موسوعة التفسير

سُورةُ الدُّخَانِ
الآيات (25-33)

ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ

غَريبُ الكَلِماتِ:

وَنَعْمَةٍ: أي: مُتعةٍ ونَعيمٍ وعَيشٍ لَيِّنٍ، والنَّعْمةُ -بفَتحِ النُّونِ: طِيبُ العَيشِ وسَعَتُه ولَذاذةُ الحياةِ، والنِّعْمةُ -بكَسرِ النُّونِ- أعَمُّ مِن هذا؛ لأنَّها بمعنى المِنَّةِ والعَطاءِ، فالنَّعْمةُ -بالفَتحِ- هي مِن جُملةِ النِّعْمةِ -بالكَسرِ-، وأصلُ (نعم): يدُلُّ على تَرَفُّهٍ وطِيبِ عَيشٍ وصلاحٍ [167] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/446)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (20/109)، ((تفسير البغوي)) (7/231)، ((تفسير ابن عطية)) (5/73)، ((تفسير القرطبي)) (16/138). قال الماوَرْدي: (قد يُقالُ: نَعمة ونِعمة بفتحِ النُّونِ وكَسرِها، وفي الفَرقِ بيْنَهما وجهانِ؛ أحدُهما: أنَّها بكسرِ النُّونِ في المُلكِ، وبفَتحِها في البَدَنِ والدِّينِ، قاله النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ. الثَّاني: أنَّها بالكَسرِ مِن المِنَّةِ، وهو الإفضالُ والعَطيَّةُ، وبالفتحِ مِن التَّنعُّمِ، وهو سَعةُ العَيشِ والرَّاحةُ، قاله ابنُ زيادٍ). ((تفسير الماوردي)) (5/251). .
فَاكِهِينَ: أي: ناعِمينَ مُستَمتِعينَ، وأصلُ (فكه): يدُلُّ على طِيبٍ واستِطابةٍ [168] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425)، ((تفسير ابن جرير)) (21/40)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/446)، ((المفردات)) للراغب (ص: 644)، ((تفسير القرطبي)) (16/139). .
الْآَيَاتِ: أي: العِبَرِ والعِظاتِ، أو: المعجزاتِ، وتُطلَقُ الآيةُ على العلامةِ والدَّليلِ والحُجَّةِ وغيرِ ذلك، وأصلُ (أيي): النَّظرُ [169]  يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 212)، ((تفسير ابن جرير)) (21/47)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 47)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/167)، ((تفسير القرطبي)) (16/143)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 81). .
بَلَاءٌ: أي: اختبارٌ، وأصلُ البلاءِ هنا: الاختبارُ، ثمَّ صار يُطلَقُ على المكروهِ والشِّدَّةِ، وقيل: البلاءُ هنا النِّعمةُ [170] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 48)، ((معاني القرآن)) للنحاس (6/407)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/292)، ((المفردات)) للراغب (ص: 146)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 74)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 249-250، 253). .

مُشكِلُ الإعرابِ:

قَولُه تعالى: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ
كَذَلِكَ: في محلِّها وجْهانِ مِن الإعرابِ؛ أحَدُهما: أنَّها في محَلِّ نَصبٍ نعتٌ لمَصدَرٍ مَحذوفٍ مَفهومٍ مِن التَّرْكِ في قَولِه تعالى: كَمْ تَرَكُوا [الدخان: 25] ، أي: أخرَجْناهم إخراجًا مِثلَ ذلك الإخراجِ الَّذي وصَفْناه، أو تَرَكوها تَرْكًا كذلك، وقيل: التَّقديرُ: أهلَكْناهم إهلاكًا كذلك، أو كذلك أفعَلُ بمَن عَصاني. الثَّاني: الرَّفعُ على أنَّه خبَرُ مُبتدَأٍ مَحذوفٍ، أي: الأمرُ كذلك.
وَأَوْرَثْنَاهَا: جُملةٌ مَعطوفةٌ على جُملةِ الفِعلِ المقدَّرِ العامِلِ في المصدَرِ المحذوفِ الَّذي وَقَعَت كَذَلِكَ نَعتًا له، على معنى: مِثلَ ذلك الإِخراجِ أخرَجْناهم منها، وأورَثْناها قَومًا آخَرينَ. أو هي مَعطوفةٌ على جُملةِ تَرَكُوا، أو على جُملةِ (الأمرُ كذلك) [171] يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/426)، ((تفسير الزمخشري)) (1/1785)، (الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/623)، ((تفسير الألوسي)) (13/122)، ((المجتبى من مشكل إعراب القرآن)) للخراط (3/1170). .

المعنى الإجماليُّ:

يقولُ تعالى مبينًا سوءَ مآلِ فِرعونَ وقَومِه: كم تَرَك فِرعَونُ وقَومُه بعدَ هَلاكِهم بالغَرَقِ؛ مِن بَساتينَ، وعُيونِ ماءٍ، وزُروعٍ، وأماكِنَ حَسَنةٍ، ورَغَدِ عَيشٍ ورفاهيةٍ كانوا فيها مُتنَعِّمينَ! كذلك وأورَثْنا تلك النِّعَمَ بني إسرائيلَ، فما بَكَت السَّماءُ والأرضُ على فِرعَونَ وقَومِه بعدَ هَلاكِهم، وما كانوا مُؤَخَّرينَ عن العَذابِ إذ جاءهم!
 ثمَّ يُبيِّنُ الله تعالى جانبًا مِن نِعَمِه على بني إسرائيلَ، فيقولُ: ولقد نجَّيْنا بني إسرائيلَ مِن عذابِ فِرعَونَ المُذِلِّ لهم؛ إنَّه كان مُستَعليًا مُتكَبِّرًا مُتجاوِزًا للحَدِّ، ولقد اختَرْنا بني إسرائيلَ على عالَمِي زمانِهم حالَ كَونِنا عالِمينَ بهم وبأحوالِهم وما يقتَضي اختيارَهم، وآتَيْنا بني إسرائيلَ مِن الآياتِ ما فيه اختِبارٌ لهم ظاهِرٌ.

تَفسيرُ الآياتِ:

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى عن غَرَقِ آلِ فِرعَونَ؛ أخبَرَ عمَّا خَلَّفوه وراءَهم [172] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (3/585)، ((تفسير المراغي)) (25/128). ، فقال:
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25).
أي: ما أكثَرَ ما ترَكَه فِرعَونُ وقَومُه مِن بَساتينَ وعُيونِ ماءٍ، مِن بَعدِ إغراقِهم [173] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/38)، ((تفسير القرطبي)) (16/138)، ((تفسير ابن كثير)) (7/252). قال ابن عطيَّة: (أمَّا العُيونُ فيَحتَمِلُ أنَّه أراد الخُلجانَ الخارِجةَ مِن النِّيلِ فشَبَّهها بالعُيونِ، ويحتمِلُ أنَّه كانت ثَمَّ عُيونٌ ونَضَبَت كما يَعتري في كثيرٍ مِن بِقاعِ الأرضِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/72). !
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26).
أي: وما أكثَرَ ما ترَكَوه من زُروعٍ قائمةٍ، ومَواضِعَ أنيقةٍ وأماكِنَ حَسَنةٍ شَريفةٍ [174] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/821)، ((تفسير ابن جرير)) (21/38)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 426)، ((تفسير ابن كثير)) (7/252)، ((تفسير المظهري)) (8/372). قال ابنُ عاشور: (الكريمُ مِن كُلِّ نَوعٍ: أنفَسُه وخَيرُه، والمرادُ به: المساكِنُ والدِّيارُ والأسواقُ ونحوُها ممَّا كان لهم). ((تفسير ابن عاشور)) (25/302). !
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27).
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: فَكِهِينَ قيل: بمعنى: فَرِحينَ أشِرينَ بَطِرينَ. وقيل: مُستَخِفِّينَ مُستَهزِئينَ [175] قرأ بها أبو جعفرٍ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/354). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((تفسير ابن جرير)) (21/39)، ((معاني القراءات)) للأزهري (3/132)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/623). .
2- قِراءةُ: فَاكِهِينَ قيل: بمعنى: ناعِمينَ طَيِّبي الأنفُسِ، أو أصحابِ فاكِهةٍ. وقيل: بمعنى: لاهينَ. وقيل: القِراءتانِ بمعنًى واحِدٍ، مِثلُ كَلِمتَيْ: حاذِرينَ وحَذِرينَ [176] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/354، 355). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القراءات)) للأزهري (3/132)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (9/623). وقال السمين الحلبي: (وقيل: الفاكِهُ: ذو الفاكهةِ، نحو: لابِنٍ، وتامرٍ. والفَكِهُ: مَن بالَغَ في ذلك). ((عمدة الحفاظ)) (3/248). .
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27).
أي: ورَغَدِ حياةٍ وهَناءِ عَيشٍ ورَفاهيةٍ كانوا يَتنعَّمونَ فيها، ويَتلذَّذونَ بها [177] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/39)، ((تفسير ابن عطية)) (5/73)، ((تفسير ابن كثير)) (7/253)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/28). !
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28).
أي: كذلك [178] قال القرطبي: (قال الزَّجَّاجُ: أي: الأمرُ كذلك. فيُوقَفُ على كَذَلِكَ. وقيل: إنَّ الكافَ في مَوضِعِ نَصبٍ، على تقديرِ: نفعَلُ فِعلًا كذلك بمَن نُريدُ إهلاكَه. وقال الكَلْبيُّ: كَذَلِكَ أفعَلُ بمَن عصاني. وقيل: كَذَلِكَ كان أمرُهم فأُهلِكوا). ((تفسير القرطبي)) (16/139). وأورَثْنا بني إسرائيلَ تلك الجنَّاتِ والعُيونَ، والزُّروعَ، والمَقامَ الكريمَ الَّذي كان لِفِرعَونَ وقَومِه [179] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/40)، ((تفسير الزمخشري)) (4/276)، ((تفسير ابن عطية)) (5/73)، ((تفسير ابن كثير)) (7/253). قال ابنُ عطية: (وسَمَّاها وِراثةً؛ مِن حيثُ كانت أشياءَ أُناسٍ وَصَلَت إلى قَومٍ آخَرينَ مِن بعدِ مَوتِ الأوَّلِينَ، وهذه حقيقةُ الميراثِ في اللُّغةِ، ورَبَطَها الشَّرعُ بالنَّسَبِ وغَيرِه مِن أسبابِ الميراثِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/73). وقال الشربيني: (آَخَرِينَ ... هم بنو إسرائيلَ. وقيل: غَيرُهم؛ لأنَّهم لم يَعودوا إلى مِصرَ، بل سَكَنوا الأرضَ المقَدَّسةَ). ((تفسير الشربيني)) (3/585). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالقَومِ الآخَرِينَ: هم بنو إسرائيلَ: مقاتلٌ، والواحديُّ، والماوَرْدي، والزمخشري، وابنُ الجوزي، والقرطبي، وابنُ كثير، والشوكاني، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/822)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 984)، ((تفسير الماوردي)) (5/252)، ((تفسير الزمخشري)) (4/276)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/91)، ((تفسير القرطبي)) (16/139)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 253)، ((تفسير الشوكاني)) (4/658)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/176). وممنَّ قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/40)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/411). ويُنظر ما تقدَّم في تفسيرِ قولِه تعالى: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 59] . وقيل: القَومُ الآخَرونَ ليسوا بني إسرائيلَ، بل غيرُهم. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: ابنُ عطية، وهو ظاهِرُ اختيارِ القاسمي، واختاره ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/73)، ((تفسير القاسمي)) (8/417)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/303). .
كما قال الله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137] .
وقال سُبحانَه: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 57 - 59] .
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29).
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ.
أي: فما بَكَت السَّماءُ والأرضُ على فِرعَونَ وقَومِه الَّذين أغرَقَهم اللهُ تعالى في البَحرِ [180] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/41)، ((تفسير القرطبي)) (16/140، 142)، ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/37)، ((تفسير ابن كثير)) (7/253). قال الرَّسْعَني: (اختلف العُلَماءُ في هذه الآيةِ على ثلاثةِ أقوالٍ: أحَدُها: أنَّه على حقيقتِه وظاهِرِه...، وإلى هذا القَولِ ذهب عامَّةُ المفَسِّرينَ المتقَدِّمينَ. الثَّاني: أنَّه على حَذفِ المُضافِ، تقديرُه: فما بكى عليهم أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرضِ. قاله الحَسَنُ. الثَّالِثُ: أنَّه على مَذهَبِ العَرَبِ؛ فإنَّهم يقولونَ إذا مات رجُلٌ خَطيرٌ: بَكَت عليه السَّماءُ والأرضُ، وأظلَمَت له الشَّمسُ، وبَكَتْه الرِّيحُ). ((تفسير الرسعني)) (7/170). وممَّن ذهب إلى القَولِ الأوَّلِ، وأنَّ ذلك على ظاهِرِه: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والزَّجَّاجُ، والسمعاني، والقُرطبي، والنَّسَفي، وابنُ كثير، وهو ظاهِرُ اختيارِ السعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/822)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزَّجَّاج (4/426)، ((تفسير السمعاني)) (5/127)، ((تفسير القرطبي)) (16/140، 142)، ((تفسير النسفي)) (3/291)، ((تفسير ابن كثير)) (7/253)، (( تفسير السعدي)) (ص: 773). قال ابنُ كثير: (قَولُه: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أي: لم تكُنْ لهم أعمالٌ صالحةٌ تَصعَدُ في أبوابِ السَّماءِ، فتَبكيَ على فَقْدِهم، ولا لهم في الأرضِ بِقاعٌ عَبَدوا اللهَ فيها فقَدَتْهم؛ فلهذا استحَقُّوا ألَّا يُنظَروا ولا يُؤَخَّروا؛ لكُفرِهم وإجرامِهم، وعُتُوِّهم وعِنادِهم). ((تفسير ابن كثير)) (7/253). وممَّن اختار في الجملةِ القولَ الثَّالثَ، وأنَّ ذلك على سَبيلِ التَّمثيلِ، وأنَّ المعنَى أنَّهم هَلَكوا فلم تَعظُمْ مُصيبَتُهم ولم يُوجَدْ لهم فَقْدٌ، وأنَّه عبارةٌ عن تَحقيرِهم: الزمخشريُّ، وابن عطية، والقرطبي، وابنُ جُزَي، وأبو حيان، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/277)، ((تفسير ابن عطية)) (5/73)، ((تفسير القرطبي)) (16/140)، ((تفسير ابن جزي)) (2/268)، ((تفسير أبي حيان)) (9/403)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/303). !
وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ.
أي: وما كانوا مُؤَخَّرينَ بالعُقوبةِ حينَ جاء وَقتُ هلاكِهم [181] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/45)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6740)، ((الوسيط)) للواحدي (4/90)، ((تفسير الزمخشري)) (4/278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). .
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا بَيَّنَ كَيفيَّةَ إهلاكِ فِرعَونَ وقَومِه؛ بيَّنَ كيفيَّةَ إحسانِه إلى موسى وقَومِه؛ فبدأ تعالى ببَيانِ دَفعِ الضَّرَرِ عنهم، فقال تعالى [182] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/661). :
وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30).
أي: ولقد نجَّيْنا بني إسرائيلَ مِن عذابِ فِرعَونَ وقَومِه المُذِلِّ لهم؛ كذَبحِ أبنائِهم، واستِحياءِ نِسائِهم، واستِعبادِهم وتَكليفِهم الأعمالَ الشَّاقَّةَ [183] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/45)، ((تفسير القرطبي)) (16/142)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة: 49، 50].
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31).
مِنْ فِرْعَوْنَ.
أي: نَجَّيناهم مِن فِرعَونَ [184] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/45)، ((تفسير القرطبي)) (16/142)، ((تفسير الشوكاني)) (4/659)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/305). .
إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ.
أي: إنَّ فِرعَونَ كان مُتَّصِفًا بالاستِعلاءِ والاستِكبارِ والإسرافِ وتجاوُزِ الحَدِّ [185] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/45)، ((تفسير القرطبي)) (16/142)، ((تفسير ابن كثير)) (7/255)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/32)، ((تفسير القاسمي)) (8/418)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/305). .
كما قال الله تبارك وتعالى: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ [يونس: 83].
وقال سبحانه: فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ * فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [المؤمنون: 46 - 48] .
وقال عزَّ وجَلَّ: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [القصص: 4] .
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تَعالَى إهلاكَ فِرعَونَ وقَومِه؛ ذَكَر إحسانَه لبَني إسرائِيلَ [186] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/404). .
وأيضًا لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى كيف دَفَع الضَّرَرَ عن بني إسرائيلَ؛ بيَّنَ كيف أوصَلَ إليهم الخَيراتِ، فقال [187] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/661). :
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32).
أي: ولقد اختَرْنا بني إسرائيلَ -على عِلمٍ مِنَّا بهم وبأهليَّتِهم لهذا الاختيارِ- على عالَمِي زمانِهم [188] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/46)، ((تفسير السمعاني)) (5/128)، ((تفسير القرطبي)) (16/142)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/367)، ((تفسير ابن كثير)) (7/255، 256)، ((تفسير السعدي)) (ص: 773). قال ابن القيم: (قولُه تعالى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ لا خِلافَ بيْنَ النَّاسِ أنَّ المعنى: على عِلمٍ مِنَّا بأنَّهم أهلُ الاختيارِ؛ فالجُملةُ في موضِعِ نَصبٍ على الحالِ، أي: اختَرْناهم عالِمينَ بهم وبأحوالِهم وما يَقتضي اختيارَهم، مِن قَبلِ خَلْقِهم. ذَكَر سُبحانَه اختيارَهم، وحِكمتَه في اختيارِه إيَّاهم، وذكَرَ عِلمَه الدَّالَّ على مَواضِعِ حِكمتِه واختيارِه). ((شفاء العليل)) (ص: 32). قال الماوَرْدي: (وفي قَولِه: عَلَى الْعَالَمِينَ قَولانِ؛ أحدُهما: على عالَمِي زمانِهم؛ لأنَّ لكُلِّ زمانٍ عالَمًا. قاله قَتادةُ. الثَّاني: على كُلِّ العالَمينَ؛ بما جَعَل فيهم مِن الأنبياءِ. وهذا خاصَّةٌ لهم، وليس لِغَيرِهم. حكاه ابنُ عيسى). ((تفسير الماوردي)) (5/254). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالعالَمينَ: عالَمُو زمانِهم: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والزجاج، وابن أبي زَمَنين، ومكِّي، والبغوي، والقرطبي، والنَّسَفي، وابنُ تيميَّة، والخازن، وابن كثير، والشوكاني، والقاسمي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/822)، ((تفسير ابن جرير)) (21/46)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/427)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/205)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6741)، ((تفسير البغوي)) (7/232)، ((تفسير القرطبي)) (16/142)، ((تفسير النسفي)) (3/292)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/367)، ((تفسير الخازن)) (4/118)، ((تفسير ابن كثير)) (7/255)، ((تفسير الشوكاني)) (4/659)، ((تفسير القاسمي)) (8/419)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/305). قال الواحدي: (عَلَى الْعَالَمِينَ على عالَمِي زَمانِهم. قاله ابنُ عبَّاسٍ، والكَلْبيُّ، ومقاتلٌ، وقَتادةُ، والجميعُ. قال مجاهِدٌ: فَضَّلْناهم على مَن هم بيْنَ ظَهَرانَيْهم. قال أهلُ المعاني: ويدُلُّ على هذا التَّخصيصِ قَولُه تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ الآيةَ [آل عمران: 110] ، هذا مُقتَضى أنَّه ما اختارهم على مَن هو خيرٌ منهم، وإنَّما اختارهم على مَن في وَقتِهم مِن العالَمينَ). ((البسيط)) (20/112). وقال السعدي: (أي: عالَمِي زمانِهم ومَن قَبْلَهم وبَعدَهم، حتَّى أتى اللهُ بأمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ففَضَلوا العالَمينَ كُلَّهم، وجَعَلهم اللهُ خيرَ أمَّةٍ أُخرِجَت للنَّاسِ، وامتَنَّ عليهم بما لم يمتَنَّ به على غَيرِهم). ((تفسير السعدي)) (ص: 773). .
وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33).
أي: وآتَيْنا بني إسرائيلَ مِن الآياتِ ما فيه اختِبارٌ لهم ظاهِرٌ [189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/47، 48)، ((تفسير ابن كثير)) (7/256)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/34). قال الشوكاني: (الآياتُ، أي: مُعجِزاتُ مُوسى ... وقال قَتادةُ: الآياتُ: إنجاؤُهم مِنَ الغَرَقِ، وفَلْقُ البَحرِ لهم، وتَظليلُ الغَمامِ عليهم، وإنزالُ المَنِّ والسَّلْوى لهم. وقال ابنُ زَيدٍ: الآياتُ هي الشَّرُّ الَّذي كَفَّهم عنه، والخَيرُ الَّذي أمَرَهم به. وقال الحَسَنُ وقَتادةُ: البلاءُ المُبِينُ: النِّعْمةُ الظَّاهِرةُ). ((تفسير الشوكاني)) (4/659). وقال ابن جرير: (أَولى الأقوالِ في ذلك بالصَّوابِ أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه أخبَرَ أنَّه آتَى بني إسرائيلَ مِن الآياتِ ما فيه ابتلاؤُهم واختِبارُهم، وقد يكونُ الابتِلاءُ والاختِبارُ بالرَّخاءِ، ويكونُ بالشِّدَّةِ، ولم يَضَعْ لنا دليلًا مِن خَبَرٍ ولا عَقلٍ أنَّه عَنى بعضَ ذلك دونَ بَعضٍ، وقد كان اللهُ اختبَرَهم بالمعنيَينِ كِلَيْهما جميعًا، وجائزٌ أن يكونَ عنى اختبارَه إيَّاهم بهما. فإذْ كان الأمرُ على ما وصَفْنا، فالصَّوابُ مِن القَولِ فيه أن نقولَ كما قال جلَّ ثناؤُه: إنَّه اختبَرَهم). ((تفسير ابن جرير)) (21/48). وقال ابنُ عطيَّة: (الآياتُ لَفظٌ جامِعٌ لِمُعجزاتِ موسى، وللعِبَرِ الَّتي ظهَرَت في قَومِ فِرعَونَ؛ مِن الجَرادِ والقُمَّلِ والضَّفادِعِ، وغيرِ ذلك، ولِما أنعَمَ به على بني إسرائيلَ مِن تظليلِ الغَمامِ، والمَنِّ والسَّلْوى، وغيرِ ذلك؛ فإنَّ لَفظَ الآياتِ يَعُمُّ جميعَ هذا. والبلاءُ في هذا الموضِعِ: الامتِحانُ والاختِبارُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/74). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بالبلاءِ هنا: الاختِبارُ: ابنُ جرير، ومكِّي، وابن عطية، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/47)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6741)، ((تفسير ابن عطية)) (5/74)، ((تفسير ابن كثير)) (7/256)، ((تفسير العليمي)) (6/253)، ((تفسير الشوكاني)) (4/659). وممَّن اختار أنَّ المرادَ بالبلاءِ: النِّعْمةُ: ابنُ أبي زَمَنين، والسمعاني، والرَّسْعَني، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/205)، ((تفسير السمعاني)) (5/128)، ((تفسير الرسعني)) (7/174)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 658). قال الواحدي: (أكثَرُ المفَسِّرينَ على أنَّ البلاءَ المُبِينَ مَعناه: النِّعْمةُ البَيِّنةُ الظَّاهِرةُ). ((البسيط)) (20/113). وقال السعدي: (مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ أي: إحسانٌ كَثيرٌ ظاهِرٌ مِنَّا عليهم، وحُجَّةٌ عليهم على صِحَّةِ ما جاءهم به نَبيُّهم موسى عليه السَّلامُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 773). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقَولِه: مُبِينٌ أي: ظاهِرٌ واضِحٌ: ابنُ أبي زَمَنين، والنَّسَفي، وابنُ كثير، والعُلَيمي، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/205)، ((تفسير النسفي)) (3/292)، ((تفسير ابن كثير)) (7/256)، ((تفسير العليمي)) (6/253)، ((تفسير الشوكاني)) (4/659)، ((تفسير السعدي)) (ص: 774). قال ابنُ جرير: (أعطَيْناهم مِن العِبَرِ والعِظاتِ ما فيه اختبارٌ يَبِينُ لِمَن تأمَّله أنَّه اختِبارٌ اخْتَبَرهم اللهُ تعالى به). ((تفسير ابن جرير)) (21/47). وممَّن اختار أنَّ معنى مُبِينٌ أي: بَيِّنٌ في نَفْسِه، مُوضِحٌ لِغَيرِه: البِقاعي، والشربيني. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/34)، ((تفسير الشربيني)) (3/587). .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

قال الله تعالى: وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ لَمَّا كان الله تعالى يَبلو بالمِحنةِ فقد يَبلو أيضًا بالنِّعمةِ؛ اختبارًا ظاهِرًا؛ لِيَتمَيَّزَ الصِّدِّيقُ عن الزِّنديقِ [190] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/661). . وذلك على أنَّ معنى بَلَاءٌ مُبِينٌ أي: نعمةٌ ظاهرةٌ.

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- في قَولِه تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ دَليلٌ على أنَّ في النَّاسِ مَن تبكي السَّماءُ والأرضُ عليه؛ إذ لا يُخَصُّ أولئك بذلك ويُجعَلُ عُقوبةً لهم إلَّا وغَيرُهم مُكرَمٌ به [191] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (4/137). .
2- قَولُه تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ عن سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ قال: (لم تَبْكِ عليهم السَّماءُ؛ لأنَّهم لم يَكونوا يُرفَعُ لهم فيها عَمَلٌ صالِحٌ، ولم تَبكِ عليهم الأرضُ؛ لأنَّهم لم يَكونوا يَعمَلونَ فيها بعَمَلٍ صالحٍ) [192] أخرجه عبدُ بنُ حُمَيدٍ في ((تفسيره)) كما في ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/412). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ استِئنافٌ ابتِدائيٌّ مَسوقٌ للعِبرةِ بعَواقِبِ الظَّالِمينَ المَغرورِينَ بما هُم فيه مِن النَّعمةِ والقُوَّةِ، غُرورًا أنساهُم مُراقَبةَ اللهِ فيما يُرضِيه؛ فمَوقِعُ هذا الاستِئنافِ مَوقِعُ النَّتيجةِ مِن الدَّليلِ، أو البَيانِ مِن الإجمالِ؛ لِمَا في قَولِه: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ [الدخان: 17] مِن التَّنظيرِ الإجماليِّ [193] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/301). .
- والفِعلُ تَرَكُوا مُؤذِنٌ بأنَّهم أُغرِقُوا وأُعدِمُوا، وذلك مُقتَضَى أنَّ ما أمَرَ اللهُ به مُوسَى مِن الإسراءِ ببَني إسرائيلَ وما معَه مِن اتِّباعِ فِرعَونَ إيَّاهُم، وانفِلاقِ البَحرِ، وإزْلافِ بَني إسرائيلَ، واقتِحامِ فِرعونَ بِجُنودِه البَحرَ، وانضِمامِ البَحرِ عليهم قد تمَّ؛ ففي الكَلامِ إيجازُ حَذفِ جُمَلٍ كثيرةٍ يدُلُّ عليها قَولُه تعالى: كَمْ تَرَكُوا. وقيل: الكلامُ مُرتَبِطٌ بمقُدَّرٍ لا بُدَّ منه لِيَلتَئِمَ نِظامُ الكَلامِ، والتَّقديرُ: فاطمَأَنَّ موسى بذلك، فتَمَّ إغراقُهم، كمْ تَرَكوا... [194] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/301، 302)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/125). .
- قولُه: وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ مِن عَطفِ العامِّ على الخاصِّ؛ لأنَّ النَّعمةَ تَشملُ جميعَ ما تقَدَّمَ وغَيرَه ممَّا لم يُذكَرْ [195] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/126). .
- والنَّعمةُ بفَتحِ النُّونِ: اسمٌ للتَّنَعُّمِ مَصوغٌ على زِنَةِ المَرَّةِ، وليس المُرادُ به المَرَّةَ، بل مُطلَقَ المَصدرِ؛ باعِتبارِ أنَّ مَجموعَ أحوالِ النَّعيمِ صارَ كالشَّيءِ الواحِدِ، وهو أبلَغُ وأجمَعُ في تَصويرِ مَعنَى المَصدَرِ، وهذا هو المُناسِبُ لفِعلِ تَرَكُوا؛ لأنَّ المَتروكَ هو أشخاصُ الأُمورِ الَّتي يُنَعَّمُ بها [196] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/302). .
2- قولُه تعالَى: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ
- قولُه: كَذَلِكَ راجِعٌ لفِعلِ تَرَكُوا، والتَّقديرُ: تَركًا مِثلَ ذلك التَّركِ، والكافُ للتَّشبيهِ، والمُشَبَّهُ به شَيءٌ تضَمَّنَه الكلامُ السَّابِقُ بلَفظِه أو مَعناهُ، والكافُ ومَجرُورُها يَجوزُ أن يَكونُ شِبهَ جُملَةٍ وَقَع صِفةً لمَصدَرٍ مَحذوفٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: تَشبيهًا مُماثِلًا لِمَا سَمِعتَ. واسمُ الإشارةِ يُشيرُ إلى المَحذوفِ؛ لأنَّه كالمَذكورِ؛ لِتَقرُّرِ العِلمِ به، والمَعنَى: مَن أراد تَشبِيهَه لم يُشَبِّهْه بأكثَرَ مِن أنْ يُشَبِّهَه بذاتِه؛ فالإشارةُ إلى مُقَدَّرٍ دلَّ عليه الكَلامُ. ويَجوزُ أن يَكونَ المَجرورُ جُزءَ جُملةٍ أيضًا جُلِبَت للانتِقالِ مِن كَلامٍ إلى كَلامٍ؛ فيَكونَ فَصْلَ خِطابٍ، كما يُقالُ: هذا الأمرُ كذا [197] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/29) و(25/302). .
3- قولُه تعالَى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ تَفريعٌ على قَولِه: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ إلى قولِه: قَوْمًا آَخَرِينَ [الدخان: 25- 28] ؛ فإنَّ ذلك كُلَّه يَتضَمَّنُ أنَّهم هَلَكوا وانقَرَضوا، أي: فما كان مهلَكُهم إلَّا كمهلَكِ غَيرِهم، ولم يَكُن حَدَثًا عَظيمًا كما كانوا يَحسَبون ويَحسَبُ قَومُهم. والكَلامُ مَسوقٌ مَساقَ التَّحقيرِ لهم، والتَّهَكُّمِ بهِم وبحالِهم المُنافِيَةِ لحالِ مَن يَعظُمُ فَقْدُه [198] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/277)، ((تفسير البيضاوي)) (5/102)، ((تفسير أبي حيان)) (9/403)، ((تفسير أبي السعود)) (8/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/303، 304). .
4- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ كَلامٌ مُستَأنَفٌ مَسوقٌ لتَسلِيَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ عمَّا كان يُكابِدُه مِن قُرَيشٍ، وإثْلاجِ صَدرِه بأنَّ اللهَ قادِرٌ على إنْقاذِه وإنقاذِ أتْباعِه مِن أذاهُم، كما نَجَّى بَني إسرائيلَ مِن القِبطِ، وهو أمْرٌ كان بحَسَبِ الظَّاهِرِ أمْرًا بَعيدَ الوُقوعِ [199] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/130). .
 أو مَعطوفٌ على الكَلامِ المَحذوفِ الَّذي دلَّ عليه قَولُه: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [الدخان: 24] الَّذي تَقديرُه: فأَغرَقْناهُم ونَجَّيْنا بَني إسرائيلَ، والمَعنَى: ونَجَّيْنا بَني إسرائيلَ مِن عَذابِ فِرعَونَ وقَساوَتِه، أي: فكانتْ آيةُ البَحرِ هلاكًا لقَومٍ وإنجاءً لآخَرِينَ. والمَقصودُ مِن ذِكْرِ هذا: الإشارةُ إلى أنَّ اللهَ تعالى يُنجِّي الَّذين آمَنوا بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مِن عَذابِ أهلِ الشِّركِ بمَكَّةَ، كما نَجَّى الَّذين اتَّبَعوا مُوسَى عليه السَّلامُ مِن عَذابِ فِرعَونَ. وجُعِل طُغيانُ فِرعَونَ وإسرافُه في الشَّرِّ مَثَلًا لِطُغيانِ أبي جَهلٍ ومَلَئِه؛ ومِن أجْلِ هذه الإشارةِ أُكِّدَ الخبَرُ باللَّامِ. وقد يُفيدُ تَحقيقَ إنْجاءِ المُؤمِنينَ مِن العَذابِ المُقَدَّرِ للمُشرِكين إجابةً لِدَعوةِ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ [200] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/304). [الدخان: 12] ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- وجُملةُ مِنْ فِرْعَوْنَ إمَّا بَدَلٌ مُطابقٌ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ؛ كأنَّ فِرعَونَ في نَفْسِه كان عذابًا مُهينًا؛ لإفراطِه في تَعذيبِهم وإهانَتِهم، فتكونُ مِنْ مُؤكِّدةً لـ مِنْ الأولى المعدِّيةِ لـ نَجَّيْنَا؛ لأنَّ الحرْفَ الدَّاخِلَ على المُبدَلِ منه يَجوزُ أنْ يَدخُلَ على البدَلِ للتَّأكيدِ، ويَحسُنُ ذلك في نُكَتٍ يَقْتَضيها المقامُ، وحسَّنَه هنا -فأُظْهِرَتْ كَلِمةُ مِنْ-؛ لخَفاءِ كَونِ اسمِ فِرعَونَ بدَلًا مِن العَذابِ؛ تَنبيهًا على قَصدِ التَّهويلِ لأمْرِ فِرعونَ في جَعْلِ اسمِه نَفْسَ العَذابِ المُهِين. وإمَّا على حذْفِ المُضافِ، أي: عَذابِ فِرعونَ. أو حالٌ مِن الْمُهِينِ، أي: كائنًا مِن فِرعونَ [201] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/278)، ((تفسير البيضاوي)) (5/102)، ((تفسير أبي حيان)) (9/404)، ((تفسير أبي السعود)) (8/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/305)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/130). .
- وجُملَةُ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مُستأنَفةٌ استِئنافًا بَيانيًّا؛ لِبَيانِ التَّهويلِ الَّذي أفادَه جَعلُ اسمِ فِرعَونَ بَدَلًا مِن العَذابِ المُهينِ [202] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/305). .
- وقولُه: مِنَ الْمُسْرِفِينَ أشَدُّ مُبالَغةً في اتِّصافِه بالإسرافِ مِن أن يُقالَ: (مُسرِفًا)، أي: كان رفيعَ الطَّبقةِ مِن بيْنِ المسرِفينَ، فائقًا لهم، بَليغًا في الإسرافِ [203] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/63)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/305). .
- وفي إيهامِ أمْرِه أوَّلًا، وتَبْيينِه بقولِه تعالى: إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ ثانيًا؛ مِن الإفصاحِ عن كُنْهِ أمْرِه في الشَّرِّ والفَسادِ ما لا مَزيدَ عليهِ [204] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/63). .
5- قولُه تعالَى: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ بَدَأَ بدَفعِ الضَّرَرِ عنهم، وهو نَجاتُهم ممَّا كانوا فيه مِن العَذابِ، ثمَّ ذَكَر بعْدَ ذلك إيصالَ النَّفعِ لهم؛ مِنِ اختِيارِهم على العالَمينَ، وإيتائِهِم الآياتِ [205] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/404). ؛ لأنَّ دفْعَ الضَّررِ مُقدَّمٌ على إيصالِ النَّفعِ [206] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/661). .
- قولُه: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ إشارةٌ إلى أنَّ الله تعالى قد اختارَ الَّذين آمَنوا بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على أُمَمِ عَصرِهم، كما اختارَ الَّذين آمَنوا بمُوسَى عليه السَّلامُ على أُمَمِ عَصرِهم، وأنَّه عالِمٌ بأنَّ أمْثالَهم أهلٌ لأنْ يَختارَهُم اللهُ، والمَقصودُ: التَّنويهُ بالمُؤمِنِينَ بالرُّسُلِ، وأنَّ ذلك يَقتَضي أنْ يَنصُرَهم اللهُ على أعدائِهم، ومِن أجْلِ هذه الإشارةِ أُكِّدَ الخبَرُ باللَّامِ و(قد)، كما أُكِّد في قولِه آنِفًا: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [207] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/305). [الدخان: 30] .
- وفيه مُناسَبةٌ حسَنةٌ، حيثُ قالَه هنا بذِكْرِ عَلَى عِلْمٍ، أي: مِنَّا، وقال في سورةِ (الجاثِيَةِ): وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية: 16] بحَذفِه؛ جَريًا هنا على الأصلِ في ذِكْرِ ما لا يُغْني عنه غَيرُه، واكتِفاءً هناك بقَولِه بَعدُ: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [208] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 225، 226)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزآبادي (1/425)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 516). [الجاثية: 23] .
6- قولُه تعالَى: وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ المُرادُ بالآياتِ: المُعجِزاتُ الَّتي ظَهَرتْ على يَدِ مُوسَى عليه السَّلامُ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ أيَّد اللهُ بها بَني إسرائيلَ في مَواقِعِ حُروبِهِم بنَصرِ الفِئَةِ القَليلةِ منهم على الجُيوشِ الكَثيرةِ مِن عَدُوِّهم، وهذا تَعريضٌ بالإنذارِ للمُشرِكِين بأنَّ المُسلِمينَ سيَغلِبُون جَمْعَهم مع قِلَّتِهم في بَدرٍ وغَيرِها [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/306). .
- وقِصَّةُ فِرعَونَ وقَومِه مَسوقةٌ للدَّلالةِ على أنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ مِثلُهم في الإصرارِ على الضَّلالةِ، والتَّحذيرِ والإنذارِ عن حُلولِ مِثلِ ما حلَّ بهم [210] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/102)، ((تفسير أبي السعود)) (8/63). .