موسوعة التفسير

سُورةُ المُطَفِّفينَ
الآيات (7-17)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ

غريب الكلمات :

سِجِّينٍ: على وزنِ فِعِّيلٍ مِن مادَّةِ السَّجْنِ، قيل: هي اسمٌ للأرضِ السَّابعةِ السُّفلى، وقيل: هي اسمٌ لجهنَّمَ، بإزاءِ عِلِّيِّينَ؛ سُمِّيَ ذلك المكانُ سِجِّينًا لأنَّه أشَدُّ الحَبسِ لِمَن فيه، فلا يفارِقُه، وأصلُ (سجن): يدُلُّ على حَبسٍ [65] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 519)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 282)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/137)، ((تفسير البغوي)) (8/364)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 443)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/195). قال ابن جُزَي: (هو مشتَقٌّ مِن السجنِ بمعنى الحَبسِ؛ لأنَّه سببُ الحبسِ والتَّضييقِ في جهنَّمَ، أو لأنَّه مطروحٌ في مكانِ الهَوانِ والعذابِ كالسجنِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/461). .
مَرْقُومٌ: أي: مَكتوبٌ كِتابةً بَيِّنةً تُشبِهُ الرَّقْمَ في الثَّوبِ المَنسوجِ، وأصلُ (رقم): يدُلُّ على خَطٍّ وكِتابةٍ وما أشبهَ ذلك [66] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 519)، ((تفسير ابن جرير)) (24/197)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 239، 429)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/425)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/196). .
الدِّينِ: أي: الجزاءِ والحسابِ، يُقالُ: دِنْتُه بما صَنَع، أي: جازيتُه، وأصلُ (دين): جِنْسٌ مِن الانْقِيادِ، والذُّلِّ [67] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 38)، ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/23)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319)، ((البسيط)) للواحدي (23/298)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 323). .
أَثِيمٍ: أي: كثيرِ الإثمِ، مُتجاوِزٍ في الظُّلمِ، مُتمادٍ في الكُفرِ، وأصلُ (أثم): يدُلُّ على البُطءِ والتَّأخُّرِ؛ لأنَّ ذا الإثمِ بَطيءٌ عن الخَيرِ، متأخِّرٌ عنه [68] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 403)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/60)، ((المفردات)) للراغب (ص: 63)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 140، 377)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 40). .
أَسَاطِيرُ: أي: أباطيلُ، جمعُ أُسطُورةٍ، وهي: ما سُطِرَ مِن أخبارِ الأوَّلِينَ وكَذِبِهم، وأصلُ (سطر): يدُلُّ على اصطِفافِ شَيءٍ [69] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 37)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 57)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 94)، ((المفردات)) للراغب (ص: 409)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 116). .
رَانَ: أي: غَطَّى وغَلَب، والرَّيْنُ كالصَّدَأِ يَغْشَى القَلْبَ مِن كَثرةِ المعاصي والذُّنوبِ، وكُلُّ ما غَلَبَك وعَلاك فقد رانَ بك، وران عليك، وأصلُ (رين): يدُلُّ على غِطاءٍ وسَترٍ [70] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 519)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 243)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/470)، ((البسيط)) للواحدي (23/324)، ((المفردات)) للراغب (ص: 373)، ((تفسير البغوي)) (5/224). .
لَصَالُو الْجَحِيمِ: أي: لَداخِلو الجَحَيمِ ومُقاسونَ حَرَّها، والجحيمُ: النَّارُ، والصَّلَى أصلُه: الإيقادُ بالنَّارِ، وأصلُ (صلى) هنا: النَّارُ، وأصلُ (جحم): الحرارةُ وشِدَّتُها [71] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/206)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/429) و(3/300)، ((المفردات)) للراغب (ص: 490)، ((تفسير القرطبي)) (11/135). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى متوَعِّدًا ومهدِّدًا: فارتَدِعوا -أيُّها الفُجَّارُ الظَّلَمةُ- عمَّا أنتم فيه مِن التَّطفيفِ والغَفْلةِ عن البَعثِ والحِسابِ؛ إنَّ صَحيفةَ أعمالِ الفُجَّارِ مِنَ المُطَفِّفينَ وغَيرِهم في مكانٍ ضَيِّقٍ مِنَ الأرضِ السَّابعةِ، وما أعلَمَك -يا محمَّدُ- بحَقيقةِ سِجِّينٍ الموضوعِ فيه كتابُ أعمالِ الفُجَّارِ؟ كِتابُ الفُجَّارِ كِتابٌ مَكتوبةٌ فيه أعمالُهم.
عَذابٌ وهَلاكٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ الَّذين يُكَذِّبونَ بيَومِ الحِسابِ والجَزاءِ. ثمَّ يُبيِّنُ تعالى أوصافَ هؤلاءِ المكذِّبينَ، فيقولُ: وما يُكَذِّبُ بذلك اليَومِ إلَّا كُلُّ مُعتَدٍ على حُدودِ اللهِ، كَثيرِ الآثامِ، إذا تُلِيَت عليه آياتُ القُرآنِ قال مُكَذِّبًا: تلك أحاديثُ الأوَّلِينَ وخُرافاتُهم الَّتي سُطِرَت في الكُتُبِ مِن قَبْلُ!
ثمَّ يبيِّنُ سُبحانَه السَّببَ الَّذي حمَلَهم على أن يَقولوا في القرآنِ ما قالوا، فيقولُ: ارتَدِعوا وانزَجِروا عن هذه الأقوالِ؛ فليس الأمرُ كما زعَمْتُم أيُّها المعتَدُونَ الآثِمونَ، وإنَّما السَّبَبُ في افترائِهم هو كثرةُ الذُّنوبِ والخَطايا الَّتي حجَبَت قُلوبَهم عن الإيماِن بالقُرآنِ، كَلَّا إنَّ أولئك المكَذِّبينَ لَمَحجوبونَ يومَ القيامةِ عن رَبِّهم، فلا يَرَونَه أبَدًا، ثمَّ إنَّهم يَدخُلونَ النَّارَ، ويَحتَرِقونَ فيها، ثمَّ يُقالُ لهم تقريعًا وتَوبيخًا: هذا هو عذابُ النَّارِ الَّذي كنتُم في الدُّنيا تُكَذِّبونَ به؛ فذُوقوه!

تفسير الآيات:

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن عِظَمَ ذلك الذَّنْبِ؛ أتْبَعَه بذِكْرِ لواحِقِه وأحكامِه [72] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (31/86). .
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7).
أي: ليس الأمرُ كما يَظُنُّ هؤلاءِ الكفَّارُ أنَّهم غيرُ مبعوثينَ ولا مُعذَّبينَ، فلْيَرْتَدِعوا! إنَّ صَحيفةَ أعمالِ الفُجَّارِ مِنَ المُطَفِّفينَ وغَيرِهم في مكانٍ ضَيِّقٍ مِنَ الأرضِ السَّابعةِ [73] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/193)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/298)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/317، 318)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/194، 195). قال ابن الجوزي: (لَفِي سِجِّينٍ وفيها أربعةُ أقوالٍ؛ أحدُها: أنَّها الأرضُ السَّابعةُ... والثَّاني: أنَّ المعنى: إنَّ كتابَهم لَفي سفالٍ، قاله الحسَنُ. والثَّالثُ: لَفي خَسارٍ، قاله عِكْرِمةُ. والرَّابعُ: لَفي حبسٍ، فِعِّيلٌ مِن السِّجنِ، قاله أبو عُبَيْدةَ). ((تفسير ابن الجوزي)) (4/415). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ -أنَّ المرادَ الأرضُ السَّابعةُ السُّفلى-: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّيٌّ، والواحدي، والعُلَيمي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/622)، ((تفسير ابن جرير)) (24/193)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/8122)، ((الوسيط)) للواحدي (4/444)، ((تفسير العليمي)) (7/310)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 98). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عبدُ الله بنُ عَمرٍو، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، وقَتادةُ، ومجاهدٌ، والضَّحَّاكُ، وابنُ زَيدٍ، ومُغيثُ بنُ سُمَيٍّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/193، 195)، ((البسيط)) للواحدي (23/315). ونسَبَ الواحديُّ والرازيُّ هذا القولَ للأكثَرينَ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/315)، ((تفسير الرازي)) (31/86). قال الواحديُّ: (المعنى في الآيةِ: إنَّ كِتابَ عمَلَهِم يُوضَعُ في الأرضِ السَّابعةِ، وذلك علامةُ خَسارِهم، ودليلٌ على خَساسةِ مَنزلتِهم، ولا يُصعَدُ به إلى السَّماءِ كما يُصعَدُ بكتابِ المؤمِنِ، وهو قَولُه: إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المُطَفِّفين: 18]). ((الوسيط)) (4/444). وقال ابنُ كثير: (الصَّحيحُ أنَّ «سِجِّينًا» مأخوذٌ مِنَ السَّجْنِ، وهو الضِّيقُ؛ فإنَّ المخلوقاتِ كُلُّ ما تسافلَ منها ضاقَ، وكُلُّ ما تعالى منها اتَّسَع، فإنَّ الأفلاكَ السَّبعةَ كُلُّ واحدٍ منها أوسَعُ وأعلى مِن الَّذي دُونَه، وكذلك الأَرَضونَ كُلُّ واحدةٍ أوسَعُ مِنَ الَّتي دونَها، حتَّى ينتهيَ السُّفولُ المُطلَقُ والمحَلُّ الأضيَقُ إلى المركَزِ في وَسَطِ الأرضِ السَّابعةِ... وهو يَجمَعُ الضِّيقَ والسُّفولَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/349). وقيل: قولُه: لَفِي سِجِّينٍ فُسِّر بقولُه: كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين: 9] ، فكأنَّه قيل: إنَّ كتابَهم في كتابٍ مَرقومٍ. وممَّن اختاره: الزمخشريُّ، والنَّسَفي، وابنُ جُزَي، وأبو حيَّان، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/721)، ((تفسير النسفي)) (3/614)، ((تفسير ابن جزي)) (2/461)، ((تفسير أبي حيان)) (10/427)، ((تفسير أبي السعود)) (9/126). وممَّن اختار القولَ الرَّابعَ -أي: أنَّ المرادَ بقوله: لَفِي سِجِّينٍ: لَفي حَبْسٍ وضِيقٍ شديدٍ-: أبو عُبَيْدةَ، ونسَبَه القرطبيُّ والشَّوكانيُّ إلى الأخفَشِ والزَّجَّاجِ، وزاد الشوكانيُّ: المُبَرِّدَ. يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/289)، ((تفسير القرطبي)) (19/258)، ((تفسير الشوكاني)) (5/ 484). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/298). قال القرطبي: (المعنى [أي: على هذا القولِ]: كتابُهم في حبسٍ، جُعِل ذلك دليلًا على خَساسةِ منزلتِهم، أو لأنَّه يحلُّ مِن الإعراضِ عنه والإبعادِ له محلَّ الزَّجرِ والهَوانِ). ((تفسير القرطبي)) (19/258). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/298). !
عن البَراءِ بنِ عازبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في حديثِه الطَّويلِ في صفةِ قبضِ الرُّوحِ، ونعيمِ القبرِ وعذابِه: ((فيقولُ اللهُ عزَّ وجَلَّ: اكتُبُوا كِتابَه في سِجِّينٍ في الأرضِ السُّفْلى، فتُطرَحُ رُوحُه طَرْحًا )) [74] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف)) (12059)، وأحمدُ (18534)، والطَّيالِسيُّ (789)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (107) بألفاظٍ متقاربةٍ. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1676) و((صحيح الترغيب)) (3558)، وحسَّنه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/280)، وابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (4/290). وصحَّح إسنادَه الطبريُّ في ((مسند ابن عمر)) (2/494)، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (1/300)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (30/503)، وقال ابن منده في ((الإيمان)) (398): (إسنادُه متَّصِلٌ مشهورٌ ثابتٌ على رسمِ الجماعةِ). .
وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8).
أي: وما أعلَمَك -يا محمَّدُ- بحَقيقةِ سِجِّينٍ الموضوعِ فيه كتابُ أعمالِ الفُجَّارِ [75] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/197)، ((تفسير ابن كثير)) (8/349)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/318)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 98). قال ابنُ عطيَّة: (قولُه تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ تعظيمٌ لأمرِ هذا السِّجِّينِ، وتَعجُّبٌ منه. ويحتَمِلُ أن يكونَ تقريرَ استفهامٍ، أي: هذا ممَّا لم يكُنْ يَعرِفُه قبْلَ الوَحْيِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/451). ومِمَّن قال بالمعنى الأول: ابنُ كثير، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (8/ 349)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/195)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 98). ومِمَّن ذهب إلى الاحتِمالِ الآخَرِ: الزَّجَّاجُ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/298)، ((تفسير القرطبي)) (19/258). ؟
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9).
أي: كِتابُ الفُجَّارِ هذا كِتابٌ مَسطورةٌ فيه أعمالُهم بوُضوحٍ دونَ زيادةٍ أو نَقْصٍ [76] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/197)، ((الوسيط)) للواحدي (4/444)، ((تفسير القرطبي)) (19/258)، ((تفسير ابن كثير)) (8/350)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/319)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/196)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 98). ممَّن اختار القولَ المذكورَ -أي: أنَّ مَرْقُومٌ بمعنى: مكتوب، قد كُتبتْ فيه أعمالُهم وسُطرَتْ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، وابنُ أبي زَمَنِين، ومكِّي، وابن عطية، وابن الجوزي، والخازن، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي، وابن عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/193)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/298)، ((تفسير السمرقندي)) (3/557)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/107)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/ 8125)، ((تفسير ابن عطية)) (5/451)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/415)، ((تفسير الخازن)) (4/404)، ((تفسير العليمي)) (7/310)، ((تفسير الشوكاني)) (5/484)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/196)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 98). وقال الثعلبيُّ والبغوي والقرطبي في الجملة: كِتَابٌ مَرْقُومٌ مكتوبٌ، مُثبَتٌ عليهم، كالرَّقْمِ في الثَّوبِ، لا يُنسى ولا يُمحى حتَّى يُجازَوا به. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/153)، ((تفسير البغوي)) (5/224)، ((تفسير القرطبي)) (19/258). وقيل: كِتَابٌ مَرْقُومٌ أي: مختومٌ. وممَّن اختاره: جلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 797). قال الرازي: (معنى قولِه: كِتَابٌ مَرْقُومٌ... فيه وُجوهٌ؛ أحدُها: مَرْقُومٌ أي: مكتوبةٌ أعمالُهم فيه. وثانيها: قال قَتادةُ: رُقِم لهم بسوءٍ، أي: كُتِب لهم بإيجابِ النَّارِ. وثالثُها: قال القَفَّالُ: يحتملُ أن يكونَ المرادُ: أنَّه جُعِل ذلك الكتابُ مَرقومًا، كما يَرقُمُ التَّاجرُ ثوبَه علامةً لقيمتِه، فكذلك كتابُ الفاجِرِ جُعِل مَرقومًا برقْمٍ دالٍّ على شقاوتِه. ورابعُها: المرقومُ هاهنا: المختومُ. قال الواحديُّ: وهو صحيحٌ؛ لأنَّ الختمَ علامةٌ، فيجوزُ أن يُسمَّى المختومُ مرقومًا. وخامِسُها: أنَّ المعنى: كتابٌ مُثبَتٌ عليهم كالرَّقْمِ في الثَّوبِ لا يَنْمَحي). ((تفسير الرازي)) (31/ 87). ويُنظر: ((البسيط)) للواحدي (23/322). .
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أعلَمَ هذا بما للكِتابِ مِنَ الشَّرِّ؛ استأنَفَ الإخبارَ بما أنتَجَه مِمَّا لأصحابِه؛ فقال [77] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/319). :
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ [78] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/622)، ((تفسير ابن جرير)) (24/198)، ((تفسير ابن عطية)) (5/451)، ((تفسير القرطبي)) (19/259)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/320). !
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11).
أي: الَّذين يُكَذِّبونَ في الدُّنيا بيَومِ الحِسابِ والجَزاءِ، فيُنكِرونَ البَعْثَ يومَ القيامةِ [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/198)، ((تفسير القرطبي)) (19/259)، ((تفسير ابن كثير)) (8/350)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 98). .
وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12).
أي: وما يُكَذِّبُ بذلك اليَومِ إلَّا كُلُّ مُعتَدٍ على حُدودِ اللهِ، ظالمٍ لعِبادِ اللهِ، مُبالِغٍ في الانهِماكِ في المحَرَّماتِ، كَثيرِ الآثامِ والسَّيِّئاتِ [80] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/259)، ((تفسير ابن كثير)) (8/350)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/320)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/197). .
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13).
أي: إذا تُلِيَت عليه آياتُ القُرآنِ قال مُكَذِّبًا: تلك أحاديثُ الأوَّلِينَ وخُرافاتُهم الَّتي سُطِرَت في الكُتُبِ مِن قَبْلُ [81] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/199)، ((تفسير القرطبي)) (19/259)، ((تفسير ابن كثير)) (8/350)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/198)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 99). !
كما قال تعالى: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان: 5].
وقال الله سُبحانَه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24] .
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أنْ ذكر أنَّهم قالوا: إنَّ القرآنَ أساطيرُ الأوَّلينَ، وليس وحيًا مِن عندِ الله- أردَفَ ذلك بيانَ أنَّ الَّذي جرَّأهم على ذلك هى أفعالُهم القبيحةُ [82] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (30/77). .
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14).
أي: ليس القُرآنُ بأساطيرِ الأوَّلِينَ كما يَزعُمُ المكَذِّبونَ، ولكِنَّ الَّذي حمَلَهم على التَّكذيبِ بالحَقِّ وتَرْكِ الإيمانِ به أنَّه غَطَّى على قُلوبِهم وأحاط بها ما كانوا يَعمَلونَه مِن الذُّنوبِ المُتتابِعةِ، حتَّى اسْوَدَّت قُلوبُهم، فرَأَوُا الحَقَّ باطِلًا [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/199)، ((تفسير القرطبي)) (19/259)، ((تفسير ابن كثير)) (8/350)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915، 916)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/200)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 99، 100). .
كما قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف: 57] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ المؤمِنَ إذا أَذنَبَ كانت نُكتةٌ [84] النُّكْتةُ: أثَرُ الذَّنْبِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (4/1622). سَوداءُ في قَلْبِه، فإنْ تاب ونَزَع واستغفَرَ، صُقِلَ [85] صُقِلَ قَلْبُه: أي: محا الله تلك النُّكتةَ عن قلبِه فيَنْجلي. يُنظر: ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (8/42). قَلْبُه، فإن زاد زادت، فذلك الرَّانُ الَّذي ذكَرَه اللهُ في كِتابِه: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [86] أخرجه الترمذيُّ (3334)، والنسائيُّ في ((السنن الكبرى)) (11658)، وابنُ ماجه (4244) واللَّفظُ له، وأحمدُ (7952). قال الترمذي: (حسَنٌ صحيحٌ). وصَحَّحه ابن جريرٍ الطبريُّ في ((التفسير)) (1/147)، وابنُ حِبَّانَ في ((صحيحه)) (930)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (6)، وحَسَّنه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (4244). .
وعن حُذَيفةَ رَضِيَ الله عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ كالحَصيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلبِ أُشرِبَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ [87] نُكِتَ فيه نُكتةٌ: أي: نُقِطَتْ وأَثَّرَتْ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (8/3378). سوداءُ، وأيُّ قَلبٍ أنكَرَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتَّى تَصيرَ على قَلْبَينِ؛ على أبيضَ مِثلِ الصَّفا [88] الصَّفا: الحَجَر الأملَس؛ مِن غايةِ البَياضِ والصَّفاءِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/ 3378). ، فلا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبَادًّا [89] مُربادًّا: أي: صار كلَونِ الرَّمادِ؛ مِنَ الرُّبْدةِ: لونٌ بيْن السَّوادِ والغُبرةِ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (2/183). كالكُوزِ مُجَخِّيًا [90] كالكُوزِ مُجَخِّيًا: أي: كالكوزِ المائِلِ المنكوسِ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (8/3378). ، لا يَعرِفُ مَعروفًا ولا يُنكِرُ مُنكَرًا إلَّا ما أُشرِبَ مِن هَواه ) [91] رواه مسلم (144). .
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15).
أي: كَلَّا [92] قيل: المرادُ: نَفْيُ ما كان يقولُه هؤلاء المكَذِّبونَ بيومِ الدِّينِ مِن أنَّ لهم عندَ الله زُلْفةً. ومِمَّن قال بهذا المعنى: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/204). وقيل: المرادُ: نَفْيُ ما ادَّعَوه مِن أنَّ القُرآنَ أساطيرُ الأوَّلِينَ، فهو ليس كذلك لا في الواقِعِ ولا في قَرارةِ أنفُسِهم؛ فلْيَرتَدِعوا عن ذلك أعظَمَ ارتِداعٍ. ومِمَّن قال بهذا المعنى: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/323). إنَّ أولئك المكَذِّبينَ لَمَحجوبونَ يومَ القيامةِ عن رَبِّهم، فلا يَرَونَه أبَدًا [93] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/204)، ((تفسير ابن كثير)) (8/351)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915، 916)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/201)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 100). .
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن ما لَهم مِنَ العَذابِ بالحِجابِ الَّذي هو عذابُ القَلْبِ الَّذي لا عذابَ أشَدُّ منه؛ لأنَّه يتفَرَّعُ عنه جميعُ العَذابِ- شَرَع يُبَيِّنُ بَعضَ ما تفَرَّعَ عنه مِن عذابِ القالَبِ، مؤكِّدًا مِن أجْلِ إنكارِهم، مُعَبِّرًا بأداةِ التَّراخي إعلامًا بعُلُوِّ رُتبتِه في أنواعِ العَذابِ، فقال [94] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/324). :
ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16).
أي: ثمَّ إنَّهم مع حِرْمانِهم رُؤيةَ اللهِ يَدخُلونَ النَّارَ، ويَحتَرِقونَ فيها [95] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/206)، ((تفسير القرطبي)) (19/262)، ((تفسير ابن كثير)) (8/351)، ((تفسير السعدي)) (ص: 915)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/201). .
كما قال تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار: 14 - 16].
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن ما لَهم مِنَ الفِعْلِ الَّذي هو للقَلْبِ والقالَبِ؛ أتْبَعَه القَولَ بالتَّوبيخِ والتَّبكيتِ الَّذي هو عذابُ النَّفْسِ [96] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/324). .
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17).
أي: ثمَّ يُقالُ لهم تقريعًا وتَوبيخًا: هذا هو عذابُ النَّارِ الَّذي كنتُم في الدُّنيا تُكَذِّبونَ به؛ فذُوقوه الآنَ في الآخِرةِ [97] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (24/206)، ((تفسير ابن كثير)) (8/351)، ((تفسير ابن عثيمين- جزء عم)) (ص: 102). !
كما قال تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [الذاريات: 13-14].

الفوائد التربوية:

1- قال تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ فردَع المطفِّفينَ عمَّا كانوا عليه مِن التَّطفيفِ، والغفلةِ عن البعثِ والحسابِ، ونَبَّهَهم على أنَّه ممَّا يَجِبُ أنْ يُتابَ عنه ويُندَمَ عليه بقوله: كَلَّا، ثمَّ أَتْبعه وَعيدَ الفُجَّارِ على العُمومِ بقولِه: إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [98] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/721). .
2- في قَولِه تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ التَّحذيرُ مِن الذُّنوبِ؛ فإنَّها تَرِينُ على القَلْبِ، وتُغَطِّيه شَيئًا فشَيئًا؛ حتَّى يَنطَمِسَ نُورُه، وتموتَ بَصيرتُه؛ فتَنقَلِبَ عليه الحقائِقُ، فيَرى الباطِلَ حَقًّا، والحَقَّ باطِلًا! وهذا مِن بَعضِ عُقوباتِ الذُّنوبِ [99] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 916). .
فالمُبادَرةُ بالعَمَلِ السَّيِّئِ سَبَبٌ لطَمسِ البَصيرةِ والطَّبعِ والرَّانِ على القُلوبِ، كما بيَّنَه اللهُ تعالى في آياتٍ كثيرةٍ، ومنها هذه الآيةُ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، وقَولُه تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] ، وقَولُه جَلَّ وعلا: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [100] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/128). [الصف: 5] .
3- قال تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ فوصَفَهم بأنَّ كَسْبَهم رانَ على قُلوبِهم، والرَّانُ: هو ما يَعلو على القَلبِ مِن الذُّنوبِ مِن ظُلمةِ المعاصي وقَسْوتِها، ثَّم ذَكَر جزاءَهم على ذلك، وهو ثلاثةُ أنواعٍ: الحِجابُ عن رَبِّهم، ثَّم صِلِيُّ الجَحيمِ، ثمَّ التَّوبيخُ.
فأعظَمُ عَذابِ أهلِ النَّارِ حِجابُهم عن رَبِّهم عَّز وجَلَّ، ولَمَّا كانت قُلوبُهم في الدُّنيا مُظلِمةً قاسِيةً، لا يَصِلُ إليها شيءٌ مِن نورِ الإيمانِ وحقائِقِ العِرفانِ، كان جزاؤُهم على ذلك في الآخِرةِ حِجابَهم عن رؤيةِ الرَّحمنِ.
قال بعضُ العارفينَ: «مَن عَرَف اللهَ في الدُّنيا عَرَفه بقَدْرِ تعَرُّفِه إليه، وتجلَّى له في الآخِرةِ بقَدْرِ مَعرفتِه إيَّاه في الدُّنيا، فرآه في الدُّنيا رؤيةَ الأسرارِ، ويراه في الآخِرةِ رُؤيةَ الأبصارِ، فمَن لا يراه في الدُّنيا بسِرِّه، لا يراه في الآخِرةِ بعَينِه» انتهى. فخَوفُ العارفينَ في الدُّنيا مِن احتِجابِه عن بصائِرِهم، وفي الآخِرةِ مِن احتِجابِه عن أبصارِهم ونواظِرِهم [101] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (3/370). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ إشارةٌ إلى أنَّ كِتابَهم إذا كان في سِجنٍ عَظيمٍ، أي: ضيقٍ شَديدٍ؛ كانوا هم في أعظَمَ [102] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/318). !
2- في قَولِه تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ أنَّ اسمَ الفاجِرِ في عُرْفِ القُرآنِ والسُّنَّةِ يتناولُ الكافِرَ قَطْعًا [103] يُنظر: ((الروح)) لابن القيم (ص: 85). .
3- قَولُه تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ استُدِلَّ به على أنَّ النَّارَ في الأرضِ، فـ «سِجِّينٌ» هي الأرضُ السُّفلى، كذلك جاء في الحديثِ فيمَنِ احتُضِرَ وقُبِضَ مِن الكافِرينَ؛ فإنَّها لا تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ اللهُ تعالى: ((اكتُبُوا كِتابَ عبدي في سِجِّينٍ في الأرضِ السُّفلَى، وأعيدُوه إلى الأرضِ)) [104] أخرجه ابنُ أبي شَيْبةَ في ((المصنَّف)) (12059)، وأحمدُ (18534)، والطَّيالِسيُّ (789)، والحاكمُ في ((المستدرك)) (107) بألفاظٍ متقاربةٍ. صحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (1676) و((صحيح الترغيب)) (3558)، وحسَّنه المُنذِريُّ في ((الترغيب والترهيب)) (4/280)، وابنُ تيميَّةَ في ((مجموع الفتاوى)) (4/290). وصحَّح إسنادَه الطبريُّ في ((مسند ابن عمر)) (2/494)، والبَيْهَقيُّ في ((شُعَب الإيمان)) (1/300)، وشعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (30/503)، وقال ابن منده في ((الإيمان)) (398): (إسنادُه متَّصِلٌ مشهورٌ ثابتٌ على رسمِ الجماعةِ). . ولو كانتِ النَّارُ في السَّماءِ لَكانت تُفَتَّحُ لهم أبوابُ السَّماءِ لِيَدخُلوها، وإذا كانت في السَّماءِ لَزِمَ مِن دُخولِهم في النَّارِ -الَّتي في السَّماءِ- أنْ تُفَتَّحَ أبوابُ السَّماءِ [105] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (2/60). وتُنظر الآثارُ الواردةُ في مكانِ جهنَّمَ في: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 62). !
4- كُلَّما عَلَت الجِهةُ اتَّسَعَت، وكُلَّما سَفَلت ضاقَت؛ فلهذا كان الأعلى هو الأوسَعَ، وكان الأسفَلُ هو الأضيقَ؛ ولهذا قابَلَ اللهُ تعالى بيْن عِلِّيِّينَ وبيْن سِجِّينٍ في كتابِه، فقال: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المُطَفِّفين: 18] كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، ولَم يَقُلْ: «في سِفْلِين» كما لَم يَقُلْ هناك: «في وِسْعِين»؛ لِيُبَيِّنَ الضِّيقَ والحَرَجَ الَّذي في المكانِ، كما بَيَّنَ سُفُولَه بمقابلتِه بـ «عِلِّيِّين»، وبَيَّنَ أيضًا سَعَةَ «عِلِّيِّين» بمُقابلةِ «سِجِّين»؛ فيكونُ قد دلَّ على العُلُوِّ والسَّعةِ الَّتي للأبرارِ، وعلى السُّفولِ والضِّيقِ الَّذي للفُجَّارِ [106] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (4/30). .
5- قال اللهُ تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ التَّكذيبُ بيَومِ الجزاءِ هو مَنشَأُ الإقدامِ على السَّيِّئاتِ والجرائِمِ؛ ولذلك أعقَبَه بقَولِه: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: إنَّ تَكذيبَهم به جَهلٌ بحِكمةِ اللهِ تعالى في خَلْقِ النَّاسِ وتَكليفِهم؛ إذ الحِكمةُ مِن خَلْقِ النَّاسِ تقتضي تحسينَ أعمالِهم، وحِفْظَ نِظامِهم؛ فلذلك جاءتهم الشَّرائعُ آمِرةً بالصَّلاحِ، وناهيةً عن الفَسادِ، ورَتَّب لهم الجزاءَ على أعمالِهم الصَّالحةِ بالثَّوابِ والكَرامةِ، وعلى أعمالِهم السَّيِّئةِ بالعَذابِ والإهانةِ؛ كلٌّ على حَسَبِ عَمَلِه، فلو أهمَلَ الخالِقُ تَقويمَ مَخلوقاتِه، وأهمَلَ جزاءَ الصَّالحينَ والمُفسِدينَ؛ لم يكُنْ ذلك مِن حِكمةِ الخَلْقِ؛ قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [107] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/196). [المؤمنون: 115-116] .
6- في قَولِه تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إلى قَولِه: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، وقولِه تعالى: وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: 29-30] أنَّ مَن كَذَّبَ بالبَعْثِ فهو كافِرٌ [108] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (6/147). .
7- إذا طَبَعَ اللهُ على قَلبِ العَبْدِ فإنَّه يرى الباطِلَ حَقًّا، والحَقَّ باطِلًا، كما قال اللهُ تبارك وتعالى: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يعني: كَلَّا ليس أساطيرَ الأوَّلِينَ، ولكِنْ لَمَّا كان هذا الإنسانُ قد كَسَب معاصيَ وآثامًا أظلَمَ بها قَلْبُه، اجتمَعَت هذه الآثامُ على القَلْبِ وصار لا يرى القرآنَ العظيمَ إلَّا كحِكاياتِ الأوَّلينَ، لم يَذُقْ له طَعْمًا، ولم يَستَنِرْ به قَلْبُه. والعِياذُ باللهِ [109] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (12/647). .
8- في قَولِه تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أنَّ المعاصيَ تَحُولُ بيْن الإنسانِ وبَيْنَ الفِقهِ في دِينِ اللهِ [110] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الأنعام)) (ص: 136). .
9- في قَولِه تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ أنَّ أهلَ النَّارِ كما حُجِبَتْ قلوبُهم في الدُّنيا عن اللهِ، حُجِبُوا في الآخرةِ عن رؤيتِه، وهذا بخِلافِ حالِ أهلِ الجَنَّةِ؛ قال اللهُ تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ [يونس: 26] ، والَّذين أَحسَنوا هم أهلُ الإحسانِ، والإحسانُ أنْ يَعْبُدَ العبدُ ربَّه كأنَّه يَراه، كما فَسَّرَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم لَمَّا سألَه عنه جبريلُ عليه السَّلامُ، فجَعَل جزاءَ الإحسانِ الحُسْنى -وهي الجَنَّةُ-، والزِّيادةَ -وهي النَّظرُ إلى وجهِ اللهِ عزَّ وجلَّ- كما فَسَّرَه بذلك رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم في حديثِ صُهَيبٍ وغَيرِه [111] يُنظر: ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 196). ويُنظر ما أخرجه مسلمٌ (181) من حديثِ صُهَيبٍ رضيَ الله عنه. .
10- في قَولِه تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ رَدٌّ على مَن زَعَم أنَّ الكُفَّارَ يَرَونَه تعالى يومَ القيامةِ [112] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 284). ، ومفهومُ الآيةِ أنَّ المؤمِنينَ يَرَونَ رَبَّهم يومَ القيامةِ وفي الجَنَّةِ، ويتَلَذَّذونَ بالنَّظَرِ إليه أعظَمَ مِن سائِرِ اللَّذَّاتِ، ويبتَهِجونَ بخِطابِه، ويَفرَحونَ بقُرْبِه [113] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 916). ، وقد احتجَّ بهذه الحُجَّةِ الشَّافعيُّ نفْسُه وغيرُه مِن الأئمَّةِ، ووَجْهُ الاستِدلالِ بها أنَّه سُبحانَه وتعالى جعَلَ مِن أعظمِ عُقوبةِ الكُفَّارِ كونَهم محجوبينَ عن رؤيتِه واستِماعِ كلامِه، فلو لم يَرَه المؤمِنونَ ولم يَسمَعوا كلامَه لَكانوا أيضًا مَحجوبينَ عنه [114] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 292). ويُنظر أيضًا: ((مناقب الشافعي)) للبيهقي (1/419). !
11- قِيل هنا: عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، دونَ أنْ يُقالَ: (عن رُؤيةِ ربِّهم)، أو (عن وجْهِ ربِّهم)؛ ليَكونَ الكلامُ مُفيدًا لِمَعنيينِ: حَجْبِهم عن ربِّهم -والحجبُ هو السَّترُ- والإهانةِ؛ فالحجْبُ يُستعمَلُ في المنْعِ مِن الحُضورِ لَدَى الملِكِ ولَدَى سيِّدِ القَومِ، وكِلا المعنيَينِ مُرادٌ هنا؛ لأنَّ المكذِّبين بيومِ الدِّينِ لا يَروَن اللهَ يومَ القِيامةِ حينَ يَراهُ أهلُ الإيمانِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/200، 201). .
12- قال اللهُ تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ مَن رانَ على قَلْبِه كَسْبُه، وغَطَّتْه معاصيه، فإنَّه محجوبٌ عن الحَقِّ؛ ولهذا جُوزِيَ على ذلك بأن حُجِبَ عن اللهِ كما حُجِبَ قَلْبُه في الدُّنيا عن آياتِ اللهِ [116] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 915). .
13- قال تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ فجَمَعَ عليهم نَوعَيِ العذابِ: عَذابِ النَّارِ، وعذابِ الحِجابِ عنه سُبحانَه، كما جَمَعَ لأوليائِه نَوعَيِ النَّعيمِ: نعيمِ التَّمَتُّعِ بما في الجَنَّةِ، ونعيمِ التَّمَتُّعِ برُؤيتِه تعالى [117] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/32). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ كَلَّا إبْطالٌ ورَدْعُ لِما تَضمَّنَتْه جُملةُ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ [المطففين: 4] مِن التَّعجيبِ مِن فِعلِهم التَّطفيفَ، وكذا الغفلةُ عن البعثِ والحِسابِ، والمَعنى: كَلَّا بل هم مَبْعوثون لذلك اليَومِ العَظيمِ، ولتَلَقِّي قَضاءِ رَبِّ العالَمينَ؛ فهي جَوابٌ عمَّا تَقدَّمَ [118] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/721)، ((تفسير البيضاوي)) (5/294)، ((تفسير أبي حيان)) (10/427)، ((تفسير أبي السعود)) (9/126)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/194)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/410). .
- قولُه: إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ... إلخ، استِئنافٌ ابتِدائيٌّ بمُناسَبةِ ذِكرِ يومِ القِيامةِ، وهو تَعريضٌ بالتَّهديدِ للمُطفِّفين بأنْ يَكونَ عَملُهم موجِبًا كَتْبَه في كِتابِ الفُجَّارِ [119] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/194). .
وقيل: إنَّ قولَه: إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ... إلخ، تعليلٌ للرَّدْعِ أو وُجوبِ الارتِداعِ بطَريقِ التَّحقيقِ [120] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/126). .
- والتَّعريفُ في الْفُجَّارِ للجِنسِ مُرادٌ به: الِاستِغراقُ، أي: جَميعُ المُشرِكينَ؛ فيَعُمُّ المُطفِّفينَ وغَيرَ المُطفِّفينَ. وشُمولُ عُمومِ الفُجَّارِ لجَميعِ المُشرِكين؛ المُطفِّفينَ منهم وغَيرِ المُطفِّفين، يُعنى به: أنَّ المُطفِّفينَ منهم والمَقصودُ الأوَّلُ مِن هذا العُمومِ؛ لأنَّ ذِكرَ هذا الوَصفِ والوَعيدِ عليه عَقِبَ كَلِمةِ الرَّدْعِ عن أعمالِ المُطفِّفينَ قَرينةٌ على أنَّ الوَعيدَ مُوَجَّهٌ إليهم [121] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/194). .
- وفي قولِه: إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ أظهَرَ مَوضِعَ الإضمارِ؛ تعميمًا، وتعليقًا للحُكمِ بالوصفِ [122] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/318)، ((تفسير الشربيني)) (4/501). .
- ومَحمَلُ قولِه: لَفِي سِجِّينٍ إنْ كان على ظاهِرِ الظَّرفيَّةِ، كان المَعنى: إنَّ كُتُبَ أعمالِ الفُجَّارِ مُودَعةٌ في مكانٍ اسمُه سِجِّينٌ، أو وَصفُه سِجِّينٌ، وذلك يُؤذِنُ بتَحقيرِه، أي: تَحقيرِ ما احْتَوى عليه مِن أَعمالِهم المَكتوبةِ فيه. وإنْ حُمِلَت الظَّرفيَّةُ في قولِه: لَفِي سِجِّينٍ على غَيرِ ظاهِرِها، فجَعْلُ كِتابِ الفُجَّارِ مَظروفًا في سِجِّينٍ مُعبَّرٌ به عن جَعْلِ الأعمالِ المُحصاةِ فيه في سِجِّينٍ، وذلك كِنايةٌ رَمزيَّةٌ عن كَونِ الفُجَّارِ في سِجِّينٍ [123] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/195). .
- وجُملةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ مُعتَرِضةٌ بيْنَ جُملةِ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وجُملةِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، وهي تَهويلٌ لأَمرِ السِّجِّينِ تَهويلَ تَفظيعٍ لحالِ الواقِعينَ فيه، أي: هو بحَيثُ لا يَبلُغُه دِرايةُ أحَدٍ [124] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/126)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/195). .
- قَولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ الاستِفهامُ فيه هو مِن بابِ تفخيمِ الأمرِ وتعظيمِه، وكذلك قولُه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ [125] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (2/408). [المطففين: 19] .
- وقولُه: كِتَابٌ مَرْقُومٌ خَبرٌ عن ضَميرٍ مَحذوفٍ يَعودُ إلى كِتَابَ الْفُجَّارِ، والتَّقديرُ: هو -أي: كِتابُ الفُجَّارِ- كِتابٌ مَرقومٌ، وهذا مِن حَذفِ المُسنَدِ إليه الَّذي اتُّبِعَ في حَذفِه استِعمالُ العَرَبِ [126] وهو ما يُسمَّى بمُتابعةِ الاستعمالِ؛ وذلك أنَّ العرَبَ إذا أجْرَوا حَديثًا على شَيءٍ، ثمَّ أخبَروا عنه، الْتَزَموا حَذفَ ضَميرِه الَّذي هو مُسنَدٌ إليه؛ إشارةً إلى التَّنويهِ به كأنَّه لا يَخْفى. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 176)، ((تفسير ابن عاشور)) (22/347). إذا تَحدَّثوا عن شَيءٍ ثمَّ أرادوا الإخْبارَ عنه بخَبرٍ جَديدٍ [127] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/195، 196). .
- والمَرقومُ: المَكتوبُ كِتابةً بَيِّنةً تُشبِهُ الرَّقْمَ في الثَّوبِ المَنسوجِ، وهذا الوَصفُ: مَرْقُومٌ يُفيدُ تأكيدَ ما يُفيدُه لَفظُ كِتَابٌ [128] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/196). .
2- قولُه تعالَى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
- جُملةُ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ يَجوزُ أنْ تَكونَ مُبيِّنةً لمَضمونِ جُملةِ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ [المطففين: 4-5] ؛ فإنَّ قولَه: يَوْمَئِذٍ يُفيدُ تَنوينُه جُملةً مَحذوفةً جُعِلَ التَّنوينُ عِوَضًا عنها، تَقديرُها: يومَ إذ يَقومُ النَّاسُ لرَبِّ العالَمين وَيلٌ فيه للمُكذِّبين. ويَجوزُ أنْ تَكونَ ابتِدائيَّةً، وبيْنَ المُكذِّبين بيَومِ الدِّينِ والمُطفِّفين عُمومٌ وخُصوصٌ وَجهيٌّ [129] عُمومٌ وخُصوصٌ وَجْهيٌّ: هو أنْ يَجتمِعَ الطَّرَفانِ في صُورةٍ، ويَنفَرِدَا في صُورةٍ؛ مثلًا: الحمدُ والشُّكرُ، يَجتَمِعانِ في أنَّهما ثَناءٌ باللِّسانِ، ويَنفرِدُ الحمدُ في صُورةٍ؛ وهي: الثَّناءُ على الصِّفاتِ الحميدةِ، ويَنفَرِدُ الشُّكرُ في صُورةٍ؛ هي: الثَّناءُ بالقلبِ. يُنظر: ((التحبير)) للمَرْداوي (1/42). ؛ فمِن المُكذِّبين مَن هم مُطفِّفون، ومِن المُطفِّفين مُسلِمون وأهلُ كِتابٍ لا يُكذِّبون بيَومِ الدِّينِ؛ فتَكونُ هذه الجُملةُ إدْماجًا لتَهديدِ المُشرِكين المُكذِّبين بيَومِ الدِّينِ، وإنْ لم يَكونوا مِن المُطفِّفين [130] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/196). .
- وقدْ ذُكِرَ المُكذِّبون مُجمَلًا في قولِه: لِلْمُكَذِّبِينَ، ثمَّ أُعيدَ مُفصَّلًا ببَيانِ مُتعَلَّقِ التَّكْذيبِ، وهو بِيَوْمِ الدِّينِ؛ لزِيادةِ تَقريرِ تَكذيبِهم في أذْهانِ السَّامِعينَ منهم ومِن غَيرِهم مِن المُسلِمينَ وأهلِ الكِتابِ؛ فالصِّفةُ هنا للتَّهديدِ، وتَحذيرِ المُطفِّفين المُسلِمينَ مِن أنْ يَستَخِفُّوا بالتَّطفيفِ فيَكونوا بمَنزِلةِ المُكذِّبين بالجَزاءِ عليه [131] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/196). .
- وفي قولِه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيث أُفرِدَت هذه الآيةُ في هذه السُّورةِ، وتَكرَّرت في سُورةِ (المرسَلاتِ) عشْرَ مرَّاتٍ؛ قيل: ذلك لأنَّ قولَه: (وَيلٌ لهم) كَلمةٌ تُقالُ في كلِّ مَن وقَعَ في هَلَكةٍ لا يُرْجَى خَلاصُه منها، وفي هذه السُّورةِ مَذكورةٌ مَرَّةً واحدةً؛ لأنَّها مَقصورةٌ على التَّرهيبِ مِن النَّارِ ووَصْفِها ومُعاقَبةِ أهْلِها، وعلى التَّرغيبِ في الجنَّةِ ونَعيمِ أهْلِها؛ ليس في السُّورةِ غيرُ هذَين المعْنيَينِ، فلمَّا جُرِّدتْ لهما ذُكِرتِ الكلِمةُ عِندَ ذِكرِ ما كُتِب على المكذِّبين وأعلَمَ به كِتابُهم بما يكونُ إليه مآلُهُم، ثمَّ شُرِعَ في وَصْفِ كِتابِ الأبرارِ ومَحلِّه وتَبعيدِ ما بيْن جَزائِهم وجَزاءِ غيرِهم؛ فاكْتُفِيَ بذِكرِ الكلمةِ مرَّةً لِما بُنِيَ على اختصارِ السُّورةِ [132] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1349). .
أمَّا التَّكرارُ في سورةِ (المُرسَلاتِ) فلأنَّ كلَّ جُملةٍ منها فيها إخبارُ اللهِ تعالَى عن أشياءَ مِن أحوالِ الآخرةِ وتَقريراتٍ مِن أحوالِ الدُّنيا، فناسَبَ أنْ يُذكَرَ الوعيدُ عَقِيبَ كلِّ جُملةٍ منها للمُكذِّبِ بالوَيلِ في يومِ الآخرةِ [133] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/379). .
- قولُه: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَصْفٌ لِلذَّمِّ لا للبَيانِ، كَقولِك: فَعَلَ ذلك فُلانٌ الفاسِقُ الخَبيثُ، فليسَ قولُه: الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ صِفةً كاشِفةً [134] الصِّفةُ الكاشفةُ: هي الَّتي تُبيِّنُ الواقعَ، ولا تُقيِّدُ المَوصوفَ؛ لأنَّ الصِّفاتِ منها صِفةٌ مقيِّدةٌ تُخرِجُ ما سِواه، ومنها صفةٌ كاشِفةٌ تبيِّنُ حقيقةَ أمرِه، فهي خبرٌ عن المَوصوفِ عندَ التَّحقيقِ، تبيِّنُ ماهيَّةَ الشَّيءِ بأن تكونَ وصفًا لازمًا مختصًّا به. والصِّفةُ إذا كان لها مفهومٌ فهي مقيِّدةٌ، وإن لم يكن لها مفهومٌ فهي كاشِفةٌ، أي: مبيِّنةٌ للحقيقةِ، مثالُ ذلك: قولُه تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] ، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ صفةٌ كاشفةٌ، ولا مفهومَ مخالفةٍ له، فلا يصحُّ لأحدٍ أن يقولَ: أمَّا مَن عبَدَ معه إلهًا آخَرَ له بُرهانٌ به فلا مانعَ مِن ذلك! لاستِحالةِ وُجودِ بُرهانٍ على عبادةِ إلهٍ آخَرَ معه، فقولُه: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وصفٌ مطابقٌ للواقعِ؛ لأنَّهم يَدْعون معه غيرَه بلا بُرهانٍ، فذِكْرُ الوصفِ لموافقتِه الواقِعَ، لا لإخراجِ المفهومِ عن حُكمِ المنطوقِ. ومِن ذلك قولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] ، وقولُه: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33] . يُنظر: ((الكليات)) للكفوي (ص: 545)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/364، 365)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 27)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (8/ 299، 314)، ((دراسات أصولية في القرآن الكريم)) للحفناوي (ص: 22). للمُكذِّبين؛ لكَونِهم مَعلومينَ، ولا هي فارِقةٌ؛ لأنَّه لم يُرَدْ تَمييزُهم عن غَيرِهم، بل مَرفوعٌ أو مَنصوبٌ على الذَّمِّ، ويَجوزُ أنْ يُبدَلَ؛ ليُناطَ به قولُه: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ [135] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/721)، ((تفسير البيضاوي)) (5/295)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/344)، ((تفسير أبي حيان)) (10/428)، ((تفسير أبي السعود)) (9/ 126). .
3- قولُه تعالَى: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
- قولُه: وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ صِيغةُ القَصْرِ مِن النَّفيِ والاستِثناءِ (مَا... إلَّا) تُفيدُ قَصْرَ صِفةِ التَّكذيبِ بيَومِ الدِّينِ على المُعتَدينَ الآثِمينَ الزَّاعِمينَ القُرآنَ أساطيرَ الأوَّلين، وهو قَصرُ صِفةٍ على مَوصوفٍ، وهو قَصْرٌ حَقيقيٌّ [136] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ؛ لأنَّ يومَ الدِّينِ لا يُكَذِّبُ به إلَّا غَيرُ المُتدَيِّنين؛ المُشرِكون والوَثَنيُّون وأضْرابُهم ممَّن جَمَع الأوصافَ الثَّلاثةَ، وأعظَمُها التَّكْذيبُ بالقُرآنِ؛ فإنَّ أهْلَ الكِتابِ والصَّابِئةَ لا يُكذِّبون بيَومِ الدِّينِ، وكَثيرٌ مِن أهلِ الشِّركِ لا يُكذِّبون بيَومِ الدِّينِ مِثلَ أَصحابِ دِيانةِ القِبْطِ؛ فالَّذين يُكذِّبون بيَومِ الدِّينِ هم مُشرِكو العَرَبِ ومَن شابَهَهم مِثلُ الدَّهْريِّين؛ فإنَّهم تَحقَّقَتْ فيهم الصِّفتان الأُولى والثَّانيةُ، وهي الاعتِداءُ والإثمُ، وهو ظاهِرٌ. وأمَّا زَعْمُ القُرآنِ أساطيرَ الأوَّلينَ فهو مَقالةُ المُشرِكين مِن العَرَبِ، وهم المَقصودُ ابتِداءً، وأمَّا غَيرُهم ممَّن لم يُؤثَرْ عنهم هذا القَولُ فَهُم مُتَهيِّئون لِأنْ يَقولوه، أو يَقولوا ما يُساوِيه أو يَؤولُ إليه؛ لأنَّ مَن لم يُعرَضْ عليهم القُرآنُ منهم لو عُرِضَ عليه القُرآنُ لكَذَّبَ به تَكذيبًا يُساوي اعتِقادَ أنَّه مِن وَضْعِ البَشَرِ، فهؤلاء وإنْ لم يَقولوا: القُرآنُ أساطيرُ الأوَّلينَ؛ فظَنُّهم في القُرآنِ يُساوي ظَنَّ المُشرِكين، فنُزِّلوا مَنزِلةَ مَن يَقولُه. ويَجوزُ أنْ يكونَ القَصْرُ ادِّعائيًّا [137] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. ويَنقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يَتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144]. والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ، ولا يُلتَفَتُ إلى تَنزيلِ مَن لم يَقُلْ ذلك في القُرآنِ، ومَعنى الادِّعاءِ: أنَّ مَن لم يُؤثَرْ عنهم القَولُ في القُرآنِ بأنَّه أساطيرُ الأوَّلين، قد جُعِلَ تَكذيبُهم بيَومِ الدِّينِ كَلَا تَكذيبٍ؛ مُبالَغةً في إبطالِ تَكذيبِ المُشرِكين بيَومِ الدِّينِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/197، 198). .
- وأَثِيمٍ صِفةُ مُبالَغةٍ في الآثِمِ، أي: كَثيرُ الإثْمِ، مُنهَمِكٌ في الشَّهَواتِ الفانِيةِ، بحَيثُ شَغَلَتْه عمَّا وَراءَها مِن اللَّذَّاتِ التَّامَّةِ الباقِيةِ، وحَمَلَتْه على إنْكارِها [139] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/295)، ((تفسير أبي حيان)) (10 /428)، ((تفسير أبي السعود)) (9/126)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/197). .
4- قولُه تعالَى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا اعتِراضٌ بالرَّدْعِ وبَيانٌ له؛ لأنَّ كَلَّا رَدْعٌ لقَولِهم: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أي: إنَّ قولَهم باطِلٌ، وحرفُ بَلْ للإبْطالِ؛ تَأكيدًا لمَضمونِ كَلَّا، وبَيانًا وكَشفًا لِما حَمَلَهم على أنْ يَقولوا في القُرآنِ ما قالوا، وأنَّه ما أَعْمَى بَصائِرَهم مِن الرَّيْنِ [140] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/721)، ((تفسير البيضاوي)) (5/295)، ((تفسير أبي السعود)) (9/127)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/198، 199). .
- ومَجيءُ يَكْسِبُونَ بصِيغةِ المُضارعِ دُون الماضي؛ لإفادةِ تَكرُّرِ ذلك الكَسْبِ وتَعدُّدِه في الماضي [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/199، 200). .
5- قولُه تعالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ كَلَّا رَدْعٌ وزَجْرٌ عن الكَسْبِ الرَّائنِ [142] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/721، 722)، ((تفسير البيضاوي)) (5/295)، ((تفسير أبي حيان)) (10/429)، ((تفسير أبي السعود)) (9/127). . أو كَلَّا هُنا تَأكيدٌ لـ كَلَّا الأُولى؛ زِيادةً في الرَّدْعِ ليَصيرَ تَوبيخًا [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/200). .
6- قولُه تعالَى: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ قيل: عُطِفَت الجُملةُ بحرفِ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ في عَطْفِها الجُملَ على التَّراخي الرُّتْبيِّ، وهو ارتِقاءٌ في الوَعيدِ؛ لأنَّه وَعيدٌ بأنَّهم مِن أَهلِ النَّارِ، وذلك أشَدُّ مِن خِزيِ الإهانةِ، وحجبِهم عن ربِّهم [144] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/127)، ((تفسير ابن عاشور)) (30/201)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (10/415). قال الألوسي: (ثُمَّ قيل: لتَراخي الرُّتبةِ، لكن بناءً على ما عندَهم؛ فإنَّ صليَ الجحيمِ عندَهم أشدُّ مِن حجابِهم عن ربِّهم عزَّ وجلَّ، وأمَّا عندَ المؤمنينَ لا سيَّما الوالهينَ به سبحانَه منهم فإنَّ الحجابَ عذابٌ لا يُدانيه عذابٌ). ((تفسير الألوسي)) (15/280). .
7- قولُه تعالَى: ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ تَقريعٌ، مع التَّأييسِ مِن التَّخفيفِ؛ فعَطفُ الجُملةِ بحَرْفِ (ثُمَّ) اقتَضَى تراخِي مَضمونِ الجُملةِ على مَضمونِ الَّتي قبْلَها، أي: بُعْدَ درجتِه في الغَرضِ المَسوقِ له الكلامُ. واقْتَضى اسمُ الإشارةِ هَذَا أنَّهم صاروا إلى العَذابِ. والإخبارُ عن العَذابِ بأنَّه الَّذي كانوا به يُكذِّبون، يُفيدُ أنَّه العَذابُ الَّذي تَكرَّرَ وَعيدُهم به وهُم يُكذِّبونه، وذلك هو الخُلودُ، وهو درَجةٌ أشَدُّ في الوَعيدِ، وبذلك كان مَضمونُ الجُملةِ أَرْقى رُتبةً في الغَرَضِ مِن مَضمونِ الجُملةِ المَعطوفةِ هي عليها [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/201). .
ويجوزُ أنْ يَكونَ قولُه: ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ إشارةً إلى جَوابِ مالكٍ خازِنِ جَهنَّمَ المَذكورِ في قولِه تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 77-78] ؛ فطُوِيَ سُؤالُهم، واقتُصِرَ على جَوابِ مالكٍ خازِنِ جَهنَّمَ اعتِمادًا على قَرينةِ عَطْفِ جُملةِ هذا المَقالِ بـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ على التَّراخي [146] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/201، 202). .
- وبُنِيَ فِعلُ يُقَالُ للمَجهولِ؛ لعَدَمِ تَعلُّقِ الغَرَضِ بمَعرِفةِ القائِلِ، والمَقصدُ هو: القَولُ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/202). .
- وجِيءَ باسمِ المَوصولِ؛ ليُذَكَّروا تَكذيبَهم به في الدُّنيا؛ تَنديمًا لهم وتَحزينًا [148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/202). .
- وتَقديمُ بِهِ على تُكَذِّبُونَ؛ للاهتِمامِ بمُعادِ الضَّميرِ، مع الرِّعايةِ على الفاصِلةِ [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (30/202). .