موسوعة التفسير

سُورةُ المُطَفِّفينَ
الآيات (18-28)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات :

عِلِّيِّينَ: جَمعٌ منقولٌ مِن «عِلِّيٍّ» وهو فِعِّيلٌ مِنَ «العُلُوِّ»، كسِجِّينٍ مِنَ السَّجنِ، قيل: هو السَّماءُ السَّابعةُ تَحتَ العَرْشِ. وقيل: هو عَلَمٌ لديوانِ الخَيرِ الَّذي دُوِّنَ فيه كُلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثَّقَلينِ؛ وسُمِّيَ بذلك إمَّا لأنَّه سَبَبُ الارتفاعِ إلى أعالي الدَّرَجاتِ في الجنَّةِ، وإمَّا لأنَّه مَرفوعٌ في السَّماءِ السَّابعةِ، وأصلُ (علو): يدُلُّ على ارتفاعٍ [150] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 283)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/115)، ((البسيط)) للواحدي (23/333)، ((تفسير الزمخشري)) (4/722)، ((تفسير ابن عطية)) (5/452)، ((تفسير الألوسي)) (15/281). .
الْأَرَائِكِ: جمعُ أريكةٍ، وهي السَّريرُ في الحِجالِ، وتسميتُها بذلك إمَّا لكَونِها في الأرضِ متَّخذةً مِن أَراكٍ، وهو شجرةٌ، أو لكَونِها مكانًا للإقامةِ مِن قولِهم: أَرَكَ بالمكانِ أُرُوكًا، وأصلُ الأُرُوكِ: الإقامةُ على رَعْيِ الأَراكِ، ثمَّ تُجُوِّزَ به في غيرِه مِن الإقاماتِ، و(أرك) أصلانِ؛ أحدُهما: شَجَرٌ، والآخَرُ: الإقامةُ [151] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 267)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 68)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/83)، ((المفردات)) للراغب (ص: 73)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 213)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 218). قال ابن عاشور: (الأريكةُ: سريرٌ عليه وِسادةٌ، معها سَتْرٌ وهو حَجَلَتُه، والحَجَلةُ: ظُلَّةٌ تُنصَبُ فوقَ السَّريرِ لِتَقيَ الحَرَّ والشَّمسَ، ولا يُسَمَّى السَّريرُ أريكةً إلَّا إذا كان معه حَجَلةٌ. وقيل: كُلُّ ما يُتوسَّدُ ويُفتَرَشُ مِمَّا له حَشوٌ: يُسَمَّى أريكةً، وإنْ لم تكُنْ له حَجَلةٌ)). ((تفسير ابن عاشور)) (29/388، 389). .
نَضْرَةَ النَّعِيمِ: أي: بَهْجةَ التَّنَعُّمِ وحُسْنَه، وأصلُ (نضر): يدُلُّ على حُسنٍ وجمالٍ، وأصلُ (نعم): يدُلُّ على تَرَفُّهٍ وطِيبِ عَيْشٍ وصَلاحٍ [152] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/213)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 470)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/439، 446)، ((المفردات)) للراغب (ص: 810)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 443)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 454). .
رَحِيقٍ: الرَّحيقُ: اسمٌ للخَمْرِ الصَّافيةِ الطَّيِّبةِ [153] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/214)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 243)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/497)، ((المفردات)) للراغب (ص: 346)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 455)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/205). .
مَخْتُومٍ: أي: مختومٍ شرابُه بالرَّائحةِ المسكيَّةِ، وقيل: مَسدودٍ إناؤُه، ممنوعٍ مِن أن تمَسَّه يدٌ إلى أن يَفُكَّ خَتْمَه الأبرارُ، وأصلُ (ختم): يدُلُّ على بُلوغِ آخِرِ الشَّيءِ [154] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/215)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 243)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/245)، ((تفسير البغوي)) (8/367)، ((تفسير ابن عطية)) (5/453)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 443)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 455). .
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ: أي: فلْيَرغَبِ الرَّاغِبونَ، ولْيَسْتَبِقُوا في طَلَبِه، ولْتَحْرِصْ عليه نُفوسُهم، والمُنافَسةُ: مُجاهَدةُ النَّفْسِ للتَّشبُّهِ بالأفاضلِ، واللُّحُوقِ بهم مِن غيرِ إدخالِ ضرَرٍ على غيرِه، يُقالُ: نافَسْتُ في الشَّيءِ مُنافَسةً ونِفاسًا، إذا رَغِبْتَ فيه على وجهِ المُباراةِ، ومِن هذا قَولُهم: شَيءٌ نَفيسٌ، أي: هو أهلٌ أن يُتنافَسَ فيه، ويُرغَبَ فيه [155] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/220)، ((الصحاح)) للجوهري (3/985)، ((البسيط)) للواحدي (23/341)، ((المفردات)) للراغب (ص: 818)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 130). .
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ: أي: ما يُمزَجُ ويُخلَطُ به ذلك الشَّرابُ مِن تَسنيمٍ، وهو: اسمُ عَينٍ في الجنَّةِ رَفيعةِ القَدْرِ، سُمِّيَت بالتَّسنيمِ الَّذي هو مَصدَرُ سَنَّمَه: إذا رفَعَه؛ إمَّا لأنَّها أرفَعُ شَرابٍ في الجنَّةِ، وإمَّا لأنَّها تأتيهم مِن فَوقٍ، وأصلُ (مزج): يدُلُّ على خَلْطِ الشَّيءِ بغَيْرِه، وأصلُ (سنم): يدُلُّ على العُلُوِّ والارتفاعِ، ومنه سَنامُ البَعيرِ، وتسَنَّمتُ الحائِطَ: إذا عَلَوتَه [156] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 520)، ((تفسير ابن جرير)) (24/223)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/107) و(5/319)، ((البسيط)) للواحدي (23/342-344)، ((المفردات)) للراغب (ص: 766)، ((تفسير الزمخشري)) (4/723). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ
قَولُه تعالى: عَيْنًا في نَصبِه أوجُهٌ؛ أحدُها: أنَّه مَنصوبٌ على الحالِ مِنْ تَسْنِيمٍ؛ لأنَّه عَلَمٌ لعَينٍ واسمٌ لِماءٍ في الجَنَّةِ، ولا يَضُرُّ كَونُه جامِدًا؛ لوَصفِه بقَولِه تعالى: يَشْرَبُ بِهَا، أو لتأويلِه بمُشتَقٍّ كجاريةٍ، مع أنَّ الاشتِقاقَ غيرُ لازمٍ. الثَّاني: أنَّه مَنصوبٌ على المدحِ أو الاختِصاصِ بفِعلٍ مُقَدَّرٍ. الثَّالثُ: أنَّه مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ الثَّانيةِ بـ «يُسْقَونَ» مُقَدَّرًا. الرَّابعُ: أنَّه مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ بـ تَسْنِيمٍ على أنَّه مَصدَرٌ مُنَوَّنٌ مُشتَقٌّ مِن سَنَّمَه: إذا رفَعَه.
وقولُه: يَشْرَبُ بِهَا: «الباءُ» إمَّا زائدةٌ، أي: يَشرَبُها، أو بمعنى «مِن»، أي: يَشرَبُ منها، أو هي على بابِها، على تَضمينِ يَشْرَبُ معنى: يَرْوَى أو يَلْتَذُّ [157] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/249)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/301)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/13)، ((البسيط)) للواحدي (23/344)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 723)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1277)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/726)، ((تفسير الألوسي)) (15/283). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ارتَدِعوا -أيُّها الفُجَّارُ- عن تَكذيبِكم بالبَعْثِ والجَزاءِ؛ إنَّ صَحيفةَ أعمالِ المؤمِنينَ الطَّائِعينَ في مَوضِعٍ عالٍ رفيعٍ، وما أعلَمَك -يا محمَّدُ- بحقيقةِ عِلِّيِّينَ الموضوعِ فيه كتابُ أعمالِ الأبرارِ؟ كِتابُ الأبرارِ كِتابٌ مَسطورةٌ أعمالُهم فيه، يَحضُرُه المُقَرَّبونَ عِندَ اللهِ.
ثمَّ يبيِّنُ سُبحانَه ما أعدَّه للأبرارِ، فيقولُ: إنَّ الأبرارَ الَّذين أطاعوا اللهَ لَفِي نَعيمِ الجَنَّةِ الدَّائمِ، على السُّرُرِ يَنظُرونَ إلى وَجهِ اللهِ الكَريمِ، وإلى ما أعطاهم مِنَ النَّعيمِ، تَعرِفُ في وُجوهِهم أثَرَ النِّعمةِ والسُّرورِ، يُسقَون مِن خَمرٍ لذيذةٍ صافيةٍ مختومةٍ بالمِسْكِ؛ فلْيَجتَهِدِ المُتسابِقونَ ويُبادِرُوا في طَلَبِ ذلك النَّعيمِ. ويُمزَجُ ذلك الرَّحيقُ المختومُ ويُخلَطُ بشَرابٍ شَريفٍ مِن عَينٍ رَفيعةٍ عاليةٍ اسمُها تَسنيمٌ، وتلك العَينُ يَروَى بها المقَرَّبونَ السَّابِقونَ.

تفسير الآيات:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكرَ تعالى أَمْرَ كِتابِ الفُجَّارِ وأنَّه في أسفَلِ الأمكِنةِ وأضيَقِها؛ عَقَّبَه بذِكرِ كِتابِ ضِدِّهم وهو كِتابُ الأبرارِ، وأنَّه في أعلَى الأمكنةِ وأوسَعِها وأفسَحِها؛ ليَتبيَّنَ الفَرْقُ [158] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/430)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر حالَ الفُجَّارِ المُطَفِّفينَ؛ أتْبَعَه بذِكْرِ حالِ الأبرارِ الَّذين لا يُطَفِّفونَ [159] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/90). .
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18).
أي: ليس الأمرُ كما يَظُنُّ أولئك الفُجَّارُ مِن أنَّه لا بَعْثَ ولا حِسابَ ولا جَزاءَ؛ فلْيَرتَدِعوا عن تكذيبِهم بذلك! إنَّ صَحيفةَ أعمالِ المؤمِنينَ الطَّائِعينَ الملازِمينَ فِعْلَ الخَيراتِ وأعمالَ الإحسانِ: في مَوضِعٍ عالٍ رفيعٍ [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/206، 210، 211)، ((الوسيط)) للواحدي (4/447)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1183)، ((تفسير الزمخشري)) (4/722)، ((تفسير ابن عطية)) (5/453)، ((تفسير الرازي)) (31/90)، ((تفسير القرطبي)) (19/262)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/325)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/202). قال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (لَفِي عِلِّيِّينَ لَفِي ساقِ العرشِ، يعني: أعمالَ المؤمنينَ وحسَناتِهم). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/624). وقيل: المرادُ: أعلى الأمكنةِ. وممَّن ذهب إليه: الزَّجَّاجُ، والقُشَيريُّ، والسَّمْعانيُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/299)، ((تفسير القشيري)) (3/701)، ((تفسير السمعاني)) (6/182). وقيل: في السَّماءِ السَّابعةِ تحتَ العرشِ. وممَّن اختاره: الواحديُّ، وابنُ الجَوزيِّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1183)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 443)، ((تفسير العليمي)) (7/314). قيل: عِلِّيُّونَ هو: عَلَمٌ لديوانِ الخَيرِ الَّذي دُوِّنَ فيه كُلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثَّقَلينِ. ومِمَّن قال بهذا: الزمخشريُّ، والنسفي، وابنُ جُزَي، والشربيني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/722)، ((تفسير النسفي)) (3/616)، ((تفسير ابن جزي)) (2/462)، ((تفسير الشربيني)) (4/503). وقيل: عِلِّيُّونَ: هو اسمٌ لأعلى الجنَّةِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا القول: السعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 103). قال ابن جرير: (قوله: لَفِي عِلِّيِّينَ معناه: في علوٍّ وارتفاعٍ، في سماءٍ فوقَ سماءٍ، وعلوٍّ فوقَ علوٍّ. وجائزٌ أن يكونَ ذلك إلى السَّماءِ السَّابعةِ، وإلى سِدْرةِ المُنتهَى، وإلى قائمةِ العَرشِ، ولا خبَرَ يَقطَعُ العُذرَ بأنَّه مَعْنِيٌّ به بعضُ ذلك دونَ بعضٍ. والصَّوابُ أن يُقالَ في ذلك كما قال جلَّ ثناؤُه: إنَّ كتابَ أعمالِ الأبرارِ لَفِي ارتفاعٍ إلى حدٍّ قد عَلِمَ اللهُ جلَّ وعزَّ مُنْتَهاه، ولا عِلْمَ عندَنا بغايتِه، غيرَ أنَّ ذلك لا يقصرُ عن السَّماءِ السَّابعةِ؛ لإجماعِ الحُجَّةِ مِن أهلِ التَّأويلِ على ذلك). ((تفسير ابن جرير)) (24/211). .
عن البَراءِ بن عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في حَديثِه الطَّويلِ في صفةِ قبضِ الرُّوحِ، ونعيمِ القبرِ وعذابِه، وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((فيَصعَدونَ بها، فلا يَمُرُّونَ -يعني: بها- على مَلَإٍ مِنَ الملائِكةِ إلَّا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فيقولونَ: فُلانُ بنُ فُلانٍ؛ بأحسَنِ أسمائِه الَّتي كانوا يُسَمُّونَه بها في الدُّنيا، حتَّى يَنْتَهوا بها إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيَستَفتِحونَ له، فيُفتَحُ لهم، فيُشَيِّعُه مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبُوها إلى السَّماءِ الَّتي تَلِيها، حتَّى يُنتَهَى به إلى السَّماءِ السَّابعةِ، فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: اكتُبُوا كِتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ، وأَعيدوه إلى الأرضِ؛ فإنِّي منها خَلَقْتُهم، وفيها أُعِيدُهم، ومنها أُخرِجُهم تارةً أُخرى )) [161] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف)) (12059)، وأحمدُ (18534)، والطَّيالِسيُّ (789)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (107) بألفاظٍ متقاربةٍ. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1676) و((صحيح الترغيب)) (3558)، وحسَّنه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/280)، وابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (4/290). وصحَّح إسنادَه الطبريُّ في ((مسند ابن عمر)) (2/494)، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (1/300)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (30/503)، وقال ابن منده في ((الإيمان)) (398): (إسنادُه متَّصِلٌ مشهورٌ ثابتٌ على رسمِ الجماعةِ). .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان هذا أمرًا عَظيمًا؛ زاد في تعظيمِه بقَولِه [162] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/326). :
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19).
أي: وما أعلَمَك -يا محمَّدُ- بحقيقةِ عِلِّيِّينَ الموضوعِ فيه كتابُ أعمالِ الأبرارِ [163] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/211)، ((تفسير القرطبي)) (19/263)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 103). والاستفهامُ هنا قيل: هو للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ. وممَّن اختاره: القرطبيُّ، وابنُ كثير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/263)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 103). وقيل: هو امتِنانٌ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لم يكُنْ يَعلَمُ ذلك حتَّى أطْلَعَه اللهُ عليه. يُنظر: ((تفسير الماتريدي)) (10/457). ؟
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عَظَّم المكانَ فعُلِمَت عَظَمةُ الكِتابِ، ابتدَأَ الإخبارَ عنه على سَبيلِ القَطْعِ؛ زيادةً في عَظَمتِه، فقال [164] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/326). :
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20).
أي: كِتابُ الأبرارِ هذا هو كِتابٌ مَسطورةٌ أعمالُهم فيه بوُضوحٍ دونَ زِيادةٍ أو نَقْصٍ [165] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/211)، ((تفسير القرطبي)) (19/258، 263)، ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 70)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 103). .
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا عَظَّمَه في نَفْسِه وفي مَكانِه؛ عَظَّمَه في حُضَّارِه؛ فقال [166] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/326). :
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21).
أي: يَحضُرُه عِبادُ اللهِ المُقَرَّبونَ عِنْدَه [167] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/211)، ((تفسير القرطبي)) (19/264)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352)، ((تفسير الشوكاني)) (5/487)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/204). ممَّن ذهب إلى أنَّ يَشْهَدُهُ بمعنى: يَحضُرُه: ابنُ الجوزيِّ، والخازنُ، والبِقاعي، والعُلَيمي، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/416)، ((تفسير الخازن)) (4/ 405)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/326)، ((تفسير العليمي)) (7/314)، ((تفسير الشوكاني)) (5/487)، ((تفسير القاسمي)) (9/433). وقال الواحديُّ والبغويُّ والرازيُّ والرَّسْعَنيُّ: يَشهَدونَ ويَحضُرونَ ذلك المكتوبَ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/335)، ((تفسير البغوي)) (5/226)، ((تفسير الرازي)) (31/ 91)، ((تفسير الرسعني)) (8/540). وقال ابنُ عاشور: (يَشْهَدُهُ يَطَّلِعونَ عليه، أي: يُعلَنُ به عندَ المقَرَّبينَ، وهم الملائِكةُ، وهو إعلانُ تَنويهٍ بصاحِبِه، كما يُعلَنُ بأسماءِ النَّابِغينَ في التَّعليمِ، وأسماءِ الأبطالِ في الكتائِبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/204). والمُقَرَّبونَ قيل: هم الملائِكةُ. ومِمَّن قال به: ابنُ جريرٍ، وابنُ الجوزيِّ، والقرطبيُّ، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/211)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/416)، ((تفسير القرطبي)) (19/264)، ((تفسير الشوكاني)) (5/487)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 204). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/212)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352). وقيل: هم الملائِكةُ ومَن في السَّمَواتِ مِنَ الأنبياءِ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالِحينَ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: البِقاعيُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/ 327)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916). وعن ابنِ عبَّاسٍ: يَشهَدُه كلُّ أهلِ السَّماءِ. وفي روايةٍ: يَشهَدُه مِن كلِّ سماءٍ مُقَرَّبوها، وقال بها الضَّحَّاكُ، وابنُ جُرَيجٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/212)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (8/448). قال البقاعي: (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي: يَحضُرُه حضورًا تامًّا دائمًا -لا غَيبةَ فيه- الجماعةُ الَّذين يَعرِفُ كُلُّ أحدٍ أنَّه ليس لهم عندَ كُلِّ مَن يُعتَبَرُ تقريبُه إلَّا التَّقريبُ مِن ابتدائِه إلى انتهائِه، هم شهودُ هذا المسطورِ، وهم الملائِكةُ يُشَيِّعونَه مِن سماءٍ إلى سماءٍ، ويَحُفُّونَ به؛ سرورًا وتعظيمًا لصاحِبِه، ويَشهَدُه مَن في السَّمَواتِ مِنَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالحينَ). ((نظم الدرر)) (21/326، 327). .
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها شُروعٌ في بَيانِ مَحاسِنِ أحوالِ الأبرارِ إثْرَ بَيانِ حالِ كِتابِهم، على طَريقةِ ما مَرَّ في شَأنِ الفُجَّارِ [168] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/128)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/415). .
وأيضًا لَمَّا عَظَّم كِتابَهم في الآيةِ المتقَدِّمةِ؛ عَظَّم بهذه الآيةِ مَنزِلتَهم [169] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/91). .
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22).
أي: إنَّ المؤمِنينَ الَّذين أطاعوا اللهَ، وأحسَنُوا إلى عبادِ اللهِ: لَفِي نَعيمِ الجَنَّةِ الدَّائِمِ [170] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/212)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 103). .
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَر أنَّ الأبرارَ في نعيمٍ؛ بَيَّن ذلك النَّعيمَ بأمورٍ ثَلاثةٍ [171] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/503). :
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23).
أي: هم على السُّرُرِ الَّتي أُرخِيَ عليها سُتورٌ مُزَيَّنةٌ يَنظُرونَ إلى وَجهِ اللهِ الكَريمِ، وإلى ما أعطاهم مِنَ النَّعيمِ العَظيمِ [172] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/213)، ((تفسير ابن عطية)) (5/453)، ((تفسير القرطبي)) (19/264)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/204)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 104). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: يَنظُرونَ إلى ما أعَدَّ الله لهم مِن النَّعيم، وما أعطاهم مِن أنواعِ الكرامةِ: ابنُ جرير، والبغويُّ، والرَّسْعَني، والبِقاعي، والقاسمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/213)، ((تفسير البغوي)) (5/226)، ((تفسير الرسعني)) (8/540)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/327)، ((تفسير القاسمي)) (9/434)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 104). قال ابن القيم: (هضمَ معنى الآيةِ مَن قال: يَنظرونَ إلى أعدائِهم يُعذَّبون، أو يَنظرونَ إلى قصورِهم وبساتينِهم، أو ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ. وكلُّ هذا عُدولٌ عن المقصودِ إلى غيرِه، وإنَّما المعنَى ينظرونَ إلى وجهِ ربِّهم، ضدَّ حالِ الكفارِ الذين هم عن ربِّهم محجوبونَ). ((إغاثة اللهفان)) (1/32). وقال السعدي: (يَنْظُرُونَ إلى ما أعدَّ الله لهم مِن النَّعيمِ، ويَنظُرونَ إلى وجهِ ربِّهم الكريمِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 916). وقال القُشَيري: (أثبتَ النَّظرَ ولم يُبَيِّنِ المنظورَ إليه؛ لاختِلافِهم في أحوالِهم؛ فمِنهم مَن يَنظُرُ إلى قُصورِه، ومِنهم مَن ينظرُ إلى حُورِه، ومنهم ومنهم... ومنهم الخواصُّ فهُم على دوامِ الأوقاتِ إلى الله سُبحانَه يَنظُرونَ). ((تفسير القشيري)) (3/702). .
كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22-23] .
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا وَصَف نَعيمَهم؛ أخبَرَ أنَّهم مِن عَراقَتِهم فيه يَعرِفُهم به كُلُّ ناظِرٍ إليهم [173] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/328). .
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24).
أي: تَعرِفُ في وُجوهِهم أثَرَ النِّعمةِ والسُّرورِ الظَّاهِرَ؛ مِنَ الحُسْنِ والبَهاءِ والنَّضارةِ [174] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/213)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/205)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 104). قال ابنُ جُزَي: (الخِطابُ في تَعْرِفُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم، أو لكُلِّ مُخاطَبٍ مِن غيرِ تَعيينٍ). ((تفسير ابن جزي)) (2/462). .
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كانت مجالِسُ الأُنْسِ -لا سِيَّما في الأماكِنِ النَّضِرةِ- لا تَطِيبُ إلَّا بالمآكِلِ والمَشارِبِ، وكان الشَّرابُ يدُلُّ على الأكلِ؛ قال مُقتَصِرًا عليه؛ لأنَّ هذه السُّوَرَ قِصارٌ، يُقصَدُ فيها الجَمعُ مع الاختِصارِ؛ قال [175] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/328). :
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ ....
أي: يُسقَى هؤلاءِ الأبرارُ مِن خَمرٍ لذيذةٍ صافيةٍ لا كَدَرَ فيها، مختومةٍ بالمِسْكِ [176] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/214، 219)، ((تفسير ابن عطية)) (5/453)، ((تفسير ابن كثير)) (8/352)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/205، 206)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 104، 105). قال الماوَرْدي: (فيه أربعةُ تأويلاتٍ؛ أحدُها: مِزاجُه مِسْكٌ. قاله مجاهدٌ. الثَّاني: عاقِبَتُه مِسْكٌ. ويكونُ خِتامُه آخِرَه... الثَّالثُ: أنَّ طَعْمَه ورِيحَه مِسْكٌ... الرَّابعُ: أنَّ خَتْمَه الَّذي خُتِمَ به إناؤُه مِسْكٌ. قاله ابنُ عبَّاسٍ). ((تفسير الماوردي)) (6/230). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ: أنَّ هذه الخَمْرَ مختومةٌ بالرَّائحةِ المِسْكِيَّةِ، فتَفوحُ منها في آخِرِ شُرْبِهم لها رائِحةُ المِسْكِ: ابنُ جرير، والواحديُّ، وابن عطية، والقرطبي، والشوكاني، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/219)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1184)، ((تفسير ابن عطية)) (5/453)، ((تفسير القرطبي)) (19/265)، ((تفسير الشوكاني)) (5/490)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 105). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (إذا شرِب وفرَغ ونزَع الإناءَ مِن فيه وجَد طَعْمَ المِسْكِ). ((تفسير مقاتل ابن سليمان)) (4/624). وقال الزَّجَّاجُ: (انختَمَ ذلك بطَعْمِ المِسْكِ ورائحتِه). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/301). ومِمَّن قال بأنَّ المرادَ: تُختَمُ أوانيه مِن الأكوابِ والأباريقِ بمِسْكٍ مكانَ السِّدادةِ الَّتي تُغَطِّي الأوانيَ: الزمخشريُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/723)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/206). قال ابنُ عاشور: (الخِتامُ بوَزنِ كِتابٍ: اسمٌ للطِّينِ الَّذي يُختَمُ به، كانوا يجعَلونَ طِينَ الخِتامِ على مَحَلِّ السِّدادِ مِنَ القارورةِ أو الباطيةِ أو الدَّنِّ للخَمْرِ؛ لِمَنعِ تخلُّلِ الهواء إليها، وذلك أصلَحُ لاختمارِها، وزيادةِ صَفائِها، وحِفظِ رائحتِها، وجُعِلَ خِتامُ خَمرِ الجَنَّةِ بعَجينِ المِسْكِ عِوَضًا عن طِينِ الخَتْمِ). ((تفسير ابن عاشور)) (30/206). وقال البِقاعي: (مَخْتُومٍ أي: فهو معَ نفاستِه سالمٌ مِن الغبارِ وجميعِ الأقذاءِ والأقذارِ. ولَمَّا كان الخَتمُ حينَ الفكِّ لا بدَّ أن يَنزِلَ مِن فُتاتِه في الشَّرابِ؛ قال: خِتَامُهُ مِسْكٌ. وقال ابنُ مسعودٍ رضيَ الله عنه: إنَّ المرادَ بخِتامِه: آخرُ طَعمِه، فيحصلُ أنَّ خِتامِه في أوَّلِ فَتحِه وفي آخِرِ شربِه المِسكُ، وذلك يقتضي أن لا يكونَ يَفتَحُه إلَّا شاربُه، وأنَّه يكونُ على قدرِ كفايتِه فيَشرَبُه كلَّه، والعبارةُ صالحةٌ لأنْ يكونَ الختامُ أوَّلًا وآخِرًا، وهو يَجري مجرى افتِضاضِ البِكْرِ). ((نظم الدرر)) (21/329). .
... وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ.
أي: فلْيَجتَهِدِ المتسابِقونَ ويُبادِرُوا في طَلَبِ ذلك النَّعيمِ [177] قيل: المرادُ بقولِه ذَلِكَ: الإشارةُ إلى ما سبق ذِكرُه في هذه السُّورةِ مِن نَعيمِ الجنَّةِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/220)، ((تفسير القرطبي)) (19/266)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/329)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916). وقيل: اسمُ الإشارة يعودُ على الرَّحيقِ المختومِ بمِسْكٍ. ومِمَّن ذهب إلى هذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/624)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/206، 207). ، بطاعةِ اللهِ تعالى، واجتنابِ ما يُسخِطُه، ولْيُسارِعوا؛ حِرصًا على الفَوزِ به [178] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/220)، ((الوسيط)) للواحدي (4/448)، ((تفسير القرطبي)) (19/266)، ((تفسير ابن كثير)) (8/353)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/329، 330)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 105). .
كما قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] .
وقال سُبحانَه: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ [الحديد: 21] .
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الشَّرابَ أتْبَعَه مِزاجَه -على ما يَتعارَفُه أهلُ الدُّنيا- لكِنْ بما هو أشرَفُ منه؛ فقال مُبَيِّنًا لحالِ هذا المَسْقِيِّ [179] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/330). :
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27).
أي: ويُمزَجُ ذلك الرَّحيقُ المختومُ ويُخلَطُ بشَرابٍ شَريفٍ مِن عَينٍ رَفيعةٍ عاليةٍ اسمُها تَسنيمٌ [180] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/220)، ((تفسير الزمخشري)) (4/723)، ((تفسير القرطبي)) (19/266)، ((تفسير ابن كثير)) (8/353)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/330)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/207، 208)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 105). قال الجوهري: (تسنَّمه، أي: علاه. وقولُه تعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ قالوا: هو ماءٌ في الجنَّةِ، سمِّي بذلك لأنَّه يجري فوقَ الغرفِ والقصورِ). ((الصَّحاح)) (5/1955). ويُنظر: ((غريب الحديث)) لابن قتيبة (1/545)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (13/13). .
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28).
أي: وتلك العَينُ يَروَى بها المقَرَّبونَ السَّابِقونَ، وهم أعلى وأفضَلُ مِن الأبرارِ، فيَشرَبونَ منها شرابًا صافيًا خالِصًا دونَ أن يُمزَجَ بشَيءٍ [181] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/224)، ((تفسير القرطبي)) (19/266)، ((تفسير ابن كثير)) (8/353)، ((تفسير السعدي)) (ص: 916)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 105، 106). قال ابن عثيمين: (مِن العلماءِ مَن قال: «الباءُ» بمعنى «مِن»، فمعنى يَشْرَبُ بِهَا أي: يَشرَبُ منها. ومنهم مَن قال: إنَّ يَشْرَبُ بمعنى: يَروَى، ضُمِّنَتْ معنَى يَروى، فمعنى يَشْرَبُ بِهَا أي: يَروى بها المقَرَّبون. وهذا المعنى أو هذا الوجهُ أحسَنُ مِن الوجهِ الَّذي قبْلَه؛ لأنَّ هذا الوجهَ يتضَمَّنُ شيئينِ يُرجِّحانِه؛ وهما: أوَّلًا: إبقاءُ حرفِ الجرِّ على معناه الأصليِّ. والثَّاني: أنَّ الفعلَ يَشْرَبُ ضُمِّن معنًى أعلى مِن الشُّربِ، وهو الرِّيُّ، فكم مِن إنسانٍ يَشرَبُ ولا يَروى، لكنْ إذا رَوِيَ فقد شَرِب). ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 106). .

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ توجيهٌ إلى ما ينبغي أن تكونَ فيه المنافَسةُ؛ ففي هذه الآيةِ الكريمةِ لَفتٌ لأوَّلِ السُّورةِ؛ فإذا كان أولئك يَسعَونَ لجَمعِ المالِ بالتَّطفيفِ، فلَهُمُ الوَيلُ يومَ القيامةِ، وإذا كان الأبرارُ في نعيمٍ يومَ القيامةِ، وهذا شَرابُهم؛ فهذا هو محَلُّ المنافَسةِ، لا في التَّطفيفِ مِن أيِّ مَكِيلٍ أو مَوزونٍ [182] يُنظر: ((تتمة أضواء البيان)) لعطية سالم (8/463). .
2- في قَولِه تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ أنَّ التَّنافُسَ ليس مذمومًا مُطلَقًا، بل هو محمودٌ في الخَيرِ [183] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/113). .
3- في قَولِه تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ أنَّ العاقلَ يُنافِسُ في العُلُوِّ الدَّائمِ الباقي الَّذي فيه رِضوانُ اللهِ وقُرْبُه وجِوارُه، ويَرغَبُ عن العُلُوِّ الفاني الزَّائلِ الَّذي يَعْقُبُه غَضَبُ اللهِ وسَخَطُه، وانحِطاطُ العبدِ وسُفولُه، وبُعْدُه عن اللهِ وطَرْدُه عنه؛ فهذا العُلُوُّ الفاني الَّذي يُذَمُّ، وهو العُتُوُّ والتَّكبُّرُ في الأرضِ بغَيرِ الحقِّ، وأمَّا العُلُوُّ الأوَّلُ والحِرصُ عليه فهو مَحمودٌ [184] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (1/89). .
4- في قَولِه تعالى: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ أنَّ الشَّارعَ لَمْ يَجْعَلِ الطَّاعاتِ والقُرُباتِ محَلًّا للإيثارِ، بل مَحَلًّا للتَّنافُسِ والمُسابَقةِ؛ ولهذا قال الفُقَهاءُ: «لا يُستحَبُّ الإيثارُ بالقُرُباتِ»، والسِّرُّ فيه -واللهُ أعلمُ- أنَّ الإيثارَ إنَّما يكونُ بالشَّيءِ الَّذي يَضِيقُ عن الاشتراكِ فيه، فلا يَسَعُ المؤْثِرَ والمؤْثَرَ، بل لا يَسَعُ إلَّا أحدَهما، وأمَّا أعمالُ البِرِّ والطَّاعاتِ فلا ضِيقَ على العِبادِ فيها، فلوِ اشتركَ الألوفُ المؤلَّفةُ في الطَّاعةِ الواحدةِ لَمْ يكُنْ عليهم فيها ضِيقٌ ولا تزاحُمٌ، ووَسِعَتْهُم كلَّهم، وإنْ قُدِّرَ التَّزاحمُ فإنَّ في العَزْمِ والنِّيَّةِ الجازمةِ على فِعْلِه مِن الثَّوابِ ما لفاعلِه، فإذا قُدِّرَ فَوتُ مباشَرتِه له فلا يَفُوتُ عليه عَزْمُه ونِيَّتُه لفِعْلِه، وأيضًا فإنَّه إذا فات عليه كان في غيرِه مِن الطَّاعاتِ والقُرُباتِ عِوضٌ منه، وأيضًا فإنَّ المقصودَ رغبةُ العَبدِ في التَّقَرُّبِ إلى اللهِ، وابتغاءِ الوَسيلةِ إليه، والمنافَسةِ في مَحابِّه. والإيثارُ بهذا التَّقَرُّبِ يدُلُّ على رَغبتِه عنه، وتَرْكِه له، وعدَمِ المُنافَسةِ فيه، وهذا بخِلافِ ما يَحتاجُ إليه العَبدُ مِن طَعامِه وشَرابِه ولباسِه إذا كان أخوه محتاجًا إليه، فإذا اختَصَّ به أحدُهما فات الآخَرَ؛ فنَدَبَ اللهُ سُبحانَه عبْدَه إذا وَجَدَ مِن نفْسِه قوَّةً وصبرًا على الإيثارِ به ما لَمْ يَخْرِمْ عليه دِينًا، أو يَجْلِبْ له مَفسَدةً [185] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 299، 300). وقال ابن القيِّم: (الله سُبحانَه وتعالَى يُحبُّ المُبادَرةَ أو المُسارَعةَ إلى خدمتِه، والتَّنافُسَ فيها؛ فإنَّ ذلك أبلَغُ في العُبوديَّةِ؛ فإنَّ المُلوكَ تحبُّ المُسارَعةَ والمُنافَسةَ في طاعتِها وخِدمَتِها، فالإيثارُ بذلك مُنافٍ لمقصودِ العُبوديَّةِ؛ فإنَّ اللهَ سُبحانَه أمَر عبدَه بهذه القُربةِ إمَّا إيجابًا وإمَّا استِحبابًا، فإذا آثَر بها ترَكَ ما أُمِر به وولَّاه غيرَه... وقد كان الصَّحابةُ يُسابِقُ بعضُهم بعضًا بالقُرَبِ، ولا يُؤْثِرُ الرَّجُلُ منهم غيرَه بها). ((الروح)) (ص: 130). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- أهلُ الجَنَّةِ نَوعانِ: سابِقونَ مُقَرَّبون، وأبرارٌ أصحابُ يمينٍ، قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ قال ابنُ عبَّاسٍ: (تُمزَجُ لأصحابِ اليَمينِ مَزْجًا، ويَشرَبُها المقَرَّبونَ صِرْفًا أي: خالصةً) [186] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/701). .
2- لَفظُ الأبرارِ إذا أُطْلِقَ دَخَلَ فيه كلُّ تَقِيٍّ مِن السَّابقِينَ والمقتَصِدينَ، وإذا قُرِنَ بالمقرَّبِينَ كان أخَصَّ؛ قال تعالى في الأوَّلِ: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13-14]، وقال في الثَّاني: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [187] يُنظر: ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 136). .
3- قَولُه تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ استُدِلَّ به أنَّ الجَنَّةَ في أعلى عِلِّيِّينَ، وكما في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَديثِ البراءِ بنِ عازبٍ المشهورِ في صفةِ قبضِ الرُّوحِ، ونعيمِ القبرِ وعذابِه: ((فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ: اكتُبُوا كِتابَ عَبْدي في عِلِّيِّينَ، وأَعيدُوه إلى الأرضِ )) [188] يُنظر: ((تعليق مختصر على لمعة الاعتقاد)) لابن عثيمين (ص: 132). والحديث أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف)) (12059)، وأحمدُ (18534)، والطَّيالِسيُّ (789)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (107) بألفاظٍ متقاربةٍ. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1676) و((صحيح الترغيب)) (3558)، وحسَّنه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/280)، وابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (4/290). وصحَّح إسنادَه الطبريُّ في ((مسند ابن عمر)) (2/494)، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (1/300)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (30/503)، وقال ابن منده في ((الإيمان)) (398): (إسنادُه متَّصِلٌ مشهورٌ ثابتٌ على رسمِ الجماعةِ). .
4- في قَولِه تعالى: كِتَابٌ مَرْقُومٌ تحقيقٌ لكَونِه مَكتوبًا كِتابةً حَقيقيَّةً [189] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 70). .
5- في قَولِه تعالى: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ خَصَّ تعالى كتابَ الأبرارِ بأنَّه يُكْتَبُ ويُوَقَّعُ لهم به بمَشْهَدِ المقرَّبِينَ مِن الملائكةِ والنَّبِيِّينَ وساداتِ المؤمنينَ -وذلك على قولٍ-، ولَمْ يَذْكُرْ شَهادةَ هؤلاء لكِتابِ الفُجَّارِ؛ تنويهًا بكتابِ الأبرارِ وما وَقَعَ لهم به، وإشهارًا له، وإظهارًا بيْن خواصِّ خلْقِه؛ كما تَكتبُ الملوكُ تواقيعَ مَن تُعَظِّمُه بيْن الأمراءِ وخواصِّ أهلِ المملكةِ؛ تنويهًا باسمِ المكتوبِ له، وإشادةً بذِكْرِه، وهذا نوعٌ مِن صلاةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى وملائكتِه على عَبْدِه [190] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 70). .
6- في قَولِ اللهِ تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ إشارةٌ إلى أنَّ بِرَّ القَلبِ يُوجِبُ نَعيمَ الدُّنيا [191] يُنظر: ((الكلام على مسألة السماع)) لابن القيم (ص: 270). .
7- قال اللهُ تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ يعني: أنَّهم في نَعيمٍ في القَلبِ، وفي نعيمٍ في البَدَنِ، فهُم في أَسَرِّ ما يَكونُ [192] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) لابن عثيمين (6/726). .
8- في قَولِه تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ دليلٌ على أنَّ المؤمنَ مَندوبٌ إلى الرَّغبةِ في مَلاذِّ النُّفُوسِ وشَهَواتِها في الآخِرةِ، والسَّعيِ في اكتِسابِها، وأنَّ تَنَطُّعَ الصُّوفيَّةِ كما يَدَّعُون مِن تَرْكِ الاشتغالِ بها، والاقتصارِ على العَمَلِ الصَّالحِ الرَّضِيِّ وحْدَه، لا للرَّغبةِ في الجَزاءِ عليه مِن مُباشرةِ ما وَعَدَه اللهُ تبارك وتعالى وأَعَدَّه لأهلِ الجَنَّةِ: مذمومٌ مِن قولِهم، وغيرُ مَرْضيٍّ مِن فِعْلِهم؛ لأنَّ رِضا اللهِ جلَّ جلالُه وإنْ كان مِن أجَلِّ الجزاءِ وأعظَمِ النَّعيمِ فليس بمانعٍ مِن الرَّغبةِ في مباشرةِ مَلاذِّ النُّفُوسِ، والتَّمَتُّعِ بما هو مِن حَظِّها، وأنَّه لا يَحُطُّه مِن درجةِ طُلَّابِ الرِّضا، وإنَّما نُهُوا عنه في الدُّنيا، ونُدِبُوا إلى الزُّهدِ فيها؛ لأنَّ محظورَها يُفضِي بهم إلى المُحَرَّمِ، ويَكْسِبُهم النَّارَ، ومُباحَها يُفْضي بهم إلى الفُتورِ والكَسَلِ، والرَّغبةِ في الدُّنيا عن مباشرةِ تَعَبِ العبادةِ ونَصَبِها، ويُصَعِّبُ عليهم تَجَرُّعَ المراراتِ، ويُطَمْئِنُ إلى الرَّاحاتِ وإيثارِ الحلاواتِ عليها، فإذا دَخَلوا الجَنَّةَ وانتَقَلوا عن دارِ المِحَنِ، ورُفِعَتْ عنهم العبادةُ؛ تَلَذَّذُوا بمَحابِّ النُّفُوسِ مِن الأكلِ والشُّربِ وأنواعِ النَّعيمِ مِن مُعانَقةِ الحُورِ ومَن يُزَوَّجُون مِن الآدَميَّاتِ المُطيعاتِ، ويُرَدُّ إليهم مِن الزَّوجاتِ اللَّواتي كُنَّ لهم في الدُّنيا، فلَمْ يَضُرَّهم ذلك، ولا خَشُوا مَقْتًا مِن ربِّهم، ولا حَذِروا فُتورًا عن العبادةِ؛ لأنَّه جزاءٌ لهم على ما أطاعوه في الدُّنيا، وآثَروا طاعتَه على مَلاذِّهم ومَحابِّهم فيها، أَلَا تراه يقولُ سُبحانَه: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة: 24] ، والقرآنُ مملوءٌ به؛ مِن قوله: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة: 17] ، وكيف يكونُ مذمومًا مع قولِه: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، فلِمَ أمَرَهم إذَنْ بالتَّنافُسِ؟! ولِمَ وَصَفَه ومَلَأَ القرآنَ بذِكْرِه [193] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/487-489). ؟!
9- في قولِه تعالى: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ عُبِّرَ بالفِعلِ يُسْقَوْنَ دُونَ (يَشرَبون)؛ للدَّلالةِ على أنَّهم مَخدومون، يَخدُمُهم مَخلوقاتٌ مِن أجْلِ ذلك في الجَنَّةِ، وذلك مِن تَمامِ التَّرفُّهِ ولَذَّةِ الرَّاحةِ [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/205). .
10- قال تعالى: خِتَامُهُ مِسْكٌ قيل: إنَّ المرادَ بالخِتامِ: ما يَبقى في سُفْلِ الشَّرابِ مِن الثُّفْلِ [195] الثُّفْلُ: حُثَالةُ الشَّيْءِ، وهو الثَّخينُ الَّذي يَبقَى أسفَلَ الصَّافي. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/82). ، وهذا يدُلُّ على أنَّ أنهارَها تجري على المِسْكِ؛ ولذلك يَرْسُبُ منه في الإناءِ في آخِرِ الشَّرابِ كما يَرْسُبُ الطِّينُ في آنيةِ الماءِ في الدُّنيا [196] يُنظر: ((لطائف المعارف)) لابن رجب (ص: 26). .
11- في قَولِه تعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أنَّ مِزاجَ شَرابِ الأبرارِ مِن التَّسنيمِ؛ وأنَّ المقرَّبينَ يَشرَبونَ منه بلا مِزاجٍ؛ وهذا لأنَّ الجزاءَ وِفاقُ العَمَلِ، فكما خَلَصَتْ أعمالُ المقرَّبِينَ كلُّها للهِ خَلَصَ شرابُهم، وكما مَزَجَ الأبرارُ الطَّاعاتِ بالمباحاتِ، مُزِجَ لهم شَرابُهم؛ فمَن أَخْلَصَ أُخْلِصَ شَرابُه، ومَن مَزَجَ مُزِجَ شرابُه [197] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 194). .
12- قال تعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ لَمْ يَقُلْ: «يَشْرَبُ منها»؛ لأنَّه ضَمَّنَ قَوْلَه: «يَشْرَب» مَعْنى «يَرْوَى بها»؛ فإنَّ الشَّاربَ قد يَشْرَبُ ولا يَرْوى، فإذا قيل: «يَشرَبونَ منها» لَمْ يَدُلَّ على الرِّيِّ، فإذا قيل: «يَشربونَ بها» كان المعنى: «يَرْوَون بها»، فالمقرَّبون يَرْوَونَ بها فلا يحتاجُونَ معها إلى ما دونَها؛ فلهذا يَشرَبونَ منها صِرْفًا بخِلافِ أصحابِ اليمينِ؛ فإنَّها مُزِجَتْ لهم مَزْجًا، وهو كما قال تعالى في سورةِ (الإنسانِ): كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 5-6] ، فعِبَادُ اللهِ هم المقرَّبون المذكورونَ في تلك السُّورةِ؛ وهذا لأنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العمَلِ في الخَيرِ والشَّرِّ [198] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (11/178). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ
- حرفُ كَلَّا رَدْعٌ وإبْطالٌ لِما تَضمَّنَه ما يُقالُ لهم: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] ، فيَجوزُ أنْ تَكونَ كَلِمةُ كَلَّا ممَّا قيلَ لهم مع جُملةِ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ رَدْعًا لهم؛ فهي مِن المَحكيِّ بالقَولِ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ مُعتَرِضةً مِن كَلامِ اللهِ في القُرآنِ؛ إبْطالًا لتَكذيبِهم المَذكورِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/202). .
وقيل: حرفُ كَلَّا تَكريرٌ، تَأكيدٌ للرَّدعِ؛ ليُعقَبَ بوَعدِ الأبْرارِ، كَما عُقِّبَ الأوَّلُ بوَعيدِ الفُجَّارِ؛ إشْعارًا بأنَّ التَّطفيفَ فُجورٌ، والإيفاءَ بِرٌّ، أو رَدْعٌ عن التَّكذيبِ [200] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/722)، ((تفسير البيضاوي)) (5/295)، ((تفسير أبي السعود)) (9/127)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/415). .
- قولُه: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ استِئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ مَحلَّ كِتابِ الأبْرارِ، بعدَ بيانِ سُوءِ حالِ الفُجَّارِ، مُتَّصلًا ببَيانِ سُوءِ حالِ كِتابِهم، وفيه تَأكيدٌ للرَّدْعِ، ووُجوبِ الارتِداعِ [201] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/127). .
- قولُه: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ الآياتِ؛ قيل: يَظهَرُ أنَّ هذه الآياتِ المُنتَهيةَ بقَولِه: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ مِن الحِكايةِ، ولَيستْ مِن الكلامِ المَحكيِّ بقَولِه: ثُمَّ يُقَالُ ... إلخ؛ فإنَّ هذه الجُملةَ بحَذافِرِها تُشبِهُ جُملةَ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ... [المطففين: 7] إلخ، أُسلوبًا ومُقابَلةً؛ فالوَجْهُ أنْ يَكونَ مَضمونُها قَسيمًا لمَضمونِ شَبيهِها، فتَحصُلَ مُقابَلةُ وَعيدِ الفُجَّارِ بوَعدِ الأبْرارِ، ومِن عادةِ القُرآنِ تَعقيبُ الإنذارِ بالتَّبشيرِ، والعَكسُ؛ لأنَّ النَّاسَ راهِبٌ وراغِبٌ؛ فالتَّعرُّضُ لنَعيمِ الأبْرارِ إدْماجٌ [202] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرَضًا في غرَضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70]؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ. وقيل: أُدمِجتِ المبالَغةُ في المطابَقةِ؛ لأنَّ انفِرادَه تعالى بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفِرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 449)، ((خِزانة الأدب)) لابن حِجَّةَ الحَمَوي (2/484)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبدالرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). اقتَضَتْه المُناسَبةُ، وإنْ كان المَقامُ مِن أوَّلِ السُّورةِ مَقامَ إنْذارٍ، ويَكونُ المُتكلِّمُ بالوَعدِ والوَعيدِ واحِدًا، وَجَّهَ كلامَه للفُجَّارِ الَّذين لا يَظُنُّون أنَّهم مَبْعوثون، وأعقَبَه بتَوجيهِ كلامٍ للأبْرارِ الَّذين هُم بضِدِّ ذلك، فتَكونُ هذه الآياتِ مُعتَرِضةً مُتَّصِلةً بحرفِ الرَّدْعِ. ويَجوزُ أنْ تَكونَ مِن المَحكيِّ بالقَولِ في ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] ، فتَكونَ مَحكيَّةً بالقَولِ المَذكورِ، مُتَّصِلةً بالجُملةِ الَّتي قبْلَها وبحَرفِ الإبْطالِ، على أنْ يَكونَ القائلون لهم: هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ على وَجْهِ التَّوبيخِ؛ أَعقَبوا تَوبيخَهم بوَصفِ نَعيمِ المُؤمِنينَ بالبَعثِ تَنْديمًا للَّذين أَنكَروه، وتَحسيرًا لهم على ما أَفاتوه مِن الخَيرِ [203] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/202، 203). .
- وفي قَولِه تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ معَ الأولى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المُطَفِّفين: 7] احتباكٌ [204] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لِدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَع الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ ذِكرُ سِجِّينٍ أوَّلًا دالٌّ على الاتِّساعِ ثانيًا، وذكرُ عِلِّيِّينَ والمقرَّبينَ ثانيًا دالٌّ على أسفلِ سافلينَ والمُبعَدينَ أوَّلًا [205] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/327). .
- قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ؛ (مَا) اسمُ استِفهامٍ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ [206] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/415). .
- وعِلِّيُّون: جَمعُ عِلِّيٍّ، وعِلِّيٌّ على وَزنِ (فِعِّيلٌ) مِن العُلُوِّ، وهو زِنةُ مُبالَغةٍ في الوَصفِ، جاءَ على صورةِ جَمْعِ المُذكَّرِ السَّالِمِ [207] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/430)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/203)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/414). . وقيلَ: إنَّ عِلِّيِّينَ ليس جَمْعَ عِلِّيٍّ، ولكنَّه عَلَمٌ على مَكانِ الأبْرارِ في الجَنَّةِ، وصِيغَ على صِيغةِ جَمعِ المُذكَّرِ؛ لأنَّ أَصلَ تلك الصِّيغةِ أنْ تُجمَعَ بها أسْماءُ العُقلاءِ وصِفاتُهم، فاستُكمِلَ له صِيغةُ جَمعِ العُقلاءِ الذُّكورِ؛ إتْمامًا لشَرَفِ المَعنى بإعْطائِه صِيغةَ التَّذكيرِ [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/203). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ
- قولُه: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ مَضمونُ هذه الجُملةِ قَسيمٌ لمَضمونِ جُملةِ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] إلى آخِرِها؛ ولذلك جاءَتْ على نَسيجِ نَظْمِ قَسيمتِها افتِتاحًا وتَوصيفًا وفَصلًا، وهي مُبيِّنةٌ لجُملةِ إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] ؛ فمَوقِعُها مَوقِعُ البَيانِ، أو موقِعُ بَدَلِ الاشتِمالِ [209] بَدلُ الاشتمالِ: هو الَّذي يدُلُّ على مَعنًى في مَتْبوعِه أو صِفةٍ فيه، مِثلُ: أعْجَبَني مُحمَّدٌ خُلُقُه؛ فـ (خُلُقُه) بَدَلٌ مِن (مُحمَّدٌ)؛ بَدَلُ اشْتِمالٍ. يُنظر: ((أوضح المسالك)) لابن هشام (3/365)، ((توضيح المقاصد)) للمرادي (2/1037)، ((شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك)) لابن مالك (3/ 249). على كِلَا الوَجهَينِ في مَوقِعِ الَّتي قبْلَها، على أنَّه يَجوزُ أنْ تَكونَ مِن الكلامِ الَّذي يُقالُ لهم، وهو المَحكيُّ بقَولِه: ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين: 17] ، فيَكونَ قولُ ذلك لهم تَحسيرًا وتَنديمًا على تَفريطِهم في الإيمانِ، ولا تعارُضَ بيْن الوَجهَينِ [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/204). . وقيل: الجملةُ مستأنفَةٌ استئنافًا بيانيًّا، كأنَّه قيل: هذا حالُ كتابِهم، فما حالُهم؟ فأُجيبَ بما ذُكِر، أي: إنَّهم لفي نعيمٍ عظيمٍ [211] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (15/281). .
- وذِكرُ الْأَبْرَارِ بالاسمِ الظَّاهِرِ دونَ ضَميرِهم، خِلافًا لِما جاءَ في جُملةِ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ؛ تَنويهًا بوَصفِ الأبْرارِ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/204). .
- وحَذفُ مَفعولِ يَنْظُرُونَ؛ إمَّا لدَلالةِ ما تَقدَّمَ عليه مِن قولِه في ضِدِّهم: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] ، والتَّقديرُ: يَنظُرون إلى رَبِّهم، وإمَّا لقَصدِ التَّعميمِ، أي: يَنظُرون كُلَّ ما يُبهِجُ نُفوسَهم ويَسُرُّهم؛ بقَرينةِ مَقامِ الوَعدِ والتَّكريمِ [213] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/205). .
- قولُه: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ كلامٌ مُستأْنَفٌ، مَسوقٌ لإيذانِ المُخاطَبِ بالالْتِفاتِ إليهم، والتَّأمُّلِ في آثارِ النَّعيمِ على وُجوهِهم [214] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/416). .
- قولُه: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ الخِطابُ لكُلِّ أَحدٍ ممَّن له حَظٌّ مِن الخِطابِ؛ للإيذانِ بأنَّ ما لَهم مِن آثارِ النِّعمةِ وأَحكامِ البَهجةِ، بحَيثُ لا يَختَصُّ برُؤيتِه راءٍ دُونَ راءٍ. والخِطابُ بمِثلِه في مَقامِ وَصْفِ الأُمورِ العَظيمةِ طَريقةٌ عَرَبيَّةٌ مَشهورةٌ [215] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/128)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/205). .
- والنَّضْرةُ: البَهْجةُ والحُسنُ، وإضافةُ نَضْرَةَ إلى النَّعِيمِ مِن إضافةِ المُسبَّبِ إلى السَّببِ، أي: النَّضْرةُ والبَهْجةُ الَّتي تَكونُ لوَجْهِ المَسرورِ الرَّاضي؛ إذ تَبْدو على وَجْهِه مَلامِحُ السُّرورِ [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/205). .
- قولُه: خِتَامُهُ مِسْكٌ نَعتٌ للرَّحيقِ، أو بدَلٌ مُفَصَّلٌ مِن مُجمَلٍ، أو استِئنافٌ بَيانيٌّ ناشئٌ عن وَصْفِ الرَّحيقِ بأنَّه مَختومٌ؛ أنْ يَسألَ سائلٌ عن خِتامِها، أيُّ شيءٍ هو مِن أصنافِ الخِتامِ؟ لأنَّ غالِبَ الخِتامِ أنْ يَكونَ بطِينٍ أو سِدادٍ [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/206). . وذلك على قولٍ.
- وجُملةُ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ مُعتَرِضةٌ بيْنَ جُملةِ خِتَامُهُ مِسْكٌ وجُملةِ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، ونَظْمُ التَّركيبِ في هذه الجُملةِ دَقيقٌ يَحتاجُ إلى بَيانٍ؛ وذلك أنْ نَجعَلَ (الواوَ) اعتِراضيَّةً، فقَولُه: وَفِي ذَلِكَ هو مَبدأُ الجُملةِ، وتَقديمُ المَجرورِ لإفادةِ الحَصْرِ، أي: وفي ذلك الرَّحيقِ فلْيَتَنافَسِ النَّاسُ، لا في رَحيقِ الدُّنيا الَّذي يَتَنافَسُ فيه أهلُ البَذَخِ، ويَجلِبونه مِن أَقاصي البِلادِ، ويُنفِقون فيه الأموالَ، ولَمَّا كانت (الواوُ) اعتِراضيَّةً لم يَكُنْ إشْكالٌ في وُقوعِ (فاءِ) الجَوابِ بعْدَها، و(الفاءُ) إمَّا أنْ تَكونَ فَصيحةً؛ أفْصَحَتْ عن شَرطٍ مُقدَّرٍ، والتَّقديرُ: إذا عَلِمْتُم الأوصافَ لهذا الرَّحيقِ فلْيَتَنافَسْ فيه المُتَنافِسونَ، أو التَّقديرُ: وفي ذلك فلْتَتَنافَسوا، فلْيَتَنافَسْ فيه المُتَنافِسون، فتَكونَ الجُملةُ في قُوَّةِ التَّذييلِ؛ لأنَّ المُقدَّرَ هو تَنافُسُ المُخاطَبِينَ، والمُصَرَّحَ به تَنافُسُ جَميعِ المُتَنافِسينَ، فهو تَعميمٌ بعدَ تَخصيصٍ. وإمَّا أنْ تَكونَ الفاءُ فاءَ جَوابٍ لشَرطٍ مُقدَّرٍ في الكَلامِ يُؤذِنُ به تَقديمُ المَجرورِ؛ لأنَّ تَقديمَ المَجرورِ كثيرًا ما يُعامَلُ مُعامَلةَ الشَّرطِ، فالتَّقديرُ: إنْ عَلِمْتُم ذلك فلْيَتَنافَسْ فيه المُتَنافِسونَ. وإمَّا أنْ تَكونَ (الفاءُ) تَفريعًا على مَحذوفٍ على طَريقةِ الحَذفِ على شَريطةِ التَّفسيرِ، والتَّقديرُ: وتَنافَسوا -صيغة أمرٍ في ذلك- فلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسونَ فيه، ويَكونَ الكَلامُ مُؤذِنًا بتَوكيدِ فِعلِ التَّنافُسِ؛ لأنَّه بمَنزِلةِ المَذكورِ مَرَّتَينِ، مع إفادةِ التَّخصيصِ بتَقديمِ المَجرورِ [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/206، 207). . وذلك على قولٍ في المُتنافَسِ فيه.
- قولُه: وَفِي ذَلِكَ ما فيه مِن مَعْنى البُعدِ؛ إمَّا للإشْعارِ بعُلُوِّ مَرتَبتِه وبُعدِ مَنزِلتِه، أو لكَونِه في الجَنَّةِ، أي: في ذلك خاصَّةً دونَ غَيرِه [219] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/128). .
- و(لامُ) الأمرِ في فَلْيَتَنَافَسِ مُستَعمَلةٌ في التَّحريضِ والحَثِّ [220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/207). .
- قولُه: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَطْفٌ على قولِه: خِتَامُهُ مِسْكٌ، والتَّسنيمُ هو المَعنيُّ بالشَّرابِ الَّذي هو أرفَعُ شَرابٍ في الجَنَّةِ. وقولُه: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ في حُكمِ المُتأخِّرِ؛ قُدِّمَ لمَكانِ العِنايةِ بشَأنِه، فالمُشارُ إليه بـ (ذلك) جَميعُ ما سَبَقَ مِن قولِه: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ... إلى آخِرِه، وذلك على قولٍ. وفائدةُ التَّقديمِ: التَّرغيبُ والحَثُّ على التَّحرِّي والاجتِهادِ، وإيثارِ ذلك على طَلَبِ العاجِلةِ، والمُسابقةِ فيه؛ ولذلك قُدِّمَ الظَّرفُ -أي: وَفِي ذَلِكَ-، وخُصَّ التَّنافُسُ مع بِناءِ التَّفاعُلِ [221] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/349، 350). .