موسوعة التفسير

سُورة الأنفالِ
الآيات (50-54)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ

غريب الكلمات:

كَدَأْبِ: الدَّأْبُ: العادةُ المُستمرَّة والشَّأنُ، وأصلُ (دأب): يدلُّ على المُلازَمة والدَّوامِ [709] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 101)، ((تفسير ابن جرير)) (5/235)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 388)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/321)، ((المفردات)) للراغب (ص: 321)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 42)، ((تفسير ابن كثير)) (2/16)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 119). .

المعنى الإجمالي:

يَقولُ اللهُ تعالى لِنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ولو عايَنْتَ- يا مُحمَّدُ- حين تنزِعُ الملائكةُ أرواحَ الكفَّارِ من أجسادِهم، وهم يَضرِبونَ وُجوهَ الكُفَّارِ وأدبارَهم، لَرأيتَ أمرًا عظيمًا فظيعًا، ويقولُ لهم الملائكةُ: ذوقوا عذابَ الحَريقِ؛ ذلك بما كسَبَت أيديكم مِن الكُفرِ والمعاصي، وبأنَّ اللهَ لا يظلِمُ أحدًا مِن خَلقِه.
ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ عادةَ هؤلاءِ المُشركينَ مِن قُريشٍ في كُفرِهم، كعادةِ قَومِ فِرعونَ والأُممِ المكَذِّبةِ مِن قَبلِهم؛ كَفَروا بآياتِ اللهِ فأهلَكَهم اللهُ بسبَبِ كُفرِهم ومعاصيهم، إنَّه تعالى قويٌّ شديدُ العقابِ، ذلك العذابُ إنَّما وقع عليهم؛ لأنَّهم بدَّلوا نعمةَ الله كُفرًا، فاللهُ تعالى لا يُغَيِّرُ نعمةً أنعَمَها على قومٍ إلَّا بسبَبِ تَغييرِهم ما بأنفُسِهم؛ بالوُقوعِ في الكُفرِ، أو ارتكابِ السَّيِّئاتِ. وأنَّ اللهَ سَميعٌ عليمٌ.
ثمَّ ذكَر تعالى أنَّ عادةَ هؤلاء المُشركينَ مِن قُريشٍ، كعادةِ آلِ فِرعونَ والَّذين مِن قَبلِهم؛ كذَّبوا بآياتِ اللهِ لَمَّا جاءَتْهم، فأهلَكَهم اللهُ بِذُنوبِهم، وأغرَقَ آلَ فِرعونَ، وكُلُّ الذينَ أهلَكَهم اللهُ مِن السَّابقينَ، ومِن كفَّارِ قُريشٍ، كانوا ظالِمينَ.

تفسير الآيات:

وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لمَّا قال سبحانَه قبلَ ذلك بإجمالٍ: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ؛ بيَّن بعدَ ذلك بعضَ ما يتضمَّنُه هذا الإجمالُ مِن عقابِ الكفارِ [710] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (10/31). ، فقال تعالى:
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ.
أي: ولو عايَنْتَ- يا مُحمَّدُ [711] ممَّن اختار أنَّ الخِطابَ في الآيةِ مُوجَّهٌ إلى محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ابنُ جريرٍ، وابنُ كثيرٍ، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/229)، ((تفسير ابن كثير)) (4/76)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/111). وقال ابنُ عاشور: (ابتُدِئَ الخبرُ بـ وَلَوْ تَرَى مُخاطبًا به غيرُ مُعَيَّنٍ، ليعُمَّ كلَّ مُخاطبٍ، أي: لو ترَى أيُّها السامع؛ إذ ليس المقصودُ بهذا الخبرِ خُصوصَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى يُحمَل الخطابُ على ظاهِرِه). ((تفسير ابن عاشور)) (10/40). - حينَ تَنزِعُ الملائكةُ أرواحَ الكُفَّارِ مِن أجسادِهم، وهُم يَضرِبونَ وجوهَهم وأستاهَهم [712] الأسْتاهُ: جمع اسْتٍ: وهو العَجُزُ، وقد يُرادُ به حَلقةُ الدُّبُرِ. يُنظر: ((المصباح المنير)) للفيومي (1/266). ؛ لَرَأيتَ أمرًا عَظيمًا فَظيعًا [713] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/229)، ((البسيط)) للواحدي (10/194)، ((تفسير ابن كثير)) (4/76)، ((تفسير السعدي)) (ص: 323)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/111). قال ابن كثير: (هذا السِّياقُ- وإن كان سبَبُه وقعةَ بَدرٍ- ولكنَّه عامٌّ في حقِّ كلِّ كافرٍ؛ ولهذا لم يخصُصْه تعالى بأهلِ بدرٍ). ((تفسير ابن كثير)) (4/77). واختار ابنُ جريرٍ أنَّ قولَ الملائكةِ هذا للمشركينَ الذين قُتِلوا ببَدرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/231). !
كما قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] .
وقال سبحانه: فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ [محمد: 27] .
وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ.
أي: ويقولُ الملائكةُ للكفَّارِ: ذُوقوا عذابَ النَّارِ التي تَحرِقُكم [714] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/229)، ((تفسير ابن كثير)) (4/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 323)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/113). قال الشنقيطي: (قال بعضُ العلماء: ذَوْقُ عذابِ الحريقِ عند الاحتضارِ؛ لأنَّ المقامِعَ التي يضربونَهم بها تلتهِبُ عليهم نارًا، وقال بعضُ العلماء: يُبشِّرونَهم بالحريقِ يومَ القيامةِ، ولا مانِعَ مِن وقوعِ الكُلِّ). ((العذب النمير)) (5/114). يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/232)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/217). .
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51).
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ.
أي: ويقولُ الملائكةُ للكفَّارِ حين يَضرِبونَهم [715] ممَّن ذهب إلى أنَّ هذا مِن قَولِ الملائكةِ: ابنُ جريرٍ، والشِّنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/231)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/116). وقال ابنُ عطية: (قوله تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ يحتملُ أن يكونَ مِن قَولِ الملائكةِ في وقتِ توفِيَتِهم لهم على الصُّورةِ المذكورةِ، ويحتملُ أن يكونَ كلامًا مُستأنَفًا؛ تقريعًا مِن الله عزَّ وجلَّ للكافرينَ حيِّهم ومَيِّتِهم). ((تفسير ابن عطية)) (2/540). : هذا الجزاءُ بسبَبِ ما عَمِلتُم من الكُفرِ والمعاصي في حياتِكم الدُّنيا، جازاكم اللهُ بها هذا الجزاءَ [716] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/231، 232)، ((تفسير البغوي)) (2/301)، ((تفسير ابن كثير)) (4/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 323). وقال الشنقيطي: (المراد بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ما كَسَبتُم من المعاصي والكُفرِ، سواءٌ كان الذي اجتَرَمَته القلوبُ، أو الألسنةُ، أو الأيدي). ((العذب النمير)) (5/116). .
وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ.
أي: وأنَّ اللهَ لا يَظلِمُ أحدًا مِن خَلقِه؛ فقد أرسَلَ إليهم رُسُلَه، وأنزَلَ عليهم كُتُبَه، وأقام عليهم الحجَّةَ [717] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/232)، ((تفسير ابن كثير)) (4/77)، ((تفسير الشوكاني)) (2/363). ذهب ابنُ جرير إلى أنَّ هذه الجملةَ تُعَدُّ سببًا ثانيًا لِذَوقِهم عذابَ الحريقِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/232)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير الشوكاني)) (2/363). وقال الواحدي: (الصَّحيحُ أنَّ قولَه: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ابتداءُ كلامٍ لا يعودُ معناه إلى ما قَبلَه مِن قَولِه: بِمَا قَدَّمَتْ؛ لأنَّ قَولَه: وَأَنَّ اللَّهَ ليس بتعليلٍ للعذابِ ولا موجِبٍ له؛ لأنَّ معناه: نَفيُ الظُّلمِ، وإيجابُ الحُكمِ بالعدل، لا أنَّه سببُ تَعذيبِهم، فقوله: بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ سبَبٌ أوجبَ الحُكمَ بالتَّعذيبِ، وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نعتٌ لهذا الحُكمِ أنَّه عَدلٌ، وأنَّه ليس بجَورٍ). ((البسيط)) (10/199). .
عن أبي ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى، أنَّه قال: ((يا عبادِي، إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي، وجعلتُهُ بينكم مُحرَّمًا، فلا تظَالَموا )) [718] رواه مسلم (2577). .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى ما أنزَلَه بأهلِ بَدرٍ مِن الكُفَّارِ؛ أتبَعَه بأنْ بيَّنَ أنَّ هذه طريقَتُه وسُنَّتُه ودَأْبُه في الكُلِّ [719] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/495). ، فقال:
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.
أي: عادةُ وصَنيعُ هؤلاءِ المُشركينَ مِن قُريشٍ في كُفرِهم وتكذيبِهم، كعادةِ وصَنيعِ قَومِ فِرعونَ والأُمَمِ المُكذِّبةِ برُسُلِ اللهِ [720] قال ابنُ عطيةَ: (ويحتملُ أن يكونَ المرادُ كعادةِ الله فيهم، فأضاف العادةَ إليهم؛ إذ لهم نسبةٌ إليها، يضافُ المصدرُ إلى الفاعلِ وإلى المفعولِ). ((تفسير ابن عطية)) (2/540). قال ابنُ كثيرٍ: (فعَل هؤلاءِ المشركونَ المكذِّبونَ بما أُرسِلتَ به يا محمدُ، كما فَعَل الأُممُ المكذِّبةُ قبلَهم، ففعَلْنا بهم ما هو دَأْبُنا، أي: عادتُنا وسُنَّتُنا في أمثالِهم مِن المكذِّبينَ مِن آلِ فرعونَ ومَن قبلَهم مِنَ الأُممِ المكذِّبةِ بالرُّسلِ). ((تفسير ابن كثير)) (4/78). مِن قَبلِهم [721] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/232)، ((البسيط)) للواحدي (10/201)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/43)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/118). قال الشنقيطي: (لم يبيِّنْ هنا مَن هؤلاء الذين مِن قبلِهم، وما ذنوبُهم التي أخَذهم الله بها، وبيَّن في مواضعَ أُخرَ أنَّ منهم قومَ نوحٍ، وقومَ هودٍ، وقومَ صالحٍ، وقومَ لوطٍ، وقومَ شعيبٍ؛ وأنَّ ذنوبَهم التي أخَذهم بها هي الكفرُ باللهِ، وتكذيبُ الرسل وغيرُ ذلك مِن المعاصي، كعقرِ ثمودَ للناقةِ، وكلواطِ قومِ لوطٍ، وكتطفيفِ قومِ شعيبٍ للمكيالِ والميزانِ، وغيرِ ذلك كما جاء مفصلًا في آياتٍ كثيرةٍ). (( أضواء البيان)) (1/197). .
ثمَّ فسَّرَ تعالى دأْبَ آلِ فِرعونَ ومَن قَبلَهم، وبيَّن عادَتَهم، فقال [722] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/120). :
كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ.
أي: جحَد الكفَّارُ الأوَّلونَ آياتِ اللهِ التي أنزَلَها على رُسُلِه، والمُعجزاتِ التي أيَّدَهم بها، فعاقَبَهم اللهُ تعالى وأهلَكَهم؛ بسبَبِ كُفرِهم ومعاصيهم [723] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/233)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/120). .
كما قال تعالى: وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ * فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 38-40] .
إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ.
أي: إنَّ اللهَ لا يَغلِبُه أحدٌ، ولا يُعجِزُه شيءٌ، شديدُ النَّكالِ لِمَن كفَرَ به، وكذَّب رُسلَه [724] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/233)، ((البسيط)) للواحدي (10/202)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78)، ((تفسير السعدي)) (ص: 323)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/121). .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
ذَكَرَ تعالى هنا في هذه الآيةِ ما يَجري مَجرى العِلَّةِ في العِقابِ، الذي ذَكَرَ أنَّه أنزَلَه بهم [725] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/496). .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ.
أي: ذلك العذابُ الذي أهلك اللهُ به كُفَّارَ قُريشٍ ومُشركي الأُمَم الماضيةِ، إنَّما وقع عليهم لأنَّهم بدَّلُوا نعمةَ اللهِ كُفرًا، واللهُ تعالى لا يُغيِّرُ نعمةً دينيَّةً أو دُنيويَّةً أنعَمَ بها على قومٍ، فيَسْلُبُها منهم، ويُحِلُّ مَحَلَّها النِّقَمَ والعُقوباتِ، إلَّا بِسَببِ تَغييرِهم ما بأنفُسِهم؛ بالوقوعِ في الكُفرِ، أو ارتكابِ السَّيِّئاتِ [726] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/233)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/44)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/122، 124). قال ابنُ عطيةَ: (ومثالُ هذا: نعمةُ اللهِ على قُريشٍ بمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكَفَروا... فغيَّرَ اللهُ تلك النِّعمةَ بأن نقَلَها إلى غيرِهم من الأنصارِ، وأحَلَّ بهم عُقوبَتَه). ((تفسير ابن عطية)) (2/541). وقال ابنُ تيميةَ: (هذا التَّغييرُ نَوعانِ: أحدهما: أن يبدوَ ذلك، فيبقى قولًا وعملًا يترتَّبُ عليه الذَّمُّ والعقاب. والثاني: أن يُغَيِّروا الإيمانَ الذي في قلوبهم بضِدِّه من الرَّيبِ والشَّك والبُغضِ، ويَعزِموا على تَركِ فِعلِ ما أمَرَ اللهُ به ورسولُه، فيستحقُّونَ العذابَ هنا على تَركِ المأمورِ، وهناك على فِعل المحظورِ. وكذلك ما في النَّفسِ ممَّا يُناقِضُ محبَّةَ اللهِ والتوكُّلَ عليه، والإخلاصَ له والشُّكرَ له، يعاقَبُ عليه؛ لأنَّ هذه الأمورَ كلَّها واجبةٌ، فإذا خُلِّيَ القلبُ عنها، واتَّصَف بأضدادِها، استحَقَّ العذابَ على تَرْكِ هذه الواجباتِ). ((مجموع الفتاوى)) (14/109). .
كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] .
وقال سبحانه: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة: 211] .
وقال جلَّ جَلالُه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] .
وقال سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [النحل: 112-113] .
وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
أي: وذلك العذابُ الذي أهلَكَهم اللهُ تعالى به قد وقع عليهم؛ لأنَّ اللهَ سَميعٌ لكلامِ جَميعِ خَلْقِه، عليمٌ بما يُظهِرُونَه ويُسِرُّونه، لا يخفى عليه شيءٌ، فهو يجازيهم بما يستحقُّونَه [727] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/234)، ((تفسير ابن عطية)) (2/541)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/46)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/124). .
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54).
َدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ.
أي: عادةُ وصنيعُ هؤلاءِ المُشركينَ مِن قُريشٍ في كُفرِهم، كعادةِ وصَنيعِ قَومِ فِرعونَ والأُمَمِ المُكذِّبةِ مِن قَبلِهم [728] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/234)، ((البسيط)) للواحدي (10/204)، ((تفسير البغوي)) (2/301)، ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/135)، ((تفسير ابن كثير)) (4/78). قال الواحدي: (قولُه تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يجوزُ أن تكونَ الكافُ مُتعلِّقةً بمَحذوفٍ قَبلَها، كما ذَكَرْنا في الأولى، ويجوزُ أن تتعَلَّقَ بما بَعْدَها، وهو قولُه: كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يعني: أهلُ مكَّةَ كَذَّبوا بآياتِ رَبِّهم، كصَنيعِ آلِ فِرعَونَ في التكذيبِ بما جاء به موسى). ((البسيط)) (10/204). .
كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ.
أي: كذَّبوا بآياتِ اللهِ لَمَّا جاءَتْهم، فسُلِبوا تلك النِّعمَ التي أُسدِيَت إليهم، وأهلكناهم بسبَبِ ذُنوبِهم، وأغرَقْنا قومَ فِرعونَ في البَحرِ [729] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/234)، ((تفسير الشوكاني)) (2/363)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/46). .
كما قال تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف: 136] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ * كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان: 23 - 28] .
وقال سبحانه: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات: 16-19] .
وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ.
أي: كلُّ الذين أهلَكْناهم مِن السَّابقينَ ومِن كُفَّارِ قُريشٍ، كانوا ظالِمينَ لأنفُسِهم بكُفرِهم وتَكذيبِهم [730] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/234)، ((تفسير السعدي)) (ص: 324)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/46)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (5/127). .
كما قال تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة: 70] .

الفوائد التربوية:

- مِن عُقوباتِ الذُّنوبِ: أنَّها تُزيلُ النِّعمَ، وتُحِلُّ النِّقمَ، فما زالت عن العَبدِ نِعمةٌ إلا بِذَنبٍ، ولا حَلَّت به نِقمةٌ إلَّا بِذَنبٍ؛ قال الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فأخبَرَ الله تعالى أنَّه لا يُغيِّرُ نِعَمَه التي أنعَمَ بها على أحدٍ، حتى يكونَ هو الذي يغيِّرُ ما بنَفسِه، فيُغَيِّر طاعةَ اللهِ بمَعصِيَتِه، وشُكرَه بكُفرِه، وأسبابَ رِضاه بأسبابِ سَخَطِه، فإذا غيَّرَ غُيِّرَ عليه؛ جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلَّامٍ للعبيدِ، فإنْ غيَّرَ المعصيةَ بالطَّاعةِ، غيَّرَ اللهُ عليه العُقوبةَ بالعافيةِ، والذُّلَّ بالعِزِّ [731] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص:74)، ويُنظر أيضًا: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/473). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- عَذابُ البَرزَخِ أوَّلُه يومُ القَبضِ والموتِ، قال اللهُ تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ فهذه الإذاقةُ هي في البَرزَخِ، وأوَّلُها حين الوفاةِ [733] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/43). .
2- قَولُ الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وصفُ النِّعمةِ بِقَولِه: أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ للتَّذكيرِ بأنَّ أصلَ النِّعمةِ مِن اللهِ [735] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/45). .
3- الظَّاهِرُ مِن قَولِه: عَلَى قَوْمٍ العمومُ في كلِّ مَن أنعَمَ اللهُ عليه؛ مِن مُسلِمٍ وكافِرٍ، وبَرٍّ وفاجرٍ، وأنَّه تعالى متى أنعَمَ على أحدٍ فلم يَشكُرْ، بدَّلَه عنها بالنِّقمةِ [736] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/337). .
4- في قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ دليلٌ على أنَّ اللهَ تعالى قد يَسْلبُ النِّعَمَ بفِعْل المعصيةِ عقوبةً لفاعليها [737] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (1/473). .
5-  قَولُ الله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إن قيل: فما كان مِن تَغييرِ آلِ فِرعونَ ومُشركي مكَّةَ، حتى غيَّرَ اللهُ تعالى نِعمَتَه عليهم، ولم تكُن لهم حالٌ مَرضِيَّةٌ فيُغَيِّروها إلى حالٍ مَسخوطةٍ؟!
أجيبَ: بأنَّه تعالى كما يُغَيِّرُ الحالَ المَرضيَّةَ إلى المسخوطةِ، يُغَيِّرُ الحالَ المسخوطةَ إلى أسخَطَ منها، وأولئك كانوا قبلَ بَعثةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كفرةً، عبَدةَ أوثانٍ، فلمَّا بُعِث إليهم بالآياتِ البيِّناتِ، فكذَّبوه وعادَوْه، وتحزَّبوا عليه ساعِينَ في إراقةِ دَمِه؛ غَيَّروا حالَهم إلى أسوأَ ممَّا كانت عليه، فغيَّرَ الله ُتعالى ما أنعَمَ به عليهم من الإمهالِ، وعاجَلَهم بالعذابِ [738] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/577). .
6- في قَولِه تعالى: كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ لَمَّا أشارَ بالتَّعبيرِ رَبِّهِمْ إلى أنَّه غَرَّهم مُعامَلتُه بالعَطفِ والإحسانِ، قال: فَأَهْلَكْنَاهُمْ أي: جميعًا بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا فأتى بنونِ العَظَمة؛ إشارةً إلى أنَّه أتاهم بما أنساهم ذلك البِرَّ، وإشارةً إلى أنَّهم نَسُوا أنَّ الرَّبَّ كما أنَّه يتَّصِفُ بالرَّحمةِ، فلا بدَّ أن يتَّصِفَ بالعَظَمةِ والنِّقمةِ، وإلَّا لم تتِمَّ رُبوبيَّتُه [739] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/307). .

بلاغة الآيات:

1- وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ
- قولُه: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ فيه حذْفُ جوابِ (لو) الشَّرطيَّة؛ والحَذفُ بليغٌ في مِثْل هذا؛ لأنَّه يدلُّ على التَّعظيمِ، أي: لرأيتَ أمرًا عجيبًا، وشأنًا هائلًا [741] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/336). والقاعدةُ: أنَّ حذفَ جوابِ الشرطِ يدلُّ على تعظيمِ الأمرِ وشدتِه في مقاماتِ الوعيدِ. يُنظر: ((قواعد التفسير)) لخالد السبت (1/372). .
- وتقديمُ المفعولِ الَّذِينَ كَفَرُوا على الفاعلِ الْمَلَائِكَةُ؛ للاهْتِمامِ به [742] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/27). .
- قولُه: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ على القَولِ بأنَّ المرادَ بالذين كَفروا: مُشركو يَومِ بَدْر، وذلك قدْ مضَى؛ فيكونُ أَتى بالمضارعِ (ترى- يَتوفَّى) في المَوضِعَين مَكانَ الماضي؛ لقَصْدِ اسْتِحضارِ تِلك الحالةِ العجيبةِ، وهي حالةُ ضَرْبِ الوجوهِ والأدبارِ؛ ليُخيِّلَ للسامعِ أنَّه يُشاهِد تِلكَ الحالة [743] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/40). .
- وذِكرُ الوجوهِ والأدبارِ في قولِه: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ؛ للتَّعميمِ، أي: يَضربونَ جَميعَ أجسادِهم، كقَولِ العربِ: ضَربتُه الظهرَ والبطنَ؛ كِنايةً عمَّا أَقبلَ وما أَدبرَ، أي: ضربتُه في جميعِ جَسدِه [744] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/41). ، أوْ خَصُّوهما بالضَّربِ؛ لأنَّ الخِزيَ والنَّكالَ في ضَربِهما أشدُّ [745] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/229). .
2- ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
- جملةُ: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ مُستأنَفةٌ؛ لقَصدِ التَّنكيلِ والتشفِّي، وجِيءَ بإشارةِ البَعيد ذَلِكَ؛ لتعظيمِ ما يُشاهِدونَه مِن الأهوالِ [747] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/41). .
- وعبَّرَ بالأيدي دونَ غَيرِها في قَولِه تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ؛ لأنَّ أكثَرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بها [748] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (1/576). .
- وجملةُ: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اعتراضٌ تذييليٌّ، مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلها [749] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/27). ، على أحدِ الأوجهِ في الآيةِ.
- ونفيُ الظَّلَّاميةِ في قولِه تعالى: لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ لا يُفيدُ إثباتَ ظُلمٍ غيرِ قويٍّ؛ فصِياغَتُه بصِيغةِ الكثرةِ باعتبارِ تعلُّق الظُّلمِ المنفيِّ- لو قُدِّرَ ثبوتُه- بالعبيدِ الكثيرينَ، وعبَّرَ بالمبالغةِ عن كَثرةِ أعدادِ الظُّلمِ باعتبارِ تعدُّدِ أفرادِ معمولِه [750] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/60)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/42). وقيل: إنَّ (ظَلَّام) هنا لا تصِحُّ للمُبالغةِ التي تدلُّ على الكثرةِ، إنَّما المرادُ بها النِّسبةُ، وهي تشمَلُ الكثرةَ والقلَّةَ؛ وذلك لأنَّه لو قيل: إنَّ المرادَ بذلك صيغةُ المبالغةِ، لكان المنفيُّ كَثرةَ الظُّلمِ، مع أنَّ اللهَ تعالى لا يَظلِمُ مِثقالَ ذَرَّةٍ، وعلى ذلك فمَعنى قَولِه تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي: ليس بذِي ظُلمٍ، كما نقولُ: فلانٌ ليس نجَّارًا، يعني: ليس بذِي نِجارةٍ، أي: ليس منسوبًا للنَّجَّارِينَ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (ص: 497). وحكَى ابنُ مالكٍ هذا الوجهَ عَنِ المُحَقِّقينَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/265). ، وقيل: لأنَّ العذابَ مِن العِظَمِ بحيث لولا الاستحقاقُ لكان المعذِّبُ بمثلِه ظلَّامًا بليغَ الظُّلمِ، فنفَى المبالغةَ بهذا الاعتبارِ، ومعناها نفيُ الفعلِ مِن أصلِه [751] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/229)، قال الشنقيطيُّ: (وهذا الوجهُ حسنٌ جدًّا، إلا أنَّ فيه دقةً). ((العذب النمير)) (5/117). ، وقيل: إنَّه نفَى الظُّلمَ الكثيرَ؛ لِينتفيَ القليلُ ضرورةً؛ لأنَّ الَّذي يظلمُ، إِنَّما يظلمُ لانتفاعِه بالظُّلمِ، فإذا تَرَك الكثيرَ معَ زيادةِ نفعِه، فلأَنْ يترُكَ القليلَ أولَى، وقيل: لأنَّ أقلَّ القليلِ لو وَرَد منه تعالَى لكانَ كثيرًا، وقيل: إنَّه قَصَد التَّعريضَ بأنَّ ثمَّ ظَلَّامًا للعبيدِ من ولاةِ الجورِ، وقِيل غيرُ ذلك [752] يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/265). .
3- قَولُه تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ
- جُملةُ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... استئنافٌ مَسوقٌ لبيانِ أنَّ ما حلَّ بهم من العذابِ بسَببِ كُفْرِهم، لا بشيءٍ آخَرَ من جِهةِ غيرِهم؛ بتشبيهِ حالِهم بحالِ المعروفينَ بالإهلاكِ بسببِ جَرائمِهم؛ لزيادةِ تَقبيحِ حالِهم، وللتَّنبيهِ على أنَّ ذلك سُنَّةٌ مُطَّرِدَةٌ فيما بَينَ الأُممِ المُهلَكةِ [753] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/27). .
- وإنَّما خُصَّ آلُ فِرعونَ بالذِّكرِ، وذُكِر الذي أُهلِكوا به، وهو إغراقُهم؛ لأنَّه انضمَّ إلى كُفرِهم دَعْوَى الإلهيَّةِ والرُّبوبيَّة لغيرِ الله تعالى؛ فكان ذلك أَشنعَ الكُفرِ وأفظعَه [754] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/338). .
- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ اعتراضٌ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلَه من الأخْذ، وتكملةٌ له [755] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/28). ، مع ما فيه من تأكيدِ الخَبَرِ بـإنَّ واسميَّةِ الجملةِ.
4- قَولُه تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
- قولُه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً... استئنافٌ مَسوقٌ لتَعليلِ ما يُفيدُ النَّظمُ الكريمُ مِن كونِ ما حلَّ بهم من العذابِ منوطًا بأعمالِهم السيِّئةِ، غيرَ واقعٍ بلا سابقةٍ [756] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (4/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/44). .
- ونفْيُ الكونِ بصِيغةِ المضارِعِ في قولِه: لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً يَقتضي تجدُّدَ النفيِ ومَنفيِّه [757] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/45). .
- وقَولُه: لَمْ يَكُ حُذِفَت نون (يكن) إرشادًا إلى أنَّ هذه الموعظةَ خليقةٌ بأن يُوجَزَ بها غايةَ الإيجازِ، فيُبادَرَ إلى إلقائِها لِمَا في حسنِ تلقِّيها من عظيمِ المنفعةِ؛ لأنَّ منَ خالَفَها جديرٌ بتعجيلِ الانتقامِ [758] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/305). .
5- قَولُه تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ
- قولُه: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... تَكريرٌ لقولِه: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ... المذكورِ قَبْلَه؛ لقَصدِ التَّأكيدِ والتَّسميعِ، وهو تَقريرٌ؛ للإنذارِ والتَّهديد، وخُولِفَ بين الجُملتين تفنُّنًا في الأسلوبِ، وزيادةً للفائدةِ بذِكرِ التَّكذيبِ هنا بعدَ ذِكْرِ الكُفرِ هناك، وهُما سببانِ للأخْذِ والإهلاكِ [759] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (10/46). . ومِن وجوهِ تَكريرِه أيضًا: أنَّ الثانيَ جرَى مَجرَى التَّفصيلِ للأوَّلِ؛ لأنَّ في ذلك ذِكرَ إجرامِهم، وفي هذا ذِكرَ إغراقِهم، وأُريدَ بالأوَّلِ ما نزَلَ بهم من العُقوبةِ حالَ الموتِ، وبالثَّاني ما نزَل بهم من العذابِ في الآخِرةِ، وفي الأوَّلِ: بِآيَاتِ اللَّهِ إشارةٌ إلى إنكارِ دَلائلِ الإلهيَّةِ، وفي الثَّاني: بِآيَاتِ رَبِّهِمْ إشارةٌ إلى إنكار نِعَم مَن رَبَّاهم، ودلائلِ تربيتِه وإحسانِه على كَثْرتِها وتواليها، وفي الأوَّل: اللازِمُ منه الأخذُ، وفي الثَّاني: اللازمُ منه الهلاكُ والإغراقُ [760] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/338). وقيل: قولُه في الآيةِ الأُولَى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ قد قالَ قبلَه: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فذكَر في الآيةِ الأُولَى تمثيلًا لعذابِهم بعدَ الموتِ فقالَ: فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ فإنَّ أخذَه يتضمَّنُ أخذَهم ليَصِلوا بعدَ الموتِ إِلى العذابِ.  أمَّا في الآيةِ الثانيةِ فقد قال قبلَها: ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فذكَر تمثيلًا لزوالِ النِّعمِ عنهم لما كذَّبوا بآياتِه، فقال: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ فقال: فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ولفظُ الهلاكِ يَقْتضي هلاكَهم في الدُّنيا، وزَوالَ النِّعمةِ عنهم، وحلولَ النقمةِ بهم. يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/134). .
- في قولِه: بِآيَاتِ رَبِّهِمْ زيادةُ دَلالةٍ على كُفرانِ النِّعمِ، وجُحودِ الحقِّ [761] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/230). .
- وذِكرُ وصْفِ الربوبيَّة دون الاسمِ العَلَمِ في قولِه: كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ؛ لزيادةِ تَفظيعِ تَكذيبِهم؛ لأنَّ الاجتراءَ على اللهِ مع مُلاحظةِ كَونِه ربًّا للمُجترِئِ يَزيدُ جَراءتَه قُبحًا؛ لإشعارِه بأنَّها جَراءةٌ في موضعِ الشُّكرِ؛ لأنَّ الرَّبَّ يَستحِقُّ الشُّكرَ [762] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/46). .
- قَولُه تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ عُبِّرَ بالإهلاكِ عِوَضَ الأخذِ المتَقَدِّمِ ذِكرُه؛ ليُفَسَّرَ الأخذُ بأنَّه آلَ إلى الإهلاكِ، وزِيدَ الإهلاكُ بيانًا بالنِّسبةِ إلى آلِ فِرعونَ بأنَّه إهلاكُ الغَرَقِ [763] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (10/46). .
- قَولُه تعالى: وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ جُمِعَ الضَّميرُ في: (كانُوا)، وجُمِعَ: (ظالِمينَ) مراعاةً لمعنى (كُل)؛ لأنَّ (كُلًّا) متى قُطِعَت عن الإضافةِ جاز مراعاةُ لَفظِها تارةً، ومعناها أخرى. وإنما اختيرَ هنا مراعاةُ المعنى؛ لأجلِ الفَواصِلِ، ولو رُوعِيَ اللَّفظُ فقيل مثلًا (وكلٌّ كان ظالِمًا)، لم تتَّفِقِ الفَواصِلُ [764] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (9/545). .