موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيات (95-99)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ

غريب الكلمات :

فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى: أي: خالِقُهُما أو شاقُّهُما بالنَّباتِ، والفَلْق والفَطْر والخَلْق بمعنًى واحِدٍ، ولا يكون الفَلْقُ إلَّا بين جِسْمين، والفَلْق: شقُّ الشَّيءِ، وإبانةُ بَعْضِه عن بعضٍ، وأصل (فلق): يدلُّ على فُرْجَةٍ وبينونَةٍ في الشَّيء [1503] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 361)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/452)، ((المفردات)) للراغب (ص: 645)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 194)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 695). .
فَأَنَّى: فَمِنْ أيِّ وَجهٍ، أو كَيفَ. وهو استفهامٌ عن الوُجوهِ والمَذاهِبِ؛ تقول: أنَّى يكونُ هذا؛ أي: من أي وجهٍ وطَريقٍ. وقيل: يُسأَلُ به عن الحالِ والمَكانِ، فيكون بمعنى: أين وكيف؛ لتَضَمُّنِه معناهما [1504] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (4/413)، ((المفردات)) للراغب (ص: 29)، ((لسان العرب)) لابن منظور(15/437)، ((المصباح المنير)) للفيومي (1/156). .
تُؤْفَكُونَ: أي: تُصْرَفونَ عن الحَقِّ، وتَعْدِلون عنه؛ يقال: أَفَك الرَّجُل عن كذا: إذا عَدَل عنه، والإِفْك: كلُّ مصروفٍ عن وَجْهِه الذي يحِقُّ أن يكونَ عليه، وأصل (أفك): قلْبُ الشَّيء وصَرْفُه عن جِهَتِه [1505] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 145)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/118)، ((المفردات)) للراغب (ص: 79)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 85). .
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ: أي: خالِق النَّهار، أو شاقُّه حتى يَتبيَّن مِن اللَّيل [1506] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/45)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 361)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/452)، ((المفردات)) للراغب (ص: 645)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 194). .
وَالشَّمْس وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا: أي: يَجريانِ في أفلاكِهما بحسابٍ مَعْلومٍ عنده، وعددٍ لبلوغِ أمْرِهِما ونهايةِ آجالِهما، وأصلُ الِحسابِ: استعمالُ العَدَدِ [1507] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/428، 430)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/59)، ((المفردات)) للراغب (ص: 232)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 159)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 359). .
تَقْدِيرُ: التَّقديرُ: تَبيينُ كميَّةِ الشَّيءِ، وتَقديرُ اللهِ الأشياءَ على وجهين؛ أحدهما: بإعطاءِ القُدرةِ. والثاني: بأنْ يَجعلها على مِقدارٍ مخصوصٍ ووجهٍ مخصوصٍ حسْبَمَا اقتضتْ الحِكمةُ بالحُكم منه أنْ يكونَ كذا أو لا يكون كذا؛ إمَّا على سبيلِ الوجوبِ، وإمَّا على سبيلِ الإمكانِ [1508] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 658). .
فَمُسْتَقَرٌّ أي: في الأَرْحامِ. وأَصْلُ (قرر) يَدُلُّ على تَمَكُّنٍ [1509] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/7)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 99)، ((تفسير ابن كثير)) (3/306-305)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 159). .
مُسْتَوْدَعٌ: أي: في الأَصْلابِ. وأصلُ (ودع): يَدُلُّ على التَّركِ والتَّخلِيَةِ [1510] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/96)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 99)، ((تفسير ابن كثير)) (3/305)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 159). .
مُتَرَاكِبًا: أي: مُركَّبًا بعضُه فوقَ بعضٍ، أو يَرْكَب بعضُه بعضًا، وأصل (ركب): عُلُوُّ شَيْءٍ شَيْئًا [1511] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/432)، ((المفردات)) للراغب (ص: 363)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 100). .
طَلْعِهَا: طلعُ النَّخلةِ: ثَمَرُها، أو حَمْلُها؛ سُمِّيَ طَلعًا لطُلوعِه في كلِّ سَنَةٍ، ويُطْلَقُ الطَّلعُ على أوَّلِ ما يخرُجُ مِنَ النَّخلةِ في أكمامِه، وأصلُ (طلع): يدلُّ على ظهورٍ وبُرُوزٍ [1512] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 372)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/419)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 270)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 587). .
قِنْوَانٌ: أي: عُذوقُ النَّخْل، مفردُها قِنْوٌ، وهو: العِذقُ [1513] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 385)، ((المفردات)) للراغب (ص: 686)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 195). .
دَانِيَةٌ: أي: قَريبةٌ، سهلةُ التناوُلِ، يَجْنُونها قائمينَ وقاعِدين، وأصل الدُّنُوِّ: القُرْبُ بالذَّاتِ أو بالحُكْم، ويُستعمَل في المكانِ والزَّمَانِ والمنزِلَةِ [1514] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 384)، ((المفردات)) للراغب (ص: 318)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 453)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
وَيَنْعِهِ: أي: إدراكِه ونُضْجِه وبُلُوغِه؛ يُقال: يَنَعَتِ الثَّمَرةُ والفاكِهَة، وأَيْنَعَت: إذا أدركَتْ [1515] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 157)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 507)، ((المفردات)) للراغب (ص: 894)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 100)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 988). .

مشكل الإعراب :

قوله تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ
وجنَّاتٍ: مَنصوبةٌ، على أنَّها معطوفةٌ على نَبَاتَ مِنْ قَوْلِه تعالى: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ، أي: فأخرجْنا بالماءِ النَّباتَ وجَنَّاتٍ، وهو مِن عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ تشريفًا لهذين الجِنْسَينِ على غيرِهما؛ كقوله تعالى: وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة: 98] ، وعلى هذا فَقَولُه: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ جملةٌ مُعْتَرِضةٌ. أو منصوبةٌ على أنَّها معطوفةٌ على خَضِرًا مِنْ قَوْلِه تعالى: فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا.
وقُرئ (وَجَنَّاتٌ) بالرَّفْع، على أنَّها مرفوعةٌ بالابتداءِ، والخبر محذوفٌ، والتقدير: وثَمَّ جَنَّاتٌ، أو: وَمِنَ الكَرْمِ جناتٌ، ولا يجوزُ أنْ يكون معطوفًا على قِنْوَانٌ؛ لأن العِنَبَ لا يخرجُ مِن النَّخْلِ [1516] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/264)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/525)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/75-76). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِر تعالى أنَّه وَحْدَه هو مَن يشُقُّ الحَبَّ فيُخْرِج منه الزُّروعَ، ويشُقُّ النَّوى فيُخْرِج منه الغُرُوسَ والشَّجَر، يُخْرِج سبحانه الحيَّ من الميِّتِ، ويُخْرِجُ الميِّتَ من الحيِّ؛ كإخراجِه تعالى الإنسانَ من النُّطْفة، والنُّطْفةَ من الإنسانِ، ذلكم الذي صَنَعَ ذلك هو اللهُ تعالى، فكيفَ تُصْرَفونَ عن هذه البَراهينِ، وتعبدونَ معه غيره؟!
والله سبحانَه يشقُّ ظُلمةَ الليلِ بضياءِ الصُّبحِ، وهو مَنْ جَعَلَ اللَّيلَ سَكَنًا لكلِّ متحَرِّكٍ بالنَّهارِ، فيهدَأُ في اللَّيلِ ويرتاحُ، وجَعَل الشَّمْسَ والقَمَرَ يجريانِ بحِسابٍ مُقَنَّنٍ مُقدَّرٍ، ذلك تقديرُ العزيزِ العليمِ.
وهو الذي جَعَلَ النُّجومَ علاماتٍ وأدلَّةً، يهتدي بها النَّاسُ في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ، قد ميَّزَ وفَصَّل تعالى الآياتِ، ووضَّحَها لقومٍ يَعْلمونَ.
 وهو تعالى الذي أوجَدَ جميعَ البَشَرِ مِن آدَمَ عليه السَّلام، وقد خَلَقَه اللهُ من ترابٍ، ثم صار البَشَرُ نُطَفًا أودَعَها اللهُ في أصلابِ آبائِهم، ثمَّ يَنْقِلُها فتَستقِرُّ في أرحامِ الأمَّهاتِ، قد ميَّزَ اللهُ الآياتِ وفَصَّلَها، ووضَّحَها لقومٍ يفهمونَها، فيعرفونَ مرادَ الله.
وهو سبحانه الذي أنزلَ من السماءِ المَطَرَ، فأخرج به نباتَ كُلِّ شيءٍ، فأخرَجَ سبحانه من نباتِ كُلِّ شيءٍ زَرْعًا وشَجَرًا أخضَرَ رَطْبًا، ثم يخلُقُ بعد ذلك فيه الحَبَّ والثَّمَر، يرَكْبَ بعضُه بعضًا؛ كالسَّنابِلِ ونحوِها، وأخرج تعالى مِن طَلْعِ النَّخْلِ عُذوقًا قريبةً سَهْلةَ التناوُلِ، وأخرج سبحانه بساتينَ من أعنابٍ، وأخرج شَجَرَ الزَّيتونَ، والرُّمَانَ؛ يتشابَهُ في وَرَقِه وشجرِه، ويختَلِفُ في ثَمَره شكلًا وطعمًا، ثم أمَرَ اللهُ عبادَه أن ينظرُوا إلى ثَمَرِه عند بُدُوِّه وطُلُوعِه، وعند نُضْجِه، نَظَرَ تفَكُّرٍ وتدبُّرٍ؛ فإنَّ في ذلك آياتٍ لقومٍ يؤمنونَ.

تفسير الآيات :

إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا قَرَّرَ التَّوحيدَ، وأَردَفَه بتَقريرِ أمْرِ النبوَّةِ، عاد إلى ذِكْرِ الدلائِلِ الدَّالَّةِ على وجودِ الصَّانِعِ، وكمالِ قُدْرَتِه، وحِكْمَتِه، وعِلْمِه؛ تنبيهًا على أنَّ المقصودَ الأصليَّ من جميع المباحِثِ العقليَّة والنقليَّة: معرفةُ اللهِ بذاتِه وصفاتِه وأفعالِه [1517] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/301). .
وأيضًا لَمَّا كان قد تقدَّمَ ذِكْرُ البعثِ نبَّهَ على قُدرَته تعالى الباهِرَةِ في شَقِّ النَّواةِ مع صَلابَتِها، وإخراجِه منها نَبْتًا أَخْضَرَ لَيِّنًا إلى ما بعد ذلك؛ مما فيه إشارةٌ إلى القدرةِ التامَّةِ والبعثِ والنَّشْر بعد الموت [1518] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/591). ، فقال تعالى:
إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى.
أي: إنَّ الَّذي يستحقُّ العبادةَ وَحْدَه- أيُّها النَّاسُ- هو اللهُ الذي يشقُّ الحبَّ في الثَّرَى، فتَنْبُتُ الزروعُ على اختلافِ أصنافِها من الحبوبِ، ويشُقُّ النَّوى، فتَخْرُجُ الغُرُوسُ والأشجارُ، على اختلافِ أنواعِها من الثِّمَارِ [1519] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/420، 422)، ((تفسير ابن كثير)) (3/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/530-532). .
كما قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [عبس: 24- 32] .
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ.
أي: يُخرِجُ السنبُلَ الحيَّ من الحَبِّ المَيِّتِ، ومُخْرِجُ الحَبِّ الميِّتِ من السُّنبُلِ الحيِّ، والشَّجَرَ الحيَّ من النَّوى الميِّتِ، والنَّوى الميِّت من الشَّجَرِ الحَيِّ، كما يُخْرِجُ الإنسانَ من النُّطفَةِ، والنُّطْفَةَ من الإنسانِ، ويُخْرِجُ الدَّجاجةَ من البَيْضَةِ، والبيضةَ من الدجاجَةِ [1520] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/423)، ((تفسير ابن كثير)) (3/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/533-534). .
ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ.
أي: ذَلِكم الذي خَلَق ودَبَّر كلَّ تلك الأشياءِ العظيمةِ المُبْهِرَة، هو اللَّهُ المستحِقُّ للعبوديَّةِ وحْدَه لا شريكَ له، فكَيْفَ تُصْرفونَ عن هذه البراهينِ، والآياتِ العجيبةِ الدَّالَّةِ على عَظَمَةِ ربِّكم وجلالِه، وكمالِ قُدرَتِه، وأنَّه المعبودُ وحده، ثم تَصُدُّونَ مع ذلك عن عبادةِ مَن هذا شَأْنُه، فتُسَوُّونَ به غيرَه، وتعبدونَ معه مَن لا يَمْلِك لنفْسِه نفعًا ولا ضَرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشُورًا؟ أين تذهبُ عقولُكم عن ذلك [1521] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/424)، ((تفسير ابن كثير)) (3/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/536-537). ؟!
فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا استدَلَّ على باهِرِ حِكْمَتِه وقُدرَتِه بدَلالةِ أحوالِ النَّباتِ والحيوانِ، وذلك من الأحوالِ الأرضيَّةِ- استدَلَّ أيضًا على ذلك بالأحوالِ الفَلَكِيَّةِ؛ لأنَّ فَلْق الصُّبْحِ أعظَمُ من فَلْقِ الحَبِّ والنَّوى؛ لأنَّ الأحوالَ الفَلَكِيَّة أعظمُ وَقْعًا في النفوسِ من الأحوالِ الأرضيَّةِ [1522] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/75)، ((تفسير أبي حيان)) (4/593). ، فقال تعالى:
فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا.
أي: هو سبحانه الذي يشَقُّ ظُلمَةَ اللَّيلِ وسَوادَه شيئًا فشيئًا، حتى يَضمَحِلَّ، ويَخلُفَه النَّهارُ بضِيائِه وإشراقِه، فيتحَرَّكَ فيه الخَلْقُ لمنافِعِ دِينِهم ودُنياهم، وهو سبحانه الذي جَعَلَ اللَّيلَ مُظْلِمًا، فيسْكُنُ فيه كلُّ مُتحرِّكٍ بالنَّهارِ، ويهدأ فيه ويرتاح مستَقِرًّا في مَسكَنِه ومأواه، ثم يُزيلُ اللهُ ذلك بضياءِ النَّهارِ، وهكذا أبدًا إلى يومِ القيامةِ [1523] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/424-428)، ((تفسير ابن كثير)) (3/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/539-540). .
كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 71- 73] .
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا.
أي: وجعَلَ الشَّمْسَ والقَمَرَ يَجريانِ بحِسابٍ مُقدَّرٍ، لا يتغيَّر ولا يَضْطرِبُ، فيدوران لمصالحِ الخَلْقِ التي جُعِلا لها، فبهما تُعرَفُ الأزمِنَةُ والأوقاتُ، وتنضَبِطُ أوقاتُ العباداتِ، وآجالُ المعاملاتِ، وغيرُ ذلك [1524] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/430)، ((تفسير ابن كثير)) (3/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/542). .
كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْس ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5] .
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
أي: هذا [1525] ذهَب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الإشارةَ تعودُ إلى المذكور في هذه الآيةِ، وهو فلْقُه الإصباح، وجعلُه الليلَ سكنًا، والشمسَ والقَمَرَ حُسبانًا. وهذا اختيارُ ابن جرير في ((تفسيره)) (9/431). وذهَب بعضُهم إلى أنَّها تعودُ على كلِّ ما سبَق، وهو فلقُه الحبَّ والنوى، وفلقُه الإصباحَ، وجعلُه الليلَ سكنًا، والشَّمسَ والقَمَرَ حسبانًا. وهذا اختيار الشِّنقيطي في ((العذب النمير)) (1/551-552). تقديرُ الذي عَزَّ سُلطانُه، فلا يُمانَعُ ولا يُخالَفُ، ولا يقدِرُ أحدٌ أراده بسوءٍ وعقابٍ من الامتناعِ منه، فهو الغالِبُ، الذي انقادَتْ له هذه المخلوقاتُ العظيمةُ، مُذَلَّلةً مُسخَّرَةً بأمْرِه، وهو سبحانه العليمُ، الذي أحاط عِلمُه بكلِّ شيءٍ، ومن ذلك عِلْمُه بمصالحِ خَلْقِه [1526] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/431)، ((تفسير ابن كثير)) (3/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/551-554). .
كما قال سبحانه: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس: 37-38] .
وقال تعالى: ... فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 12] .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) .
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
أي: وهو سبحانه الذي خَلَقَ النُّجومَ لكم- أيُّها النَّاسُ- فجعَلَها أدلَّةً تستدِلُّونَ بها للنَّجاةِ، إذا ضَلَلْتم الطريقَ في ظُلُماتِ اللَّيلِ، سواءٌ كنتم في برٍّ أو بحرٍ [1527] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/431-432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/554-556). .
كما قال تعالى: وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16] .
قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
أي: قد ميَّزنا كلَّ جنسٍ ونوعٍ من الأدلَّة عن الآخَرِ، وبيَّنَّاها ووضَّحْناها، وجعَلْناها علاماتٍ على قُدْرَتِنا وكَمالِنا، وأنَّه ليس لأحدٍ أن يَعْبُدَ غَيْرَنا؛ وذلك ليتدبَّرَها ويَفْهَمَها أولو العِلْمِ بالله تعالى، الذين يعرفونَ الحَقَّ، ويجتنبونَ الباطِلَ [1528] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/432)، ((تفسير ابن كثير)) (3/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/556-559). .
وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) .
وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.
القراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التفسيرِ:
في قوله تعالى: فَمُسْتَقَرٌّ قِراءتان:
1- فَمُسْتَقِرٌّ على أنَّها اسمُ فاعلٍ من قولِهم: قرَّ الشَّيءُ، فهو مُستقِرٌّ، والمراد: الولدُ القارُّ في الرَّحِمِ إلى وقت الوَلادِ [1529] قرأ بها ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وروحٌ عن يعقوبَ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 236). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 146)، ((معاني القراءات)) للأزهري (1/374). .
2- فَمُسْتَقَرٌّ أي: موضِعُ استقرارِ الوَلَدِ، وهو الرَّحِمُ [1530] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (ص: 236). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/374). .
وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ.
أي: وهو سبحانه الذي أخرجَكم [1531] قيل: الخطابُ للمُشركينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/432). وقيل: المرادُ البَشَرُ كلُّهم، مع التعريضِ بالمشركين. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/395). مِن العَدَم إلى الوجودِ، مِن آدَمَ عليه السَّلامُ، الذي خلَقَه اللهُ عزَّ وجلَّ مِن ترابٍ، ثمَّ صِرْتُم بعد ذلك نُطَفًا أودَعَها اللهُ في أصلابِ آبائِكم، ثمَّ يَنْقُلها فتَستقِرُّ في أرحامِ أمَّهاتِكم [1532] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/432)، ((تفسير ابن كثير)) (3/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 266)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/5-8). والقولُ بأنَّ المستَقَرَّ هو القرارُ المَكينُ للنُّطْفَة في أرحامِ الأمَّهات، والمستودَعُ هو وجودُها في أصلابِ الآباءِ؛ عليه أكثَرُ المُفَسِّرينَ- كما نصَّ عليه الشنقيطيُّ في ((العذب النمير)) (2/8-11). وقال ابن كثير عن هذا القول: (هو الأظهر) ((تفسير ابن كثير)) (3/306). وممَّن قال بهذا القول من السَّلف: ابنُ عبَّاس، وعكرمةُ، ومجاهدٌ، وعطاءٌ، والسُّديُّ، وقتادةُ، والضحَّاك، وابنُ زيدٍ.  ينظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (4/1355، 1357)، ((تفسير ابن جرير)) (9/436 - 442). واختار السعديُّ أنَّ المراد بالمستقَرِّ: الدَّارُ الآخِرة، وأنَّ المرادَ بالمستودَع: الدَّار الدنيا ودارُ البرزخ. يُنظر ((تفسير السعدي)) (ص: 266-267). واختار ابنُ جرير عُمومَ الآيةِ، وأنَّ معنى المستقَرِّ والمستودَعِ يَشمل عدَّة أمورٍ، فقال: (أَوْلى التأويلاتِ في ذلك بالصَّوابِ، أن يُقال: إنَّ الله جلَّ ثناؤُه عمَّ بقوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ كلَّ خَلْقِه الذي أنشأ من نَّفْسٍ واحدةٍ مستقرًّا ومستودَعًا، ولم يخصِّصْ من ذلك معنًى دون معنًى،  ولا شكَّ أنَّ مِن بني آدَمَ مُستقَرًّا في الرَّحِم، ومستودَعًا في الصُّلب، ومنهم من هو مستقَرٌّ على ظهر الأرْضِ أو بَطْنِها، ومستودَعٌ في أصلابِ الرِّجال، ومنهم مستقَرٌّ في القبر، مستودَعٌ على ظهر الأرض، فكلٌّ مستقَرٌّ أو مستودَعٌ بمعنًى من هذه المعاني فداخِلٌ في عمومِ قوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الأنعام: 98] ومرادٌ به، إلَّا أن يأتي خبرٌ يجبُ التَّسليمُ له بأنَّه معنيٌّ به معنًى دون معنًى، وخاصٌّ دون عامٍّ) ((تفسير ابن جرير)) (9/442). .
قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ.
أي: قد بَينَّا الحُجَجَ، وميَّزنا الأدلَّة، وأحكَمْنَاها لقومٍ يفهمونَها، فَيَعُونَ عن الله تعالى مُرادَه [1533] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/443)، ((تفسير ابن كثير)) (3/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/13-14). .
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99).
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَرَ إنعامَه تعالى بخَلْقِنا؛ ذَكَرَ إنعامَه علينا بما يقومُ به أَوَدُنا ومَصالِحُنا [1534] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/596). ، فقال تعالى:
وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ.
أي: وهو سبحانه الذي أَنزل المطَرَ، فأنبَتَ به كلَّ شَيءٍ، مِمَّا يأكُلُ النَّاسُ والأنعامُ؛ رزقًا للعِباد، ورحمةً من الله لخَلْقِه [1535] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/444)، ((تفسير ابن كثير)) (3/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا.
مناسَبَتُها لما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى عُمومَ ما يَنْبُت بالماءِ؛ مِن أنواعِ الأشجارِ والنَّباتِ، ذَكَر الزَّرْعَ والنَّخْل، لكثرةِ نَفْعِهما، وكونِهما قُوتًا لأكثَرِ النَّاسِ [1536] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 267). ؛ فقال:
فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا.
أي: فأخرَجْنا مِن نباتِ كُلِّ شيءٍ [1537] اختار عود الضمير في منه على نباتِ كلِّ شيءٍ: ابنُ عطيةَ، وابنُ عاشورٍ، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/327)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/399)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/22). واختار عودَه على الماءِ: ابنُ جريرٍ في ((تفسيره)) (9/444). زَرْعًا وشجَرًا أخضَرَ رَطْبًا، ثم نخلُقُ بعد ذلك فيه الحَبَّ والثَّمَر، يَركَبُ بعضُه بعضًا؛ كالسنابِلِ ونحوِها [1538] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/444)، ((تفسير ابن كثير)) (3/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ.
أي: ويُخْرِجُ اللهُ سبحانه مِن طَلْعِ النَّخْل- وهو وعاؤُها الذي تنشأُ فيه عُذوقُ الرُّطَبِ- يُخرِج تلك العذوقَ متدلِّيَةً، قريبةً، سَهْلَةَ التناوُلِ [1539] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/445-446)، ((تفسير ابن كثير)) (3/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ.
القراءات ذات الأثر في التفسير:
في قوله تعالى: وَجَنَّات قراءتان:
1- وَجَنَّاتٌ بالرَّفْع: على أنَّها مُبتَدأٌ، والخَبَرُ مَحذوفٌ، وهو إمَّا مُقَدَّمٌ، فيكونُ التقديرُ: وثَمَّ جَنَّاتٌ، أو: ومِنَ الكَرمِ جناتٌ، أو: ولَكُم جَنَّاتٌ، وإمَّا أن يكونَ مُؤَخَّرًا، فيكونُ التَّقديرُ: وجناتٌ مِن أعنابٍ أخرَجْناها [1540] رواها الأعشى عن أبي بكر. يُنظر: ((الحجة في القراءات السبع)) لابن خالويه (ص: 146)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 264). ويُنظر أيضًا: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/264)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/525)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/75-76)، ((منار الهدى في بيان الوقف والابتدا)) للأشموني (1/214). .
2- وَجَنَّاتٍ بالنَّصبِ: على أنَّها معطوفةٌ على نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، أي: وأَخْرَجْنا به جَنَّاتٍ مِنْ أعنابٍ، أو معطوفةٌ عَلى خَضِرًا [1541] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((معاني القراءات)) للأزهري (1/374)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 264). ويُنظر أيضًا: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/264)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/525)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/75-76). .
وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ.
أي: وأخرجْنا أيضًا بساتينَ من أعنابٍ [1542] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/445-446)، ((تفسير ابن كثير)) (3/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ
أي: وأَخْرَجْنا شَجَرَ الزيتونِ والرُّمَّانِ الذي يتشابَهُ في وَرَقِه وشَجَرِه، ويختَلِفُ في ثَمَره شكلًا وطعمًا [1543] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/449)، ((تفسير ابن كثير)) (3/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/29). قال الشنقيطي: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كان بعضُ العلماءِ يقولُ: في الكلامِ حذفٌ دَلَّ المقامُ عليه، أي: والزيتونَ مشتَبِهًا وغيرَ متشابهٍ، والرمانَ مشتَبِهًا وغيرَ مُتَشابِهٍ. أنها راجعةٌ لكليهما. وحُذِف أحدُهما لدلالةِ المقامِ عليه... وهو أسلوبٌ عربيٌّ مَعْروفٌ ومعنَى كونِ الزيتونِ مُشْتَبِهًا وغيرَ مُتَشابهٍ: أن شجرَه يتشابهُ ورقُه في القَدْرِ، ويتشابَه في نباتِه في جميعِ الغصنِ، وغيرُ متشابهٍ لأنَّه أنواعٌ تختلفُ طُعومُها. الذي يعرفُه يَجِدُ في اختلافِ طعمِه فُروقًا يستدلُّ بها على كمالِ قدرةِ مَنْ صَنَعه...، وكذلك الرمانُ: تجدُه متشابهًا بالمنظرِ، أغصانُه وورقُه مُتَشابِهٌ، وقد تجدُ طعمَه مُتَبايِنًا أيضًا كما هو معروفٌ) ((العذب النمير)) (2/29). .
انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ.
أي: انظروا إليه حين بُدُوِّه وطُلوعِه، وحين بُلوغِه ونُضْجِه، نَظَرَ فِكْرٍ واعتبارٍ؛ فإنَّ في ذلك عِبَرًا وآياتٍ؛ كالتفكيرِ في رحمةِ الله، وسَعَةِ إحسانِه وَجُودِه، وعنايَتِه بعبادِه، وكمالِ قُدْرَتِه؛ حيث أخرج تلك الثِّمارَ مِن العَدَمِ إلى الوُجودِ، فبَعْدَ أن كان حَطَبًا، صار عِنَبًا ورطبًا، وغير ذلك مِمَّا خلَقَ تعالى؛ من الألوانِ والأشكالِ والطُّعومِ والرَّوائحِ [1544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/450)، ((تفسير ابن كثير)) (3/306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/31-33). .
إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
أي: إنَّ في إنزالِ اللهِ تعالى- أيُّها النَّاسُ- الماءَ من السَّماءِ الذي أخرَجَ به نباتَ كلِّ شيءٍ، والخَضِر الذي أخرج منه الحَبَّ المتراكِبَ، وغير ذلك مِمَّا ذكَرَه الله تعالى في هذه الآيَةِ؛ لدَلالاتٍ للمؤمنينَ على وحدانيَّة وكمالِ قُدرَةِ خالِقِ هذه الأشياءِ وحِكْمَتِه ورَحْمَتِه، وأنَّ العبادَةَ لا تصلُحُ إلَّا له عزَّ وجلَّ [1545] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/452-453)، ((تفسير ابن كثير)) (3/307)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/33). .

الفوائد التربوية :

1- النَّظَرُ في هذا الكونِ الجميلِ البهيجِ الرَّائِعِ، والتفكُّرُ في ظواهِرِه، وتقلُّباتِه من العَدَمِ إلى الوجودِ؛ يُوقِفُنا على قُدرةِ الله تعالى التي تَبْهَر العقولَ، ويُعَرِّفنا على بديعِ السَّمواتِ والأرض، الذي أودَعَ الوجودَ كلَّ هذه البدائِعِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قولُ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [1546] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (1/322).
2- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه تذكيرٌ بوحدانيَّة الله، وبعظيمِ خِلْقَةِ النُّجومِ، وبالنِّعمةِ الحاصلةِ مِن نظامِ سَيْرِها؛ إذ كانت هدايةً للنَّاسِ في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ [1547] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/392). .
3- ليس كُلُّ أحدٍ يعتَبِرُ ويتفَكَّر، وليس كلُّ من تَفَكَّرَ، أدرَكَ المعنى المقصودَ؛ ولهذا قَيَّدَ تعالى الانتفاعَ بالآياتِ بالمؤمنينَ دونَ غيرِهم؛ فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنَّ المؤمنينَ يَحْمِلُهم ما معهم من الإيمانِ على العَمَل بمقتضياتِهِ ولوازِمِه، التي منها التفكُّرُ في آياتِ الله، والاستنتاجُ منها ما يُرادُ منها، وما تدلُّ عليه، عقلًا وفطرةً، ونقلًا [1548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/453)، ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- في قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ افتتحَ الجملة بـإِنَّ مع أنَّه لا يُنكِرُ أحدٌ أنَّ اللهَ هو فاعِلُ الأفعالِ المذكورةِ هنا، ولكِنَّ النَّظَرَ والاعتبارَ في دَلالةِ الزَّرْعِ على قُدْرةِ الخالِقِ على الإحياءِ بعدَ الموتِ، كما قَدَرَ على إماتَةِ الحَيِّ؛ لَمَّا كان نظَرًا دقيقًا قد انصرف عنه المُشْركونَ، فاجتَرَؤوا على إنكارِ البَعْثِ- كان حالُهم كحالِ مَن أنكَرَ أو شَكَّ في أنَّ اللهَ فالِقُ تعالى الحَبِّ والنَّوَى، فأكَّدَ الخَبَرَ بحرفِ إِنَّ [1549] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/387). .
2- في قولِ الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وقولِه: فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ، جاء تَقديمُ الحَبِّ في الموضعينِ؛ مما يدلُّ على أنَّ الزَّرْعَ الَّذي منهُ يكونُ خروجُ الحَبِّ أفضَلُ؛ فإنَّه قوتٌ في أكثَرِ البلادِ، ولأغْلَبِ الحيواناتِ [1550] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/209). .
3- قوله: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ فيه إشكالٌ، وسؤال معروفٌ للعلماءِ، وهو أنَّ في الآيةِ أنَّه سبحانه يفلقُ الإصباحَ، والذي يفلقُ ويشقُّ عن نور الصباحِ في الحقيقةِ هو الظَّلامُ، فكيف يكون نورُ الصباح هو الذي يفلقُ ويشقُّ؟ وللعلماءِ عن هذا السُّؤال أجوبةٌ:
منها: أنَّ الله تعالى قال: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ؛ لأنَّ شعاعَ الصُّبح يبدأ أوَّلًا وتحته ظلامٌ، ولم يُسْفِر إسفارًا تامًّا يكشِفُ الظَّلامَ كَشفًا كليًّا، ثم ينصَدِعُ ذلك الإصباحُ انصداعًا كليًّا عن ضَوءِ النَّهارِ كما ينبغي. وقيل: الكلامُ على حَذفِ مُضافٍ: فالِقُ ظُلمةِ الإصباحِ، وأنَّه حُذِف المضافُ إليه. ولا يخلو مِن بُعْدٍ؛ لأنَّ هذا المُضافَ لم تحتَفَّ به قرينةٌ [1551] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/539). .
4- في قوله تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيل سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَكَر تعالى في هذه الآيةِ ثَلاثةَ أنواعٍ من الدَّلائِلِ الفَلَكيَّةِ على التوحيدِ؛ فأوَّلها: ظهورُ الصَّباحِ. وثانيها: قولُه: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا. وثالثها: وَجَعَلَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [1552] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/78). .
5- مَصدَرُ الخَلْقِ والأَمْرِ والقضاءِ والشَّرْع؛ عن عِلْمِ الرَّبِّ وعِزَّتِه وحِكْمَتِه، ولهذا يَقْرِن تعالى بين الاسمين مِن هذه الثلاثةِ كثيرًا، ومنها قوله تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وقال في سورةِ (فصِّلَت) بعد ذكرِ تخليقِ العالمِ: ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، فارتباطُ الخلقِ بقدرتِه التامَّة يقتضي ألَّا يخرجَ موجودٌ عن قدرتِه، وارتباطُه بعلمِه التامِّ يقتضي إحاطتَه به، وتقدُّمَه عليه، وارتباطُه بحكمتِه يقتضي وقوعَه على أكملِ الوجوهِ، وأحسنِها [1553] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 92). .
6- في قوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا عبَّر في جانِبِ اللَّيل بمادَّةِ الجَعْلِ؛ لأنَّ الظُّلْمةَ عَدَمٌ؛ فتعَلُّقُ القُدرةِ فيها هو تعلُّقُها بإزالَةِ ما يمنَعُ تلك الظُّلْمةَ من الأنوارِ العارِضَةِ للأُفُقِ [1554] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/391). .
7- في قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا جَعَل الله حَركاتِ الشَّمْسِ والقَمَرِ على نظامٍ واحدٍ لا يختَلِفُ، وذلك من أعظَمِ دلائِلِ عِلْمِ الله وقُدْرَتِه [1555] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/392). .
8- قولُ الله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا أصلٌ في الحسابِ والميقاتِ وأدِلَّةِ القِبلةِ [1556] يُنظر: ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 120). .
9- قولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فيه دليلٌ على مشروعيَّةِ تعلُّمِ سَيرِ الكواكِبِ ومَحالِّها؛ الذي يُسمَّى علْمَ التَّسييرِ؛ فإنه لا تَتِمُّ الهدايةُ ولا تُمْكِن إلَّا بذلك [1557] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 266). .
10- إنَّما خَصَّ اللهُ تعالى القومَ الذين يَعلمون في قوله: قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ؛ لأنَّهم هم المنتفعونَ بها، وهذا أسلوبٌ مِن أساليبِ القرآنِ العظيمِ؛ أن يَخْصُصَ بالكلامِ الْمُنتَفِعَ به؛ كقوله: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق: 45] ، وهو مُذَكِّرٌ للأسودِ والأحمَرِ، وكقوله: إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ [يس: 11] ، وهو مُنذِرٌ للأسوَدِ والأحمَرِ، إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات: 45] ونحو ذلك، أمَّا القومُ الذين لا يعلمونَ؛ فتَفصيلُ هذه الآياتِ لا ينفَعُ فيهم؛ لأنَّهم لا يفهمونَ عن اللهِ شيئًا؛ فهم كالأنعامِ، بل هم أنْزَلُ درجةً من الأنعامِ [1558] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/556، 557). .
11- قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فيه الاستدلالُ على وحدانيَّة الله تعالى بالإلهيَّة؛ فلذلك صِيغَ بصيغَةِ القَصْرِ بطريقِ تعريفِ المُسنَد والمُسنَد إليه؛ لأنَّ كَوْنَ خَلْقِ النُّجُومِ من الله، وكَوْنَها ممَّا يُهتَدى بها؛ لا يُنْكِرُه المخاطَبونَ، ولكنَّهم لم يَجْرُوا على ما يقتضيهِ من إفرادِه بالعبادَةِ [1559] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/393). .
12- قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ يدلُّ على أنَّ إخراجَ النباتِ يكون بواسِطَةِ الماءِ، وذلك يوجِبُ القولَ بالأسبابِ والقُوى والطَّبائع، ففيه ردٌّ على المتكلِّمين الذين يقولون: إنَّ قدرةَ العبدِ وغيرَها من الأسبابِ التي خلَقَ اللهُ تعالى بها المخلوقاتِ؛ ليست أسبابًا، وأنَّ وجودَها كَعَدَمِها، وليس هناك إلا مجرَّدُ اقترانٍ عاديٍّ [1560] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/136-137)، ((تفسير ابن عادل)) (8/318). .
13- قولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ النَّخل: من جِنْسِ الْمُنْبَتِ بهذا الماءِ إلَّا أنَّ اللهَ قطَعَه، وجاءَ به في صيغةِ جملةٍ مستأنَفَةٍ من مبتدأٍ وخبرٍ؛ تنويهًا بشأن النَّخْل؛ لأنَّ النَّخْلَ كلُّه منافِعُ، وجَرَتِ العادةُ في القرآن: أنَّه إذا ذَكَرَ الإنعامَ بالتَّمْر ذَكَرَه باسم شجَرَتِه التي هي النخلةُ، وإذا ذَكَرَ الإنعامَ باسْمِ العِنَبِ ذَكَرَه باسْمِ الثَّمرةِ التي هي العِنَبُ. هذه قاعدةٌ مطَّردةٌ في القرآنِ؛ قال بعضُ العلماءِ: إنَّما ذَكَرَ شجرةَ التَّمْر، التي هي النخلَةُ؛ لأنَّ النخْلَةَ كلُّها منافِعُ؛ فتَمْرُها بعضُ منافِعِها، فلو عَبَّر بالتَّمْر لأهمَلَ منافِعَ النخْلِ الكثيرةَ؛ لأنَّ النَّخْلَ كلُّها منافِعُ؛ لأنَّ خُوصَها تُصنَع منه القِفاصُ، وجريدَها تُصنَع منه الحُصْر، وتُصنَع منها الحِبالُ، ولُبَّها يُؤكَلُ، وجِذْعها يُسْقَفُ به، وكِرنافها [1561] الكِرنافُ : أصلُ السَّعَفِ الذي يبقَى بعد قَطعِه في جِذعِ النَّخلةِ، وجمعُه: الكَرانيفُ. ((المصباح المنير)) للفيومي(2/529)، ((تاج العروس)) للزبيدي (24/305). يُوقَد به؛ فجميعُ ما فيها منافِعُ، أمَّا شجرةُ العِنَب: فليس في نَفْسِ الشجرةِ من المنافِعِ ما في النَّخْلةِ، فأعظَمُ منافِعِها في ثَمرَتِها [1562] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/23، 24). .
14- قول الله تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ ذَكَر (الطَّلْع)، ولم يَقُلْ: (مِن النَّخْل قِنوانٌ)؛ إذ كان الطَّلْعُ طَعامًا لذيذًا، وإدامًا نافعًا، ولم يكُنْ كسائِرِ أكمامِ الثِّمارِ [1563] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (ص: 482). .
15- قال تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وجناتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ خصَّصَ اللهُ تعالى هذه الأشجارَ بالذِّكْرِ بعد أنْ عَمَّ جميعَ الأشجارِ والنَّوابت؛ لأنَّها من الأشجارِ الكثيرةِ النَّفْع، العظيمةِ الوَقْعِ [1564] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 267). .
16- قال تعالى: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كونُه يتشابَهُ من جهةٍ، ويختلِفُ من جهةٍ، هذا دليلٌ على كمالِ قدرةِ مَن خَلَقَه، وأنَّ خَالِقَه ليس بطبيعةٍ؛ لأنَّ الطبيعةَ عند من يزعمونَها معنًى واحدٌ، جوهَرٌ لا يتقَسَّم، ولا يقبلُ الانقسامَ. يستحيلُ أن تؤثِّرَ الطبيعةُ في مطبوعَينِ مختلفَينِ؛ ولا يمكن أن تكون الطبيعةُ الواحِدَةُ تُنتِجُ أشياءَ مختلفةً، واختلافُ هذه الأشياءِ دليلٌ على أنَّ فاعِلَ ذلك صانِعٌ مختارٌ، يفعلُ ما يشاءُ، فالمقصودُ من التقييدِ بهذه الحالِ في قولِه تعالى: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ التنبيهُ على أنَّها مخلوقةٌ بالقَصْدِ والاختيارِ لا بالصُّدفَةِ [1565] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/402)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/30). هذا بناء على أنَّ قولَه: مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ راجعٌ للزيتونِ والرُّمان كليهما، أي: والزيتونَ مشتَبِهًا وغيرَ متشابهٍ، والرمانَ مشتَبِهًا وغيرَ مُتَشَابِهٍ، وقد تقدَّم. .
17- قولُ الله تعالى: مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ لأَجْلِ أنَّ الاشتباهَ أبلَغُ من التَّشابُه، عَلَّقَ الأمْرَ بالنَّظَرِ الذي هو أثبَتُ الحَواسِّ [1566] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/212). .
18- قولُ اللهِ تعالى: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَمَّا كان اتِّخاذُ هذه الحبوبِ والثِّمارِ المذكوراتِ أوَّلًا، والمخالَفَةُ بين أشكالِها ومقاديرِها وألوانِها ثانيًا؛ دالًّا على كمالِ قُدرَةِ الله تعالى المستلزِمِ لوحدانِيَّتِه- دلَّ على عَظَمَتِه بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ مشيرًا بأداةِ البُعْدِ وميم الجمع؛ أي: الأمرُ العظيمُ الشأنِ، العالي الرُّتْبَةِ [1567] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/213). .

بلاغة الآيات :

1- قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
- قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ استئنافٌ ابتدائيٌّ انتقَلَ به من تَقريرِ التوحيدِ والبعثِ والرِّسالةِ، وأفانينِ المواعِظِ والبراهينِ التي تَخلَّلَت ذلك، إلى الاستدلالِ والاعتبارِ بِخَلْقِ اللهِ تعالى، وعَجائِبِ مصنوعاتِه المشاهَدَةِ [1568] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/387). .
- وجملة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ مُستأنفةٌ مُبَيِّنةٌ لِمَا قَبْلَها من قوله: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى، ومؤكِّدَةٌ لها [1569] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/164). ؛ لأنَّ فَلْقَ الحبِّ والنَّوى بالنَّباتِ والشَّجرِ النامِيَينِ، من جِنسِ إخراجِ الحيِّ من الميِّت؛ لأنَّ النَّامِيَ في حُكمِ الحَيوانِ الحيِّ، كما قال تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [1570] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- مع الحاشية)) (2/47- 48). [الروم: 19] .
- وجاء قوله: يُخْرِجُ على صِيغةِ الفِعلِ بَينَ اسمَي فاعِل: فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ووَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، فعَدَلَ عن اسْمِ الفاعِلِ إلى الفِعلِ المُضارِعِ في هذا الوصفِ وحْدَه؛ إرادةً لتصويرِ إخراجِ الحيِّ مِن الميِّتِ، واستحضارِه في ذِهنِ السَّامع، وهذا التصويرُ والاستحضارُ إنَّما يَتمكَّن في أدائِهما الفِعلُ المضارعُ، دون اسمِ الفاعلِ والماضِي [1571] يُنظر: ((تفسير الزمخشري- مع الحاشية)) (2/47- 48). .
وقيل: لم يَقُل: (ومُخرِج الحيِّ من الميِّت)؛ لأنَّه لَمَّا اجتمَعَ ثلاثةُ حُروفٍ مِن حروفِ العِلة دَفعةً واحدةً، وهي: الواو والياء مِن (النَّوى)، والواو مِن (ومخرج) وهي واو العطف، ونُقِل عن لفظِ الاسمِ إلى لفظِ الفِعلِ لَمَّا كان (يُخرِج) و(مُخرِج) بمعنًى واحد، فقال: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فجَعَل جملةَ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ خبرَ الابتداءِ، كما في: إنَّ زيدًا ضاربُ عَمرٍو يُكرِمُ بَكرًا، ومُكرِمٌ جَعفرًا؛ فهذا أفصحُ مِن أنْ يُقال: إنَّ زيدًا ضاربُ عمرٍو، ومكرمُ بَكرٍ، ومُكرمُ جَعفرٍ؛ فلهذا المعنَى قال: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [1572] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي  (2/526- 527). .
- قوله تعالى: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ
فيه مناسبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ عبَّر هنا في سُورةِ الأنعامِ بقولِه: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، فعَطَفَ الاسمَ على لفظِ الِفعلِ، ولم يَعطِفْ عليه لفظَ الفِعل، كما في سُورتي يونس والروم، حيث قال: وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ [يونس: 31، الروم: 19] بالفِعلِ؛ وذلِك أنَّ الذي وقَع في الأنعام قبله اسمَا فاعِلٍ، وهما: فَالِقُ الْحَبِّ، وجَاعِلُ، والذي وقَعَ بعده اسمُ فاعِلٍ أيضًا، وهو فَالِقُ الْإِصْبَاحِ؛  فناسَب ذِكر مُخْرِج؛ لكونِه اسمَ فاعِل، وخصَّ بالاسمِ لتكرُّرِ الاسمينِ بعدَه، وخُصَّ يُخْرِجُ الحَيَّ قبْلَه بالفِعل؛ إذ لم يَتقدَّمه إلَّا اسمٌ واحدٌ، وما في بقيَّة السُّورِ لم يقَعْ قبلَه وبعدَه إلا أفعالٌ؛ فناسَب ذِكره بالفِعل [1573] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي  (2/528)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 110-111)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/80)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 171-172). .
- قوله: ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
جُملةُ ذَلِكُمُ اللهُ مستأنفةٌ، مقصودٌ منها الاعتبارُ، فتكون جملةُ: ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كلُّها اعتراضًا [1574] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/390). .
- والإشارةُ بـذَلِكُمُ لزِيادةِ التَّمييزِ، وللَّتعريضِ بغَباوةِ المخاطَبينَ المُشْرِكينَ؛ لِغَفْلتِهم عن هذه الدَّلالة على أنَّه المُنْفرِدُ بالإلهيَّةِ، أي: ذلكم الفاعلُ الأفعالَ العظيمةَ؛ مِن الفَلْقِ، وإخراجِ الحيِّ مِن الميِّتِ، والميِّتِ مِن الحيِّ، هو الذي يَعرِفُه الخلقُ باسمِه العظيمِ، الدالِّ على أنَّه الإلهُ الواحدُ، المقصورِ عليه وصْفُ الإلهيَّةِ؛ فلا تَعْدِلوا به في الإلهيَّة غيرَه؛ ولذلك عقَّبَ بالتفريعِ بالفاءِ قولَه: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [1575] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/389). .
- وقوله: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ استفهامٌ تعجيبيٌّ إنكاريٌّ، أي: لا يوجَدُ موجِبٌ يَصْرِفُكم عن توحيدِه [1576] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/389). .
- قوله: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا إعجازٌ يتجَسَّدُ فيه عَجْزُ الإنسانِ؛ فالكلمةُ القرآنيَّةُ مهما استبدَلْتَ بها غيرَها لم يَسُدَّ مسَدَّها، ولم يُغْنِ غَناءَها، ولم يؤَدِّ الصُّورةَ التي كانت تؤدِّيها، وانظُرْ إلى طبيعةِ الأحرُفِ التي تتكوَّنُ منها كلمةُ سَكَنًا وتوالي الفَتَحاتِ على حروفها، كلُّ ذلك يُشْعِرُكَ بذلك الهدوءِ الذي يَبْعَثُ على الطُّمأنينَةِ، وينْشُرُ الرَّاحَةَ في النَّفْسِ [1577] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/178-179). .
2- قوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ المقصودُ الأوَّلُ من هذا الخبرِ الاستدلالُ على وحدانيَّة اللهِ تعالى بالإلهيَّة؛ فلذلك صِيغَ بصيغةِ القَصْرِ بطريقِ تعريفِ المُسنَد والمُسنَد إليه في قوله: وَهُوَ الَّذِي؛ لأنَّ كَونَ خَلْقِ النجومِ من الله، وكونَها مِمَّا يُهتَدى بها؛ لا يُنْكِرُه المخاطَبون، ولكنَّهم لم يَجْرُوا على ما يقتضيهِ من إفرادِه بالعبادَةِ [1578] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/393). .
- قوله: لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إضافة قوله: ظُلُمَاتِ إلى قوله: الْبَرِّ وَالْبَحْرِ للملابسةِ لهما، أو شَبَّه مُشتبهاتِ الطُّرق بالظُّلماتِ [1579] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/50)، ((تفسير البيضاوي)) (2/174). ، وإنَّما أضافَ الظلماتِ إلى البَرِّ والبحرِ؛ لأنَّ المسافرين قد يكونون في ظُلماتِ اللَّيلِ تارةً في بَرٍّ، وتارةً في بَحرٍ؛ فأضاف الظلماتِ إلى مَكانِها من بَرٍّ أو بحرٍ؛ للمُلابسةِ بينهما [1580] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/556). .
- قوله: قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ جملةٌ مستأنفَةٌ للتَّسجيلِ، والتبليغِ، وقَطْعِ معذرَةِ من لم يُؤْمِنوا [1581] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/394). .
- والتعريفُ في الْآيَاتِ للاستغراقِ، فيشمَلُ آيةَ خَلْقِ النُّجومِ وغَيْرَها [1582] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/394). .
- وقوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيه تعريضٌ بِمَن لم ينتَفِعوا مِن هذا التَّفصيلِ، بأنَّهم قومٌ لا يعلمونَ [1583] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/394). .
3- قوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ
- قوله: وَهُوَ الَّذِي أنْشَأكمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فيه مناسَبَةٌ حسنةٌ؛ حيث عبَّرَ هنا بلفظِ: أَنْشَأَكُمْ، وفي غيرِ هذه السُّورةِ جاء التعبيرُ بلَفْظِ: خَلَقَكُمْ؛ لأنَّ ما هنا موافقٌ لقولِه قبله: وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ، ولقوله بعده: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ بخلافِ البقيَّةِ [1584] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 111- 112)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 172). .
- قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ فيه تعريضٌ بِمَن لا يَتدَبَّرُ آياتِ اللهِ، ولا يعتَبِرُ بما خَلَقَ، وتعريضٌ بأنَّ المُشركينَ لا يعلمونَ ولا يفقهونَ؛ فإنَّ العِلمَ هو المعرفَةُ الموافِقَةُ للحقيقةِ [1585] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/397)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/181). .
- وفيه مناسبةٌ حسنةٌ، حيثُ عبَّر هنا بقوله يَفْقَهُونَ بخِلاف الآيةِ السَّابقةِ؛ حيث عبَّرَ بقوله: يَعْلَمُونَ؛ فخَتَمَ الآيةَ السابقةَ، وهي الآيةُ التي استدلَّ فيها بأحوالِ النُّجومِ بقوله: يَعْلَمُونَ، وختم آخِرَ هذه الآيةِ بقوله: يَفْقَهُونَ؛ لأنَّ إنشاءَ الإِنْسِ من نفسٍ واحدةٍ، وتصريفَهم بين أحوالٍ مختلفةٍ؛ ألطَفُ، وأدَقُّ صنعةً وتدبيرًا، فكان ذِكْرُ الفِقْه- الذي هو استعمالُ فطنةٍ، وتدقيقُ نَظَرٍ، ويفيدُ مزيدَ قوَّةٍ وذكاءٍ وفَهْمٍ- مطابقًا له، فدلالةُ إنشائِهم على هذه الأطوارِ من الاستقرارِ والاستيداعِ وما فيهما من الحكمةِ؛ دلالةٌ دقيقةٌ تحتاجُ إلى تدبُّرٍ؛ فإنَّ المُخاطَبينَ كانوا مُعْرضينَ عنها؛ فعَبَّر عن عِلْمِها بأنَّه فِقْهٌ، بخلافِ دلالةِ النُّجومِ على حِكمةِ الاهتداءِ بها؛ فهي دَلالةٌ متكرِّرةٌ؛ فناسَبَ خَتْمُ كلِّ جملةٍ بما يناسِبُ ما صُدِّر به الكلامُ [1586] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/50- 51)، ((تفسير الرازي)) (13/82)، ((تفسير أبي حيان)) (4/596)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/397). .
4- قوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
- قوله: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ:
- قوله: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فيه التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التكلُّمِ، ولو جرى على لفْظِ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لكان التركيبُ: (فأخرج به نباتَ كُلِّ شيءٍ)، وذلك الالتفاتُ من الفصاحَةِ، وسِرُّ هذا الالتفاتِ هنا: العنايةُ بشأنِ هذا الإخراجِ، والتنويهُ بالعظمَةِ والقدرةِ البالِغَتينِ [1587] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/84)، ((تفسير أبي حيان)) (4/597)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (3/185). .
- قوله: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ جيءَ بالتعريفِ في قوله: النَّخْلِ للعَهْدِ الجنسيِّ؛ للإشارةِ إلى أنَّه الجِنْسُ المألوفُ المعهودُ للعرب؛ فإنَّ النَّخْلَ شَجَرُهم، وثَمَرُه قُوتُهم، وحوائِطُه مُنْبَسَطُ نُفُوسِهم [1588] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/400). .
- وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ، أُفرِد ذِكرُ القِنوانِ، وجُرِّد [1589] التجريدُ اصطلاحًا: أنْ ينتزع المتكلمُ مِن أمر ذي صِفةٍ أمرًا آخَرَ مثلَه في تلك الصِّفة؛ مبالغةً في كمالها في المنتزَعِ منه، حتى إنَّه قد صارَ منها، بحيثُ يُمكن أن يُنتزعَ منه موصوفٌ آخَرُ بها، وأقسام التجريد كثيرة. يُنظر: ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 308)، ((البلاغة العربية))  لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (2/431). مِن قوله: نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ، أي: انتُزِعَ مِن نباتِ كلِّ شَيءٍ مع أنَّه مِنه؛ لِمَا في تجريدِها من عَظيمِ المِنَّةِ والنِّعمةِ؛ إذ كانتْ أعظمَ أو مِن أعظمِ قوتِ العربِ، وأُبرزتْ الجملةُ في صورةِ المبتدأ والخبرِ؛ ليدلَّ على الثبوتِ والاستقرارِ وأنَّ ذلك مفروغٌ منه [1590] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/597- 598). .
- وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ (جَنَّاتٍ) منصوبةٌ عطفًا على قولِه: نَبَاتَ، وهو مِن عَطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لشَرفِه، ولَمَّا جُرِّدَ النَّخلُ، جُرِّدَتْ جنَّاتُ الأعنابِ؛ لشَرَفِهما، كما قال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [1591] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/598). .
- قوله: دَانِيَةٌ أي: قريبةٌ؛ قيل: ذكَر القريبةَ، وتَرَك ذِكرَ البعيدةِ؛ لأنَّ النِّعمةَ فيها أظهَرُ وأدلُّ بذِكر القريبةِ على ذِكر البعيدةِ؛ كقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ؛ فاقتصر على ذِكْرِ دَانِيَةٌ عن مقابِلها (بعيدة)؛ لدَلالتها عليه، وزيادةِ النِّعمةِ فيها [1592] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/52)، ((تفسير البيضاوي)) (2/175). .
- وجاء قوله: فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ على أَحْسَنِ مساقٍ، وأبدَعِه في الترتيبِ؛ فلَمَّا تقدَّمَ أنَّ الله فالِقُ الحَبِّ والنَّوى، جاء الترتيبُ بعد ذلك تابعًا لهذا الترتيب، فحين ذَكَرَ أنَّه أخرج نباتَ كُلِّ شيءٍ ذَكَرَ الزَّرْعَ، وهو المرادُ بقولِه: خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا، وابتدأ به كما ابتدأ به في قوله: فَالِقُ الْحَبِّ ثم ثنَّى بما له نوًى، فقال: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ إلى آخره، كما ثنَّى به في قوله: وَالنَّوَى وقدَّمَ الزرع على الشَّجَرِ؛ لأنَّه غذاءٌ، والثَّمَر فاكهةٌ، والغذاءُ مُقَدَّمٌ على الفاكهة، وقَدَّمَ النَّخْلَ على سائِرِ الفواكِه؛ لأنَّه يجري مَجْرى الغذاءِ بالنِّسبَةِ إلى العَرَبِ، وقدَّمَ العِنَبَ؛ لأنَّه أشْرَفُ الفواكِهِ، وهو في جميعِ أطوارِه منتفَعٌ به، ثمَّ إنْ عُصِرَ كان منه خلٌّ ودِبْس- أي: عُصَارَة- وإن جُفِّفَ كان منه زبيبٌ. وقُدِّمَ الزيتونَ لأنَّه كثيرُ المنفعةِ في الأكْلِ، وفيما يُعْصَر منه من الدُّهْنِ العظيم النَّفْع في الأكل والاستصباحِ، وغيرهما، وذَكَرَ الرُّمَّان لعَجَب حالِه وغرابَتِه [1593] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/86)، ((تفسير أبي حيان)) (4/601). !
- قوله تعالى: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ..
فيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ ورَد فيما بعدُ مِن هذه السُّورة: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141] ، فورَد في الآية الأولى: مُشْتَبِهًا، وفي الثانية: مُتَشَابِهًا، وفي الأولى: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ، وفي الثانية: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ؛ وذلك لأنَّ مُشْتَبِهًا ومُتَشَابِهًا لا فَرقَ بينهما إلَّا ما لا يعدُّ فارقًا؛ إذ الافتعالُ والتفاعُل متقاربانِ؛ أصولهما: الشين والباء والهاء، مِن قوله: أشبه هذا هذا، إذا قاربَه وماثلَه؛ فورَد في أُولى الآيتينِ على أخفِّ البناء، وفي الثانية على أثقلِهما؛ رعيًا للترتيبِ. أمَّا قولُه تعالى في الأُولى: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ؛ فهو مبنيٌّ على ما قَبْلَه ممَّا بناه على الاعتِبارِ والتدبُّر؛ قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى... [الأنعام: 95] الآيةَ، وقال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا... [الأنعام: 96] الآية، وقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا... [الأنعام: 97] الآية، ثم قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 99] ؛ فلمَّا كان مَبْنى هذه الآيِ على الاعتِبارِ، والتَّنبيهِ بما نصَب تعالى من الدَّلائل على وَحدانيَّته- لم يكُن ليُناسِبَ ذلك ويُلائِمه إلَّا الأمرُ بالنَّظرِ والاعتبار، لا الأمرُ بالأكْل. أمَّا الآيةُ الثانيةُ فمبنيَّةٌ على غيرِ هذا؛ فقَدْ تقدَّمها قوله تعالى: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ... [الأنعام: 138] ، وجرَى ما بعدُ على التناسُب إلى قولِه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ... إلى قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا [الأنعام: 141] ، ثم قال بعدَ ذِكر الأنعام: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأنعام: 142] ، وجرَى ما بعدُ على هذا في تَفصيلِ ما أحلَّ سبحانَه لعِبادِه، وردِّ ما ظنَّتْ يهودُ تحريمَه على هذه الأمَّة، ثم أتْبع سبحانه لعباده بذِكر ما حرَّم أكْلَه؛ فلمْ يَتخلَّلْ هذه الآياتِ من غيرِ أحكامِ المأكولاتِ في التَّنويعِ والإباحةِ خِلافُ ذلك، سِوى الأَمرِ بزكاةِ الحرثِ، في قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ؛ فدارتْ هذه الآي على ما أَنعمَ به سبحانه مِن ضُروبِ ما خَلَقه تعالى، ممَّا أقام به حياةَ عِبادِه؛ مأكلًا ومَلْبسًا، ومعونةً في حَركاتهم وانتقالاتِهم، ومُباحِ ذلك ومُحرَّمِه، فلم يكُنْ ليلائمَ ذلك إلَّا ما يُناسِبُه، ولم يكُن ليناسبَ الآيةَ المتقدِّمة لو قيل: (كُلوا)، ولا هذِه الآية لو قِيل: (انْظُروا)؛ فجاءَ كلٌّ على ما يَجِبُ ويلائِمُ، ولا يُناسِبُ خِلافُه [1594] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 112)، ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/166-167). .
- قوله: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ: نبَّه على هاتينِ الحالتَينِ فقط، وإن كان بينهما أحوالٌ يقَعُ بها الاعتبارُ والاستبصارُ؛ لأنَّهما أغرَبُ في الوقوعِ، وأظهَرُ في الاستدلالِ [1595] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/600). .
- قوله: إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيه إتمامٌ للتعريضِ بأنَّ غيرَ العالِمينَ وغيرَ الفاقِهين هم غيرُ المؤمنين، يعني: المشركينَ؛ إذ صَرَّح هنا بأنَّ الآياتِ إنَّما تنفَعُ المؤمنينَ تصريحًا بأنَّهم المقصودُ في الآيتينِ الأُخْرَيينِ بقوله: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، وقوله: لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ [1596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/404). .