موسوعة التفسير

سُورةُ الأنعامِ
الآيتان (93-94)

ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ

غريب الكلمات :

افْتَرَى: أي: كَذَب واختَلَق؛ فالافتراءُ الكَذِبُ، أو العظيمُ من الكَذِبِ، وأصل الفَرْي: قطْع الجِلْد [1448] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 31، 280)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/102)، ((المفردات)) للراغب (ص: 634)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 154). .
غَمَرَاتِ الْمَوْتِ: أي: شدائِدِه، وأصْلُ الغَمْر: تغطيةٌ وسَترٌ في بعضِ الشدَّةِ [1449] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/350)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/392)، ((المفردات)) للراغب (ص: 614)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 158)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 673). .
الْهُونِ: الهوانُ، وأصلُه: سكونٌ أو سكينةٌ أو ذُلٌّ [1450] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 156)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/21)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/99)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 962). .
خَوَّلْنَاكُمْ: ملَّكْناكم وأعطيناكم، وأصله: تعهُّدُ الشَّيءِ [1451] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 157)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/206)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/230)، ((المفردات)) للراغب (ص: 304)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 158). .
تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ: أي: تقَطَّعَتِ الوُصَلُ التي كانت بينكم في الدُّنيا من القَرابة والحِلْفِ والمودَّة، وأصل قطع: الفَصْل، و(بين): موضوعٌ للخَلالةِ بين الشَّيئينِ ووسَطِهما [1452] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 157)، ((المفردات)) للراغب (ص: 156، 677). .

مشكل الإعراب :

قوله تعالى: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ
بَيْنَكُمْ: يُقْرَأُ بفَتْحِ النُّونِ، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّه ظَرْفُ مكانٍ لـتَقَطَّعَ، والفاعِلُ مضمرٌ؛ أي: تقطَّعَ الوَصْلُ بينَكم، ودلَّ عليه شُرَكَاءُ؛ فإنَّ الشَّرِكَة تُشْعِر بالاتِّصال، والثاني: أنَّ الفاعِلَ محذوفٌ، وبَيْنَكُمْ صفةٌ له قامتْ مقامَه، تقديرُه: لقد تقطَّع وَصْلٌ بَيْنَكم. وقيل غير ذلك.
ويُقْرَأُ (بَيْنُكُمْ) بضَمِّ النُّونِ؛ على أنَّه فاعِلٌ، والبَيْنُ هنا اسمٌ مُتصَرِّفٌ، خارجٌ عن الظَّرْفِيَّة؛ بمعنى الوَصْل، وهو مِن الأضدادِ [1453] أي: إنَّه مشتركٌ اشتراكًا لفظيًّا، يُستعمَل للوَصْلِ والفِراق. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/54). ، وقيل غير ذلك [1454] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/262)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/522)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/48-56). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِر تعالى أنَّه لا أحَدَ أعظَمُ ظُلمًا مِمَّن اختلَقَ الكَذِبَ على الله، أو مَن قالَ- وهو كاذِبٌ- إنَّ اللهَ أوحى إليه، ومَن قال: إنَّه سيُنْزِل مثلَ ما أنزلَ اللهُ تعالى، ثم خاطَبَ الله نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليهم وسلَّم، قائِلًا له: ولو عاينتَ- يا محمَّدُ- الظَّالمينَ حين يكونونَ في سَكَراتِ الموتِ، وقد غَمَرَهم الموتُ بشدائِدِه وكُرَبِه؛ لَرَأَيْتَ حِينَها هَوْلًا وحالًا شنيعةً، والحالُ أنَّ الملائكةَ مَدُّوا أيديَهم يضربونَهم، قائلينَ لهم: أخرِجوا أنفُسَكم مِن أجسادِكم، اليومَ جزاؤُكم عذابٌ تُهانونَ به، وذلك بما كُنتم تقولونَ على اللهِ غَيرَ الحَقِّ، وبأنَّكم كُنتم عن آياتِه تستكبرونَ.
ويقولُ لهم تعالى عند وُرودِهم عليه يومَ المعادِ: لقد جئتُمونا فُرادى على الهيئةِ التي خَلَقْناكم بها أوَّلَ مَرَّةٍ، وتركتُم ما أعْطَيناكم من النِّعَم في الدُّنيا وراءكم، ولا نَرَى معكم الذين كُنْتُم تَدَّعونَ أنَّهم شُرَكاءُ لنا، فتَعبدونَهم معنا، زاعمينَ أنَّهم سيَشْفَعونَ لكم عندنا هذا اليومَ، لقد انقَطَعَ ما بينَكم وبينَهم، وغابَ عنكم ما كنتُم تَزعُمونَ.

تفسير الآيتين :

وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى القرآنَ، وأنَّه كتابٌ مُنَزَّل من عنده مبارَكٌ، وبيَّنَ ما فيه من صفاتِ الجلالةِ والشَّرَف والرِّفْعة- أعقَبَه بوعيدِ مَنِ ادَّعى النبوَّةَ والرِّسالةَ على سبيلِ الكَذِبِ والافتراءِ، فقال [1455] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/66) يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/585). :
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا.
أي: لا أحدَ أعظمُ ظلمًا، ولا أكبرُ جُرمًا ممَّن كَذَبَ على الله عزَّ وجلَّ، بأنْ نسبَ إليه سبحانه قولًا أو حُكمًا، وهو تعالى بريءٌ منه [1456] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/404)، ((تفسير ابن كثير)) (3/301)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/512-513). .
أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ.
أي: ولا أحَدَ أظلَمُ ممَّن ادَّعى على اللهِ تعالى أنَّه بعَثَه نبيًّا، وأرسَلَه نذيرًا، وهو كاذبٌ في دعواه؛ إذ لم يُوحِ اللهُ إليه شيئًا، ولم يُرْسِلْه [1457] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/404)، ((تفسير ابن كثير)) (3/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/514-515). .
وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ.
 أي: ولا أَحَدَ أظلَمُ مِمَّن ادَّعى أنَّه يَقدِرُ على مُعارضَةِ القرآنِ، وأنَّ في إمكانِه الإتيانَ بمِثْلِه بما يفتريهِ من القوْلِ [1458] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/515-516). .
كما قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 31] .
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ.
مُناسَبَتُها لِمَا قَبْلَها:
 لَمَّا ذمَّ اللهُ الظَّالمينَ في قَوْلِه تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا ناسَبَ أن يذكُرَ ما أعَدَّ لهم من العقوبةِ في حالِ الاحتضارِ، ويومَ القيامةِ [1459] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 265). ، فقال:
وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ.
أي: ولو ترى- يا محمَّدُ- الظَّالمينَ، أمثالَ هؤلاءِ المُفتَرينَ على الله تعالى، لو عايَنْتَهم حين يغمُرُهم الموتُ بسَكَراتِه، وقد غَشِيَتْهم شدائِدُه وكُرَبُه؛ لرَأَيْتَ أمرًا هائلًا، وحالًا شنيعةً [1460] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/408-409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/516-517). .
وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ.
أي: والحالُ أنَّ الملائكَةَ قد مدُّوا أيديَهم؛ يَضربونَ وُجوهَ أولئك الظَّالِمينَ الْمُحتضَرينَ وأَدْبارَهم ضربًا مُوجعًا، ويقولون لهم عند امتناعِ أرواحِهم من الخُرُوجِ من أبدانِها: أخرِجوا أنفُسَكم مِن أجسادِكم [1461] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/409، 411)، ((تفسير ابن كثير)) (3/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/517-518). .
كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الأنفال: 50-51] .
الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ.
أي: اليومَ تُهانونَ غايةَ الإهانةِ والذِّلَّةِ بالعذابِ في جَهنَّمَ؛ جزاءَ كَذِبِكم على اللهِ تعالى في الدُّنيا، واستكبارِكم عن اتِّباعِ آياتِه، والخُضوعِ لأمْرِه، والانقيادِ لرُسُلِه [1462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/411-412)، ((تفسير ابن كثير)) (3/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/518-519). .
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94)  .
مناسبةُ الآيةِ لما قَبلَها:
لَمَّا بَيَّنَ اللهُ جلَّ وعلا في هذه الآياتِ من سورَةِ الأنعامِ أنَّه لا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن افترى على اللهِ كَذِبًا، ولا أحَدَ أظلَمُ مِمَّن ادَّعى الوحْيَ كذِبًا، ولا أحَدَ أظلمُ مِمَّن ادَّعى أنَّه قادِرٌ على إنزالِ مثْلِ ما أنزْلَ اللهُ، وبيَّنَ اللهُ جَلَّ وعلا أنَّ هؤلاءِ الظَّالِمينَ الذين قالوا هذه المقالاتِ؛ أنَّهم إذا حضَرَتْهم الوفاةُ بَسَطَتِ الملائكةُ أيديَهم إليهم بالعذابِ والنَّكَال، وقالوا لهم: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ- بَيَّنَ حالَتَهم التي يُبعَثونَ عليها، وشِدَّةَ ضَعْفِهم، وعَدَمَ قُوَّتِهم التي كانت هي سَبَبَ تمرُّدِهم في الدُّنيا [1463] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/520). ، فقال تعالى:
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ.
يقول لهم اللهُ تعالى عند وُرودِهم عليه يومَ مَعادِهِم: لقد جئتُمونا وُحْدانًا، بلا أهلٍ ولا أولادٍ، ولا جُنودٍ ولا أعوانٍ، ولا مالٍ ولا أثاثٍ، ولا رفيقٍ ولا صديقٍ، ولا شيءٍ من الدُّنيا معكم، فجئتمونا حُفاةً عُراةً غُلْفًا غُرْلًا [1464] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/413-414)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/525-526). وقال ابنُ كثير: (أي: كما بَدَأْناكم أعَدْناكم، وقد كنتُم تُنكرون ذلك وتستبعدونه؛ فهذا يومُ البعثِ) ((تفسير ابن كثير)) (3/302). .
كما قال تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف: 48] .
وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ.
أي: وخلَّفْتُم- أيُّها القومُ- ما آتَيْناكم مِنَ النِّعَم التي اقتَنَيْتُموها في الدُّنيا وراءَكم، فلم تَحْمِلوها معكم إلى الآخِرَةِ [1465] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/415)، ((تفسير ابن كثير)) (3/302)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/526). .
عن عبد اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم وهو يقرأُ: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، قال: يقولُ ابنُ آدمَ: مالِي، مالِي، قال: وهلْ لك يا ابنَ آدَمَ مِنْ مالِكَ إلَّا ما أكَلْتَ فأفنيْتَ، أو لَبِسْتَ فأبلَيْتَ، أو تصدَّقْتَ فأمضَيْتَ؟! )) [1466] رواه مسلم (2958). .
وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء.
أي: ولا نرَى معكم شُفعاءَكم الذين كُنتم في الدُّنيا تَدَّعونَ أنَّهم شُرَكاءُ لنا، فتعبدونَهم معنا، وتزعمونَ أنَّهم يَشفعونَ لكم عِندنا يومَ القيامةِ [1467] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/416)، ((تفسير ابن كثير)) (3/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/527). .
كما قال تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشعراء: 92-93] .
وقال سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .
لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ.
أي: لقدِ انقطَعَ اليومَ ما كانَ بينكم وبين شرُكَائِكم في الدُّنيا؛ مِن تواصُلٍ وتَوادٍّ وتناصُرٍ، وشَفاعةٍ، فاضمحلَّ ذلك كلُّه في الآخِرَة؛ فلا أحَدَ منكم ينصُرُ صاحِبَه، ولا يُواصِلُه [1468] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/417)، ((تفسير ابن كثير)) (3/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/527-528). .
كما قال عزَّ وجلَّ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166] .
وقال تعالى: وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [العنكبوت: 25] .
وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ.
أي: وغاب عنكم ما كنتُم تزعمونَ أنَّهم شُركاءُ للهِ، وشفعاءُ لكم عنده، وذهَبَ ما ترجُونَ منهم مِن شفاعةٍ، تَجْلِبُ لكم- بزَعْمِكم- الأمنَ والسَّعادةَ، والنَّجاةَ يومَ القيامةِ [1469] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/420)، ((تفسير ابن كثير)) (3/303)، ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/529). .
كما قال سبحانه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 22- 24] .

الفوائد التربوية :

1- الاعتبارُ بالموتِ وسَكَراتِه، وما يَتقدَّمُه من شدائِدِ الآلامِ مِمَّا يَحُلُّ بالظَّالمينَ عند الموتِ؛ يُرْشِدُنا إلى ذلك قولُ الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ [1470] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/521-522). .
2- التَّحذيرُ مِن صَرْفِ الهِمَم في الدُّنيا إلى تَحصيلِ المالِ والوَلَدِ والجاهِ، دون الاهتمامِ بالإيمانِ بالرُّسُلِ، والاهتداءِ بما جاؤوا به؛ فإنَّ ذلك لا يُغنِي عن صاحِبِه شيئًا يومَ القيامَةِ؛ قال اللهِ تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [1471] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/437)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/523). .

الفوائد العلمية واللطائف :

1- قولُ الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ فيه ردٌّ على مَن يقول: إنَّه يُحَدِّث عن قَلْبِه عن رَبِّه، أو إنَّه يأخُذُ عن اللهِ بلا واسطةٍ، وإنَّه يأخُذُ مِن حيثُ يأخُذُ المَلَكُ؛ الذي يأتي الرَّسولَ بالوحيِ؛ فهو كاذِبٌ في هذه النِّسبةِ، وله نصيبٌ وافِرٌ من هذا الذَّمِّ [1472] يُنظر: ((بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة)) لابن تيمية (ص: 485)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/400). .
2- قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا فيه تسفيهُ عقائِدِ أهْلِ الشِّرْك والضَّلالةِ منهم؛ على اختلافِها واضطرابِها [1473] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/374). .
3- قولُه تعالى: وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ يَدخُلُ في معناه: مَنِ ادَّعَى أنَّه يُنَظِّمُ للبَشريةِ ما يُغْنِيها عن نِظامِ اللَّهِ جلَّ وعلا، الذي وَضَعَه، ومَنِ اتَّبعَ هذا- والعياذُ بِاللَّهِ- فَقدِ اتَّبَعَ أحدًا لا أظلمَ في الدنيا مِنْه- والعياذُ بِاللَّهِ- فالذي يُنْزِلُه اللَّهُ لا يقدِرُ أحدٌ على أنْ يُنزلَ مثلَه، وَمَنِ ادَّعَى أنَّه ينُزِلُ مثلَه؛ فقد صَرَّحَ اللَّهُ في هذه الآياتِ الكَريمةِ أنَّه لا أحدَ البتَّةَ أَظْلَمُ منه، وبهذا يُعلَمُ أنَّ الذين يَتَنَطَّعونَ، وَيَدَّعُونَ أنَّهم يُنَظِّمُونَ للبشريةِ نظامًا أحسنَ مِمَّا أنزلَ اللَّهُ، أنَّهم يَدخلونَ في هذه الآيةِ، ومعلومٌ أنَّه لا تشريعَ إلَّا للسُّلْطةِ العُلْيَا، فالسلطةُ العُلْيَا الحاكمةُ على كُلِّ شيءٍ هي التي لها الأمْرُ والنَّهْيُ، وممَّا يَنبغي أن يُعلَم أَنَّ مَنِ ادَّعَى أنَّ هنالك تَنْظِيمًا يُنَظِّمُ الحياةَ البشريَّةَ في الدُّنيا مثلَ تنظيمِ اللَّهِ أو أحسنَ مِن تنظيمِ اللَّهِ، أنَّ هذه الدَّعْوَى كُفْرٌ بَوَاحٌ، لا يَشُكُّ فيه مَنْ له أَدنَى عَقْلٍ، والآياتُ المُصَرِّحةُ بذلك بإيضاحٍ كثيرةٌ في القرآنِ العظيمِ [1474] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/520، 521). .
4- قول الله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ يدلُّ على وُقوعِ الجَزاءِ عَقِبَ الموتِ؛ فهذه الآيةُ أحَدُ الأدلَّةِ الدالَّةِ على عَذابِ القَبرِ [1475] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/267)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/43). ، فقولُه تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ فيه دليلٌ على عَذابِ البَرزَخِ ونعيمِه؛ فإنَّ هذا الخطابَ، والعذابَ المُوَجَّه إليهم، إنَّما هو عند الاحتضارِ وقُبَيلَ الموتِ وبعده [1476] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 265). .
5- قوله تعالى: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ فيه دليلٌ على أنَّ الرُّوحَ جِسْمٌ؛ يَدخُلُ ويخرُجُ، ويُخاطَبُ، ويُساكِنُ الجَسَدَ ويُفارِقُه؛ فهذه حالُهم في البَرزَخِ [1477] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 265)، ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/267). .
6- قولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ بَسْطُ اليَدِ يُستعمَلُ بمعنى الإيذاءِ المُطْلَق؛ فإنَّ أكثَرَ الإيذاءِ العَمليِّ يكون بمَدِّ اليَدِ، فإنْ أُريد إيذاءٌ مُعَيَّنٌ ذُكِرَ؛ كقوله تعالى حِكايةً في قصَّةِ ابْنَي آدَمَ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [1478] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/521). .
7- قولُ اللهِ تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ، غَيْرَ الْحَقِّ أي غَيرَ القَولِ المتمَكِّنِ غايَةَ التمكُّنِ في درجاتِ الثَّباتِ، ولو قال بَدَلَه: (باطِلًا)، لم يُؤدِّ هذا المعنى، ولو قال: (الباطِلَ)، لقَصُر عن المعنى أكثَرَ [1479] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/191). .
8- قولُ الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى يدلُّ على أنَّه تعالى ليس في خَلْقِه، ولا خَلْقُه فيه [1480] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (8/20). .
9- قولُ الله تعالى: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ يعبَّرُ بالتَّرْك وراءَ الظَّهْرِ عمَّا فات الإنسانَ التَّصَرُّفُ فيه، والانتفاعُ به؛ لِفَقْدِه إيَّاه، أو بُعْدِه عنه [1481] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/523). .
10- في قوله تعالى: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ تَقريعٌ لهم، وتوبيخٌ على ما كانوا اتَّخذوا في الدَّارِ الدُّنيا من الأندادِ والأصنامِ والأوثانِ؛ ظانِّينَ أنَّ تلك تَنفَعُهم في مَعاشِهم ومَعادِهم، إنْ كان ثَمَّ معادٌ، فإذا كان يومُ القِيامَةِ تَقطَّعتِ الأسبابُ، وانزاحَ الضَّلال، وضلَّ عنهم ما كانوا يَفْتَرون [1482] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/303). .
11- قولُ الله تعالى: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أسنَدَ القطْعَ المبالَغَ فيه إلى (البَيْنِ)، وإذا انقَطَعَ البَيْنُ تقَطَّعَ ما كان فيه من الأسبابِ، التي كانت تُسَبِّب الاتصالَ، فلم يبقَ لأحدٍ منهم اتصالٌ بالآخَرِ؛ لأنَّ ما بينهما صار كالخندقِ بانقطاعِ نَفْسِ البَيْنِ، فلا يتأتَّى معه الوصولُ، هذا على قراءةِ الجماعةِ بِرَفْع بَيْنُكُمْ [1483] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/193-194). .

بلاغة الآيتين :

1- قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ
- قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ الاستفهامُ إنكاريٌّ؛ فهو في معنى النفْيِ؛ أي: لا أحَدَ أظلمُ مِن هؤلاء أصحابِ هذِه الصِّلاتِ، ومَسَاقُ هذا الاستِفهامِ هنا مَسَاقُ التَّعريضِ بأنَّهم الكاذِبونَ؛ إبطالًا لتكذيبِهم إنزالَ الكتابِ [1484] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/374). .
- وخَصَّ بالذِّكر قولَه: أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَم يُوحَ إِليْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على غيرِه من أنواعِ الافتراءِ؛ تَنبيهًا على مَزيدِ العقابِ فيه والإثمِ [1485] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 171). ؛ حيثُ بدأ أوَّلًا بالعامِّ، وهو افتراءُ الكَذِب على اللهِ، وهو أعمُّ من أن يكونَ ذلك الافتراءُ بادِّعاءِ وَحْيٍ أو غيرِه، ثمَّ ثانيًا بالخاصِّ، وهو افتراءٌ منسوبٌ إلى وَحْيٍ من الله تعالى [1486] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/585). .
- وحُذِفَ الفاعِلُ في قوله: وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ تَعظيمًا له؛ لأنَّ المُوحِيَ هو اللهُ تعالى [1487] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (8/288). .
- قوله: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فيه إيجازٌ بالحَذْفِ؛ حيث حُذِفَ مفعولُ تَرَى؛ لدَلالةِ ما في حيِّزِ الظَّرْف عليه، أي: ولو ترَى الظَّالِمينَ، وحُذِف جوابُ (لو)؛ للتهويلِ، والمعنى: لَرَأَيْتَ أمرًا مُفْظِعًا، وحَذْفُ جوابِ (لو) في مِثلِ هذا المقامِ شائِعٌ في القرآن [1488] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (2/173)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/381)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (7/521). .
- وجاءَ التعبيرُ عن غَمرَةِ الموتِ بالجمْع غَمَرَاتِ؛ إمَّا لتعدُّد الغَمَرات بعَدَد الظَّالِمينَ، فتكون صِيغةُ الجَمعِ مُستعملةً في حقيقَتِها، أو لقَصْدِ المبالغَةِ في تهويلِ ما يُصيبُهم بأنَّه أصنافٌ من الشدائِدِ، هي لتعدُّد أشكالِها وأحوالِها لا يُعَبَّر عنها باسمٍ مفرَدٍ؛ فيجوز أن يكونَ هذا وعيدًا بعذابٍ يَلْقَونه في الدُّنيا في وقْتِ النَّزْع، ولَمَّا كان للمَوتِ سَكَراتٌ جُعِلَت غَمْرةُ الموت غَمَراتٍ [1489] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/377). .
- قوله: وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الأمْرُ في أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ للتَّوقيفِ والتَّوبيخِ على سَالِفِ فِعْلِهم القَبيحِ، أو للإهانةِ والإرهاقِ والإرعابِ، وأنَّهم بمنزلَةِ مَن تولَّى إِزْهاقَ نَفْسِه؛ إغلاظًا في قَبْضِ أرواحِهم ولا يَتْركون لهم راحةً، ولا يُعامِلونهم بِلِينٍ، وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم يَجْزعونَ فلا يَلْفِظون أرواحَهم؛ وهو على هذا الوجه وعيدٌ بالآلامِ عِندَ النَّزْع؛ جزاءً في الدُّنيا على شِرْكِهم [1490] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/46- 47)، ((تفسير أبي حيان)) (4/586)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/378- 379). .
- قوله: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ استئنافُ وعيدٍ، وفُصِلَتِ الجملةُ- أي: لم تُعْطَف بالواو- للاستقلالِ والاهتمامِ، وهي من قَوْلِ الملائكة، وعلى أنَّ هذا القَوْلَ صادِرٌ مِن جانِبِ الله تعالى؛ فذِكْرُ اسمِ الجلالةِ مِن الإظهارِ في مقامِ الإضمارِ؛ لقَصْدِ التهويل، والأَصْلُ (بِما كُنْتُم تقولون عليَّ) [1491] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/380). .
- وإضافَةُ العَذابِ إلى الهُونِ عَذَابَ الْهُونِ؛ لبيانِ العَراقَةِ في الهوانِ، والتمكُّن فيه؛ مِثْلُ قولهم: رَجُلُ سُوءٍ [1492] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/47)، ((تفسير البيضاوي)) (2/173). ، فهو مبالغةٌ؛ إيذانًا بأنَّه مُتمكِّنٌ فيه؛ وذلك أنَّه ليسَ كلُّ عذابٍ يكونُ فيه هُونٌ؛ لأنَّه قد يكونُ على سبيلِ الزَّجرِ والتأديبِ [1493] يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/43). .
- وأوَّلُ هذه الآيةِ، وهو قولُه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا يفيدُ التَّخويفَ العظيمَ على سبيلِ الإجمالِ، وقولُه بعدَ ذلك: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ... كالتَّفصيلِ لذلك المُجْمَل [1494] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/67). .
2- قوله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ
- قوله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ
- عبَّر بالفِعلِ الماضي جِئْتُمُونَا الذي أُريدَ به المُستقبلُ؛ لتحقُّقِ الوقوعِ. وقيل: هو ماضٍ على حقيقَتِه محكِيٌّ، فيُقالُ لهم حالَةَ الوقوفِ بينَ يَدَيِ اللهِ للجزاءِ والحِسابِ [1495] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/587). .
- قوله: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه مُناسَبةٌ حسنةٌ، حيثُ وقَع هنا في آيةِ الأنعام بزِيادة فُرَادَى، وفي سُورةِ الكهف: لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف: 48] ، مع أنَّ مَرْمَى الآيتينِ واحدٌ؛ وذلِك لمراعاةِ ما أُعقبت به آيةُ الأنعام مِن قوله: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ، أي: ما أَعطيناكُم في الدُّنيا ممَّا شَغَلَكم عن آخِرتِكم، ثم قال: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ، أي: مُنفردِين عمَّا كُنتُم تؤمِّلون مِن أندادِكم ومعبوداتِكم من دُونِه سبحانه؛ فلِرَعْي هذا المعقَّبِ به في آيةِ الأنعام قيل فيها: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى. أمَّا آيةُ الكهفِ فقَبْلَها قولُه تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف: 47] ، ثمَّ قال: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الكهف: 48] مُجرَّدين عن كلِّ مُتعلَّق، ولم يقَعْ هنا ذِكرٌ ولا إشارةٌ إلى ما عُبِدَ مِن دونِ الله؛ فلهذا لم يقَعْ هنا فُرَادَى؛ وذلك يُبيِّن التناسُب [1496] يُنظر: ((ملاك التأويل)) لأبي جعفر الغرناطي (1/164). .
- قوله: كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ الكافُ للتَّشبيهِ؛ يُريدُ كَمَجِيئِكم يَومَ خَلَقْناكم بالهيئةِ التي وُلِدْتُم عليها، في الانفرادِ الأَوَّلِ وَقْتَ الخِلْقَة؛ لِكَونِ الإنسانِ يُخْلَق لا مالَ له، ولا وَلَدَ، ولا حَشَم [1497] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/47)، ((تفسير أبي حيان)) (4/587). .
- قوله: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ
- في قوله تعالى: وَمَا نَرَى جِيءَ بالفِعلِ المنفيِّ بصِيغةِ المُضارِعِ الدَّالِّ على الحالِ دون الماضي؛ ليشيرَ إلى أنَّ انتفاءَ رؤيةِ الشُّفَعاءِ حاصِلٌ إلى الآن، ففيه إيهامُ أنَّ رُؤْيَتَهم محتمِلَةُ الحصولِ بعْدُ في المستقبلِ؛ وذلك زيادةً في التهكُّمِ [1498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/384). .
- وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ فِيكُمْ؛ للاهتمامِ الذي وجَّهَه التعجُّبُ من هذا المزعومِ؛ إذ جعلوا الأصنامَ شُرَكاءَ للهِ في أنفُسِهم، وقدْ عَلِموا أنَّ الخالِقَ هو اللهُ تعالى، فهو المستحِقُّ للعبادةِ وَحْدَه [1499] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/384). .
- قوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ استئنافٌ بيانيٌّ لجملة: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ؛ لأنَّ المُشركينَ حين يسمعونَ قَولَه: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ يعتادُهم الطَّمَعُ في لقاءِ شُفَعائِهِم؛ فيتشوَّفونَ لأَنْ يَعْلَمُوا سَبيلَهم، فقيل لهم: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ؛ تأييسًا لهم بعد الإطماعِ التهكميِّ [1500] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/385). .
- وعلى قِراءة الفَتْحِ في بَيْنَكُمْ يكون فيه إيجازٌ بالحَذْفِ؛ حيثُ حُذِفَ فاعِلُ تَقَطَّعَ؛ لأنَّ المقصودَ حُصولُ التقطُّعِ، ففاعِلُه اسمٌ مُبْهَمٌ مِمَّا يصلح للتقطُّعِ، وهو الاتِّصالُ، والتقديرُ: لقد تقطَّعَ الحبلُ أو نحوُه، وقد صار هذا التركيبُ كالمَثَلِ بهذا الإيجازِ [1501] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (7/385). .
- وهذه الآية وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى... لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ خبرٌ المرادُ منه التَّقريعُ والتَّوبيخُ؛ وذلك لأنَّهم صَرَفُوا جِدَّهم وجُهْدَهم في الدُّنيا إلى تحصيلِ أمرَينِ: أحدهما: تحصيلُ المالِ والجاهِ. والثاني: أنَّهم عبدوا الأصنامَ؛ لاعتقادِهم أنَّها تكونُ شُفَعاءَ لهم عند الله، ثم إنَّهم لَمَّا وَرَدوا مَحْفِلَ القيامةِ لَمْ يَبْقَ معهم شيءٌ من تلك الأموالِ، ولم يَجِدوا من تلك الأصنامِ شفاعةً لهم عندَ الله تعالى، فبَقُوا فُرادَى عن كُلِّ ما حَصَّلُوه في الدُّنْيا، وعَوَّلوا عليه، بخلافِ أهْلِ الإيمانِ؛ فإنَّهم صَرَفُوا عُمُرَهم إلى تحصيلِ المعارِفِ الحَقَّةِ، والأعمالِ الصَّالحةِ، وتِلك المعارِفُ والأعمالُ الصَّالِحَةُ بَقِيَتْ معهم في قبورِهم، وحَضَرَتْ معهم في مَشْهَد القيامةِ، فهم في الحقيقة ما حَضَروا فُرادى، بل حَضَروا مع الزَّادِ ليومِ المَعادِ [1502] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (13/69). .