موسوعة التفسير

سورةُ المُرسَلاتِ
الآيات (25-28)

ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ

غريب الكلمات:

كِفَاتًا: الكِفَاتُ: السِّتْرُ، والوِعاءُ الجامِعُ للشَّيءِ، يُقالُ: كَفَتَ الشَّيءَ: إذا ضَمَّه وجَمَعَه، والكَفْتُ: الضَّمُّ والجَمْعُ، فالأرضُ تَكفِتُ -تَحفَظُ وتَستُرُ وتَضُمُّ- الأحياءَ على ظَهْرِها، وتَكفِتُ الأمواتَ في بَطْنِها، وأصلُ (كفت): يدُلُّ على جَمعٍ وضَمٍّ [116] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 506)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/190)، ((تفسير البغوي)) (8/306)، ((تفسير ابن عطية)) (5/419). .
رَوَاسِيَ: أي: جِبالًا ثَوابِتَ، وأصلُ (رسو): يدُلُّ على ثَباتٍ [117] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 242)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 239)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/394)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 178)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 250). .
شَامِخَاتٍ: أي: عالياتٍ مُرتَفِعاتٍ، وكُلُّ عالٍ فهو شامِخٌ، وأصلُ (شمخ): يدُلُّ على تعَظُّمٍ وارتِفاعٍ [118] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/212)، ((البسيط)) للواحدي (23/93)، ((تفسير البغوي)) (8/306). .
فُرَاتًا: الفُراتُ: الماءُ الشَّديدُ العُذوبةِ [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/472)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 369)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/498)، ((المفردات)) للراغب (ص: 628). .

مشكل الإعراب:

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا
قَولُه تعالى: كِفَاتًا: هو مَصدَرُ كَفَت يَكْفِتُ: أي: ضَمَّ وجَمَع.
وأَحْيَاءً: مفعولٌ به للمصدَرِ كِفَاتًا، أي: تَكْفِتُ الأرضُ الأحياءَ والأمواتَ، أي: تَضُمُّهم أحياءً على ظَهْرِها، وأمواتًا في بَطْنِها. ويجوزُ نصبُ أَحْيَاءً على الحاليَّةِ مِن مفعولِ كِفَاتًا المحذوفِ؛ للعِلْمِ به، والتَّقديرُ: كِفَاتًا الإِنْسَ أحياءً وأمواتًا. وقيل غيرُ ذلك [120] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/224)، ((تفسير ابن عطية)) (5/419، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (2/1264)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (10/636)، ((تفسير الألوسي)) (15/193). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ألَمْ نَجعَلِ الأرضَ وِعاءً يَضُمُّ ويَجمَعُ جَميعَ الخَلْقِ؛ الأحياءَ على ظَهْرِها، والأمواتَ في بَطْنِها؟ وجَعَلْنا في الأرضِ جِبالًا ثوابِتَ عَظيمةَ الارتِفاعِ، وأسْقَيْناكم ماءً عَذْبًا سائِغًا.
ثمَّ يقولُ تعالى مُهدِّدًا ومتوعِّدًا: عَذابٌ وهَلاكٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ.

تفسير الآيات:

أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا دَلَّ تعالى بابتِداءِ الخَلْقِ على تمامِ قُدرتِه؛ أتْبَعَه الدَّلالةَ بانتِهاءِ أمرِه وأثنائِه، وما دَبَّر فيهما مِن المَصالحِ، فقال [121] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/174). :
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25).
أي: ألَمْ نَجعَلِ الأرضَ وِعاءً يَضُمُّ ويَجمَعُ جَميعَ الخَلْقِ [122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/596)، ((تفسير القرطبي)) (19/161)، ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/109)، ((تفسير ابن كثير)) (8/299)، ((فتح الباري)) لابن رجب (7/255)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/174)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). قال ابن عطيَّة: (الكِفَاتُ: السِّترُ، والوِعاءُ الجامِعُ للشَّيءِ بإجماعٍ، تقولُ: كَفَتَ الرَّجُلُ شَعرَه: إذا جمَعَه بخِرقةٍ، فالأرضُ تَكفِتُ الأحياءَ على ظَهرِها، وتَكفِتُ الأمواتَ في بَطنِها). ((تفسير ابن عطية)) (5/419). ويُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/408). ؟
أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا (26).
أي: تَجمَعُ وتَضُمُّ الأحياءَ على ظَهْرِها، والأمواتَ في بَطْنِها [123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/596)، ((تفسير ابن كثير)) (8/299)، ((فتح الباري)) لابن رجب (7/255)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/174، 175)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). قال السعدي: (أَحْيَاءً في الدُّورِ، ‎وَأَمْوَاتًا في القُبورِ، فكما أنَّ الدُّورَ والقُصورَ مِن نِعَمِ اللهِ على عِبادِه ومِنَّتِه، فكذلك القُبورُ رَحمةٌ في حَقِّهم، وستْرٌ لهم عن كَونِ أجسادِهم باديةً للسِّباعِ وغَيرِها). ((تفسير السعدي)) (ص: 904). .
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27).
وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ.
أي: وجَعَلْنا في الأرضِ جِبالًا ثَوابِتَ عَظيمةَ الارتِفاعِ [124] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/598)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/267)، ((تفسير ابن كثير)) (8/299)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/175). ممَّن اختار أنَّ الرَّواسيَ: الجبالُ الثَّوابتُ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والواحدي، وابن عطية، والقرطبي، والنسفي، وأبو السعود، والشوكاني، والألوسي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/598)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/267)، ((الوسيط)) للواحدي (4/408)، ((تفسير ابن عطية)) (5/419)، ((تفسير القرطبي)) (19/162)، ((تفسير النسفي)) (3/586)، ((تفسير أبي السعود)) (9/80)، ((تفسير الشوكاني)) (5/432)، ((تفسير الألوسي)) (15/194). وقال ابن كثير: (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ يعني: الجبالَ، أرسَى بها الأرضَ؛ لئلَّا تَميدَ وتَضْطَرِبَ). ((تفسير ابن كثير)) (8/299). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 904). وقال البِقاعي: (رَوَاسِيَ لولاها لَمادَتْ بأهلِها، ومِن العجائِبِ أنَّ مَراسيَها مِن فَوقِها؛ خِلافًا لِمَراسي السُّفُنِ. شَامِخَاتٍ أي: هي معَ كَونِها ثَوابتَ في أنفُسِها مُثَبِّتةً لغيرِها- طوالٌ جِدًّا، عظيمةُ الارتفاعِ، كأنَّها قد تكبَّرَتْ على بقيَّةِ الأرضِ، وعلى مَن يُريدُ صُعودَها). ((نظم الدرر)) (21/175). .
كما قال تعالى: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15] .
وقال سُبحانَه: وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ [النازعات: 32، 33].
وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا.
أي: وأسْقَيْناكم ماءً عَذْبًا سائِغًا [125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/599)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 66)، ((تفسير القرطبي)) (19/162)، ((تفسير ابن كثير)) (8/299)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/434). .
قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا [الفرقان: 48، 49].
وقال سُبحانَه: أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68 - 70].
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28).
أي: عَذابٌ وهَلاكٌ وخِزْيٌ يومَ القيامةِ للمُكَذِّبينَ بالحَقِّ [126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/600)، ((تفسير ابن كثير)) (8/299)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/176)، ((تفسير السعدي)) (ص: 904). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا استَدَلَّ به مَن قال: إنَّ النَّبَّاشَ يُقْطَعُ؛ لأنَّ بَطْنَ الأرضِ حِرْزٌ للكَفَنِ، فإذا نَبَش وأخَذَ منه فهو سارِقٌ [127] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/376). ، فقد جُعِل القَبْرُ للمَيِّتِ كالبَيتِ للحَيِّ، فيكونُ حِرْزًا [128] يُنظر: ((الاستذكار)) لابن عبد البر (3/84)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 280). ، والسَّارِقُ مِن الحِرزِ يجبُ عليه القطعُ [129] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/773). اختلَف الفقهاءُ في حُكمِ النَّبَّاشِ (الَّذي يَسرِقُ أكفانَ الموتى بعدَ دَفنِهم في قُبورِهم)؛ فيُقطَعُ عندَ الجمهورِ: المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابلةِ وأبي يوسفَ مِن الحنفيَّةِ؛ وذلك على اعتبارِه سارقًا، ولا يُقطَعُ عندَ أبي حنيفةَ ومحمَّدِ بن الحسَنِ. يُنظر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (13/247) و(19/209) و(24/294) و(40/19). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا يدُلُّ على وُجوبِ مُواراةِ الميِّتِ ودَفْنِه [130] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لِلْكِيَا الهَرَّاسي (4/428). قال ابنُ العربي: (قولُه تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا يَقْتَضي أَنْ يُدْفَنَ فيها الميتُ بجَميعِ أجْزائِه كُلِّها مِن شَعرٍ، وظُفْرٍ، وثِيابٍ، وما يُواريه على التَّمامِ، وما اتَّصَل به وما بانَ عنه). ((أحكام القرآن)) (4/357). وقال الإمام أحمدُ بنُ حنبل: في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا: (تَكفتونَ فيها الأحياءَ: الشعرَ والدمَ، وتدفنونَ فيها موتاكم). وقال أيضًا في هذه الآيةِ: (يُدْفَنُ ثَلَاثَةُ أَشياءَ: الأظافرُ، والشَّعرُ، والدَّمُ. ثُمَّ قال: وَأَمْوَاتًا : يُدْفَنُ فيها الأمواتُ). ((الوقوف والترجل من مسائل الإمام أحمد)) للخلال بتصرفٍ يسيرٍ (ص: 141). ، وأنَّ دَفْنَ الميِّتِ فَرْضُ كفايةٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى امْتَنَّ على العِبادِ [131] يُنظر: ((الشرح الممتع على زاد المستقنع)) لابن عثيمين (5/264). بجَعْلِ الأرضِ صالِحةً لدَفنِ الأمواتِ، فيُؤخَذُ مِنَ الآيةِ وُجوبُ الدَّفنِ في الأرضِ إلَّا إذا تعَذَّر ذلك؛ كالَّذي يموتُ في سفينةٍ بَعيدةٍ عن مراسي الأرضِ، أو لا تستطيعُ الإرساءَ، أو كان الإرساءُ يَضُرُّ بالرَّاكِبينَ، أو يُخافُ تَعَفُّنُ الجُثَّةِ؛ فإنَّها يُرمَى بها في البَحرِ وتُثَقَّلُ بشَيءٍ؛ لِتَرسُبَ إلى غريقِ الماءِ، وعليه فلا يجوزُ إحراقُ الميِّتِ كما يفعَلُ مجوسُ الهِندِ، وكان يَفعَلُه بعضُ الرُّومانِ، ولا وَضْعُه لكواسِرِ الطَّيرِ كما كان يَفعَلُ مجوسُ الفُرْسِ [132] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/433). !
3- قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا قد تَصدَّى الكلامُ لإثباتِ البَعثِ بشَواهدَ ثلاثةٍ؛ أحدُها: بحالِ الأُمَمِ البائدةِ في انْقِراضِها، والثَّاني: بحالِ تَكوينِ الإنسانِ، والثَّالثُ: مَصيرُ الكلِّ إلى الأرضِ، وفي كلِّ ذلك إبطالٌ لإحالَتِهم وُقوعَ البعثِ؛ لأنَّهم زَعَموا استحالتَه، فأُبطِلَت دَعْواهم بإثباتِ إمكانِ البعثِ؛ فإنَّه إذ ثَبَتَ الإمكانُ بَطَلَت الاستِحالةُ، فلمْ يَبْقَ إلَّا النَّظرُ في أدِلَّةِ تَرجيحِ وُقوعِ ذلك المُمكنِ [133] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/433). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا
- الهمزةُ في أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا للاستِفهامِ الإنكاريِّ التَّقريريِّ [134] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/337). .
- وقَدَّم الأرضَ؛ لأنَّ أقرَبَ الأشياءِ إلينا مِن الأُمورِ الخارجيَّةِ: هو الأرضُ [135] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/772). .
- وقدْ جاء هذا التَّقريرُ على سَننِ سابقَيْه في عدَمِ العطفِ؛ لأنَّه على طَريقةِ التَّكريرِ للتَّوبيخِ، وهو تَقريرٌ لهم بما أنْعَمَ اللهُ به عليهم مِن خلْقِ الأرضِ لهم بما فيها ممَّا فيه مَنافِعُهم، ومَحلُّ الامتِنانِ هو قولُه: أَحْيَاءً، وأمَّا قولُه: ‎وَأَمْوَاتًا فتَتميمٌ [136] التَّتميمُ: مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو الإتيانُ بكلمةٍ أو كلامٍ مُتمِّمٍ للمقصودِ، أو لزِيادةٍ حَسنةٍ، بحيثُ إذا طُرِحَ مِن الكلامِ نقَصَ معناه في ذاتِه، أو في صِفاتِه. أو هو الإتيانُ في كلامٍ لا يُوهِمُ غيرَ المرادِ بفَضلةٍ تُفيدُ نُكتةً. أو هو إردافُ الكلامِ بكَلمةٍ تَرفعُ عنه اللَّبسَ، وتُقرِّبُه للفَهمِ، ومِن أمثلةِ التَّتميمِ قولُه تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [النساء: 124] ؛ فقولُه: وَهُوَ مُؤْمِنٌ تتميمٌ في غايةِ الحُسنِ. ومنه قولُه تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ [البقرة: 206] ؛ وذلك أنَّ العِزَّةَ محمودةٌ ومذمومةٌ، فلمَّا قال: بِالْإِثْمِ اتَّضحَ المعنى وتَمَّ، وتبيَّن أنَّها العِزَّةُ المذمومةُ المُؤثَّمُ صاحِبُها. والاحتِراسُ: هو التَّحرُّزُ مِن الشَّيءِ والتَّحفُّظُ منه، وهو نَوعٌ مِن أنواعِ إطنابِ الزِّيادةِ، وهو أن يكونَ الكلامُ محتملًا لشَيءٍ بعيدٍ، فيُؤتَى بكلامٍ يَدفَعُ ذلك الاحتِمالَ. أو الإتيانُ في كلامٍ يوهِمُ خلافَ المقصودِ بما يدفَعُ ذلك الوهمَ، ويُسمِّيه البعضُ: التَّكميلَ. والفَرقُ بيْنَ الاحتِراسِ والتَّتميمِ: أنَّ الاحتِراسَ يجبُ أنْ يكونَ لرَفْعِ إيهامِ خِلافِ المقصودِ، وأمَّا التَّتميمُ فإنَّه يكونُ في كلامٍ لا يُوهِمُ خِلافَ المقصودِ؛ فالنِّسبةُ بيْنَهما إذَنْ هي التَّبايُنُ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/64)، ((تفسير أبي حيان)) (1/120) و(2/333)، ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (3/251)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (1/44)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (1/49 - 51، 240 - 241). وإدماجٌ [137] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ؛ لأنَّ فيه مُشاهَدةَ المُلازَمةِ بيْنَ الأحياءِ والأمواتِ تدُلُّ على أنَّ الحياةَ هي المقصودُ مِن الخِلقةِ، وهذا تَقريرٌ لهم بالاعتِرافِ بالأحوالِ المُشاهَدةِ في الأرضِ، الدَّالَّةِ على تَفرُّدِ اللهِ تعالَى بالإلهيَّةِ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/432، 433). .
- وتَنكيرُ أَحْيَاءً ‎وَأَمْوَاتًا للتَّفخيمِ -مع أنَّها تَكفِتُ الأحياءَ والأمواتَ جميعًا-، كأنَّه قيل: تَكفِتُ أحياءً لا يُعَدُّون، وأمواتًا لا يُحصَرون، على أنَّ أحياءَ الإنسِ وأمواتَهم لَيسوا بجَميعِ الأحياءِ والأمواتِ. فالتنكير للتَّعظيمِ مُرادًا به التَّكثيرُ؛ ولذلك لم يُؤتَ بهما مُعرَّفَينِ باللَّامِ. وجُوِّز أنْ يكونَ للتبعيضِ بإرادةِ أحياءِ الإنسِ وأمواتِهم، وهم ليسوا بجميعِ الأحياءِ والأمواتِ، ولا ينافي ذلك التَّفخيمَ؛ نظرًا إلى أنَّه بعضٌ غيرُ محصورٍ، كثيرٌ في نفسِه. ويجوزُ أنْ يكونَ المعنى: تَكفِتُكم أحياءً وأمواتًا، فيَنتصِبَا على الحالِ مِن الضَّميرِ؛ لأنَّه قد عُلِمَ أنَّها كِفاتُ الإنسِ. وقيلَ: هُو مصدرٌ نُعِتَ به للمُبالغةِ [139] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/679، 680)، ((تفسير البيضاوي)) (5/276)، ((تفسير أبي السعود)) (9/80)، ((تفسير الألوسي)) (15/193)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/433)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/339). .
2- قولُه تعالَى: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
- قولُه: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ جُمِعَ رَوَاسِيَ على فَواعِلَ؛ لوُقوعِه صِفةً لِمُذَكَّرٍ غيرِ عاقلٍ [140] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (9/80)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/434). .
- ونُكِّرَ رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ ومَاءً فُرَاتًا لإفادةِ التَّبعيضِ؛ لأنَّ في السَّماءِ جِبالًا؛ قال اللهُ تعالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور: 43] ، وفيها ماءٌ فُراتٌ كثيرٌ، بلْ هي مَنبَعُه ومَصبُّه. أو تَنوينُ شَامِخَاتٍ ومَاءً فُرَاتًا؛ للتَّعظيمِ والتَّفخيمِ؛ لدَلالةِ ذلك على عَظيمِ القُدرةِ [141] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/680)، ((تفسير أبي السعود)) (9/80)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/434)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/339). .
- وعُطِفَ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا لِمُناسَبةِ ذِكرِ الجِبالِ؛ لأنَّها تَنحدِرُ منها المياهُ تَجْري في أسافِلِها، وهي الأوديةُ، وتَقِرُّ في قَراراتٍ وحِياضٍ وبُحَيراتٍ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/434). .