :
وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
أي: امتثِلوا أوامرَ الله عزَّ وجلَّ، واجتنبوا نواهيَه في الحجِّ وغيرِه، واعْلَموا أنَّكم تُجمَعون إلى الله تعالى يومَ القيامة، فتُجازَوْن بأعمالِكم؛ إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشَرٌّ [1837] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/571)، ((تفسير ابن كثير)) (1/562)، ((تفسير السعدي)) (ص: 93)، ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/439). .

الفوائد التربويَّة:

1- وجوب الإخلاص لله؛ لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ: يعني أتموهما للهِ لا لغيره، لا تُراعوا في ذلك جَاهًا، ولا رُتبةً، ولا ثناءً مِن النَّاس [1838] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/397). .
2- تيسير اللهِ على العباد؛ لقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ، والدِّينُ كلُّه مِن أوَّلِه إلى آخرِه مبنيٌّ على اليُسر [1839] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/409). .
3- أنَّ العِلمَ بشدَّةِ عقوبةِ الله من أهمِّ العلوم؛ ولهذا أمَر الله سبحانه وتعالى به بخصوصِه؛ لأنَّه يُورِث الخوفَ مِن الله، والهرَبَ مِن معصيَتِه، فقال سبحانه: وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [1840] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/411). .
4- تذكير الإنسان بحالِه قبل كماله؛ ليعرِفَ بذلك قدرَ نعمةِ الله عليه؛ لقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ [1843] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/427). .
5- بيَّن الله تعالى أولًا تفصيل مناسك الحج، ثم أمر بعدها بالذكر فقال: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ثم بيَّن أنَّ الأَوْلى أن يترك ذِكر غيره، وأنْ يقتصرَ على ذِكره سبحانه، ثم بيَّن بعد ذلك كيفيةَ الدُّعاء، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ... وما أحسنَ هذا الترتيبَ! فإنَّه لا بدَّ من تقديم العبادة لكسْر النفس وإزالة ظُلماتها، ثم بعد العبادة لا بدَّ من الاشتغال بذِكر الله تعالى؛ لتنويرِ القلب، وتجلي نور جلاله، ثم بعد ذلك الذِّكر يشتغل الرجل بالدعاء؛ فإنَّ الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقًا بالذكر [1844] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/335). .
6- قرنُ المواعظ بالتخويف؛ لقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [1846] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/441). .

الفوائِد العِلميَّة واللَّطائف:

1- لَمَّا كان لفظ القرآن في بيان الرُّخصة، جاء بالأسهل فالأسهل، فقال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [1847] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/536). .
2- سَعةُ فضلِ الله عزَّ وجلَّ، وتيسيرُه في أحكامه، بوقوع الفِدْية على التَّخيير، وجَعْلِ الأكثرِ من صيام الفِدْيَة بعد رجوعه؛ لقوله تعالى: وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ، كما جعَل الإنسانَ مخيَّرًا بين أنْ يبقى ثلاثةَ أيَّام، أو يتعجَّل في يومين [1848] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/406، 410، 440). .
3- البُعْد حالَ الإحرام عن كلِّ ما يشوِّش الفِكر، ويشغَلُ النَّفس؛ لقوله تعالى: وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [1849] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/418). .
4- أنَّه ينبغي للإنسان في حالِ بيعِه وشرائه أنْ يكونَ مترقِّبًا لفضلِ الله، لا معتمِدًا على قوَّتِه وكَسْبِه؛ لقوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [1850] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/424). .
5- ظهور منَّةِ الله على عباده بما أباح لهم من المكاسبِ، وأنَّ ذلك مِن مقتضى ربوبيَّتِه سبحانه وتعالى؛ حيث قال تعالى: فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [1851] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/425). .
6- أنَّ الذِّكر المشروعَ ما وافَق الشَّرع؛ لقوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [1852] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/426). .
7- قرنُ الحُكم بالعلَّة؛ لقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وقَرْنُ الحُكم بالعلَّةِ في مِثل هذا يُفيد الإقدامَ والنَّشاطَ على استغفارِ اللهِ عزَّ وجلَّ [1853] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/431). .
8- في الأمر بالذِّكر عند انقضاء النُّسك في قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ، إشارةٌ إلى أنَّ سائرِ العبادات تَنقضي ويُفرَغ منها، وذِكر الله عزَّ وجلَّ باقٍ لا يَنقضي ولا يُفرَغ منه، بل هو مستمرٌّّ للمؤمنين في الدنيا والآخرة [1854] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 290). .
9- أنَّ الأجدادَ داخِلون في مسمَّى الآباء؛ لأنَّ العربَ كانوا يفتخِرون بأمجادِ آبائهم، وأجدادهم، وقبائلهم، كما قال تعالى: فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ [1855] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/434). .
10- في قوله تعالى: وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ إثباتُ صِفة السُّرعة لله عزَّ وجلَّ [1856] يُنظر: ((كتاب التوحيد)) لابن منده (2/137)، ((فتح القدير)) للشوكاني (سورة البقرة الآية: 202). .
11- أنَّ الأعمالَ الَّتي يُخيَّر فيها العبدُ إنَّما ينتفي الإثمُ عنها إذا فعَلها على سبيل التَّقوى لله عزَّ وجلَّ دون التهاونِ بأوامره؛ لقوله تعالى: لِمَنِ اتَّقَى؛ فمَن فعَل ما يُخيَّر فيه على سبيل التَّقوى لله عزَّ وجلَّ والأخذ بتيسيره، فهذا لا إثمَ عليه، وأمَّا مَن فعَلها على سبيل التهاونِ، وعدمِ المبالاة، فإن عليه الإثمَ بتَرْك التَّقوى، وتهاونِه بأوامرِ الله تعالى [1857] يُنظر: ((تفسير ابن عُثيمين - الفاتحة والبقرة)) (2/440). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: فمَنْ لمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ
في قوله تعالى: فمَنْ لمْ يَجِدْ؛ حُذف المفعول؛ لأجْل العموم؛ ليشمل مَن لم يجِد الهدي أو ثمنه؛ فاستُفيد زيادة المعنى، مع اختصار اللفظ [1858] يُنظر: ((تفسير القرآن الكريم. الفاتحة-البقرة)) لابن عثيمين (2/409). .
قوله: عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ: فيه فذلكة الحِساب [1859] الفَذْلكة: كلمةٌ منحوتةٌ كالبَسملة والحوقلة من قولهم: (فذْلَك كذا)، أي: ذَكَر مُجمَل ما فُصِّل أولًا وخلاصته. وقد يُراد بالفذلكة النتيجة لِمَا سبَق من الكلام، والتفريع عليه، ومنها فذلكة الحساب، أي: مُجمَل تفاصيله، وإنهاؤه، والفراغ منه، كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعد قوله: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ. يُنظر: ((كُنَّاشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638-639). ، أي: جِماعُه؛ فقوله: عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ فَذْلَكةٌ لقوله: ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ... وسَبْعَةٍ، وفائدتها: أنَّ الواو قد تجيء بمعنى (أو) التي للتَّخيير، فيحتمل المعنى فِصيام ثلاثة أيام أو سَبعة؛ ففُذْلِكت نفيًا لتوهُّم التخيير، وأيضًا ففائدة الفَذْلكة في كلِّ حساب أن يُعلم العدد جملةً كما عُلِم تفصيلًا؛ ليُحاط به من جِهتين، فيتأكَّد العِلم؛ فإن أكثر العرب لم يُحسنوا الحساب، وفي أمثال العرب: عِلمان خيرٌ من عِلم، وليُعْلَم أنَّ المراد بالسبعة هو العددُ دون الكثرة؛ فإنَّه يطلق لهما. وكذلك كامِلَةٌ تأكيدٌ آخَر؛ فهي صِفة مؤكِّدة تُفيد المبالغة في محافظة العدد، أو مبيِّنة كمال العشرة؛ فإنَّه أوَّل عدد كامل؛ إذ به تنتهي الآحادُ وتتمُّ مراتبها، وفيه زيادة توصية بصيامها، وألَّا يُتهاون بها ولا ينقص من عددها [1860] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/241-242)، ((تفسير الرازي)) (5/311)، ((تفسير البيضاوي)) (1/130)، ((تفسير أبي حيان)) (2/268)، ((تفسير أبي السعود)) (1/207)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/228)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/290). .
وقوله: فَصِيَامُ... خبرٌ معناه الأمر بالصيام، وإنَّما عدَل عن لفظ الأمْر إلى لفظ الخبَر؛ لأنَّ التكليف بالشيء إذا كان متأكِّدًا جدًّا، فالظاهر دخولُ المكلَّف به في الوجود؛ فلهذا السبب عبَّر بالإخبار عن الشيءِ بالوقوع الذي استقرَّ؛ لتأكُّد الأمر به، ومبالغة الشرع في إيجابه [1861] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (5/311)، ((تفسير أبي حيان)) (2/270). .
وفي قوله: إِذَا رَجَعْتُمْ التفات، وحمْلٌ على معنى (مَن)، أمَّا الالتفات؛ فإنَّ قوله: فَمَن تَمَتَّعَ فَمَن لَّمْ يَجِدْ اسمٌ غائب؛ ولذلك استتر في الفِعلين ضميرُ الغائب، فلو جاء على هذا النَّظم لكان الكلام (إذا رجَع)، وأما الحمل على المعنى فإنَّه أتى بضمير الجمع رَجَعْتُمْ، ولو راعى اللَّفْظ لأفرد فقال (رجع) [1862] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (2/267). وقوله: (إذا رجَع). في المطبوع: (إذا رفَع). وهو تصحيفٌ. .
2- قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ إظهارُ الاسمِ الجليلِ الله في موضِع الإضمار، وتكريره؛ لتربية المهابةِ وإدخالِ الرَّوْعة، ولئلَّا يُفهِم الإضمارُ تقييدَ شديدِ عِقابه بخشية ممَّا مضى فقال: وَاعْلَمُوا تنبيهًا على أن الباعث على المخافة إنَّما هو العلم أَنَّ اللهَ أي: الذي لا يُدانِي عظمتَه شيءٌ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ هذا مع مناسبة هذا الخِتام لِمَا بعده من النهي عن الرَّفث وغيره [1863] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (3/136)، ((تفسير أبي السعود)) (1/207). .
3- قوله: فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ فِي الْحَجِّ فيه إظهارٌ في مقامِ الإضمارِ؛ لإظهارِ كمالِ الاعتناءِ بشأنه، والإشعارِ بعِلَّة الحُكم؛ فإنَّ زيارةَ البيت المعظَّم والتقرُّبَ بها إلى الله عزَّ وجلَّ من موجبات تَركِ الأمورِ المذكورة، وإيثارُ النَّفي على النَّهي للمُبالغة في النَّهي، حتى جُعلت كأنَّها قد نهي الحاج عنها فانتهى، فانتفت أجناسها، وللدَلالة على أنَّ ذلك حقيقٌ بألَّا يكون؛ فإنَّ ما كان مُنْكرًا مستقبَحًا في نفسه، فهو في الحجِّ أقبحُ [1864] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (1/207)، ((تفسير ابن عاشور)) (2/233)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/293). .
4- قوله: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ عبَّر بـثُم لتفاوت ما بين الإفاضتين (من عرفاتٍ، ومن المزدلفة)، وأنَّ إحداهما صوابٌ (التي من عَرَفات)، والثانية خَطأ (التي من مزدلِفة). ووقوع العطف بحَرْف المهلة ثُم، الذي يستدعي التراخي مضافًا إلى التغاير، وليس بين الإضافة المطلَقة والمقيَّدة تراخٍ؛ لأنَّ التراخي كما يكون باعتبار الزَّمان، قد يكون باعتبار علوِّ المرتبة وبُعدها في العلوِّ بالنسبة إلى غيرها ويعرف بـ(التراخي الرتبي) [1865] يُنظر: ((تفسير الزمخشري-مع حاشية ابن المنير)) (1/247). . وهذا بناءً على القول بأنَّ المقصود بالناسِ في الآية هم العرب، وأنَّ الإفاضةَ المقصودةَ هنا هي الإفاضةُ من عَرفات.