موسوعة التفسير

سُورةُ الدُّخَانِ
الآيات (17-24)

ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ

غَريبُ الكَلِماتِ:

فَتَنَّا: أي: ابتَلَيْنا واختبَرْنا، وأصلُ (فتن): يدُلُّ على ابتلاءٍ واختبارٍ [107] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76، 101، 152، 154)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472، 473)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 96، 139 - 140). .
أَدُّوا إِلَيَّ: أي: سَلِّموا إلَيَّ، وأَرسِلوا معي، وأصلُ (أدي): يدُلُّ على إيصالِ الشَّيءِ إلى الشَّيءِ، أو وُصولِه إليه مِن تِلْقاءِ نفْسِه [108] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/40)، ((تفسير ابن جرير)) (21/28)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/74)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 983)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 349). .
بِسُلْطَانٍ: أي: حُجَّةٍ وبُرهانٍ، وأصلُ (سلط): يدُلُّ على القُوَّةِ والقَهرِ [109] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((تفسير ابن جرير)) (18/252)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3 /95)، ((المفردات)) للراغب (ص: 247، 420، 724)، ((تفسير القرطبي)) (13/287)، ((تفسير ابن كثير)) (6/137). .
عُذْتُ: أي: التجأتُ واعتصَمتُ، وأصلُ العَوذِ: الالتِجاءُ إلى الغَيرِ والتَّعَلُّقُ به [110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/31)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/183)، ((المفردات)) للراغب (ص: 594)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 659). .
تَرْجُمُونِ: أي: تَقتُلوني رميًا بالحِجارةِ، والرَّجمُ أيضًا: السَّبُّ والشَّتمُ؛ لأنَّه رَميٌ بالقَولِ القَبيحِ، وأصلُ (رجم): يدُلُّ على رَميٍ بالحِجارةِ [111] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 402)، ((تفسير ابن جرير)) (21/32)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/493)، ((البسيط)) للواحدي (12/565). .
فَاعْتَزِلُونِ: أي: اترُكوني وفارِقوني، وأصلُ (عزل): يدُلُّ على تَنحيةٍ [112] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 402)، ((تفسير ابن جرير)) (21/33)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/307)، ((المفردات)) للراغب (ص: 564)، ((تفسير القرطبي)) (16/135). .
فَأَسْرِ: أي: سِرْ بهم لَيلًا، مِنَ السُّرَى: وهو سَيرُ اللَّيلِ [113] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (12/514)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 63)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/120)، ((المفردات)) للراغب (ص: 408). .
رَهْوًا: أي: ساكِنًا مُنفَرِجًا، وأصلُ (رهو): يدُلُّ على سُكونٍ [114] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 402)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 241)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/446)، ((المفردات)) للراغب (ص: 368)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 349)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 376)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 484). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبينًا جانبًا مِن قصَّةِ موسى عليه السَّلامُ معَ فِرعونَ: ولقد اختبَرْنا قبْلَ كُفَّارِ قَومِك -يا محمَّدُ- قومَ فِرعَونَ، وجاءهم موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ أطلِقوا بني إسرائيلَ مِن العذابِ، واترُكوهم لي، إنِّي رَسولٌ مِنَ الله إليكم، أمينٌ في رسالتي، وألَّا تَستكبِروا على اللهِ تعالى بالكُفرانِ والعِصيانِ، إنِّي آتيكم بحُجَّةٍ ظاهِرةٍ، وإنِّي اعتصَمتُ برَبِّي ورَبِّكم مِن أنْ تَصِلوا إلَيَّ بسُوءٍ مِن قولٍ أو فِعلٍ، وإنْ لم تُؤمِنوا لي فاترُكوني وشأني.
فلمَّا لم يَستَجيبوا له فيما أمَرَهم، وأصَرُّوا على أذاهُ وعدَمِ مُتارَكتِه؛ دعا رَبَّه بأنَّ هؤلاء قَومٌ مُجرِمونَ، فأجاب اللهُ دعاءَه، فقال له: أسْرِ بعِبادي مِن بني إسرائيلَ لَيلًا؛ إنَّ فِرعونَ وجُندَه سيَتَّبِعونَكم، واترُكِ البَحرِ على هيئتِه ساكِنًا بعدَ أنْ ضرَبْتَه بعصاك، إنَّ فِرعَونَ وقَومَه مُغرَقونَ فيه!

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى تكذيبَ مَن كَذَّب الرَّسولَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ ذكَرَ أنَّ لهم سَلَفًا مِنَ المُكَذِّبينَ، فذَكَرَ قِصَّتَهم مع موسى عليه السَّلامُ وما أحَلَّ اللهُ بهم؛ لِيَرتدِعَ هؤلاءِ المكَذِّبونَ عمَّا هم عليه [115] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 771). .
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ.
أي: ولقد اختبَرْنا وابتَلَيْنا قبْلَ كُفَّارِ قَومِك -يا محمَّدُ- قَومَ فِرعَونَ مِن القِبطِ [116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/28)، ((تفسير ابن كثير)) (7/251)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). .
وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ.
أي: وجاء قومَ فِرعَونَ رسولٌ كريمٌ أرسلَنْاه إليهم، وهو موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/28)، ((تفسير القرطبي)) (16/134)، ((تفسير ابن كثير)) (7/251)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/295). قال الماوَرْدي: (وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ وهو موسى بنُ عِمْرانَ عليه السَّلامُ. وفيه ثلاثةُ أوجُهٍ: أحدُها: كريمٌ على رَبِّه... الثَّاني: كريمٌ في قَومِه. الثَّالثُ: كريمُ الأخلاقِ بالتَّجاوُزِ والصَّفحِ). ((تفسير الماوردي)) (5/249). ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفرَّاء (3/40)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/90). وممَّن قال بالمعنى الأوَّلِ: ابنُ جرير، والسمرقندي، والثعلبي، ومكِّي، والبغوي، والخازن. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/28)، ((تفسير السمرقندي)) (3/270)، ((تفسير الثعلبي)) (8/352)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6730)، ((تفسير البغوي)) (4/177)، ((تفسير الخازن)) (4/118). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني: القرطبي. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/134). وممَّن جمَع بيْنَ المعنيَينِ السَّابقَينِ: الشَّوكاني. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (4/657). وممَّن قال بالمعنى الثَّالثِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والماتُريدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/820)، ((تفسير الماتريدي)) (9/202). وظاهِرُ اختيارِ البِقاعي الجمعُ بيْنَ هذه المعاني، حيث قال: (أي: يَعلَمونَ شَرَفَه نَسَبًا وأخلاقًا وأفعالًا، ثمَّ زاد بيانُ كَرَمِه بما ظَهَر لله به مِن العِنايةِ بما أيَّده به مِن المُعجِزاتِ). ((نظم الدرر)) (18/20). وقال ابنُ عاشور: (الكريمُ: النَّفيسُ الفائِقُ في صِنْفِه...، أي: رَسولٌ مِن خِيرةِ الرُّسُلِ، أو مِن خِيرةِ النَّاسِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/295). .
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18).
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ.
أي: فقال موسى لِفِرعَونَ ومَلَئِه: أطلِقوا بني إسرائيلَ مِن العذابِ، وادفَعوهم إلَيَّ [118] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/28)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/295)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/176). قال الرَّسْعَني: (عِبَادَ اللَّهِ مفعولٌ به، أو مُنادَى. فالأوَّلُ على معنى: أرسِلوا معي بني إسرائيلَ، وسَلِّمْهم إلَيَّ. والثَّاني على معنى: أدُّوا إلَيَّ [يا] عِبادَ الله ما هو واجبٌ عليكم مِن التَّمسُّكِ بما جِئتُ مِن التَّوحيدِ، والتَّنسُّكِ بما أُمِرْتُم به على لساني مِن الحكمِ والأحكامِ. والمعنى الأوَّلُ قولُ ابنِ عبَّاسٍ ومُجاهِدٍ وأكثرِ المفسِّرينَ. والثَّاني ذكره الزَّجَّاجُ وغيرُه. قال الماوَرْديُّ: وهو قولٌ مُحتملٌ). ((تفسير الرسعني)) (7/167). ويُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/425)، ((تفسير الماوردي)) (5/249). قال ابن عطيَّة: (الظَّاهِرُ مِن شَرعِ موسى عليه السَّلامُ أنَّه بُعِثَ إلى دُعاءِ فِرعَونَ إلى الإيمانِ وأن يُرسِلَ بني إسرائيلَ، فلمَّا أبى أن يُؤمِنَ ثبَتَت المكافَحةُ في أن يُرسِلَ بني إسرائيلَ). ((تفسير ابن عطية)) (5/70، 71). .
كما قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [طه: 47].
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ.
أي: إنِّي مُرسَلٌ مِنَ اللهِ تعالى إليكم، بالِغُ الأمانةِ على الرِّسالةِ الَّتي أمَرَني اللهُ أن أبَلِّغَكم إيَّاها بلا زيادةٍ ولا نُقصانٍ ولا كِتمانٍ [119] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/30)، ((تفسير ابن كثير)) (7/251)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/21)، ((تفسير الشوكاني)) (4/657)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/296). .
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19).
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ.
أي: ولا تَستَكبِروا عن الإيمانِ بآياتِ اللهِ واتِّباعِها، فتَكفُروا به، وتُخالِفوا أمْرَه [120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/30)، ((تفسير ابن كثير)) (7/251)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). .
إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ.
أي: إنِّي آتيكم بحُجَّةٍ ظاهِرٍة تُثبِتُ صِحَّةَ ما أدعوكم إليه وتُظهِرُه [121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/30)، ((تفسير ابن كثير)) (7/251)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/22)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/297). قال الألوسي: (آتِيكم بحُجَّةٍ واضِحةٍ لا سَبيلَ إلى إنكارِها، أو مُوضِحةٍ صِدقَ دَعوايَ). ((تفسير الألوسي)) (13/120). ممَّن اختار في الجُملةِ أنَّ مُبِينٍ بمعني: بَيِّنٍ واضِحٍ ظاهِرٍ: السَّمعانيُّ، والبغوي، والرازي، والقرطبي، وابنُ كثير، والشوكاني، والقاسمي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/125)، ((تفسير البغوي)) (4/177)، ((تفسير الرازي)) (27/659)، ((تفسير القرطبي)) (16/135)، ((تفسير ابن كثير)) (7/251)، ((تفسير الشوكاني)) (4/657)، ((تفسير القاسمي)) (8/416)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/297). وقال البِقاعي: (مُبِينٍ واضِحٍ في نَفْسِه سَلْطَنتُه، ومُظهِرٍ لِغَيرِه ذلك). ((نظم الدرر)) (19/29). وقال السعدي: (هو ما أتى به مِن المُعجِزاتِ الباهِراتِ، والأدِلَّةِ القاهِراتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 773). وقال ابنُ عاشور: (وهذه المُعجِزةُ هي انقِلابُ عصاه ثُعبانًا مُبِينًا). ((تفسير ابن عاشور)) (25/297). .
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20).
أي: وإنِّي اعتصَمْتُ برَبِّي ورَبِّكم مِن أنْ تَصِلوا إلَيَّ بسُوءٍ مِن قولٍ أو فِعلٍ [122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/32، 33)، ((تفسير ابن كثير)) (7/252). ممن اختار القولَ المذكورَ -أنَّ موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ استعاذ بالله مِن كُلِّ معاني رَجْمِهم الَّذي يَصِلُ منه إليه أذًى ومَكروهٌ؛ سواءٌ كان بالقَولِ أو بالفِعلِ، شتمًا باللِّسانِ أو رَجمًا بالحِجارةِ-: ابنُ جرير،ٍ وابنُ كثيرٍ. يُنظر: ((المصدران السابقان)). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالرَّجْمِ هنا: القَتلُ: الفَرَّاءُ، والواحدي، وابن عطية، والبِقاعي، والسعدي، وابن عاشور. يُنظر: ((معاني القرآن)) للفرَّاء (3/40)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 983)، ((تفسير ابن عطية)) (5/71)، ((تفسير ابن كثير)) (7/252)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/22، 23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/297). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: السُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (5/250). قال القاسمي: (قُصِدَ بهذه الجُملةِ: إظهارُ مَزيدِ شَجاعتِه وثَباتِه في مَوقِفٍ تَضطرِبُ فيه الأفئِدةُ، وتَزِلُّ الأقدامُ خَوفًا ورُعبًا، وما ذاك إلَّا لإيوائِه إلى عِصمةِ اللهِ وتأييدِه). ((تفسير القاسمي)) (8/416). وقال ابن عاشور: (الرَّجمُ: الرَّميُ بالحِجارةِ تِباعًا حتَّى يموتَ المَرْميُّ أو تُثخِنَه الِجراحُ، والقَصدُ منه تحقيرُ المقتولِ؛ لأنَّهم كانوا يَرمُونَ بالحِجارةِ مَن يَطرُدونَه... وإنَّما استعاذ موسى منه؛ لأنَّه عَلِمَ أنَّ عادتَهم عِقابُ مَن يخالفُ دينَهم بالقَتلِ رَميًا بالحِجارةِ... ومعنى ذلك: إنْ لم تؤمِنوا بما جئتُ به فلا تَقتُلوني، كما دلَّ عليه تعقيبُه بقَولِه: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي [الدخان: 21] ، والمعنى: إنْ لم تُؤمِنوا بالمُعجِزةِ الَّتي آتيكم بها فلا تَرجُموني؛ فإنِّي أعوذُ باللهِ مِن أن تَرجُموني، ولكِنِ اعتَزِلوني). ((تفسير ابن عاشور)) (25/297، 298). .
كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر: 27] .
وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21).
أي: وإنْ لم تُؤمِنوا بما أمَرْتُكم وجِئْتُكم به مِن عندِ اللهِ فلا تَرْجموني، واترُكوني وشَأْني، ولا تَتعرَّضوا لي [123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/33)، ((الوسيط)) للواحدي (4/88)، ((تفسير القرطبي)) (16/135)، ((تفسير ابن كثير)) (7/252)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/298). قال البقاعي: (ولَمَّا كان التَّقديرُ: فإنْ آمَنْتُم بذلك وسَلَّمْتم لي أفلَحْتُم؛ عَطَف عليه قَولَه: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي... فَاعْتَزِلُونِ أي: وإنْ لم تَعتزِلوني هلَكْتُم، ولا تَقدِرونَ على قَتلي بوَجهٍ). ((نظم الدرر)) (18/23). .
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22).
أي: فدعا موسى رَبَّه [124] قال ابنُ كثير: (فلمَّا طال مُقامُه بيْنَ أظهُرِهم، وأقام حُجَجَ اللهِ عليهم، كُلُّ ذلك وما زادهم ذلك إلَّا كُفرًا وعِنادًا؛ دعا رَبَّه عليهم دعوةً نَفَذَت فيهم). ((تفسير ابن كثير)) (7/252). بأنَّ هؤلاء الأراذِلَ قَومٌ مُتَّصِفونَ بالإجرامِ وعَريقونَ فيه [125] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/33)، ((الوسيط)) للواحدي (4/88)، ((تفسير القرطبي)) (16/136)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/24)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). قال ابن عطيَّة: (حَكَم عليهم بالإجرامِ المُتضَمِّنِ للكُفرِ حينَ يَئِسَ منهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/72). وقال القرطبي: (قَوْمًا مُجْرِمِينَ أي: مُشرِكونَ، قد امتَنَعوا مِن إطلاقِ بني إسرائيلَ، ومِن الإيمانِ). ((تفسير القرطبي)) (16/136). وقال القاسمي: (قَوْمًا مُجْرِمِينَ أي: مُشركونَ مُفسِدونَ). ((تفسير القاسمي)) (8/416). وقال السعدي: (أي: قد أجرَموا جُرمًا يُوجِبُ تَعجيلَ العُقوبةِ، فأخبَرَ عليه السَّلامُ بحالِهم، وهذا دعاءٌ بالحالِ الَّتي هي أبلَغُ مِن المقالِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 773). .
كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ [يونس: 88] .
وقال سُبحانَه: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف: 133] .
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23).
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا.
أي: فأجاب اللهُ دُعاءَ موسى، فقال له: سِرْ بعبادي مِن بني إسرائيلَ لَيلًا [126] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/33)، ((تفسير القرطبي)) (16/136)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/299). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [طه: 77] .
إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ.
أي: إنَّ فِرعَونَ وجُندَه سيَتَّبِعونَكم ويَطلُبونَكم [127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/34)، ((تفسير السمعاني)) (5/125)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/25)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). .
كما قال تعالى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا [يونس: 90] .
وقال الله  سُبحانَه وتعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء: 52 - 56] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشعراء: 60] .
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24).
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا.
أي: قال اللهُ لِموسى: واترُكِ البَحرِ باقيًا على هيئتِه الَّتي هو عليها ساكِنًا مُنفَرِجًا مَفتوحًا ذا فَجوةٍ واسعةٍ [128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/34، 37)، ((تفسير البيضاوي)) (5/101)، ((تفسير ابن كثير)) (7/252)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/26)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). قال الشوكاني: (المعنى: اترُكِ البَحرَ ساكِنًا على صِفتِه بعدَ أن ضرَبْتَه بعصاك، ولا تأمُرْه أن يَرجِعَ كما كان؛ لِيَدخُلَه آلُ فِرعَونَ بَعدَك وبعدَ بني إسرائيلَ، فيَنطبِقَ عليهم فيَغرَقوا. وقال أبو عُبَيدةَ: رَهَا بيْنَ رِجْلَيه يَرهو رَهْوًا: أي: فَتَحَ. قال: ومنه قَولُه: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا، والمعنى: اترُكْه مُنفَرِجًا كما كان، بعدَ دُخولِكم فيه. وكذا قال أبو عُبيدٍ، وبه قال مجاهِدٌ وغيرُه. قال ابنُ عَرَفةَ: وهما يَرجِعانِ إلى معنًى واحدٍ وإنِ اختلَف لَفْظاهما؛ لأنَّ البَحرَ إذا سكَنَ جَرْيُه انفَرَج). ((تفسير الشوكاني)) (4/658). وقال ابنُ عطيَّة: (واختلف المفَسِّرونَ في قَولِه تعالى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا متى قالها لِموسى؟ فقالت فِرقةٌ: هو كلامٌ مُتَّصِلٌ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ * وَاتْرُكِ الْبَحْرَ إذا انفَرَقَ لك رَهْوًا. وقال قَتادةُ وغَيرُه: خُوطِبَ به بعدَما اجتاز البَحرَ وخَشِيَ أن يَدخُلَ فِرعَونُ وقَومُه وراءَه، وأن يَخرُجوا مِن المسالِكِ الَّتي خرَجَ منها بنو إسرائيلَ، فَهَمَّ موسى أن يَضرِبَ البَحرَ؛ عسى أن يَلتَئِمَ ويَرجِعَ إلى حالِه، فقيل له عندَ ذلك: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا). ((تفسير ابن عطية)) (5/72). ممَّن اختار القَولَ الأوَّلَ، وأنَّ هذا الكلامَ لِموسى قبْلَ أن يَقطَعَ هو وقَومُه البَحرَ: ابنُ جرير، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/34)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/300). وممَّن اختار القولَ الثَّانيَ، وهو أنَّ اللهَ أمَرَه بذلك بعدَ خُروجِه مِن البَحرِ: السمرقنديُّ، والزمخشري، والنسفي، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/270)، ((تفسير الزمخشري)) (4/275)، ((تفسير النسفي)) (3/291)، ((تفسير ابن كثير)) (7/252)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). وممَّن قال بذلك مِنَ السَّلَفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير عبد الرزاق)) (3/185)، ((تفسير ابن جرير)) (21/34). قال ابنُ عاشور: (ويجوزُ أن تكونَ الجُملةُ الثَّانيةُ [أي: قَولُه: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا] صدَرَت وَقتَ دُخولِ موسى ومَن معه في طرائِقِ البَحرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/300). وقال ابن عاشور أيضًا: (الْبَحْرَ هو بحرُ القُلْزُم، المسمَّى اليومَ البَحرَ الأحمرَ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/300). .
إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ.
أي: إنَّ فِرعَونَ وقَومَه غارِقونَ في البَحرِ لا مَحالةَ [129] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/38)، ((تفسير القرطبي)) (16/138)، ((تفسير الشوكاني)) (4/658). .
كما قال تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ [الشعراء: 63 - 66].

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ، فيه سؤالٌ: الكُفرُ أعظَمُ حالًا مِنَ الجُرمِ، فما السَّبَبُ في أنْ جَعَل صِفةَ الكُفَّارِ كَونَهم مُجرِمينَ حالَ ما أراد المُبالَغةَ في ذَمِّهم؟
والجوابُ: لأنَّ الكافِرَ قد يكونُ عَدلًا في دينِه، وقد يكونُ مُجرِمًا في دينِه، وقد يكونُ فاسِقًا في دينِه، فيكونُ أخَسَّ النَّاسِ [130] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/659). !
2- قال الله تعالى: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ أُمِرَ موسى عليه السَّلامُ بالخُروجِ ليلًا، وسَيرُ اللَّيلِ في الغالِبِ إنَّما يكونُ عن خَوفٍ، والخَوفُ يكونُ بوَجهَينِ: إمَّا مِن العَدُوِّ، فيُتَّخَذُ اللَّيلُ سِترًا مُسدَلًا، فهو مِن أستارِ اللهِ تعالى، وإمَّا مِن خَوفِ المَشقَّةِ على الدَّوابِّ والأبدانِ بحَرٍّ أو جَدْبٍ، فيُتَّخَذُ السُّرَى مَصلحةً مِن ذلك، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسري ويَدَّلِجُ [131] يَسري: أي: يسيرُ ليلًا، ويدَّلج -بتشديد الدال- أي يسير مِن آخِرِ اللَّيلِ، فإن كان السَّيرُ مِن أوَّلِ اللَّيلِ قيل: أدْلَجَ القَومُ، بالتخفيفِ. يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (1/315)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/129)، ((مختار الصحاح)) لأبي عبد الله الرازي (ص: 147). ، ويَترفَّقُ ويَستعجِلُ؛ بحَسَبِ الحاجةِ، وما تقتضيه المصلحةُ [132] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (16/136). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ للشُّروعِ في ضَربِ الأمثِلَةِ لهم بمَن تقدَّمَهم مِن الأقوامِ [133] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/124). .
- وقد جَعَل اللهُ سُبحانَه قِصَّةَ قَومِ فِرعَونَ مع مُوسَى عليه السَّلامُ وبَني إسرائِيلَ مَثَلًا لحالِ المُشرِكين مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ والمُؤمِنينَ به، وجَعَل ما حلَّ بهم إنذارًا بما سيَحُلُّ بالمُشرِكين مِن القَحطِ والبَطْشةِ -وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ-، مع تَقريبِ حُصولِ ذلك وإمكانِه ويُسرِه، وإنْ كانوا في حالةِ قوَّةٍ؛ فإنَّ اللهَ قادِرٌ عليهم، كما قال تعالى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا [الزخرف: 8] ؛ فذِكرُها هنا تأيِيدٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ووَعدٌ له بالنَّصرِ وحُسنِ العاقِبةِ، وتَهديدٌ للمُشرِكين، وهذا المَثَلُ وإنْ كان تَشبيهًا لِمَجموعِ الحالَةِ بالحالَةِ، فهو قابِلٌ للتَّوزيعِ؛ بأن يُشَبَّهَ أبو جَهلٍ بفِرعَونَ، ويُشَبَّهَ أتْباعُه بمَلَأِ فِرعَونَ وقَومِه، ويُشَبَّهَ مُحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ بمُوسَى عليه السَّلامُ، ويُشَبَّهَ المُسلِمون ببَني إسرائِيلَ، وقَبولُ المَثَلِ لتَوزيعِ التَّشبيهِ مِن مَحاسِنِه [134] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/400)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/294). .
- وأشعَرَ قَولُه: قَبْلَهُمْ أنَّ أهلَ مَكَّةَ سيُفتَنُون كما فُتِنَ قَومُ فِرعَون؛ فكان هذا الظَّرفُ مُؤْذِنًا بجُملةٍ مَحذوفةٍ على طَريقةِ الإيجازِ، والتَّقديرُ: إنَّا مُنتَقِمون ففَاتِنُوهم؛ فقد فَتَنَّا قَبْلَهُم قومَ فِرعَونَ، ومُؤْذِنًا بأنَّ المَذكورَ كالدَّليلِ على تَوَقُّعِ ذلك وإمكانِه، وهو إِيجازٌ آخَرُ [135] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/294). .
- والمَقصودُ: تَشبيهُ الحالَةِ بالحالَةِ، ولكِنْ عُدِلَ عن صَوغِ الكَلامِ بصِيغةِ التَّشبيهِ والتَّمثيلِ إلى صَوغِه بصِيغةِ الإخبارِ؛ اهتِمامًا بالقِصَّةِ، وإظهارًا بأنَّها في ذاتِها ممَّا يُهِمُّ العِلمُ به، وأنَّها تَذكيرٌ مُستَقِلٌّ، وأنَّها غَيرُ تابِعةٍ غَيرَها، ولأنَّ جُملةَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ عُطِفَت على جُملَةِ فَتَنَّا -أي: ولقدْ جاءَهُم رَسولٌ كَريمٌ- عَطْفَ مُفَصَّلٍ على مُجمَلٍ، وإنَّما جاء مَعطوفًا؛ إذ المَذكورُ فيه أكثَرُ مِن مَعنَى الفِتنةِ؛ فلا تَكونُ جُملةُ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ بَيانًا لجُملَةِ فَتَنَّا؛ بلْ هي تَفصيلٌ لِقِصَّةِ بَعثةِ مُوسَى عليه السَّلامُ [136] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/295). .
2- قولُه تعالَى: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ
- قولُه: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ تَفسيرٌ لِمَا تَضَمَّنه وَصْفُ رَسُولٌ وفِعلُ (جَاءَهُمْ) مِن معنَى الرِّسالةِ والتَّبليغِ؛ ففيهما معنَى القَولِ، ومعنَى أَدُّوا إِلَيَّ: أرْجِعوا إلَيَّ وأَعطُوا؛ جَعَل بَني إسرائيلَ كالأمانةِ عِندَ فِرعَونَ [137] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/274)، ((تفسير البيضاوي)) (5/101)، ((تفسير أبي حيان)) (9/401)، ((تفسير أبي السعود)) (8/61)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/295، 296). .
- وخِطابُ الجَمعِ أَدُّوا لقَومِ فِرعَونَ، والمُرادُ: فِرعَونُ ومَن حَضَر مِن مَلَئِه؛ لَعَلَّهم يُشِيرُون على فِرعَونَ بالحَقِّ، ولَعَلَّه إنَّما خاطَبَ مَجموعَ المَلَأِ لَمَّا رَأَى مِن فِرعَونَ صَلَفًا وتَكَبُّرًا مِن الامتِثالِ؛ فخاطَبَ أهلَ مَشورَتِه لعلَّ فيهم مَن يَتَبَصَّرُ الحَقَّ [138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/295). .
- وعِبَادَ اللَّهِ مفعولُ أَدُّوا، أُريدَ به بَنُو إسْرائيلَ، أُجرِيَ وَصْفُهم عِبَادَ اللَّهِ؛ تَذكيرًا لفِرعَونَ بمُوجِبِ رَفعِ الاستِعبادِ عنهم، وجاء في سُورَةِ (الشُّعراءِ) [الآية: 17]: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ فحَصَل أنَّه وَصَفَهم بالوَصفَينِ؛ فوَصْفُ عِبادِ اللهِ مُبطِلٌ لِحِسبانِ القِبطِ إيَّاهُم عَبيدًا، كما قال: وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون: 47] ، وإنَّما هُم عِبادُ الله، أي: أحرارٌ؛ فـ عِبَادَ اللَّهِ كِنايةٌ عن الحُرِّيَّةِ. وقيل: يَجوزُ أن يَكُونَ مَفعولُ فِعلِ أَدُّوا مَحذوفًا يدُلُّ عليه المَقامُ، أي: أدُّوا إلَيَّ الطَّاعةَ، ويَكونَ عِبَادَ اللَّه مُنادًى بحَذْفِ حَرْفِ النِّداءِ [139] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/274)، ((تفسير البيضاوي)) (5/101)، ((تفسير أبي حيان)) (9/401)، ((تفسير أبي السعود)) (8/61)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/295، 296)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/176). .
- قولُه: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ تَعليلٌ للأمْرِ بتَسليمِ بني إسرائِيلَ إليه، أو لِوُجوبِ المَأمورِ به في قَولِه: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ [140] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/274)، ((تفسير البيضاوي)) (5/101)، ((تفسير أبي السعود)) (8/61)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/296). .
- وتَقديمُ لَكُمْ على رَسُولٌ؛ للاهتِمامِ بتَعَلُّقِ الإرسالِ بأنَّه لهم ابتِداءً بأنْ يُعطُوه بني إسرائيلَ؛ لأنَّ ذلك وَسيلةٌ للمَقصودِ مِن إرسالِه لِتَحريرِ أُمَّةِ إسْرائيلَ، والتَّشريعِ لها، وليس قَولُه: لَكُمْ خِطابًا لبَني إسرائيلَ؛ فإنَّ مُوسَى عليه السَّلامُ قد أَبلَغ إلى بَني إسرائيلَ رِسالتَه مع التَّبليغِ إلى فِرعَونَ؛ قال تعالى: فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ [يونس: 83] ، ولِيَكُونَ امتِناعُ فِرعَونَ مِن تَسْريحِ بَني إسرائيلَ مُبَرِّرًا لانسِلاخِ بَني إسرائيلَ عن طاعةِ فِرعَونَ، وفِرارِهِم مِن بِلادِه [141] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/296). .
3- قولُه تعالَى: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ
- قولُه: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّه نَهيٌ عن الاستِكبارِ عن إجابةِ أمْرِ اللهِ تعالى، وهو مَعطوفٌ على طلَبِ تَسليمِ بني إسرائيلَ، ومعناه: لا تَعلُوا على أمْرِه أو على رَسولِه، ولَمَّا كان الاعتِلاءُ على أمْرِ الله وأمْرِ رَسولِه تَرفيعًا لأَنفُسِهم على واجِبِ امتِثالِ رَبِّهم، جُعِلوا في ذلك كأنَّهُم يَتَعالَوْن على اللهِ [142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/296). .
- وأُعِيدَ حَرْفُ (أنْ) التَّفسيرِيَّةِ؛ لزِيادةِ تأكيدِ التَّفسيرِ لِمَدلولِ الرِّسالةِ [143] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/296). .
- وقولُه: إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ عِلَّةٌ للنَّهيِ، وهذا تَوبيخٌ لَهُم، أي: آتِيكُم بحُجَّةٍ واضِحةٍ لا سَبيلَ إلى إنكارِها [144] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/101)، ((تفسير أبي حيان)) (9/401)، ((تفسير أبي السعود)) (8/62). . وهذه الجملةُ عِلَّةٌ جَديرةٌ بالعَودِ إلى الجُمَلِ الثَّلاثِ المُتَقَدِّمةِ، وهي: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ؛ لأنَّ المُعجِزةَ تدُلُّ على تَحَقُّقِ مَضامِينِ تِلكَ الجُمَلِ؛ مَعلُولِها وعِلَّتِها [145] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/296، 297). .
- وآَتِيكُمْ مُضارِعٌ أو اسمُ فاعِلِ (أتَى)، وعلى الاحتِمالَينِ فهو مُقتَضٍ للإتيانِ بالحُجَّةِ في الحالِ [146] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/62)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/297). .
- وقولُه: بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ السُّلطانُ مِن أسماءِ الحُجَّةِ؛ إذ الحُجَّةُ تُلجِئُ المحجوجَ على الإقرارِ لِمَن يُحاجُّهُ، فهي كالمُتسلِّطِ على نفْسِه. والمُعجِزةُ: حُجَّةٌ عَظيمةٌ؛ ولذلك وُصِف السُّلطانُ بـ مُبِينٍ، أي: واضِحِ الدَّلالَةِ لا رَيبَ فيه [147] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/101)، ((تفسير أبي السعود)) (8/62)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/297). .
- وفي إيرادِ الأداءِ مع الأمينِ -في قولِه: أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ-، والسُّلطانِ مع العَلاءِ -في قولِه: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ-: مِن الجَزالةِ ما لا يَخْفى [148] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/101)، ((تفسير أبي السعود)) (8/62). .
4- قولُه تعالَى: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ عَطفٌ على جُملةِ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ؛ فإنَّ مَضمونَ هذه الجُملةِ ممَّا شَمِلَه كَلامُه حينَ تَبليغِ رِسالَتِه فكان داخِلًا في مُجمَلِ معنَى وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ [الدخان: 17] المُفَسَّرِ بما بعدَ (أنْ) التَّفسيريَّةِ، ومَعناهُ: تَحذيرُهُم مِن أنْ يَرجُموه؛ لأنَّ مَعنَى عُذْتُ بِرَبِّي: جَعَلتُ رَبِّي عَوْذًا، أي: مَلجَأً، ومِثلُ هذا التَّركيبِ ممَّا جَرَى مَجرَى المَثَلِ [149] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/297). .
- والتَّعبيرُ عن اللهِ تعالى بوَصفِ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ؛ لأنَّه أدخَلُ في ارعِوائِهِم مِن رَجْمِه حينَ يَتذَكَّرون أنَّه استَعصَمَ باللهِ الَّذي يَشتَرِكون في مَربوبِيَّتِه، وأنَّهم لا يَخرُجون عن قُدرَتِه [150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/297). .
5- قولُه تعالَى: وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ جِيءَ بحَرفِ (إنْ) الَّتي شَأنُها أنْ تُستعمَلَ في الشَّرطِ غيرِ المُتَيَقَّنِ؛ لأنَّ عدَمَ الإيمانِ به بعْدَ دَلالةِ المُعجِزَةِ على صِدقِه مِن شأنِه أنْ يَكونَ غيرَ واقِعٍ؛ فيُفرَضَ عَدَمُه كما يُفرَضُ المُحالُ [151] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/298). .
- وعُدِّيَ تُؤْمِنُوا باللَّامِ؛ لأنَّه يُقالُ: آمَنَ به وآمَنَ له، وأصلُ هذه اللَّامِ لامُ العِلَّةِ؛ على تَضمينِ فِعلِ الإيمانِ مَعنَى الرُّكونِ [152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/298). .
- وجاء تَرتيبُ فَواصِلِ هذا الخِطابِ على مُراعاةِ ما يَبدُو من فِرعَونَ وقَومِه عِندَ إلْقاءِ مُوسَى دَعوَتَه عليهم؛ إذ ابتَدَأَ بإبلاغِ ما أُرسِلَ به إليهم؛ فآنَسَ منهم التَّعَجُّبَ والتَّرَدُّدَ، فقال: إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ؛ فرَأَى مِنهُم الصَّلَفَ والأَنَفَةَ، فقال: وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ؛ فلم يَرعَوُوا فقال: إِنِّي آَتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، فَلاحَت عليهم عَلاماتُ إضْمارِ السُّوءِ له، فقال: وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ * وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ؛ فكان هذا التَّرتيبُ بيْن الجُمَلِ مُغْنِيًا عن ذِكْرِ ما أجابوا به على أبْدَعِ إيجازٍ [153] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/298). .
6- قولُه تعالَى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ التَّعقيبُ المُفادُ بالفاءِ تَعقيبٌ على مَحذوفٍ يَقتَضِي هذا الدُّعاءَ؛ إذ ليس في المَذكورِ قبْلَ الفاءِ ما يُناسِبُه التَّعقيبُ بهذا الدُّعاءِ؛ إذ المَذكورُ قَبْلَه كَلامٌ مِن مُوسَى إليهم؛ فالتَّقديرُ: فلمْ يَستَجِيبوا له فيما أمَرَهم، أو فأَصَرُّوا على أَذاهُ وعَدَمِ مُتارَكَتِه، فدَعَا ربَّه... وهذا التَّقريرُ الثَّاني ألْيَقُ بقَولِه: أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [154] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/298). .
- وفي قَولِه: أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ تَعريضٌ بأنَّهم استَوجَبوا تَسْليطَ العِقابِ الَّذي يَدعُو به الدَّاعي؛ فالإخبارُ عن كَونِهم قَومًا مُجرِمينَ مُستعمَلٌ في طلَبِ المُجازاةِ على الإجرامِ، أو في الشِّكايةِ مِنِ اعتِدائِهم، أو في التَّخَوُّفِ مِن شَرِّهِم إذا استَمَرُّوا على عدَمِ تَسْريحِ بني إسرائيلَ، وكلُّ ذلك يَقتَضي الدُّعاءَ لِكَفِّ شَرِّهِم؛ فلذلك أُطلِقَ على هذا الخَبَرِ فِعلُ (دَعَا) [155] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/101)، ((تفسير أبي السعود)) (8/62)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/299). .
- ويَجوزُ أن يَكُونَ دُعاؤُه هذا المَذكورَ، وهو قَولُه: أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ على تَقديرِ الباءِ، أي: دعا ربَّه بأنْ يا ربِّ هؤلاءِ المُشخَّصُون المُشاهَدُون تَناهَى أمرُهُم في الكُفرِ غايَتَه؛ فافعَلْ بهم ما همْ أهْلُه؛ لأنَّ الكافِرَ إذا وُصِفَ بالإجرامِ كان مُتناهِيًا في الكُفرِ. أو يَكونَ الدُّعاءُ مَحذوفًا، والمَذكورُ تَعليلًا له، أي: عجِّلْ لهم ما يَستَحِقُّونه؛ لأنَّهم قَومٌ مُجرِمون، وإنَّما ذَكَر اللهُ تعالى هنا السَّبَبَ الَّذي استَوجَبُوا به الهَلاكَ، واكتَفَى بالسَّبَبِ عن المُسَبَّبِ؛ لِظُهورِه [156] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/275)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/209)، ((تفسير أبي حيان)) (9/401). .
- وقولُه: أَنَّ هَؤُلَاءِ لَفظُ تَحقيرٍ لهم [157] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/401). .
7- قولُه تعالَى: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تَفريعٌ على جُملةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان: 22] ، والمُفَرَّعُ قَولٌ مَحذوفٌ دلَّت عليه صِيغةُ الكَلامِ، وإضمارُ القَولِ إمَّا بعدَ الفاءِ، أي: فقال ربُّه: أَسرِ بعِبادي، وإمَّا قبْلَها على أنَّه جوابُ شرطٍ محذوفٍ، كأنَّه قيلَ: إنْ كان الأمرُ كما تقولُ فأَسرِ بعِبادي، أي: ببَني إسرائِيلَ؛ فقد دبَّر اللهُ تعالى أنْ تتقَدَّمُوا ويَتَّبِعَكم فِرعونُ وجُنودُه، فيُنجِّيَ المُتقدِّمينَ، ويُغرِقَ التَّابِعينَ [158] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/275)، ((تفسير أبي السعود)) (8/62)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/299). .
- قولُه: فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا قيَّدَ الإسراءَ بزَمانِ اللَّيلِ، والمَقصودُ منه تأْكيدُ مَعنَى الإسراءِ. وفائدةُ تأْكيدِ معنَى الإسراءِ أن يكونَ له مِن سَعةِ الوَقتِ ما يَبلُغون به إلى شاطِئِ البَحرِ قبْلَ أنْ يُدرِكَهُم فِرعَونُ بجُنودِه [159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/299). .
- وجُملَةُ إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تُفيدُ تَعليلًا للأمْرِ بالإسراءِ لَيلًا؛ لأنَّه ممَّا يُستَغرَبُ، أي: إنَّكُم مُتَّبَعون، فأَرَدْنا أنْ تَقطَعوا مَسافةً يَتعَذَّرُ على فِرعَونَ لَحاقُكُم. وتأْكيدُ الخَبَرِ بـ (إنَّ)؛ لتَنزيلِ غَيرِ السَّائِلِ مَنزِلةَ السَّائلِ إذا قُدِّم إليه ما يُلوِّحُ له بالخَبَرِ، فيَستَشرِفُ له استِشرافَ المُتَرَدِّدِ السَّائِلِ [160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/299، 300). .
- وأُسنِدَ الاتِّباعُ إلى غَيرِ مَذكورٍ؛ لأنَّه مِن المَعلومِ أنَّ الَّذي سيَتَّبِعُهم هو فِرعَونُ وجُنودُه [161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/300). .
8- قولُه تعالَى: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ عَطْفٌ على جُملةِ فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا [الدخان: 23] ؛ فيَجوزُ أن تَكونَ الجُمْلَتانِ صَدَرَتا مُتَّصِلَتَينِ؛ بأنْ أعلَمَ اللهُ مُوسَى حينَ أَمَره بالإسراءِ بأنَّه يَضرِبُ البَحرَ بعَصاهُ، فيَنفَلِقُ عن قَعرِه اليابِسِ حتَّى يَمُرَّ منه بنو إسرائيلَ، كما وَرَد في آياتٍ أُخرَى، مِثلُ آيةِ سُورةِ (الشُّعَراء): فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ [الشعراء: 63] . ولَمَّا أمَرَه بذلك طَمَّنه بألَّا يَخشَى بَقاءَه مُنفَلِقًا فيَتوقَّعَ أنْ يَلحَقَ به فِرعَونُ، بلْ يَجتازُ البَحرَ ويَترُكُه؛ فإنَّه سيَطغَى على فِرعَونَ وجُندِه فيَغرَقُون؛ ففي الكَلامِ إِيجازٌ تَقديرُه: فإذا سَرَيْتَ بعِبادِي فسَنَفتَحُ لكم البَحْرَ فتَسلُكُونه، فإذا سَلَكْتَه فلا تَخْشَ أنْ يَلحَقَكُم فِرعَونُ وجُندُه، واترُكْه؛ فإنَّهُم مُغرَقُون فيه. ويَجوزُ أن تَكونَ الجُملةُ الثَّانيةُ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا صَدَرتْ وَقْتَ دُخولِ مُوسى ومَن معه في طَرائِقِ البَحرِ؛ فيُقَدَّرَ قَولٌ مَحذوفٌ، أي: وقُلْنا له: اترُكِ البَحْرَ رَهْوًا، أي: سيَدخُلُه فِرعَونُ وجُندُه ولا يَخرُجون منه؛ لأنَّ في بَقائِه مَفروقًا حِكمةً أُخرى؛ وهي دُخولُ فِرعَونَ وجُندِه في طَرائِقِه؛ طَمَعًا منهم أنْ يَلحَقوا مُوسى وقَومَه، حتى إذا تَوَسَّطُوه انضَمَّ عليهم؛ فتَحصُلُ فائدةُ إنْجاءِ بَني إسرائيلَ، وفائدةُ إهلاكِ عَدُوِّهم؛ فتَكونُ الواوُ عاطِفةً قَولًا مَحذوفًا على القَولِ المَحذوفِ قَبْلَه [162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/300). .
- والتَّركُ في قولِه: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا مُستَعمَلٌ في عدَمِ المُبالاةِ بالشَّيءِ، كما يُقالُ: دَعْه يَفعَلْ كذا، وذَرْه [163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/300). .
- قولُه: رَهْوًا الرَّهْوُ: الفَجْوةُ الواسعةُ. وأصْلُه مَصدرُ (رَها)؛ إذا فتَحَ بيْن رِجْلَيه؛ فسُمِّيَت الفَجوةُ رَهْوًا تَسميةً بالمَصدرِ، وانتَصَب رَهْوًا على الحالِ مِن البَحرِ على التَّشبيهِ البَليغِ، أي: مِثلُ رَهوٍ [164] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/301). .
- وجَملةُ إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ استِئنافٌ بَيانيٌّ جَوابًا عن سُؤالٍ ناشِئٍ عن الأمْرِ بتَركِ البَحرِ مَفتوحًا، وضميرُ إِنَّهُمْ عائدٌ إلى اسمِ الإشارةِ في قولِه: أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/301)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/125). [الدخان: 22] .
- وإقحامُ لَفظِ جُنْدٌ دونَ الاقتِصارِ على مُغْرَقُونَ؛ لإفادةِ أنَّ إغراقَهم قد لَزِمَهم حتَّى صارَ كأنَّه مِن مُقَوِّماتِ جُنْديَّتِهم [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/301). .