موسوعة التفسير

سُورةُ الجاثيةِ
الآيات (16-20)

ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ

غَريبُ الكَلِماتِ:

بَغْيًا: أي: فَسادًا وطُغيانًا وتَعدِّيًا، وأصلُ البَغيِ: يدُلُّ على الفَسادِ، وتجاوُزِ الحَدِّ؛ يُقالُ: بَغَتِ السَّماءُ: إذا كثُرَ مَطَرُها حتَّى تجاوَزَ الحَدَّ. ويُقالُ أيضًا: بَغَى الجُرحُ: إذا تورَّمَ واشتَدَّ وترامَى بالفَسادِ [177] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (3/628) و (5/283)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((البسيط)) للواحدي (3/150) و (3/501)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 19)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 251، 252). .
شَرِيعَةٍ: أي: مِلَّةٍ ومَذهَبٍ وطَريقةٍ، والشَّرْعُ والشِّرْعةُ والشَّريعةُ: الطَّريقةُ الظَّاهِرةُ، ونَهجُ الطَّريقِ الواضِح، وتُسَمَّى مَعالِمُ الدِّينِ شَريعةً؛ لِوُضوحِها، وأصلُها مِنَ الشَّرعِ: وهو البَيانُ والإظهارُ [178] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 405)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 289)، ((البسيط)) للواحدي (7/408)، ((المفردات)) للراغب (ص: 450). .
أَهْوَاءَ: الأهواءُ: المذاهِبُ الَّتي تدعو إليها الشَّهوةُ دونَ الحُجَّةِ، وأصلُه: يدُلُّ على الخُلُوِّ والسُّقُوطِ، وسُمِّيَ الهوى هَوًى؛ لأنَّه يَهوِي بصاحِبِه في النَّارِ [179] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 491)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/15)، ((البسيط)) للواحدي (7/488)، ((المفردات)) للراغب (ص: 849)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 211). .
أَوْلِيَاءُ: أي: أصدقاءُ ونُصراءُ، والوِلايةُ النُّصرةُ، وأصْل (ولي): يدُلُّ على قُرْبٍ؛ سواءٌ مِن حيثُ: المكانُ، أو النِّسبةُ، أو الدِّينُ، أو الصَّداقةُ، أو النُّصرةُ، أو الاعتقادُ، وكلُّ مَن وَلِيَ أمْرَ آخَرَ فهو وَلِيُّه [180] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 885)، ((تفسير القرطبي)) (16/164)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 89). .
بَصَائِرُ: أي: حُجَجٌ بَيِّنةٌ، ودَلالاتٌ ظاهِرةٌ، واحِدتُها بَصيرةٌ: وهي الدَّلالةُ الَّتي تُوجِبُ إبصارَ النُّفوسِ للشَّيءِ، ومنه يُقالُ للدَّمِ الَّذي يُستَدَلُّ به على القَتيلِ: بَصيرةٌ، أو: هي البُرهانُ القاطِعُ الَّذي لا يَترُكُ في الحقِّ لَبْسًا، وأصلُها يدُلُّ على ظُهورِ الشَّيءِ وبَيانِه [181] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (9/470)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 121)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/253)، ((البسيط)) للواحدي (8/336) و (9/562)، ((المفردات)) للراغب (ص: 127)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/201). .

المعنى الإجماليُّ:

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه قد آتَى بني إسرائيلَ الكِتابَ والحُكْمَ، وجعَلَ فيهم كثيرًا مِن الأنبياءِ، ورَزَقهم مِن الرِّزقِ الحَلالِ الطَّيِّبِ، وفضَّلهم على عالَمِي زمانِهم، فآتاهم ما لم يُؤتِ غيرَهم، وآتاهم آياتٍ واضِحاتٍ، فما تفرَّقوا واختَلَفوا إلَّا مِن بَعدِ ما جاءهم العِلمُ مِن اللهِ؛ ظُلمًا وحسَدًا فيما بيْنَهم!
 ثمَّ يُخاطِبُ تعالى نَبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قائِلًا له: إنَّ ربَّك -يا محمَّدُ- يَحكُمُ بالعَدلِ بيْنَ أولئك المُختَلِفينَ مِن بني إسرائيلَ فيما كانوا يختَلِفونَ فيه.
ثمَّ يأمُرُه الله أنْ يَتمسَّكَ بالدِّينِ الَّذي أوحاه إليه، فيقولُ: ثمَّ جعَلْناك -يا محمَّدُ- على طَريقةٍ مُستقيمةٍ مِن الدِّينِ؛ فاتَّبِعْها، ولا تتَّبِعْ أهواءَ هؤلاء الجاهِلينَ؛ إنَّهم لن يَنفَعوك عندَ اللهِ بشَيءٍ، أو يَدفَعوا عنك شَيئًا مِن عذابِ اللهِ إنِ اتَّبعْتَ أهواءَهم، وإنَّ الظَّالِمينَ بَعضُهم أولياءُ بَعضٍ، واللهُ ناصِرُ المُتَّقينَ ومُعينُهم.
ثمَّ يُثْني سبحانَه على القرآنِ الكريمِ، فيقولُ: هذا القُرآنُ دلائِلُ واضِحةٌ للنَّاسِ يُبَصِّرُهم الحَقَّ مِن الباطِلِ، وبه يَرشُدونَ، وهو هُدًى ورَحمةٌ للمُوقِنينَ.

تَفسيرُ الآياتِ:

وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّ اللهَ تعالى بيَّنَ أنَّه أنعَمَ بنِعَمٍ كَثيرةٍ على بني إسرائيلَ مع أنَّه حَصَل بَيْنَهم الاختِلافُ على سبَيلِ البَغيِ والحَسَدِ، والمقصودُ أن يُبَيِّنَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ طَريقةَ قَومِه كطَريقةِ مَن تقَدَّمَ، ولَمَّا كانت النِّعَمُ على قِسمَينِ: نِعمُ الدِّينِ، ونِعَمُ الدُّنيا؛ ونِعَمُ الدِّينِ أفضَلُ مِن نِعَمِ الدُّنيا؛ فلهذا بدأ اللهُ تعالى بذِكرِ نِعَمِ الدِّينِ، فقال [182] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/674). :
وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ.
أي: ولقد أعْطَيْنا بني إسرائيلَ الكِتابَ [183] قيل: المرادُ به: التَّوراةُ. وممَّن قال بهذا القول: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ، والبيضاوي، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/837)، ((تفسير القرطبي)) (16/162)، ((تفسير البيضاوي)) (5/107)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/345). وقيل: المرادُ به: التَّوراةُ والإنجيلُ. ومِمَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776). وقال السمرقندي: (الْكِتَابَ أي: التَّوراةَ، والزَّبورَ، والإنجيلَ). ((تفسير السمرقندي)) (3/278). وقال القِنَّوْجي: (ولعلَّ الأولى أن يُحملَ الكتابُ على الجِنسِ؛ حتَّى يَشملَ الإنجيلَ والزَّبورَ أيضًا). ((تفسير القنوجي)) (12/423). وقيل: الكِتابُ يَعُمُّ التَّوارةَ والإنجيلَ والزَّبورَ وغيرَها مِمَّا أُنزِلَ على أنبيائِهم. ومِمَّن ذهب إلى هذا القولِ: البِقاعي، والشربيني. يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/84)، ((تفسير الشربيني)) (3/596). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمرقندي)) (3/278). ، والحُكْمَ [184] قيل: المرادُ بالحُكمِ هنا: الفَهمُ في الكِتابِ، والعِلمُ. ومِمَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والواحدي، والقرطبي. وأراد ابنُ جَريرٍ بالعِلمِ: العِلمَ بالسُّنَنِ الَّتي لم تَنزِلْ في الكِتابِ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/837)، ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((الوسيط)) للواحدي (4/97)، ((تفسير القرطبي)) (16/162). وقيل: المرادُ به: القَضاءُ وفَصلُ الخُصوماتِ بيْنَ النَّاسِ. ومِمَّن ذهب إلى هذا المعنى: أبو حيَّان، والسعدي. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/418)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776). قال الشوكاني: (المرادُ بالكِتابِ: التَّوراةُ. وبالحُكمِ: الفَهمُ والفِقهُ الَّذي يكونُ بهما الحُكمُ بيْنَ النَّاسِ، وفَصلُ خُصوماتِهم). ((تفسير الشوكاني)) (5/9). وقال ابن عاشور: (ويَصِحُّ أن يكونَ بمعنى السِّيادةِ، أي: أنَّهم يَحكُمونَ أنفُسَهم بأنفُسِهم، ولا تَحكُمُهم أمَّةٌ أخرى، كقَولِه تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا [المائدة: 20] ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/345). وقال الرازي: (أمَّا الحُكمُ ففيه وُجوهٌ؛ يجوزُ أن يكونَ المرادُ: العِلمَ والحِكمةَ، ويجوزُ أن يكونَ المرادُ: العِلمَ بفَصلِ الحُكوماتِ، ويجوزُ أن يكونَ المرادُ: مَعرِفةَ أحكامِ الله تعالى، وهو عِلمُ الفِقهِ). ((تفسير الرازي)) (27/674، 675). ، وجعَلْنا فيهم كثيرًا مِن الأنبياءِ [185] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/837)، ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((تفسير القرطبي)) (16/162)، ((تفسير البيضاوي)) (5/107)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776). قال ابن عاشور: (معنى إيتائِهم هذه الأمورَ الثَّلاثةَ: إيجادُها في الأمَّةِ، وإيجادُ القائِمينَ بها؛ لأنَّ نَفْعَ ذلك عائِدٌ على الأمَّةِ جَمعاءَ، فكان كُلُّ فَردٍ مِن الأمَّةِ كمَنْ أُوتيَ تلك الأُمورَ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/345). .
وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ.
أي: ورَزَقْنا بني إسرائيلَ مِن الرِّزقِ الحَلالِ الطَّيِّبِ [186] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((تفسير القرطبي)) (16/162، 163)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776). .
قال تعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة: 57] .
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ.
أي: وفضَّلْنا بني إسرائيلَ على عالَمِي زمانِهم [187] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((تفسير الزمخشري)) (4/289)، ((تفسير ابن عطية)) (5/84)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/197، 198). ممَّن اختار أنَّه أراد بقولِه: الْعَالَمِينَ عالَمي زَمانِهم: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقندي، والسمعاني، والبغوي، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن كثير، والعُلَيمي، والشوكاني، وابن عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/837)، ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((تفسير السمرقندي)) (3/278)، ((تفسير السمعاني)) (5/138)، ((تفسير البغوي)) (4/186)، ((تفسير ابن عطية)) (5/84)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/99)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير العليمي)) (6/268)، ((تفسير الشوكاني)) (5/9)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/345). ونسَبه الرَّازيُّ للمفسِّرينَ، فقال: (قال المفسِّرونَ: المرادُ: وفضَّلْناهم على عالَمِي زمانِهم). ((تفسير الرازي)) (27/675). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/186). وقال السعدي: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ أي: على الخَلقِ بهذه النِّعَمِ، ويَخرُجُ مِن هذا العُمومِ اللَّفظيِّ هذه الأُمَّةُ؛ فإنَّهم خيرُ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 776). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/198، 199). وقال البقاعي: (عَلَى الْعَالَمِينَ وهم الَّذين تحقَّق إيجادُنا لهم في زَمانِهم وما قَبْلَه؛ فإنَّا آتَيْناهم مِن الآياتِ المَرئيَّةِ والمسموعةِ، وأكثَرْنا فيهم مِن الأنبياءِ ما لم نَفعَلْه لِغَيرِهم ممَّن سَبَق، وكُلُّ ذلك فضيلةٌ ظاهِرةٌ). ((نظم الدرر)) (18/84). .
كما قال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 47] .
وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17).
وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ.
أي: وآتَيْنا بَني إسرائيلَ آياتٍ واضِحاتِ الحُجَجِ [188] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((تفسير ابن عطية)) (5/84)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/345، 346). قيل: المرادُ بقولِه: بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ: الوَحيُ، وتنزيلُ التَّوراةِ الَّتي فيها تَفصيلُ الأمورِ، وبَيانُ الحلالِ والحرامِ. وممَّن اختار هذا القَولَ في الجملةِ: ابنُ جرير، والثعلبي، ومكِّي، وابن عطية، والخازن، وأبو حيَّان. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((تفسير الثعلبي)) (8/360)، ((?الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (10/6779)، ((تفسير ابن عطية)) (5/84)، ((تفسير الخازن)) (4/123)، ((تفسير أبي حيان)) (9/418). قال ابنُ عاشور: (علَّمْناهم بواسِطةِ كُتُبِهم وبواسِطةِ عُلَمائِهم حُجَجَ الحَقِّ والهُدى، الَّتي مِن شأنِها ألَّا تَترُكَ للشَّكِّ والخَطَأِ إلى نُفوسِهم سُبُلًا إلَّا سَدَّتْها). ((تفسير ابن عاشور)) (25/345). وقيل: المرادُ: الحلالُ والحرامُ، وبيانُ ما كان قَبْلَهم، وممَّن اختاره: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسَّمَرْقَنْديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/838)، ((تفسير السمرقندي)) (3/278). وقيل: المرادُ: دلائلُ ظاهرةٌ في أمرِ الدِّينِ، وآياتٌ ومعجزاتٌ. وممَّن اختاره في الجملةِ: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والنسفي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/289)، ((تفسير البيضاوي)) (5/107)، ((تفسير النسفي)) (3/301)، ((تفسير أبي السعود)) (8/71). وقيل: المرادُ: دَلالاتٌ على العِلمِ بمبعثِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم. وممَّن اختاره: البغوي، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/186)، ((تفسير العليمي)) (6/268). وقال البِقاعي: (بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ المُوحى به إلى أنبيائِهم؛ مِنَ الأدِلَّةِ القَطعيَّةِ، والأحكامِ والمواعِظِ المُؤَيَّدةِ بالمُعجِزاتِ، ومِن صِفاتِ الأنبياءِ الآتِينَ بَعْدَهم، وغيرِ ذلك ممَّا هو في غايةِ الوُضوحِ لِمَن قَضَيْنا بسَعادتِه، وذلك أمرٌ يَقتضي الأُلْفةَ والاجتِماعَ). ((نظم الدرر)) (18/84). .
كما قال تعالى: وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105] .
فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.
أي: فما تفرَّقَ بنو إسرائيلَ واختَلَفوا فيما بيْنَهم إلَّا مِن بَعدِ ما جاءهم العِلمُ الَّذي يُبَيِّنُ لهم ما يَتَّقُونَ، ويوجبُ عدَمَ الاختِلافِ، وإنَّما حمَلهم على ذلك الظُّلْمُ واعتداءُ بعضِهم على بعضٍ، والحسدُ وطلبُ الرِّياسةِ [189] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/14، 15)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 776)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/346). قال الرازي: (هاهنا احتِمالاتٌ: يريدُ أنَّهم عَلِموا ثمَّ عانَدوا، ويجوزُ أن يُريدَ بالعِلمِ الدَّلالةَ الَّتي تُوصِلُ إلى العِلمِ، والمعنى: أنَّه تعالى وَضَع الدَّلائِلَ والبَيِّناتِ الَّتي لو تأمَّلوا فيها لَعَرَفوا الحَقَّ، لكِنَّهم على وَجهِ الحَسَدِ والعِنادِ اختَلَفوا وأظهَروا النِّزاعَ). ((تفسير الرازي)) (27/675). .
كما قال تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [البقرة: 213] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ [يونس: 93] .
وقال الله عزَّ وجلَّ: وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الشورى: 14] .
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
أي: إنَّ ربَّك -يا محمَّدُ- يَحكُمُ بالعَدلِ بيْنَ أولئك المُختَلِفينَ مِن بني إسرائيلَ يومَ القيامةِ فيما كانوا في الدُّنيا يختَلِفونَ فيه، فيُمَيِّزُ المحِقَّ مِن المُبطِلِ، ويُجازي كُلًّا منهم بما يَستحِقُّ [190] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/84)، ((تفسير السمرقندي)) (3/278)، ((تفسير القرطبي)) (16/163)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير الشوكاني)) (5/9)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). .
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا بَيَّنَ اللهُ تعالى أنَّ المُشرِكينَ أعرَضوا عن الحَقِّ؛ مِن أجْلِ البَغيِ والحَسَدِ؛ أمَرَ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَعدِلَ عن تلك الطَّريقةِ، وأن يَتمَسَّكَ بالحَقِّ، وألَّا يكونَ له غَرَضٌ سِوى إظهارِ الحَقِّ، وتَقريرِ الصِّدْقِ [191] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/675). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى إنْعامَه على بني إسْرائيلَ واختِلافَهم بعْدَ ذلك؛ ذكَرَ حالَ نَبيِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وما مَنَّ به عليه مِن اصطِفائِه [192] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/419). ، فقال:
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا.
أي: ثمَّ جعَلْناك -يا محمَّدُ- مِن بَعدِ أن آتَيْنا بني إسرائيلَ الكِتابَ والحُكمَ والنُّبُوَّةَ: على طَريقةٍ مُستقيمةٍ ومِنهاجٍ واضِحٍ مِن الدِّينِ؛ فاتَّبِعْ شَريعةَ اللهِ الَّتي أوحاها إليك [193] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/85)، ((تفسير القرطبي)) (16/163)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/86، 87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/347، 348). .
كما قال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف: 43] .
وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولا تتَّبِعْ -يا محمَّدُ- ما يَدعوك إليه المُشرِكونَ الجاهِلونَ باللهِ ودِينِه مِن مُخالَفةٍ لِشَرعِ اللهِ، فلا تَعمَلْ بدِينِهم وآرائِهم، ولا تُوافِقْهم في باطِلِهم [194] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/85)، ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (1/98)، ((تفسير الشوكاني)) (5/9)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/348). .
كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [البقرة: 120] .
وقال سُبحانَه: وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام: 150] .
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19).
إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
أي: إنَّ الجاهِلينَ الَّذين يَدْعونَك -يا محمَّدُ- لاتِّباعِ أهوائِهم: لن يَنفَعوك عندَ اللهِ بشَيءٍ، ولن يَدفَعوا عنك شَيئًا مِن عذابِ اللهِ إنِ اتَّبعْتَ أهواءَهم، وخالَفْتَ ما شرَعَ اللهُ لك [195] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/86)، ((تفسير القرطبي)) (16/164)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/88)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777)، ((تفسير ابن عاشور)) (25/349). .
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ.
أي: وإنَّ الظَّالِمينَ يَتولَّى بَعضُهم بعضًا؛ فهم أنصارٌ وأحبابٌ فيما بيْنَهم، وأعوانٌ على المؤمِنينَ [196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/86)، ((تفسير الرازي)) (27/675)، ((تفسير القرطبي)) (16/164)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/200). قال الشنقيطي: (الظُّلمُ في لُغةِ العَرَبِ أصلُه وَضْعُ الشَّيءِ في غَيرِ مَوضِعِه. و... أعظَمُ أنواعِه الشِّركُ باللهِ؛ لأنَّ وَضْعَ العبادةِ في غَيرِ مَن خَلَق ورَزَق هو أشنَعُ أنواعِ وَضْعِ الشَّيءِ في غَيرِ مَوضِعِه؛ ولذا كَثُرَ في القُرآنِ العَظيمِ إطلاقُ الظُّلمِ بمعنى الشِّركِ، كقَولِه تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254]). ((أضواء البيان)) (7/200). وقال الواحدي: (قال ابنُ عبَّاسٍ: يُريدُ المُنافِقينَ أولياءَ اليَهودِ. وقال الكَلْبيُّ ومُقاتِلٌ: يعني: مُشرِكي مَكَّةَ بَعضُهم أولياءُ بَعضٍ، وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الشِّركَ، وهم أمَّةُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقال عطاءٌ: يُريدُ المُهاجِرينَ والأنصارَ). ((البسيط)) (20/142). ويُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/838). وقال الشوكاني: (والمرادُ بالمتَّقينَ: الَّذين اتَّقَوُا الشِّركَ والمعاصيَ). ((تفسير الشوكاني)) (5/10). وقال ابنُ كثير: (أي: وماذا تُغْني عنهم وَلايتُهم لبَعضِهم بعضًا؛ فإنَّهم لا يَزيدونَهم إلَّا خَسارًا ودَمارًا وهلاكًا؟!). ((تفسير ابن كثير)) (7/267). وقال ابن عاشور: (أي: إنَّهم ظالِمونَ، وأنت لَسْتَ مِن الظَّالِمينَ في شَيءٍ؛ فلا يَجوزُ أن تتَّبِعَهم في شَيءٍ، وإنَّما يَتَّبِعُهم مَن هم أولياؤُهم). ((تفسير ابن عاشور)) (25/349). .
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام: 129].
وقال سُبحانَه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [الأنفال: 73] .
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ.
أي: واللهُ ناصِرٌ ومُعِينٌ لِلمُتَّقينَ الَّذين يَتَّقونَ سَخَطَ اللهِ وعَذابَه، بامتِثالِ ما أمَرَ، واجتِنابِ ما نهَى [197] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/86)، ((تفسير السمعاني)) (5/139)، ((تفسير القرطبي)) (16/164)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/88)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/201). .
كما قال الله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] .
وقال سُبحانَه: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ [الأعراف: 196] .
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20).
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ.
أي: هذا القُرآنُ دلائِلُ ساطِعةٌ يُبصِرُ بها النَّاسُ الحَقَّ مِن الباطِلِ، ويَعرِفونَ بها الصَّوابَ في جميعِ أُمورِهم [198] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/86)، ((تفسير القرطبي)) (16/165)، ((تفسير ابن كثير)) (7/267)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/201). قال ابن عاشور: (وإنَّما كان... بَصائرَ؛ لأنَّه يُبيِّنُ للنَّاسِ الخَيرَ والشَّرَّ، ويُحرِّضُهم على الخَيرِ، ويُحذِّرهم مِن الشَّرِّ، ويَعِدُهم على فِعلِ الخَيرِ، ويُوعِدُهم على فِعلِ الشُّرورِ؛ فعمَلُه عَملُ البَصيرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/350). .
كما قال تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام: 104] .
وقال سُبحانَه: قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 203] .
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
أي: وهذا القُرآنُ يَهدي إلى الحَقِّ في الدُّنيا، وإلى الجنَّةِ في الآخِرةِ، ورَحمةٌ في الدُّنيا والآخِرةِ للمُوقِنينَ [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/87)، ((تفسير القرطبي)) (16/165)، ((تفسير السعدي)) (ص: 777). قال ابن عاشور: (وإنَّما كان هُدًى؛ لأنَّه طَريقُ نَفْعٍ لِمَنِ اتَّبَعَ إرْشادَه، فاتِّباعُه كالاهتِداءِ للطَّريقِ المُوصِلةِ إلى المَقصودِ، وإنَّما كان رَحمةً؛ لأنَّ في اتِّباعِ هَدْيِه نَجاحَ النَّاسِ أفْرادًا وجَماعاتٍ في الدُّنيا؛ لأنَّه نِظامُ مُجتمعِهم ومَناطُ أمْنِهم، وفي الآخرةِ؛ لأنَّه سَببُ نَوالِهم دَرجاتِ النَّعيمِ الأبَديِّ). ((تفسير ابن عاشور)) (25/350). وقال ابن جرير: (... لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ بحَقيقةِ صِحَّةِ هذا القُرآنِ، وأنَّه تَنزيلٌ مِن اللهِ العزيزِ الحكيمِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/87). .
كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52] .
وقال سُبحانَه وتعالى: وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 203] .

الفَوائِدُ التَّربَويَّةُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ المرادُ أنَّه لا يَنبغي أن يَغتَرَّ المُبطِلُ بنِعَمِ الدُّنيا؛ فإنَّها وإن ساوَتْ نِعَمَ المُحِقِّ أو زادَتْ عليها فإنَّه سيَرَى في الآخِرةِ ما يَسوؤُه [200] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (27/675). !
2- قال الله تعالى: وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ هذا فيه تحذيرٌ لهذه الأمَّةِ أن تَسلُكَ مَسلَكَهم، وأن تَقصِدَ مَنهَجَهم [201] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/267). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائِفُ:

1- قَولُ الله تعالى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ذكَر جلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّه فضَّل بني إسرائيلَ على العالمينَ، لَكِنَّ اللهَ جَلَّ وعلا بَيَّنَ أنَّ أمَّةَ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خَيرٌ مِن بني إسرائيلَ، وأكرَمُ على اللهِ، كما صَرَّحَ بذلك في قَولِه تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الآيةَ [آل عمران: 110] ؛ فـ (خَيْر) صيغةُ تَفضيلٍ، والآيةُ نَصٌّ صَريحٌ في أنَّهم خَيرٌ مِن جميعِ الأُمَمِ؛ بني إسرائيلَ وغَيرِهم، والتَّفضيلُ الوارِدُ في بني إسرائيلَ ذُكِرَ فيهم حالَ عَدَمِ وُجودِ أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، والمعدومُ في حالِ عَدَمِه ليس بشَيءٍ حتَّى يُفَضَّلَ أو يُفَضَّلَ عليه [202] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/197، 198). . وأيضًا فإنَّ الفضائِلَ الَّتي فاق بها بنو إسرائيلَ مِن الكِتابِ والحُكْمِ والنُّبُوَّةِ وغَيرِها مِن النُّعوتِ: قد حَصَلت كُلُّها لهذه الأُمَّةِ، وزادتْ عليهم هذه الأمَّةُ فضائِلَ كَثيرةً، فهذه الشَّريعةُ شَريعةُ بني إسرائيلَ جُزءٌ منها؛ فإنَّ هذا الكِتابَ مُهيمِنٌ على سائِرِ الكُتُبِ السَّابقةِ، ومحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُصَدِّقٌ لجَميعِ المُرسَلينَ [203] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 776). .
2- في قَولِه تعالى: وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ أنَّ أهلَ الكتابِ تَفرَّقوا واختَلَفوا قبْلَ إرسالِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم إليهم [204] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/489). .
3- في قَولِه تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أنَّ المُتعبِّدَ للهِ إنْ لم يكُنْ مُتابِعًا للرَّسولِ فإنَّه لا تُقبَلُ عبادتُه [205] يُنظر: ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (24/220). .
4- قال الله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ أمَرَه في هذه الآيةِ باتِّباعِ الشَّريعةِ الَّتي جعَلَه عليها، ونهاه عن اتِّباعِ ما يخالِفُها، وهي أهواءُ الَّذين لا يَعلَمونَ؛ ولهذا كان كُلُّ مَن خرَج عن الشَّريعةِ والسُّنَّةِ: مِن أهلِ الأهواءِ، كما سَمَّاهم السَّلَفُ [206] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/207). .
5- في قَولِه تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ تحريمُ الإفتاءِ في دينِ اللهِ بالرَّأيِ المتضَمِّنِ لِمُخالَفةِ النُّصوصِ، والرَّأيِ الَّذي لم تَشهَدْ له النُّصوصُ بالقَبولِ؛ فقَسَم سُبحانَه الأمرَ بيْنَ الشَّريعةِ الَّتي جَعَله هو سُبحانَه عليها، وأَوحَى إليه العَمَلَ بها، وأَمَر الأُمَّةَ بها؛ وبَيْنَ اتِّباعِ أهواءِ الَّذين لا يَعلَمونَ؛ فأمَر بالأوَّلِ، ونهَى عن الثَّاني [207] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/38). .
6- قَولُ الله تعالى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ جَعَل البَصائِرَ للنَّاسِ؛ لأنَّه بَيانٌ للنَّاسِ عامَّةً، وجَعَل الهُدى والرَّحمةَ لِقَومٍ يُوقِنونَ؛ لأنَّه لا يَهتَدي ببَيانِه إلَّا الموقِنُ بحقيقتِه، ولا يُرحَمُ به إلَّا مَنِ اتَّبَعه؛ المؤمِنُ بحَقِّيَّتِه [208] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/351). .
7- قال تعالى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ في هذه الآيةِ الكريمةِ سُؤالٌ عربيٌّ معروفٌ، وهو أنَّ المبتدأَ الَّذي هو قَولُه: هَذَا اسمُ إشارةٍ إلى مُذكَّرٍ مُفرَدٍ، والخبَرُ الَّذي هو بَصَائِرُ جمعٌ مُكَسَّرٌ مُؤنَّثٌ، فيُقالُ: كيف يُسنَدُ الجَمعُ المُؤنَّثُ المُكَسَّرُ إلى المُفرَدِ المُذكَّرِ؟
والجوابُ: أنَّ مَجموعَ القُرآنِ كِتابٌ واحِدٌ، تَصِحُّ الإشارةُ إليه بـ هَذَا، وهذا الكِتابُ الواحِدُ يَشتَمِلُ على بَراهينَ كَثيرةٍ، فصَحَّ إسنادُ البَصائِرِ إليه؛ لاشتِمالِه عليها كما لا يخفَى [209] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/202). ، ولاشتِمالِه على آياتٍ وسُوَرٍ جُعِلَ كُلٌّ منها بَصيرةً [210] يُنظر: ((حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي)) (4/247)، ((تفسير الألوسي)) (13/147). .
8- قَولُ الله تعالى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ فيه أنَّ القُرآنَ الكَريمَ يَحصُلُ به التَّبصِرةُ في جَميعِ الأُمورِ للنَّاسِ، فيَحصُلُ به الانتِفاعُ للمُؤمِنينَ، والهدَى والرَّحمةُ؛ فيَهتَدونَ به إلى الصِّراطِ المُستَقيمِ في أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه، ويَحصُلُ به الخَيرُ والسُّرورُ والسَّعادةُ في الدُّنيا والآخرةِ، وهي الرَّحمةُ؛ فتَزكو به نُفوسُهم، وتَزدادُ به عُقولُهم، ويَزيدُ به إيمانُهم ويَقينُهم، وتقومُ به الحُجَّةُ على مَن أصَرَّ وعانَدَ [211] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 777). .

بلاغةُ الآياتِ:

1- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
- قولُه: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ كَلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لإعلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ السَّبيلَ الَّتي يَسيرُ عليها قَومُه هي السَّبيلُ الَّتي سار عليها مَن تَقدَّمَهم مِن الأُمَمِ [212] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/150). .
- وسَوقُ خَبَرِ بني إسْرائيلَ هنا في قولِه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... إلى قولِه: ... فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ تَوطئةٌ وتَمهيدٌ لِقَولِه بعْدَه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا [الجاثية: 18] ؛ أثارَ ذلك ما تَقدَّمَ مِن قولِه: وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إلى قولِه: اتَّخَذَهَا هُزُوًا [الجاثية: 7- 9] ، ثمَّ قولِه: قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] ؛ فكان المَقصدُ قولَه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ [الجاثية: 18] ؛ ولذلك عُطِفَت الجُملةُ بحَرْفِ (ثمَّ) الدَّالِّ على التَّراخي الرُّتبيِّ، أي: على أهمِّيَّةِ ما عُطِفَ بها. وكان مُقْتضى ظاهرِ النَّظْمِ أنْ يقَعَ قولُه: وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ... الآيتَينِ، بعْدَ قولِه: جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ [الجاثية: 18] ، فيَكونَ دَليلًا وحُجَّةً له، فأُخْرِجَ النَّظْمُ على خِلافِ مُقْتضَى الظَّاهرِ، فجُعِلَت الحُجَّةُ تَمْهيدًا؛ قَصْدًا للتَّشويقِ لِمَا بعْدَه، ولِيَقَعَ ما بعْدَه مَعطوفًا بـ (ثُمَّ) الدَّالَّةِ على أهمِّيَّةِ ما بعْدَها [213] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/343). .
- وأُدمِجَ في خِلالِ الآياتِ ما اختَلَفَ فيه بَنو إسْرائيلَ على ما دعَتْهم إليه شَريعتُهم؛ لِمَا فيه مِن تَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على مُخالَفةِ قَومِه دَعوتَه؛ تَنْظيرًا في أصْلِ الاخْتِلافِ دونَ أسْبابِه وعَوارِضِه. ولَمَّا كان في الكلامِ ما القصْدُ منه التَّسليةُ والاعتبارُ بأحْوالِ الأُمَمِ، حَسُنَ تأْكيدُ الخَبرِ بلامِ القسَمِ وحَرْفِ التَّحقيقِ (قدْ)؛ تأْكيدًا للمؤمنينَ بأنَّ اللهَ يَقْضي بيْنَهم وبيْنَ المُشرِكين، كشَأْنِه فيما حدَثَ بيْن بَني إسْرائيلَ [214] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/344). .
- وقد بُسِطَ في ذِكرِ النَّظيرِ في بَني إسْرائيلَ مِن وَصْفِ حالِهم حِينَما حدَثَ الاخْتِلافُ بيْنَهم، ومِن التَّصريحِ بالدَّاعي لِلاختِلافِ بيْنَهم؛ ما طُوِيَ مِن مِثلِ بَعْضِه مِن حالِ المُشركينَ حِينَ جاءَهُم الإسلامُ، فاخْتَلَفوا مع أهْلِه؛ إيجازًا في الكلامِ؛ لِلاعتِمادِ على ما يَفْهَمُه السَّامِعونَ بطَريقِ المُقايَسةِ، على أنَّ أكْثَرَه قد وقَعَ تَفصيلُه في الآياتِ السَّابقةِ، مِثلُ قولِه: تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [الجاثية: 6] ، وقولِه: هَذَا هُدًى [الجاثية: 11] ؛ فإنَّ ذلك يُقابِلُ قولَه هنا: وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ، ومِثلُ قولِه: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الجاثية: 13] ؛ فإنَّه يُقابِلُ قولَه هنا: وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، ومِثلُ قولِه: يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا إلى قولِه: لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [الجاثية: 8، 9]؛ فإنَّه يُقابِلُ قولَه هنا: وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا، ومِثلُ قولِه: لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الجاثية: 14] ؛ فإنَّه مُقابِلٌ قولَه هنا: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/344). .
- قولُه: وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ التَّعريفُ في الْأَمْر للتَّعظيمِ، أي: مِن شُؤونٍ عَظيمةٍ، أي: شأْنُ الأُمَّةِ وما به قِوامُ نِظامِها؛ إذ لمْ يَترُكْ مُوسى والأنبياءُ مِن بَعْدِه شَيئًا مُهِمًّا مِن مَصالحِهم إلَّا وقدْ وضَّحوه وبيَّنوه، وحذَّروا مِن الالْتِباسِ فيه [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/345، 346). .
- وفُرِّعَ قولُه: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ تَفريعَ إدْماجٍ [217] الإدماجُ: هو أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ، بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعَينِ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضَمنًا معنًى آخَرَ، كقولِه تعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ [القصص: 70] ؛ فهذا مِن إدماجِ غرَضٍ في غَرَضٍ؛ فإنَّ الغرَضَ منها تَفرُّدُه تعالى بوصْفِ الحمدِ، وأُدمِجَ فيه الإشارةُ إلى البعثِ والجزاءِ، وقيل: أُدمِجتِ المُبالَغةُ في المُطابَقةِ؛ لأنَّ انفرادَه بالحمدِ في الآخِرَةِ -وهي الوقتُ الَّذي لا يُحمَدُ فيه سِواهُ- مُبالَغةٌ في الوَصفِ بالانفرادِ بالحَمْدِ. يُنظر: ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (ص: 225)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ؛ لِمُناسَبتِه للحالةِ الَّتي أُرِيدَ تَنْظيرُها، وتَقديرُ الكلامِ: فاخْتَلفوا، وما اخْتَلفوا إلَّا مِن بَعْدِ ما جاءَهم العِلمُ؛ فحُذِفَ المُفرَّعُ لِدَلالةِ ما بعْدَه عليه على طَريقةِ الإيجازِ؛ إذ المَقصودُ هو التَّعجُّبُ مِن حالِهم كيفَ اختَلَفوا حِينَ لا مَظِنَّةَ لِلاختِلافِ؛ إذ كان الاختِلافُ بيْنَهم بعْدَ ما جاءَهم العِلمُ المَعهودُ بالذِّكرِ آنِفًا مِن الكتابِ والحُكْمِ والنُّبوَّةِ والبيِّناتِ مِن الأمْرِ، ولو اخْتَلَفوا قبْلَ ذلك لَكان لهم عُذْرٌ في الاختِلافِ، وهذا كقولِه تعالى: وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية: 23] . وهذا الكَلامُ كِنايةٌ عن عَدَمِ التَّعجُّبِ مِن اخْتِلافِ المُشرِكين معَ المُؤمِنينَ؛ حيثُ إنَّ المُشرِكينَ لَيسوا على عِلمٍ ولا هُدًى؛ لِيَعلَمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه مَلطوفٌ به في رِسالتِه [218] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/346). .
- وجُملةُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مُستأنَفةٌ استئنافًا بَيانيًّا؛ لأنَّ خَبَرَهم العَجيبَ يُثيرُ سُؤالًا في نفْسِ سامِعِه عن جَزاءِ اللهِ إيَّاهم على فِعلِهم، وهذا جَوابٌ فيه إجْمالٌ؛ لِتَهويلِ ما سيُقْضَى به بيْنَهم في الخَيرِ والشَّرِّ؛ لأنَّ الخِلافَ يَقْتضي مُحِقًّا ومُبطِلًا [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/347). .
2- قولُه تعالَى: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
- قولُه: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا حَرْفُ (ثُم) للتَّراخي الرُّتبيِّ كما هو شأْنُها في عطْفِ الجُمَلِ، ولولا إرادةُ التَّراخي الرُّتبيِّ لَكانتِ الجُملةُ مَعطوفةً بالواوِ، وهذا التَّراخي يُفِيدُ أنَّ مَضمونَ الجُملةِ المعطوفةِ بحَرْفِ (ثُمَّ) أهمُّ مِن مَضمونِ الجُملةِ المعطوفِ عليها أهمِّيَّةَ الغرَضِ على المُقدِّمةِ، والنَّتيجةِ على الدَّليلِ. وفي هذا التَّراخي تَنويهٌ بهذا الجَعلِ، وإشارةٌ إلى أنَّه أفضَلُ مِن إيتاءِ بَني إسرائيلَ الكِتابَ والحُكمَ والنُّبوَّةَ والبيِّناتِ مِن الأمْرِ؛ فنُبُوَّةُ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكِتابُه، وحُكْمُه، وبَيِّناتُه؛ أفضَلُ وأهْدى ممَّا أُوتِيَه بَنو إسرائيلَ مِن مِثلِ ذلك [220] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/347). .
- وحَرْفُ عَلَى للاستِعلاءِ الدَّالِّ على التَّمكُّنِ والثَّباتِ [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/347). .
- وتَنوينُ شَرِيعَةٍ للتَّعظيمِ؛ بقَرينةِ حَرْفِ التَّراخي الرُّتبيِّ [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/347). .
- وقدْ بلَغَتْ هذه الجُملةُ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِن الإيجازِ مَبلَغًا عَظيمًا؛ إذ أفادتْ أنَّ شَريعةَ الإسلامِ أفضَلُ مِن شَريعةِ مُوسى، وأنَّها شَريعةٌ عَظيمةٌ، وأنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُتمكِّنٌ منها، لا يُزَعْزِعُه شَيءٌ عن الدَّأَبِ في بَيانِها والدَّعوةِ إليها؛ ولذلك فُرِّعَ عليه أمْرُه باتِّباعِها بقولِه: فَاتَّبِعْهَا، أي: دُمْ على اتِّباعِها؛ فالأمْرُ لِطَلَبِ الدَّوامِ [223] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/348). .
- والخِطابُ في قولِه: فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمَقصودُ منه: إسْماعُ المشركينَ؛ لِئلَّا يَطمَعوا بمُصانَعةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إيَّاهم حِينَ يَرَون منه الإغضاءَ عن هَفَواتِهم وأذاهم، وحِينَ يَسْمَعون في القرآنِ بالصَّفْحِ عنهم، كما في الآيةِ السَّالفةِ؛ قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية: 14] . وفيه أيضًا تَعريضٌ للمُسلِمينَ بأنْ يَحذَروا مِن أهواءِ الَّذين لا يَعلَمونَ [224] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/348). .
3- قولُه تعالَى: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ
- قولُه: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا تَعليلٌ للنَّهيِ عن اتِّباعِ أهواءِ الَّذين لا يَعلَمون، ويَتضمَّنُ تَعليلَ الأمْرِ باتِّباعِ شَريعةِ اللهِ؛ فإنَّ كَونَهم لا يُغْنونَ عنه مِن اللهِ شَيئًا، يَستلزِمُ أنَّ في مُخالَفةِ ما أمَرَ اللهُ مِن اتِّباعِ شَريعتِه ما يُوقِعُ في غضَبِ اللهِ وعِقابِه؛ فلا يُغْني عنه اتِّباعُ أهْوائِهم مِن عِقابِه [225] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/349). .
- والكلامُ في قولِه: إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا على حذْفِ مُضافٍ، أي: لنْ يُغْنوا عنك بَدَلًا مِن عَذابِ اللهِ، أي: قَليلًا مِن الإغناءِ البديلِ مِن عِقابِ اللهِ [226] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/349). .
- وعُطِفَ على هذا التَّعليلِ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا تَعليلٌ آخَرُ؛ وهو وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، أي: إنَّهم ظالِمون، وأنت لَسْتَ مِن الظَّالِمينَ في شَيءٍ؛ فلا يَجوزُ أنْ تَتَّبِعَهم في شَيءٍ، وإنَّما يَتَّبِعُهم مَن همْ أَولياؤُهم [227] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/349). .
- قولُه: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ تَذْييلٌ، وهو يُفِيدُ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اللهُ وَلِيُّه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّلُ المُتَّقينَ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/349). .
4- قولُه تعالَى: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ إنْ كانتِ الإشارةُ إلى الكلامِ المُتقدِّمِ وما فيه مِن ضَرْبِ المَثلِ بمُوسى وقَومِه، ومِن تَفضيلِ شَريعةِ محمَّدٍ على شَريعةِ مُوسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، والأمْرِ بمُلازَمةِ اتِّباعِها، والتَّحذيرِ مِن اتِّباعِ رَغائبِ الَّذين لا يَعلَمون؛ فهذه الجُملةُ بمَنزِلةِ التَّذييلِ لِمَا قبْلَه والتَّهيئةِ لأغْراضِه؛ تَنْبيهًا لِما في طَيِّها مِن عواصِمَ عن الشَّكِّ والباطلِ. وإنْ كانت الإشارةُ إلى القُرآنِ -إذ هو حاضرٌ في الأذهانِ- كانت الجُملةُ استئنافًا أُعِيدَ بها التَّنويهُ بشَأْنِ القُرآنِ ومُتَّبِعيه، والتَّعريضُ بتَحْميقِ الَّذين أعْرَضوا عنه، وتكونُ مُفيدةً تأْكيدَ قولِه آنفًا: هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [الجاثية: 11] ، وتكونُ الجُملةُ المُتقدِّمةُ صَريحةً في وَعيدِ الَّذين كَفَروا بآياتِه، وهذه تَعريضًا بأنَّهم لم يَحْظَوا بهذه البصائرِ، وكِلا الاحْتِمالَينِ رَشيقٌ، وكلٌّ بأنْ يكونَ مَقصودًا حَقيقٌ [229] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/349، 350). .
- قولُه: هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ فيه جمْعُ البَصائرِ -إنْ كانتِ الإشارةُ إلى القُرآنِ باعتبارِ المُتبصِّرينَ بسَببِه، كما اقْتَضاهُ قولُه: لِلنَّاسِ-؛ لأنَّ لكلِّ أحدٍ بَصيرتَه الخاصَّةَ؛ فهي أمْرٌ جُزئيٌّ بالتَّبَعِ؛ لِكَونِ صاحبِ كلِّ بَصيرةٍ جُزئيًّا مُشخَّصًا، فناسَبَ أنْ تُورَدَ جمْعًا، وهذا بخِلافِ إفرادِ (هُدًى) و(رَحْمَةٌ)؛ لأنَّ الهُدى والرَّحمةَ مَعنَيانِ كُلِّيَّانِ يَصلُحانِ للعدَدِ الكثيرِ [230] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/350). .
- وذُكِرَ لَفظُ (قَوم)؛ للإيماءِ إلى أنَّ الإيقانَ مُتمكِّنٌ مِن نُفوسِهم، كأنَّه مِن مُقوِّماتِ قَوميَّتِهم الَّتي تُميِّزُهم عن أقوامٍ آخَرينَ [231] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/351). .
- وحُذِفَ مُتعلَّقُ الإيقانِ؛ لأنَّه مَعلومٌ بما جاءتْ بهِ آياتُ اللهِ [232] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (25/351). .