موسوعة التفسير

سورةُ المُرسَلاتِ
الآيات (16-24)

ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ

غريب الكلمات:

مَهِينٍ: أي: ضَعيفٍ، مُمتَهَنٍ، لا خَطَرَ له عندَ النَّاسِ، ولا يُعبأُ به، وأصلُ (مهن): يدُلُّ على احتِقارٍ وحَقارةٍ في الشَّيءِ [76] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 506)، ((تفسير ابن جرير)) (18/601) و(23/ 594)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 423)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/283)، ((تفسير الشوكاني)) (4/288)، ((تفسير ابن عاشور)) (21/216). .
قَرَارٍ مَكِينٍ: أي: الرَّحمِ، اسْتَقرَّ المنيُّ فيه فتَمَكَّنَ، والقرارُ هنا: مكانُ الاستِقرارِ، والمَكينُ: المتمكِّنُ، وأصلُ (قرر) هنا: يدُلُّ على تَمكُّنٍ [77] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/594)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/7)، ((الوسيط)) للواحدي (4/408)، ((تفسير الماوردي)) (4/48)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/324). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مبيِّنًا بعضَ الأدِلَّةِ على وحدانيَّتِه وقُدرتِه: ألَمْ نُهْلِكِ المُكَذِّبينَ مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ، كقَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ وغَيرِهم؟ ثمَّ نحن نُلحِقُ بهم في العَذابِ والهَلاكِ كُفَّارَ قُرَيشٍ وغَيرَهم مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبينَ بالحَقِّ، وكذلك نُهْلِكُ كُلَّ كافِرٍ مُكَذِّبٍ مُجْرِمٍ.
ثمَّ يقولُ تعالى مُهدِّدًا ومتوعِّدًا: عَذابٌ وهَلاكٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ.
ثمَّ يقولُ تعالى ممتنًّا على عبادِه، ومحتجًّا على الإعادةِ بالبُداءةِ: ألمْ نَخْلُقْكم -أيُّها النَّاسُ- مِن مَنِيٍّ ضَعيفٍ، فجَعَلْناه في رَحِمِ المرأةِ مُستَقِرًّا ومحفوظًا فيه إلى وَقتِ الوِلادةِ، فقَدَرْنا على خَلْقِ النُّطفةِ إنسانًا وتصويرِه، فنِعْمَ القادِرونَ نحنُ!
ثمَّ يقولُ تعالى مُهدِّدًا ومتوعِّدًا: عَذابٌ وهَلاكٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ.

تفسير الآيات:

أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بعدَ أنْ حذَّر اللهُ عزَّ وجلَّ الكافِرين وخَوَّفَهم بأنَّ يومَ الفَصلِ كائنٌ لا مَحالةَ، وأنَّ فيه مِن الأهوالِ ما لا يُدرِكُ كُنْهَهُ إلَّا علَّامُ الغُيوبِ- أردَفَ ذلك بتَخويفِهم بأنَّه أهلَك الكفَّارَ قَبْلَهم بكُفرِهم [78] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (29/182). .
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16).
أي: ألَمْ نُهْلِكِ المُكَذِّبينَ بآياتي ورُسُلي مِنَ الأُمَمِ الماضيةِ، كقَومِ نُوحٍ وعادٍ وثَمودَ وغَيرِهم [79] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/594)، ((تفسير القرطبي)) (19/159)، ((تفسير ابن كثير)) (8/298)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/171)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). ممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ في الجملةِ: ابنُ جرير، والقرطبيُّ، وابنُ كثير، والبِقاعي، والسعدي. يُنظر: المصادر السَّابقة. وقال ابن عاشور: (الإهلاكُ: الإعدامُ والإماتةُ. وإهلاكُ الأوَّلِينَ له حالَتانِ: حالةٌ غيرُ اعتياديَّةٍ تنشَأُ عن غَضَبِ اللهِ تعالى، وهو إهلاكُ الاستئصالِ، مِثلُ إهلاكِ عادٍ وثمودَ؛ وحالةٌ اعتياديَّةٌ، وهي ما سَنَّ اللهُ عليه نظامَ هذا العالَمِ مِن حياةٍ ومَوتٍ. وكِلْتا الحالتَينِ يَصِحُّ أن تكونَ مُرادًا هنا؛ فأمَّا الحالةُ غيرُ الاعتياديَّةِ فهي تذكيرٌ بالنَّظَرِ الدَّالِّ على أنَّ اللهَ لا يَرضى عن الَّذين كذَّبوا بالبَعْثِ، وأمَّا الحالةُ الاعتياديَّةُ فدليلٌ على أنَّ الَّذي أحيا النَّاسَ يُميتُهم؛ فلا يتعَذَّرُ أن يُعيدَ إحياءَهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/294). وذكَر الرازي أنَّه إنْ كان المرادُ مِن الإهلاكِ هو مطلقَ الإماتةِ لم يكُنْ تخويفًا للكفَّارِ؛ لأنَّ ذلك أمرٌ حاصلٌ للمؤمنِ والكافرِ، فلا يصلُحُ تحذيرًا للكافرِ، ثمَّ قال: (لِمَ لا يَجوزُ أن يكونَ المرادُ منه الإماتةَ بالتَّعذيبِ، وقد وقع ذلك في حقِّ قُرَيشٍ وهو يوم بدرٍ؟ ولِمَ لا يجوزُ أن يكونَ المرادُ مِن الإهلاكِ معنًى ثالثًا مغايرًا للأمْرَين المذكورينِ، وهو الإماتةُ المُستعقبةُ للذَّمِّ واللَّعنِ؟ فكأنَّه قيل: إنَّ أولئك المتقَدِّمين لحرصِهم على الدُّنيا، عانَدوا الأنبياءَ وخاصَموهم، ثمَّ ماتوا، فقد فاتَتْهم الدُّنيا، وبقيَ اللَّعنُ عليهم في الدُّنيا، والعقوبةُ الأخرويَّةُ دائمًا سَرْمدًا، فهكذا يكونُ حالُ هؤلاء الكُفَّارِ الموجودِينَ، ومعلومٌ أنَّ مِثلَ هذا الكلامِ مِن أعظَمِ وُجوهِ الزَّجرِ). ((تفسير الرازي)) (30/771). ؟
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17).
أي: ثمَّ نُلحِقُ بهم في العَذابِ والهَلاكِ كُفَّارَ قُرَيشٍ وغَيرَهم مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبينَ بالحَقِّ، فنُهلِكُهم جميعًا كما أهلَكْنا مَن قَبْلَهم [80] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/544)، ((تفسير الزمخشري)) (4/679)، ((تفسير القرطبي)) (19/159)، ((تفسير ابن جزي)) (2/442)، ((تفسير ابن كثير)) (8/298). قال البِقاعي: (لَمَّا كان الفِعلُ نُتْبِعُهُمُ مرفوعًا، عَلِمْنا أنَّه ليس معطوفًا على نُهْلِكِ لِيَكونَ تقديرًا، بل هو إخبارٌ للتَّهديدِ، تقديرُه: نحنُ إنْ شِئْنا نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ أي: الَّذين في زمانِك مِن كُفَّارِ العَرَبِ وغَيرِهم؛ لتكذيبِهم لك، أو الَّذين قَرُبوا مِن ذلك الزَّمانِ، كأصحابِ الرَّسِّ وأصحابِ الفيلِ). ((نظم الدرر)) (21/172). وقال السعدي: (هذه سُنَّتُه السَّابِقةُ واللَّاحِقةُ في كُلِّ مُجرمٍ؛ لا بُدَّ مِن عذابِه، فلِمَ لا تَعتَبِرونَ بما تَرَونَ وتَسْمَعونَ؟!). ((تفسير السعدي)) (ص: 904). .
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بيَّن اللهُ تعالى أنَّه يفعلُ بهؤلاء المتأخِّرينَ مِثلَ ما يفعَلُ بأولئك المتقدِّمينَ؛ بيَّن أنَّ هذا الإهلاكَ إنَّما يَفعَلُه بهم لِكَونِهم مُجرِمينَ، فلا جَرَمَ في جميعِ المجرِمينَ؛ لأنَّ عُمومَ العِلَّةِ يَقتضي عُمومَ الحُكمِ [81] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/771). .
وأيضًا لَمَّا هدَّد مَن واجَهَ الرُّسُلَ بالتَّكذيبِ؛ تسليةً لهم، سَلَّى مَن قَطَعوه مِن أتْباعِهم ممَّا يجِبُ وَصْلُه بهم مِن المعروفِ، فقال مُستأنِفًا مُنَبِّهًا على الوَصفِ الموجِبِ لذلك الإهلاكِ [82] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/172). :
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18).
أي: كما أهلَكْنا المُكَذِّبينَ بي وبرُسُلي مِن الأُمَمِ الكافِرةِ، نُهْلِكُ أيضًا كُلَّ كافِرٍ مُكَذِّبٍ [83] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/594)، ((تفسير الشوكاني)) (5/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). قال الشوكاني: (أي: مِثلَ ذلك الإهلاكِ نَفعلُ بكُلِّ مُشرِكٍ؛ إمَّا في الدُّنيا، أو في الآخِرةِ). ((تفسير الشوكاني)) (5/432). .
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ وخِزْيٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ [84] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/594)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). .
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر الإهلاكَ على ذلك الوَجْهِ الدَّالِّ على القُدرةِ التَّامَّةِ على البَعثِ، وعلى ما يُوعَدُ به بعدَ البَعثِ؛ أتْبَعَه الدَّلالةَ بابتداءِ الخَلْقِ، وهو أدَلُّ، فقال مُقَرِّرًا ومُنكِرًا على مَن يُخالِفُ عِلْمَه بذلك عَمَلُه [85] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/173). ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (10/376). :
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20).
أي: ألَمْ نُوجِدْكم -أيُّها النَّاسُ- مِن مَنِيٍّ ضَعيفٍ [86] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/594)، ((تفسير ابن كثير)) (8/298)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/430). .
فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21).
أي: فجَعَلْنا مَنِيَّ الرَّجُلِ في رَحِمِ المرأةِ مُستَقِرًّا ومحفوظًا فيه [87] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/594)، ((تفسير القرطبي)) (19/160)، ((تفسير ابن كثير)) (8/299)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/173)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). قال الواحديُّ: (قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرونَ في قولِه: مَكِينٍ: يريدُ الرَّحِمَ، مُكِّن فيه بأنْ هُيِّئَ لاستِقرارِه فيه إلى بُلوغِ أمَدِه الَّذي جُعِل له). ((البسيط)) (15/538) و(23/88). .
إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22).
أي: إلى وَقتِ الوِلادةِ [88] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/594)، ((تفسير القرطبي)) (19/160)، ((تفسير ابن كثير)) (8/299)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). قال البِقاعي: (إِلَى قَدَرٍ أي: مِقدارٍ مِنَ الزَّمانِ قَدَّره اللهُ تعالى للوِلادةِ مَعْلُومٍ أي: عِندَنا، مِن تِسعةِ أشهُرٍ للوِلادةِ إلى ما فَوْقَها أو دُونَها، لا يَعلَمُه غَيْرُه). ((نظم الدرر)) (21/173). .
قال تعالى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] .
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: فَقَدَّرْنَا بتَشديدِ الدَّالِ، مِنَ التَّقديرِ، أي: خلَقْنا كُلَّ شَيءٍ مِن الإنسانِ بقَدْرٍ. وقيل: أي: قدَّرْنا خَلْقَ الإنسانِ على تاراتٍ مُختَلِفةٍ؛ مِن نُطْفةٍ وعَلَقةٍ ومُضْغةٍ، وما بعدَ ذلك إلى أنْ جعَلْناه إنسانًا سَوِيًّا. وقيل: قدَّرْناه شَقِيًّا وسعيدًا، وصغيرًا وكبيرًا، وأسْوَدَ وأبيَضَ، وغيرَ ذلك [89] قرأ بها نافِعٌ، والكِسائيُّ، وأبو جَعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/397). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير الماتريدي)) (10/380)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/ 79)، ((تفسير السمعاني)) (6/129)، ((تفسير البغوي)) (5/197)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/635). .
2- قِراءةُ: فَقَدَرْنَا بتَخفيفِ الدَّالِ، مِنَ القُدرةِ. وقيل: القِراءتانِ لُغَتانِ بمَعنى التَّقديرِ لا القُدْرةِ [90] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/397). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 506)، ((معاني القراءات)) للأزهري (2/72)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/365)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/79)، ((تفسير البغوي)) (5/197). .
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23).
أي: فقَدَرْنا على خَلْقِ النُّطفةِ إنسانًا وتصويرِه، فنِعْمَ القادِرونَ نحنُ حيثُ خلَقْناه في أحسَنِ صورةٍ وهَيئةٍ [91] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/772)، ((تفسير الخازن)) (4/383)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 785)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/173). ممن اختار أنَّ قولَه: فَقَدَرْنَا مِن القُدرةِ: الثعلبي، والبغوي، والخازن، والسمين الحلبي، وجلال الدين المحلي، والعليمي. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (10/109)، ((تفسير البغوي)) (5/197)، ((تفسير الخازن)) (4/383)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/635)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 785)، ((تفسير العليمي)) (7/249). قال القرطبي: (رُوِي عن عِكْرِمةَ فَقَدَرْنَا مُخَفَّفَةً مِن القُدرةِ، وهو اختيارُ أبي عُبَيدٍ وأبي حاتِمٍ والكِسائِيِّ لقولِه: فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ). ((تفسير القرطبي)) (19/160). قال الخازن: (قُرئ بالتخفيفِ مِن القُدرةِ، أي: قَدَرْنا على خلقِه، وتصويرِه كيفَ شِئْنا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ حيثُ خَلْقناه في أحسنِ صورةٍ وهيئةٍ). ((تفسير الخازن)) (4/383). وقال البقاعي: (فَقَدَرْنَا أي بعظمتِنا على ذلك، أو فجَعَلْناه على مقدارٍ معلومٍ مِن الأرزاقِ والآجالِ والأحوالِ والأعمالِ فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ نحنُ مطلقًا على ذلك وغيرِه، أو المقدِّرونَ في تلك المقاديرِ لما لنا مِن كمالِ العظمةِ بحيثُ نجعلُ ذلك بمباشرةِ مَن أردناه منه بطوعِه واختيارِه). ((نظم الدرر)) (21/173). وممن اختار أنَّ قولَه: فَقَدَرْنَا بمعنى قدَّرْنا بالتَّشديدِ: ابنُ قتيبةَ، والزمخشري، والنسفي، والألوسي، والسعدي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 506)، ((تفسير الزمخشري)) (4/679)، ((تفسير النسفي)) (3/586)، ((تفسير الألوسي)) (15/193)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/431). قال ابن قتيبة: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ بمعنى «قدَّرْنا» مشدَّدةً. يقال: قدَرْتُ كذا وقدَّرْتُه). ((غريب القرآن)) (ص: 506). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/223). وذكر الزمخشري أنَّ هذا القولَ أولى: (لقراءةِ مَن قرَأ: فَقَدَّرْنَا بالتَّشديدِ، ولقولِه: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 19] ). ((تفسير الزمخشري)) (4/679). وقال السعدي: (فَقَدَرْنَا أي: قَدَّرْنا ودبَّرْنا ذلك الجنينَ في تلك الظُّلماتِ، ونَقَلْناه مِن النُّطفةِ إلى العَلقةِ، إلى المضغةِ، إلى أنْ جعَله الله جسدًا، ثمَّ نفخَ فيه الرُّوحَ، ومِنهم مَن يموتُ قبلَ ذلك). ((تفسير السعدي)) (ص: 904). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 12 - 14] .
وقال سُبحانَه وتعالى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ [الانفطار: 7، 8].
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ وخِزْيٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ [92] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/596)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تبارك وتعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، أي: أَمَا أهلَكْنا المكَذِّبينَ السَّابِقينَ، ثمَّ نُتبِعُهم بإهلاكِ مَن كَذَّبَ مِن الآخِرِينَ؟ وهذه سُنَّتُه تعالى السَّابِقةُ واللَّاحِقةُ في كُلِّ مُجرمٍ؛ لا بدَّ مِن عَذابِه [93] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 904). .
2- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لَمْ يَظْلِمْ بهذا العذابِ؛ فهم لم يُعَذَّبوا إلَّا لِجُرْمِهم [94] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 82). .
3- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أنَّ النَّاسَ عندَ اللهِ سَواءٌ، فكُلُّ مَنِ استَحَقَّ عِقابًا أو ثَوابًا فهو له، يعني: لَمْ نَفعلْ بهؤلاء وحْدَهم، بل حُكْمُنا هذا شامِلٌ لكلِّ مُجرمٍ [95] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 82). .
4- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إثباتُ الفعلِ للهِ عزَّ وجلَّ، واللهُ سُبحانَه وتعالى فَعَّالٌ لِمَا يُريدُ، والفعلُ يَقتضي التَّجَدُّدَ بحسَبِ المفعولِ، فخَلْقُ اللهِ السَّمَواتِ والأرضَ لَمْ يكُنْ أزَلِيًّا، وإنَّما كان حينَ خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، وخَلْقُ اللهِ للجَنينِ في بَطنِ أُمِّهِ لَمْ يكُنْ أزَلِيًّا، بل هو حادثٌ حينَ حُدوثِ هذا الجَنينِ، ويَتَفرَّعُ على هذه الفائدةِ فائدةٌ أخرى، وهي إثباتُ أفعالِ اللهِ الاختياريَّةِ، خِلافًا لِمَن أَنْكَرَ ذلك، وقال: إنَّ اللهَ لا يَقومُ به فِعلٌ اختياريٌّ [96] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 82). !
5- استُدِلَّ بقَولِه تعالى: فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ على أنَّه لا يجوزُ إلقاءُ النُّطفةِ الَّتي في الرَّحِمِ في مُدَّةِ الأربعينَ الأُولى، لأنَّه لا يجوزُ أنْ نَتَجاسَرَ على هذا القرارِ المَكينِ، ونُخرِجَ الجَنينَ منه، لكِنَّ تحريمَه ليس كتحريمِ ما بَعْدَه مِن بُلوغِه أربعةَ أشهُرٍ [97] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) لابن عثيمين (ص: 89). وهذا مذهبُ المالكيَّةِ: أنَّه لا يجوزُ ولو قبْلَ الأرْبَعينَ يومًا. يُنظر: ((الشرح الكبير وحاشية الدسوقي)) (2/266). وذهَب الجُمهورُ مِن الحَنَفيَّةِ، والشَّافعيَّةِ، والحنابلةِ إلى أنَّه يجوزُ إسقاطُ الجَنينِ قبْلَ نَفخِ الرُّوحِ فيه. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (3/176)، ((الغرر البهية)) لزكريا الأنصاري (5/331)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبُهُوتي (1/121). قال ابنُ باز: (إسقاطُ الجنينِ فيه تفصيلٌ؛ فإذا كان في الأربعينَ الأُولى فالأمرُ فيه أوسَعُ، ولا يَنبغي إسقاطُه، لكنْ إذا اقتَضَت المصلحةُ الشَّرعيَّةُ إسقاطَه لِمَضَرَّةٍ على الأمِّ، أو لهذا السَّبَبِ الَّذي قرَّره الأطبَّاءُ أنَّه قد يَتشوَّهُ بأسبابٍ فعَلَتْها الأمُّ: فلا حرَجَ في ذلك). ((فتاوى نور على الدرب)) (21/430). .
6- قال تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ قدْ جاء هنا التَّقريرُ على ثُبوتِ الإيجادِ بعْدَ العدَمِ إيجادًا مُتقَنًا دالًّا على كَمالِ الحِكمةِ والقُدرةِ؛ ليُفضَى بذلك التَّقريرِ إلى التَّوبيخِ على إنكارِ البعثِ والإعادةِ، وإلى إثباتِ البَعثِ بإمكانِه بإعادةِ الخلْقِ كما بُدِئَ أوَّلَ مرَّةٍ، وكَفى بذلك مُرجِّحًا لوُقوعِ هذا المُمكنِ؛ لأنَّ القُدرةَ تَجْري على وَفْقِ الإرادةِ بتَرجيحِ جانبِ إيجادِ المُمكِنِ على عدَمِه [98] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/430). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
- قولُه: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ استِئنافٌ بخِطابٍ مُوجَّهٍ إلى المشرِكين الموجودينَ الَّذين أنْكَروا البعثَ، مُعترِضٌ بيْنَ أجزاءِ الكلامِ المُخاطَبِ به أهلُ الشِّركِ في المَحشرِ، ويَتضمَّنُ استِدلالًا على المشرِكين الَّذين في الدُّنيا؛ بأنَّ اللهَ انتقَمَ مِن الَّذين كَفَروا بيَومِ البَعثِ؛ مِن الأُمَمِ سابِقِهم ولاحِقِهم؛ ليَحذَروا أنْ يَحُلَّ بهم ما حلَّ بأولئك الأوَّلينَ والآخِرينَ [99] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/428). .
- والاستِفهامُ للتَّقريرِ؛ استِدلالًا على إمكانِ البَعثِ بطَريقةِ قِياسِ التَّمثيلِ [100] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/428)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/334). وقياسُ التَّمثيلِ: هو: حَملُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتِراكِهما في عِلَّةِ الحُكمِ؛ لأنَّ ذلك الحُكمَ يلزمُ المُشتَرَكَ الكُلِّيَّ، مِثلُ: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامِعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وقياسُ التَّمثيلِ: هو القياسُ الأُصوليُّ (إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما). يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/120)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (2/291، 292). .
- قولُه: ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ استِئنافٌ، وهو وَعيدٌ لأهلِ مكَّةَ، يُريدُ: ثمَّ نَفعَلُ بأمثالِهم مِن الآخِرينَ مِثلَ ما فعَلْنا بالأوَّلِينَ، ونَسلُكُ بهم سَبيلَهم؛ لأنَّهم كذَّبوا مِثلَ تَكذيبِهم [101] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/679)، ((تفسير أبي حيان)) (10/375، 376)، ((تفسير أبي السعود)) (9/79). .
- وحرْفُ (ثُم) للتَّراخي الرُّتبيِّ؛ لأنَّ التَّهديدَ أهمُّ مِن الإخبارِ عن أهلِ المَحشرِ؛ لأنَّه الغرَضُ مِن سَوقِ هذا كلِّه، ولأنَّ إهلاكَ الآخِرينَ أشدُّ مِن إهلاكِ الأوَّلِينَ؛ لأنَّه مَسبوقٌ بإهلاكٍ آخَرَ [102] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/429). .
- ووقَعَت جُملةُ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ مَوقِعَ البيانِ لجُملةِ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ، وهو كالتَّذييلِ يُبيِّنُ سَببَ وُقوعِ إهلاكِ الأوَّلِينَ، وأنَّه سَببٌ لإيقاعِ الإهلاكِ بكلِّ مُجرمٍ، أي: تلك سُنَّةُ اللهِ في مُعامَلةِ المُجرِمين، فلا مَحيصَ لكم عنها [103] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/429). .
- وذِكرُ وَصْفِ المُجرِمين إيماءٌ إلى أنَّ سَببَ عِقابِهم بالإهلاكِ هو إجْرامُهم، وإنذارٌ وتَحذيرٌ مِن عاقبةِ الجُرمِ وسُوءِ أثَرِه [104] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/679)، ((تفسير أبي حيان)) (10/376)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/429). .
- قولُه: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، أي: بآياتِ اللهِ وأنبيائِه، فليس تكريرًا، وكذا إنْ أُطلِق التَّكذيبُ أو عُلِّقَ في الموضعَينِ بواحدٍ؛ لأنَّ الوَيْلَ الأوَّلَ لعذابِ الآخرةِ، وهذا للإهلاكِ في الدُّنيا، مع أنَّ التَّكريرَ للتَّوكيدِ حسَنٌ شائعٌ في كَلامِ العرَبِ [105] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/275)، ((تفسير أبي السعود)) (9/79). .
وقيل: هو تَقريرٌ لنَظيرِه المُتقدِّمِ؛ تَأكيدًا للتَّهديدِ، وإعادةً لمعْناه، فعلى أنَّ جُملةَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ استئنافيَّةٌ- يُقدَّرُ الكلامُ المُعوَّضُ عنه تَنوينُ يَوْمَئِذٍ يَومَ إذ يُقال لهم: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، والمرادُ بالمكذِّبينَ: المُخاطَبونَ، فهو إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لتَسجيلِ أنَّهم مُكذِّبونَ، والمعنى: وَيلٌ يَومَئذٍ لكم.
 وعلى أن جُمْلةَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ جوابُ (إِذَا) أي: يَتَعلَّقُ (إذا) بالاسْتِقْرارِ الَّذي في الخبَرِ، وهو لِلْمُكَذِّبِينَ. والتَّقديرُ: إذا حَصَل كَذا وكَذا حَلَّ الوَيْلُ للمُكَذِّبينَ -يُقدَّرُ المحذوفُ المُعوَّضُ عنه التَّنوينُ: يومَ إذِ النُّجومُ طُمِسَت... إلخ، فتكونُ الجُملةُ تَأكيدًا لَفظيًّا لنَظيرتِها الَّتي تَقدَّمَت، والمرادُ بالمكذِّبينَ جميعُ المُكذِّبينَ، الشَّاملُ للسَّامِعينَ، وعلى الاعتِبارَينِ فتَقريرُ معْنى الجُملتَينِ حاصلٌ؛ لأنَّ اليَومَ يومٌ واحدٌ، ولأنَّ المُكذِّبينَ يَصدُقُ بالأحياءِ وبأهلِ المحشَرِ [106] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/429، 430). ويُنظر ما سيأتي (ص: 506). .
2- قولُه تعالَى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
- الاستِفهامُ تَقريريٌّ استِدلالًا على إمكانِ البَعثِ بطَريقةِ قِياسِ التَّمثيلِ [107] قياسُ التَّمثيلِ: هو: حَملُ جُزئيٍّ على جُزئيٍّ آخَرَ في حُكمِه؛ لاشتِراكِهما في عِلَّةِ الحُكمِ؛ لأنَّ ذلك الحُكمَ يلزمُ المُشتَرَكَ الكُلِّيَّ، مِثلُ: النَّبيذُ حرامٌ؛ قياسًا على الخَمرِ، بجامِعِ الإسكارِ في كلٍّ منهما. وقياسُ التَّمثيلِ: هو القياسُ الأُصوليُّ (إلحاقُ فَرعٍ بأصلٍ في حُكمٍ؛ لِعِلَّةٍ جامعةٍ بيْنَهما). يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/120)، ((آداب البحث والمناظرة)) للشنقيطي (2/291، 292). ، وجِيءَ به هنا على طَريقةِ تَعدادِ الخِطابِ في مَقامِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، وكلٌّ مِن التَّقريرِ والتَّقريعِ مِن مُقتضَياتِ تَرْكِ العطْفِ؛ لشَبَهِه بالتَّكريرِ في أنَّه تَكريرُ معْنًى وإنْ لم يكُنْ تَكريرَ لَفظٍ، والتَّكريرُ شَبيهٌ بالأعدادِ المَسرودةِ، فكان حقُّه تَرْكَ العطْفِ فيه [108] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/430). .
- قولُه: مَاءٍ مَهِينٍ الماءُ: هو ماءُ الرَّجُلِ. والمَهينُ: الضَّعيفُ، فَعيلٌ مِن مَهُنَ، إذا ضعُفَ، وهذا الوصْفُ كِنايةٌ رَمزيَّةٌ [109] تَنقسِمُ الكِنايةُ باعتبارِ الوسائطِ (اللَّوازمِ) والسِّياقِ إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريض، وتلويح، ورمْز، وإيماء؛ فالتَّعريضُ اصطِلاحًا: هو أنْ يُطلَقَ الكلامُ ويُشارَ به إلى معنًى آخَرَ يُفهَمُ مِن السِّياقِ. والتَّلويحُ اصطِلاحًا: هو الَّذي كثُرَتْ وسائطُه بلا تَعريضٍ، ويُنتقَلُ فيه إلى الملزومِ بواسِطةِ لَوازِمَ؛ نحو قولِ المرأةِ في حديثِ أمِّ زَرْعٍ: (زَوجي رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ)، فقولُها: (عظيمُ الرَّمادِ) يدُلُّ على كثرةِ الجَمرِ، وهي على كثرةِ إحراقِ الحطَبِ، وهي على كثرةِ الطَّبائخِ، وهي على كثرةِ الأكَلةِ، وهي على كثرةِ الضِّيفانِ، وهي على أنَّه مِضْيافٌ؛ فانتقَل الفِكرُ إلى جملةِ وسائطَ. والرَّمزُ اصطلاحًا:  هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ خفاءِ في اللُّزومِ بلا تعريضٍ نحو: فلانٌ عريضُ القفا، أو عريضُ الوسادةِ؛ كناية عن بلادتِه وبلاهتِه. والإيماءُ أو الإشارةُ اصطلاحًا: هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ وضوحِ اللُّزومِ، بلا تعريضٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (145 - 155)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/300)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286 - 290). عن عَظيمِ قُدرةِ اللهِ تعالَى؛ إذْ خَلَقَ مِن هذا الماءِ الضَّعيفِ إنسانًا شَديدَ القُوَّةِ عقْلًا وجِسمًا [110] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/430، 431). .
- وحرْفُ (مِنْ) للابتداءِ؛ لأنَّ تَكوينَ الإنسانِ نشَأَ مِن ذلك الماءِ [111] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/431). .
- وقولُه: فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ تَفصيلٌ لكَيفيَّةِ الخلْقِ على سَبيلِ الإدماجِ [112] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). مع مُناسَبتِه؛ لأنَّ له دَخْلًا في تَبْيينِ إمكانِ الإعادةِ؛ إذ شَديدُ القُدرةِ لا يُعجِزُه شَيءٌ؛ ولذلك ذيَّلَه بقولِه: فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ [113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/431). .
- قولُه: فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ الفاءُ في قولِه: فَقَدَرْنَا للتَّفريعِ على قولِه: فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ، أي: جعَلْناه في الرَّحمِ إلى انتِهاءِ أمَدِ الحمْلِ، فقَدَرْنا أطوارَ خلْقِكم حتَّى أخْرَجْناكم أطْفالًا، والفاءُ في فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ للتَّفريعِ على (قدَرْنا)، أي: تَفريعِ إنشاءِ ثَناءٍ ومَدْحٍ، أي: فدلَّ تَقديرُنا على أنَّنا نِعمَ القادِرون، أي: كان تَقديرُنا تَقديرَ أفضلِ قادرٍ، وهذا تَنويهٌ بذلك الخلْقِ العَجيبِ بالقُدرةِ [114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/432). . وذلك على أنَّ فَقَدَرْنَا من التَّقديرِ.
- والقادِرونَ: اسمُ فاعلٍ مِن (قدَرَ) اللَّازمِ؛ إذا كان ذا قُدرةٍ، وبذلك يكونُ الكلامُ تَأسيسًا لا تأكيدًا -وذلك على أنَّ فَقَدَرْنَا من التَّقديرِ-، أي: فنِعمَ القادِرون على الأشياءِ. وعَلامةُ الجمْعِ للتَّعظيمِ، مِثل نُونِ (قدَرْنا)؛ فإنَّ القُدرةَ لَمَّا أتَتْ بما هو مُقْتضى الحِكمةِ كانت قُدرةً جَديرةً بالمدْحِ [115] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/432). .