موسوعة التفسير

سورةُ القيامةِ
الآيات (20-25)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ

غريب الكلمات:

نَاضِرَةٌ: أي: مُشرِقةٌ مُتهَلِّلةٌ حَسَنةٌ؛ يقالُ: نَضَرَ وَجهُ فلانٍ: إذا حَسُنَ مِن النِّعمةِ، وأصلُ (نضر): يدُلُّ على حُسنٍ وجمالٍ [125] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 500)، ((تفسير ابن جرير)) (23/505، 506)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 470)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/439)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 916). .
بَاسِرَةٌ: أي: كَئيبةٌ مُتكَدِّرةٌ عابِسةٌ مُسْوَدَّةٌ [126] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 500)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 127)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/249)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 429). قال الخليل: (عَبَسَ يَعْبِسُ عُبوسًا فهو عابِسُ الوجهِ غَضْبانُ. فإنْ أبدى عن أسنانِه في عُبوسِه قلتَ: كَلَحَ. وإنِ اهتَمَّ لذلك وفكَّر فيه، قلتَ: بَسَرَ). ((العين)) (1/343). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/707). .
فَاقِرَةٌ: أي: داهِيةٌ عظيمةٌ تَكسِرُ فَقَارَ الظَّهرِ، وأصلُ (فقر): يدُلُّ على انفِراجٍ في شَيءٍ [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/511)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 366)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/443)، ((المفردات)) للراغب (ص: 642)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 437)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 699). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ليس الأمرُ كما تَزعُمونَ مِن إنكارِ البَعْثِ أو غيرِه مِنَ الحَقِّ، وإنَّما الَّذي دعاكم لذلك حُبُّكم للدُّنيا، وتَرْكُكم للآخِرةِ وإعراضُكم عنها.
ثمَّ يبيِّنُ اللهُ تعالى أحوالَ النَّاسِ يومَ القيامةِ، وتَفاوُتَهم فيه، فيقولُ: وُجوهٌ يومَ القيامةِ حَسَنةٌ مُشرِقةٌ ناظِرةٌ إلى رَبِّها سُبحانَه وتعالى في الآخِرةِ، ووُجوهٌ مُظلِمةٌ مُتجَهِّمةٌ كَئيبةٌ مِن شَقاءِ أصحابِها وبُؤسِهم، يَظُنُّ الكُفَّارُ أن تُصيبَهم داهِيةٌ عَظيمةٌ تَقصِمُ ظُهورَهم في ذلك اليَومِ العَصيبِ.

تفسير الآيات:

كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا فرَغَ مِن خِطابِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ؛ رجَعَ إلى حالِ الإنسانِ السَّابقِ ذِكرُه المنكِرِ البَعثَ، وأنَّ همَّه إنَّما هو في تَحصيلِ حُطامِ الدُّنيا الفاني، لا في تَحصيلِ ثَوابِ الآخرةِ؛ إذ هو مُنكِرٌ لذلك [128] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/350). ، فقال تعالى:
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20).
أي: ليس الأمرُ كما تَزعُمونَ مِن إنكارِ البَعْثِ أو غيرِه مِنَ الحَقِّ، وإنَّما الَّذي دعاكم لذلك: هو أنَّكم تُحِبُّونَ الدُّنيا، وتَنشَغِلونَ بها [129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/504)، ((تفسير ابن عطية)) (5/405)، ((تفسير القرطبي)) (19/107)، ((تفسير ابن كثير)) (8/279)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/351). !
وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21).
أي: وتَترُكونَ الآخِرةَ، وتُعرِضُونَ عنها [130] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/504)، ((تفسير ابن كثير)) (8/279)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899). .
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان: 27] .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الآخِرةَ الَّتي أعرَضوا عنها، ذكَرَ ما يكونُ فيها؛ بيانًا لِجَهْلِهم وسَفَهِهم وقِلَّةِ عُقولِهم، وترهيبًا لِمَن أدبَرَ عنها، وترغيبًا لِمَن أقبَلَ عليها؛ لُطفًا بهم، ورحمةً لهم [131] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/104). .
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22).
أي: وُجوهٌ يومَ القيامةِ حَسَنةٌ بَهِيَّةٌ مُشرِقةٌ [132] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/504)، ((الوسيط)) للواحدي (4/393)، ((تفسير القرطبي)) (19/107)، ((تفسير ابن كثير)) (8/279)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/105)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/352). قال مكِّيُّ بنُ أبي طالبٍ: (أي: حَسَنةٌ ناعِمةٌ جميلةٌ؛ مِنَ السُّرورِ والغِبْطةِ، هذا قولُ جميعِ أهلِ التَّفسيرِ). ((الهداية)) (12/7878). .
كما قال تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 22 - 24] .
إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23).
أي: تَنظُرُ إلى رَبِّها سُبحانَه وتعالى في الآخِرةِ [133] يُنظر: ((الرد على الجهمية والزنادقة)) لأحمد بن حنبل (ص: 77)، ((تفسير ابن جرير)) (23/ 506، 509)، ((تفسير ابن كثير)) (8/279)، ((تفسير السعدي)) (ص: 899)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/352). قال أبو الحَسَنِ الأشعريُّ: (أجمَعوا على أنَّ المؤمنينَ يَرَونَ اللهَ عزَّ وجَلَّ يومَ القيامةِ بأعيُنِ وُجوهِهم، على ما أخبَرَ به تعالى في قَولِه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ). ((رسالة إلى أهل الثغر)) (ص: 134). وقال ابنُ جُزَي: (هذا مِنَ النَّظَرِ بالعَينِ، وهو نَصٌّ في نظرِ المؤمنينَ إلى اللهِ تعالى في الآخرةِ، وهو مَذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ، وأنكَرَه المعتَزِلةُ، وتأوَّلوا نَاضِرَةٌ بأنَّ معناه: مُنتَظِرةٌ! وهذا باطِلٌ؛ لأنَّ «نَظَر» بمعنى «انتَظَر» يَتعدَّى بغيرِ حرفِ جَرٍّ، تقولُ: نظَرْتُك، أي: انتَظَرْتُك، وأمَّا المتعدِّي بـ «إلى» فهو مِن نَظَرِ العَينِ، ومنه قولُه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] ... وقد جاء عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في النَّظَرِ إلى اللهِ أحاديثُ صَحيحةٌ مُستفيضةٌ صريحةُ المعنى، لا تحتَمِلُ التَّأويلَ، فهي تفسيرٌ للآيةِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/434). ويُنظر: ((الإبانة عن أصول الديانة)) للأشعري (ص: 35-40)، ((تمهيد الأوائل)) للباقلاني (ص: 303)، ((تفسير الثعلبي)) (10/88)، ((تفسير القرطبي)) (19/107)، ((تفسير الخازن)) (4/373). .
كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 26] .
عن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا دَخَل أهلُ الجنَّةِ الجَنَّةَ يقولُ اللهُ تبارك وتعالى: تُريدونَ شَيئًا أَزيدُكم؟ فيقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجوهَنا؟! ألم تُدخِلْنا الجنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟! قال: فيَكشِفُ الحِجابَ، فما أُعطُوا شيئًا أحَبَّ إليهم مِن النَّظَرِ إلى رَبِّهم عزَّ وجَلَّ!))، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [134] رواه مسلم (181). [يونس: 26] .
وعن أبي هُرَيرةَ وأبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ النَّاسَ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، هل نرى رَبَّنا يومَ القيامةِ؟ قال: هل تُمارُونَ [135] تُمارُونَ: أي: تَشُكُّون، والمِرْيةُ: الشَّكُّ. ويحتملُ أن يكونَ المرادُ: هل يَحصُلُ لكم تَمَارٍ واختِلافٌ في رؤيتِهما؟ فكما لا يَحصُلُ لكم في رؤيتِهما تَمارٍ واختِصامٌ، فكذلك رؤيةُ الله عزَّ وجل. والتَّماري والتَّنازُعُ إنَّما يقعُ مِن الشَّكِّ وعدمِ اليقينِ، كما يقعُ في رؤيةِ الأهِلَّةِ. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (4/415). في القَمَرِ لَيلةَ البَدْرِ ليس دُونَه سَحابٌ؟ قالوا: لا يا رَسولَ اللهِ. قال: فهل تمارُونَ في الشَّمسِ ليس دُونَها سَحابٌ؟ قالوا: لا. قال: فإنَّكم تَرَونَه كذلك )) [136] رواه البخاري (806) واللفظ له، ومسلم (182). .
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ أهلَ النِّعْمةِ؛ أتْبَعَه أضْدادَهم مِن أهلِ النِّقْمةِ [137] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/106). .
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24).
أي: ووُجوهٌ يومَ القيامةِ مُظلِمةٌ مُتجَهِّمةٌ كَئيبةٌ مُتكَدِّرةٌ؛ مِن شَقاءِ أصحابِها وبُؤسِهم [138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/510)، ((الوسيط)) للواحدي (4/394)، ((تفسير الرازي)) (30/733)، ((تفسير القرطبي)) (19/110)، ((تفسير ابن كثير)) (8/279)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/106، 107)، ((تفسير الشوكاني)) (5/407)، ((تفسير القاسمي)) (9/368)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900). قال الواحدي: (قولُه تعالى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرونَ: كالِحةٌ، عابسةٌ، كاشِفةٌ، كئيبةٌ، مُصْفَرَّةٌ، مُتغيِّرةُ اللَّونِ، كريهةٌ، مُقطبةٌ؛ كلُّ هذا مِن ألفاظِهم). ((البسيط)) (22/511). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس: 27] .
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25).
أي: يَظُنُّ الكُفَّارُ أنَّ داهِيةً عَظيمةً وعُقوبةً شَديدةً ستُصيبُهم؛ فلذلك تغَيَّرتْ وُجوهُهم [139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/511)، ((الوسيط)) للواحدي (4/394، 395)، ((تفسير القرطبي)) (19/110)، ((تفسير ابن كثير)) (8/281)، ((تفسير السعدي)) (ص: 900). ذهب كثيرٌ مِنَ المفَسِّرينَ إلى أنَّ الظَّنَّ هنا بمعنى اليقينِ. ومنهم: الواحديُّ، والقرطبيُّ، وابنُ كثير، وابنُ عاشور. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/394)، ((تفسير القرطبي)) (19/110)، ((تفسير ابن كثير)) (8/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/356). وقيل: هو على بابِه بمعنى التَّوقُّعِ. وممَّن قال بهذا: البِقاعي، قال: (تَظُنُّ أي: تتوَقَّعُ بما تَرى مِنَ المخايِلِ). ((نظم الدرر)) (21/107). وقال البِقاعي أيضًا في معنى فَاقِرَةٌ: (داهِيةٌ تَكْسِرُ الفَقَارَ: وهو عَظمُ سِلسلةِ الظَّهرِ الَّذي هو أصلَبُ ما في العِظامِ، فتكونُ قاصِمةَ الظَّهرِ!). ((نظم الدرر)) (21/107). !

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ ذَمُّ مَن يُحِبُّ الدُّنيا ويُؤْثِرُها على الآخِرةِ [140] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/202). .
2- قَال الله تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، الكلامُ مُشعِرٌ بالتَّوبيخِ، ومَناطُ التَّوبيخِ هو حُبُّ العاجلةِ مع نَبْذِ الآخرةِ، فأمَّا لو أحَبَّ أحَدٌ العاجلةَ وَراعى الآخرةَ -أي: جَرى على الأمرِ والنَّهيِ الشَّرعيَّينِ- لم يكُنْ مَذمومًا؛ قال تعالَى فيما حَكاهُ عن الَّذين أُوتوا العِلمَ مِن قومِ قارونَ: وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/351). [القصص: 77] .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ جُمِعَ الضَّميرُ، وإن كان مبنى الخِطابِ مع الإنسانِ؛ نظَرًا للمعنى، إشارةً إلى أنَّه لا يَسلَمُ مِنَ العَجَلةِ المذمومةِ إلَّا أفرادٌ حَفِظَهم اللهُ بقُدرتِه الباهِرةِ [142] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/104). .
2- في قَولِه تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ أنَّ النَّفْسَ مُولَعةٌ بحُبِّ العاجِلِ [143] يُنظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (3/13). .
3- في قَولِه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إثباتُ رؤيةِ المؤمِنينَ لربِّهم في الآخِرةِ [144] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن رجب (3/133). ، وفيه ردٌّ على المعتَزلةِ في إنكارِهم الرُّؤْيةَ [145] يُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 278). . وإضافةُ النَّظَرِ إلى الوجهِ -الَّذي هو مَحَلُّه- في هذه الآيةِ، وتعديتُه بأداةِ «إلى» الصَّريحةِ في نَظَرِ العَينِ، وإخلاءُ الكلامِ مِن قرينةٍ تدُلُّ على أنَّ المرادَ بالنَّظَرِ المضافِ إلى الوجهِ، المُعَدَّى بـ «إلى»: خِلافُ حقيقتِه ومَوضوعِه- صريحٌ في أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أراد بذلك نَظَرَ العَينِ الَّتي في الوجهِ، إلى نَفْسِ الرَّبِّ جلَّ جلالُه؛ فإنَّ النَّظرَ له عِدَّةُ استعمالاتٍ بحَسَبِ صِلاتِه وتَعَدِّيه بنَفْسِه؛ فإنْ عُدِّيَ بنَفْسِه فمعناه التَّوقُّفُ والانتِظارُ، كقَولِه: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] ، وإنْ عُدِّيَ بـ «في» فمعناه التَّفَكُّرُ والاعتِبارُ، كقولِه: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185] ، وإنْ عُدِّيَ بـ «إلى» فمعناه المُعاينةُ بالأبصارِ، كقولِه: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ [الأنعام: 99] ، فكيف إذا أُضيفَ إلى الوَجهِ الَّذي هو مَحَلُّ البَصَرِ [146] يُنظر: ((حادي الأرواح)) لابن القيم (ص: 295). ؟!
4- قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ إنَّما ذكر تعالى الوُجوهَ؛ لأنَّه فيها يَظهَرُ ما في النَّفْسِ مِن سُرورٍ أو غَمٍّ [147] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/405). .
5- عن الحَسَنِ، في قَولِه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ قال: (حَسَنةٌ). إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قال: (تَنظُرُ إلى الخالِقِ، وحُقَّ لها أن تَنضُرَ وهي تنظُرُ إلى الخالِقِ!) [148] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/507). .
6- في قَولِه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ جَمَعَ سُبحانَه بيْن الجمالَينِ؛ فالنَّضْرةُ تُزَيِّنُ ظواهِرَهم، والنَّظَرُ يُجَمِّلُ بواطِنَهم [149] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/280). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ
- قولُه: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ رُجوعٌ إلى مَهيعِ (طريقِ) الكلامِ الَّذي بُنِيَت عليه السُّورةُ، كما يَرجِعُ المتكلِّمُ إلى وصْلِ كَلامِه بعْدَ أنْ قَطَعَه عارضٌ أو سائلٌ [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/351). .
- وكَلمةُ كَلَّا ردْعٌ وإبطالٌ؛ يَجوزُ أنْ يكونَ إبطالًا لِما سبَقَ مِن قولِه: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ [القيامة: 3] إلى قولِه: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة: 3- 15] ، فأُعِيدَ كَلَّا تَأكيدًا لنَظيرِه، ووصْلًا للكلامِ بإعادةِ آخِرِ كَلمةٍ منه، والمعْنى: أنَّ مَزاعمَهم باطلةٌ. وقولُه: بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ إضرابٌ إبطاليٌّ يُفصِّلُ ما أجْمَلَه الرَّدعُ بـ كَلَّا مِن إبطالِ ما قبْلَها وتَكذيبِه، أي: لا مَعاذيرَ لهم في نفْسِ الأمرِ، ولكنَّهم أحَبُّوا العاجلةَ، أي: شَهَواتِ الدُّنيا، وتَرَكوا الآخرةَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ إبطالًا لِما تَضمَّنَه قولُه: وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة: 15] ؛ فهو استِئنافٌ ابتدائيٌّ، والمعْنى: أنَّ مَعاذيرَهم باطلةٌ، ولكنَّهم يُحِبُّون العاجلةَ، ويَذَرون الآخرةَ، أي: آثَروا شَهَواتِهم العاجلةَ، ولم يَحسَبوا للآخرةِ حِسابًا [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/351). .
- وقيل: كَلَّا ردْعٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن عادةِ العجَلةِ، وإنكارٌ لها عليه، وحثٌّ على الأناةِ والتُّؤدَةِ، وقد بالَغَ في ذلك بإتْباعِه قولَه: بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [152] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/661، 662)، ((تفسير البيضاوي)) (5/266)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/165)، ((تفسير أبي حيان)) (10/350)، ((تفسير أبي السعود)) (9/67). .
- قولُه: تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ تَعميمٌ للخِطابِ؛ إشعارًا بأنَّ بَني آدَمَ مَطبوعونَ على الاستِعجالِ، وإنْ كان الخِطابُ للإنسانِ، والمرادُ به الجِنسَ، فجُمِع الضَّميرُ للمعْنى [153] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/266، 267). .
- قولُه: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ تُحِبُّونَ وَتَذَرُونَ بتاءٍ فَوقيَّةٍ على الالْتِفاتِ مِن الغَيبةِ إلى الخِطابِ في مَوعظةِ المشْرِكين مُواجهةً بالتَّقريعِ؛ لأنَّ ذلك أبلَغُ فيه، وقُرِئَ بياءٍ تَحتيَّةٍ على نسَقِ ضَمائرِ الغَيبةِ السَّابقةِ، والضَّميرُ عائدٌ إلى الإنسانِ في قولِه: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة: 14] ، جاء ضَميرَ جمْعٍ؛ لأنَّ الإنسانَ مُرادٌ به النَّاسُ المشْرِكون [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/351). . وعلى قِراءةِ يُحِبُّونَ وَيَذَرُونَ بالياءِ [155] قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عَمرٍو وابنُ عامرٍ ويعقوبُ بالياءِ فيهما، وقرأ الباقونَ بالتَّاءِ فيهما. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/393). ، قيل: هو أبلَغُ؛ للالْتفاتِ بعْدَ تَعميمِ الخِطابِ؛ قال: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، ثمَّ عمَّ وقال: بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وعلى الغَيبةِ يَعْني مِن شأْنِ بني آدَمَ العَجَلةُ [156] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/662)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/165). .
2- قولُه تعالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ لَمَّا وبَّخهم بحُبِّ العاجِلةِ، وترْكِ الاهتِمامِ بالآخِرةِ، تَخلَّصَ إلى شَيءٍ مِن أحوالِ الآخِرةِ؛ فقدْ تَخلَّصَ إلى إجمالِ حالِ النَّاسِ يومَ القِيامةِ بيْن أهلِ سَعادةٍ وأهْلِ شَقاوةٍ [157] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/350)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/352، 353). .
- وتَنكيرُ وُجُوهٌ للتَّنويعِ والتَّقسيمِ [158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/352). .
- وكُنِّيَ بنَضْرةِ الوُجوهِ عن فرَحِ أصحابِها ونَعيمِهم؛ قال تعالَى في أهلِ السَّعادةِ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] ؛ لأنَّ ما يَحصُلُ في النَّفْسِ مِن الانفِعالاتِ يَظهَرُ أثَرُه [159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/353). .
- قولُه: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، ظاهرُ لَفظِ (ناظِرة) أنَّه مِن (نَظَرَ) بمعْنى: عايَنَ ببَصرِه، إعلانًا بتَشريفِ تلك الوُجوهِ أنَّها تَنظُرُ إلى اللهِ تعالَى نظَرًا خاصًّا لا يُشارِكُها فيه مَن يكونُ دونَ رُتَبِهم [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/353). .
- وتَقديمُ المجرورِ مِن قولِه: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ على عامِلِه؛ للاهتِمامِ بهذا العَطاءِ العَجيبِ، وليس للاختِصاصِ؛ لأنَّهم يَرونَ بهَجاتٍ كثيرةً في الجنَّةِ [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/355). .
3- قولُه تعالَى: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ
- قولُه: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ أُعِيدَ لَفظُ يَوْمَئِذٍ؛ تَأكيدًا للاهتِمامِ بالتَّذكيرِ بذلك اليومِ [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/356). .
- قولُه: تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ استِئنافٌ بَيانيٌّ لبَيانِ سَببِ بُسُورِها [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/356). .
- وفَاقِرَةٌ، أي: داهيةٌ عَظيمةٌ، وإفرادُها إفرادُ الجِنسِ، أي: نوعًا عظيمًا مِن الدَّاهيةِ [164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/356). .