موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (20 - 26)

ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ

غريب الكلمات:

الْمُقَدَّسَةَ: أي: المطهَّرةَ المُعظَّمة؛ فالتَّقديسُ: هو التَّطهيرُ والتَّعظيمُ [527] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 8، 142)، ((تفسير ابن جرير)) (1/505)، ((المفردات)) للراغب (ص: 660). .
وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ: ولا تَرجِعوا مُدبِرين، والردُّ: صرْفُ الشيءِ بذاتِه، أو بحالةٍ من أحوالِه؛ يُقال: رَددتُه فارتدَّ، والارتدادُ والرِّدَّة: الرُّجوعُ في الطَّريقِ الذي جاء مِنه، ومنه قيل للكافرِ بعدَ إسلامِه: مُرتدٌّ. وأصْل الدُّبُر: آخِرُ الشَّيءِ وخَلفُه، وهو ضِدُّ القُبُل [528] ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/324)، ((المفردات)) للراغب (ص: 348، 349)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 476، 977). .
فَتَنْقَلِبُوا: أي: فتَرْجِعوا، والانقلابُ: الانصرافُ؛ يُقال لِمَن كانَ على شيءٍ ثُمَّ رجَع عنه: قدِ انقلَب على عَقِبه، وأَصْلُ (قلب): صرْفُ الشَّيءِ عن وجهٍ إلى وجهٍ، أو ردُّه من جِهةٍ إلى جِهةٍ [529] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 113)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((المفردات)) للراغب (ص: 681). .
جَبَّارِينَ: أقوياءَ عِظامَ الأجسامِ، وقيل: طوالًا؛ وُصِفوا بذلك لكثرتِهم وقُوَّتِهم، وعِظَم خَلْقِهم، وطولِ جُثَثِهم، وجبَّارون جمْع جبَّار، وهو القَهَّار، ويُطلَقُ على المتكبِّر المتعالي عن قَبولِ الحقِّ، والمتسلِّطِ، والقَتَّال، وأصلُ (جبر): جِنسٌ مِن العَظمةِ والعُلوِّ [530] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 174)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/501)، ((المفردات)) للراغب (ص: 183)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 149)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 353). .
فَافْرُقْ: فافْصِل، مِن فرقتُ بين الشَّيئين: إذا فَصلْتَ بينهما، سواءٌ كان ذلك بفَصْلٍ يُدركُه البصرُ، أو بفَصْلٍ تُدركُه البصيرةُ، والفَرْق يُقاربُ الفَلْقَ، لكنَّ الفَلْقَ انشقاقٌ، والفَرْقَ انفصالٌ، وأصْل الفَرْق: الفصلُ والتمييزُ، والتَّزييلُ بين الشَّيئينِ [531] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/359)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/493)، ((المفردات)) للراغب (ص: 632، 633)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 74). .
الْفَاسِقِينَ: جمْعُ فاسِق، وهو الخارجُ مِنَ الشَّرعِ، والفاسقُ أعمُّ مِن الكافِر، والفُسوقُ: خروجٌ مِنَ الطَّاعةِ إلى المعصيةِ، وخروجٌ مِنَ الإيمانِ إلى الكُفرِ؛ فأصْلُ الفسوق: الخُروجُ، ومنه قولهم: فَسَقَتِ الرُّطبةُ، إذا خرَجتْ عن قِشْرتها [532] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 368)، ((المفردات)) للراغب (ص: 636، 819)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 117)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 693). .
يَتِيهُونَ: يَحارُونَ ويَضلُّونَ، ويَذهبون مُتحيِّرين؛ مِن تاه يَتيه: إذا تَحيَّر [533] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 506)، ((المفردات)) للراغب (ص: 169)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 150)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 994). .
فَلَا تَأْسَ: فلا تَحْزنْ؛ يُقال: أَسِيتُ على كذا، أي: حَزِنْتُ، والأسى: الحُزن [534] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 142)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/106)، ((المفردات)) للراغب (ص: 77)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 150)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 975). .

مشكل الإعراب:

قوله: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا.
مِنَ الَّذِينَ: جارٌّ ومجرور في مَحلِّ رفْعٍ، صِفةٌ لـرَجُلَانِ.
وجُملة أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا: في محل رَفْعٍ، صِفةٌ ثانيةٌ لـرَجُلَانِ، وجِيء هنا بأَفصحِ الاستعمالينِ من كونِه قَدَّم الوصفَ بالجارِّ على الوَصفِ بالجُملةِ؛ لقُربه من المفردِ. وقيل: إنَّها جملة مُعترِضةٌ. وقيل: هي حالٌ من الضَّمير في يَخافونَ، أو حالٌ مِن رَجُلَانِ وجاءتِ الحالُ مِن النَّكرةِ؛ لتخصُّصِها بالوَصْفِ. أو حالٌ من الضَّميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ مِنَ الَّذِينَ؛ لوقوعِه صِفةً لموصوفٍ، وعلى أنَّها حالٌ، فلا بُدَّ مِن إضمارِ (قَدْ)، أي: قدْ أَنعمَ اللهُ عليهما [535] ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/222)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/430)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (4/233)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/250). .

المعنى الإجمالي:

يقول اللهُ تعالى لنَبيِّه مُحمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: واذكرْ- يا محمدُ- توجيهَ موسى عليه السَّلام لبني إسرائيلَ- على سبيلِ النُّصْحِ والإرشادِ- أنْ يتذكَّروا نِعمةَ اللهِ التي أنعمَ بها عليهم، بأنْ جعَلَ فيهم أنبياءَ، وجعَلَهم مُلوكًا، وآتاهم مِن النِّعمِ الدِّينيَّة والدُّنيويَّة ما لم يُعْطِه أحدًا مِن أهلِ زمانِهم.
وبعدَ هذا التذكيرِ بالنِّعَم نادَى موسى عليه السَّلامُ قومَه بني إسرائيل، وطَلَب منهم أنْ يَدخُلوا الأرضَ المقدَّسة، التي هي بيتُ المقدِسِ التي كتَبَها الله لهم، وأنْ يأخذوها من يدِ أعدائِهم، ونهاهُم عن التَّراجُعِ عن القِتالِ، والنُّكولِ عن الجِهاد؛ فإنَّ ذلك يؤدِّي إلى الخسرانِ في الدُّنيا والآخرةِ، فردُّوا عليه أنَّ في هذه البلدةِ قومًا أشداءَ أقوياءَ ضِخامًا؛ وأنَّه لا طاقةَ لهم بقِتالهم، وأنَّهم لن يَدخلوها ما دامَ هؤلاءِ موجودينَ فيها، وعلى تقديرِ خروجِهم منها فيمكنُ لهم أن يدخلُوها؛ ثم بيَّن الله تعالى أنَّ رجلَيْنِ منهم مؤمنَيْنِ يَخافانِ اللهَ، قدْ أنعم اللهُ عليهما بأنْ وفَّقهم لطاعتِه والخوفِ منه وحْدَه، وأنعَمَ عليهما أيضًا بالصَّبرِ واليقينِ، والرأيِ القويمِ، قد استنكَرا إحجامَ قومِهما عن الجهادِ، فقالَا لبني إسرائيل: إنَّه لا يحولُ بينكم وبينَ غَلَبةِ هؤلاءِ والنَّصرِ عليهم سوى دُخولِكم بابَ الأَرْضِ المقدَّسةِ، فإنْ دَخَلْتُموها انتصرتُم عليهم؛ فتوكَّلوا على اللهِ، واعتمِدوا عليه إنْ كنتُم مُؤمنينَ.
لكنَّ هذه النصيحةَ لم تَلْقَ قَبولًا من بني إسرائيلَ، وكرَّروا لنبيِّهم نفيَهم دخُولَ الأرضِ المقدَّسةِ أبدًا ما دام هؤلاءِ القومُ فيها، وقالوا لموسى عليه السَّلامُ: إذا كان دخولُ هذه الأرضِ يهمُّك أمرُه، فاذهبْ أنت وربُّك لقتالِ سكَّانِها الجبابرةِ، وأَخْرِجاهم منها.
عندَ ذلك توجَّه موسى عليه السَّلامُ إلى ربِّه يبثُّ إليه الشَّكوى، معتذرًا مِن عصيانِ قَوْمِه، وأنَّه لا يَستطيعُ أن يحمِلَ أحدًا على القِتالِ إلَّا نفْسَه وأخاه هارونَ، ودَعا اللهَ أن يَفصِلَ بينه وبين هؤلاءِ القومِ الفاسقينَ؛ فاستجابَ اللهُ دُعاءَه، وعاقبَهم بأنْ حرَّم عليهم دخولَ الأرضِ المقدَّسةِ أربعينَ سَنةً، يظلُّون ضائعينَ حائرينَ في الأرضِ، لا يَهتدون لطريقٍ، ولا يستقرُّونَ في مكانٍ، ونهى موسى عليه السَّلامُ أنْ يحزنَ عليهم جرَّاءَ تلك العقوبةِ التي استحقُّوها لخروجِهم عن طاعةِ اللهِ سبحانه.

تفسير الآيات:

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أقام اللهُ تعالى الحُججَ على بني إسرائيلَ، وأثبتَ لهم رسالةَ نبيِّه محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودحَض شُبُهاتِهم، وأبطَلَ دعاويهم، ثمَّ لَمَّا لم يَزدْهم ذلك كلُّه إلا كُفرًا وعنادًا- بيَّن اللهُ تعالى في هذه الآياتِ واقعةً مِن وقائعِ أسلافِهم مع موسَى عليه السلامُ، وتمرُّدَهم عليه، وعِصيانَهم له، مع تذكيرِه إيَّاهم نِعمَ اللهِ عليهم؛ ليعلمَ الرَّسولُ بهذا أنَّ مكابرةَ الحقِّ ومعاندةَ الرُّسلِ خُلقٌ مِن أخلاقِهم الموروثةِ عن سلفِهم، وأنَّ هؤلاءِ الذين هم بحَضرةِ الرسولِ هم جارُونَ مجرَى أسلافِهم مع موسى عليه السَّلامُ؛ فيكونَ ذلك تسليةً له صلَّى الله عليه وسلم [536] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/214)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/265)، وينظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/276- 277). .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
أي: واذْكر- يا محمَّدُ- حينَ خاطَبَ موسى عليه السَّلامُ بَنِي إسرائيل، أنْ اذكُروا- يا قومي- بقُلوبِكم وألسِنَتِكم نِعمَ اللهِ تعالى عليكُم؛ فإنَّ ذِكرَها داعٍ إلى القيامِ بشُكرِه عليها، وداعٍ إلى محبَّتِه عزَّ وجلَّ، ومُعِينٌ على عِبادتِه سُبحانَه وتعالى [537] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/276- 277)، ((تفسير ابن كثير)) (3/72)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/254). وقال ابنُ عُثَيمين: (هنا هل نقول: إنَّ متعلق «إذ»، «اذكُر»، فيكون هنا الخطابُ موجَّهًا إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، أو أنَّ المراد: اذكُروا، أي: يا أهلَ الكتاب؟ نقول: يحتمل هذا أو هذا) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/254). وقال ابنُ عَطيَّة: (المعنى: واذكُرْ لهم- يا محمَّدُ- على جهة إعلامِهم بغير كُتبهم؛ ليتحقَّقوا نبوَّتك، وينتظمَ في ذلك نِعمُ الله عليهم، وتلقِّيهم تلك النِّعم بالكفرِ، وقِلَّة الطاعة والإنابة) ((تفسير ابن عطية)) (2/173) .
ثمَّ بيَّن تعالى هذه النِّعمَ، فقال [538] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/173)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/254). :
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ.
أي: فاذْكُروا إنعامَ اللهِ تعالى عليكم بأنْ جعَلَ فيكم أنبياءَ يأتونَكم بوَحيِه، ويُخبرونَكم بآياتِه، كلَّما هلَكَ نبيٌّ قامَ فيكم نبيٌّ آخَرُ، مِن لَدُن إبراهيمَ عليه السَّلامُ وإلى مَن بَعدَه، حتَّى خُتِمُوا بعيسى عليه السَّلامُ [539] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/277- 278)، ((تفسير ابن كثير)) (3/72)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/254- 255). قال ابنُ عُثَيمين: (هل المرادُ هنا بالأنبياءِ الرَّسل، أو الأنبياء الذين دونَ الرُّسل؟ يحتملُ هذا وهذا؛ لأنَّ فيهم رسلًا، وفيهم أنبياءُ بلا رسالةٍ) ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/255). .
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا.
قيلَ المعنى: جعَل لكم مِن غيرِكم خَدمًا وحَشَمًا، سَخَّرَهم ليَخدموكم [540] وهذا اختيارُ ابنِ جريرٍ في ((تفسيره)) (8/278)، والواحدي في ((الوجيز)) (ص: 314). وممن روي عنه من السَّلف مثل هذا القولِ قتادةُ. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/278). .
وقيلَ المرادُ: مُلْكُ مَن مَلَك مِن بني إسرائيل؛ لأنَّ الملوكَ شرفٌ في الدُّنيا [541] ذكره ابنُ عطيةَ في ((تفسيره)) (2/173)، وجعَله ابنُ عاشورٍ وابنُ عثيمينَ مما يشملُه معنى الآية. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) 6/161)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/255). .
وقيل المعنى: صَيَّركم أحرارًا تَملِكون أمْرَكم ولا تُملَكونَ، بعدَ زوالِ استعبادِ عدوِّكم لكم، الذي كان يَقهَرُكم ويَستخْدِمُكم [542] وهذا اختيارُ القرطبيِّ في ((تفسيره)) (6/123)، والسعديِّ في ((تفسيره)) (ص: 227)، وجعله ابنُ عاشورٍ وابنُ عثيمينَ مما يشملُه معنى الآية. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) 6/161)، و((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/255). وممن روي عنه من السَّلف نحو هذا القول السُّدِّي. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/281). ، وقيلَ غيرُ ذلِك [543] قال جماعةٌ مِن السَّلف: إنَّ كلَّ مَن له امرأةٌ وخادم ومَسكن، فهو مَلِك. وممَّن رُوي عنه من السَّلف نحوُ هذا القولِ: ابنُ عبَّاس، وعبد الله بنُ عمرِو بن العاصِ، ومجاهدٌ، والحسن، والحَكَم. ((تفسير ابن جرير)) (8/278). .
وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ.
أي: ومَنحَكم اللهُ- يا معشرَ اليهودِ- مِن نِعَمِه الدِّينيَّة والدُّنيويَّة، وكراماتِه العَلِيَّة، ما لم يُعطِهِ لأحدٍ سواكم مِن أهلِ زَمانِكم، فَفُقتُموهم شرفًا وفضلًا [544] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/283- 284)، ((تفسير ابن كثير)) (3/74)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/255- 256). قال ابنُ كَثيرٍ: (والجمهورُ على أنَّه خِطابٌ من موسى لقومِه، وهو محمولٌ على عالَمِي زمانِهم) ((تفسير ابن كثير)) (3/74). .
كما قال سُبحانَه: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثية: 16] .
وكما قال عزَّ وجلَّ إخبارًا عن موسى لَمَّا قال قومُه: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف: 138-140] .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21).
مناسَبَةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَّر موسى عليه السَّلامُ بني إسرائيلَ بنِعَم اللهِ تعالى عليهم، وكان في طِيَّاتِ ذلك الحثُّ على الوفاءِ بما عاقَدوا اللهَ عليه من الطَّاعة- كان هذا كالتَّمهيدِ لطلبِ امتثالِهم للأمْرِ الذي تَضمَّنتْه هذه الآيةُ، بقِتال الجبَّارين؛ ليهيِّئَ نُفوسَهم إلى قَبولِ هذا الأمرِ العَظيمِ عليهم، وليوثِّقَهم بالنَّصرِ إنْ قاتلوا أعداءَهم [545] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/161)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227). .
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ.
أي: نادَى موسى عليه السَّلامُ بَني إسرائيل؛ أنْ جاهِدُوا- يا قومي- عَدُوَّكم حتَّى تدخُلوا الأرضَ المطهَّرةَ المعظَّمة- بيتَ المقدِس [546] وهذا اختيارُ ابنِ كثيرٍ في ((تفسيره)) (74- 75)، والسعديِّ في ((تفسيره)) (ص: 277)، والشِّنقيطيِّ في ((العذب النمير)) (1/111). وممَّن رُوي عنه هذا القول من السَّلف: ابنُ عبَّاس، والسُّديُّ، وابنُ زيد، والضحَّاك. ينظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (1/532). واختار الواحديُّ أنَّها الشَّام. يُنظر: ((الوجيز)) (ص: 314). واختار ابنُ عاشورٍ أنَّها أرضُ فلسطينَ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/162). وقيلَ غير ذلك. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (2/174). - وتُصبِحَ في مُلْككم؛ فقد قضَى اللهُ وقدَّرَ أنْ تكونَ لكم بعدَ أنْ تستنقِذوها مِن أيدي أعدائِكم [547] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/284، 286، 287)، ((تفسير ابن كثير)) (3/74- 75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/255- 256). واختار الواحديُّ أنَّها سُمِّيت أرضًا مقدَّسةً، أي: مُطهَّرة؛ لأنَّها طُهِّرتْ من الشِّركِ. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (2/172)، ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/259). .
وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ.
أي: ولا تَنكُلوا عن الجِهادِ، وتَرجِعوا القَهْقَرَى؛ فتَخْسَروا دُنياكم بما يَفوتُكم مِن نَصرٍ على الأعداءِ وفَتحٍ لبلادِكم، وتَخْسَروا آخرِتَكم بما يفوتُكم مِن ثوابٍ، وما تَستحقُّونه مِن عقابٍ [548] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/287- 288)، ((تفسير ابن كثير)) (3/75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227- 228)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/259- 260). .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22).
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ.
أي: قالوا- جوابًا لطَلَبِه مُنادِين له باسمِه مُجرَّدًا مِن كلِّ ما يدلُّ على تقديرِه وإجلالِه-: يا موسى، في هذه البَلدةِ التي أمَرْتَنا بدخولها، وقِتالِ أهلِها أُناسٌ عَمالقةٌ، ذَوُو خِلقةٍ ضَخمةٍ، وأجسامٍ طويلةٍ، وقَوَّةٍ شديدةٍ؛ فلن نقدِرَ على مقاوَمَتِهم، ولا طاقةَ لنا بحربِهم؛ وهذا مِن ضَعْفِ قلوبِهم، وخَوَرِ نُفوسِهم، وعدمِ اهتمامهم بأمْرِ ربِّهم ورسولِهم [549] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/289)، ((تفسير ابن كثير)) (3/75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/260- 261، 274). .
وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا.
أي: ونحن نُؤكِّد جازِمينَ لك- يا موسى- بأنَّنا مُمتنِعونَ عن الدُّخولِ إليها مُطلقًا، ما دام يَسكُنها أولئك الجبَّارونَ، ولم يَخرجُوا منها [550] ((تفسير ابن جرير)) (8/292)، ((تفسير ابن كثير)) (3/75)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/163). .
فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ.
أي: فأمَّا إنِ افترَضْنا خروجَهم منها، ففي هذه الحالِ يُمكِنُنا الدخولُ إليها [551] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/292)، ((تفسير ابن كثير)) (3/75)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/261). .
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23).
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا.
أي: لَمَّا نَكَل بنو إسرائيلَ عن طاعةِ اللهِ تعالى ومُتابعةِ رسولِه موسى عليه السَّلامُ، قال لهم رجلانِ ممَّن يَخافونَ اللهَ تعالى، قدْ أنعَمَ عليهما بالتوفيقِ لطاعتِه، والخوفِ منه وحْدَه سُبحانَه، فيقولانِ كلمةَ الحقِّ دون أنْ يخافَا في اللهِ تعالى لومةَ لائمٍ، وأنعمَ عليهما أيضًا بالصَّبرِ واليقينِ، والشَّجاعةِ وحَصافةِ الرَّأي [552] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/293، 297، 299)، ((تفسير ابن كثير)) (3/76- 77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/165)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/263- 264). .
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ.
أي: قالَا لقومِهم- استنهاضًا لهِمَمِهم، وتشجيعًا لهم على قِتال عدوِّهم-: ليس بَينَكم وبينَ نصْرِكم عليهم إلَّا مجرَّدُ دخولِ بابِ الأرضِ المقدَّسة التي يَستوطِنونها؛ فإنَّكم إنْ فعلتُم ذلك كانتِ الغلبةُ لكم عليهم [553] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/300)، ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/165)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/265). قال ابن عاشور: (والبَاب يجوزُ أن يُراد به مدخلُ الأرض المقدَّسة، أي: المسالك التي يُسلَك منها إلى أرض كنعان، وهو الثَّغر والمضيق الذي يُسلَك منه إلى منزل القبيلة يكون بين جَبلَينِ وَعرَينِ؛ إذ ليس في الأرض المأمورين بدخولها مدينةٌ، بل أرض؛ لقوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ، فأرادَا: فإذا اجتزتم الثغر ووطِئْتُم أرضَ الأعداء، غَلبتُموهم في قِتالهم في دِيارهم، وقد يُسمَّى الثغر البحري بابًا أيضًا... وحمَل المفسِّرون البابَ على المشهورِ المتعارَف، وهو باب البلد الذي في سُورِه، فقالوا: أرادَا بابَ قريتهم، أي: لأنَّ فتْحَ مدينة الأرض يُعدُّ ملكًا لجميع تلك الأرض...) ((تفسير ابن عاشور)) (6/165). .
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
مُناسَبتُها لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَ هذانِ الرجلانِ قَومَهما بالأَخْذِ بـالأسبابِ النَّافعةِ، أرْشدَاهُم إلى ألَّا يَعتمِدوا على أنفُسِهم [554] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/165)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/265). ، فقالَا:
وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
أي: فَوِّضُوا جميعَ أمورِكم إلى اللهِ تعالى وحْدَه، ومنها قِتالُ أعدائِكم، واعتمِدوا عليه اعتِمادًا تامًّا صادقًا، إنْ كان لديكُم إيمانٌ باللهِ تعالى وبصِدقِ وعْدِه [555] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/302)، ((تفسير ابن كثير)) (3/77)، ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/265- 267). .
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24).
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا.
أي: قال اليهودُ: إنَّا نرفُض- يا موسى- رفْضًا باتًّا ودائمًا، دخولَ تِلك المدينةِ التي يَسْكُنُها الجبَّارونَ ما دامُوا باقينَ فيها [556] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/302- 303)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/267). .
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ.
أي: ولكنِ امضِ- يا موسى- أنتَ وربُّك لقِتالِهم، أمَّا نحنُ فماكِثونَ في هذا المكانِ، ولنْ نَبرحَه معكَ للمضيِّ إليهم [557] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/303)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/267). .
فلمَّا نَكَلَ بَنو إِسرائيل عنِ القِتالِ غَضِبَ عليهم موسى عليه السَّلامُ، فدعا عليهم، قال اللهُ تعالى عنه [558] ((تفسير ابن كثير)) (3/79). :
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) .
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي.
أي: قال موسى عليه السَّلامُ: يا ربِّ، لا أقدِرُ أنْ أحمِلَ أحدًا على طاعتِكَ إلَّا نفْسي وأخِي هارونَ [559] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/268). فإنْ قيل: لم قال: لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، وكان معه الرجلانِ المذكوران؟ قيل: كأنَّه لم يثقْ بهما كلَّ الوثوقِ؛ لِمَا رأى من إطباقِ الأكثرين على التمرُّد، وقيل غير ذلك. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (11/335)، ((تفسير الشربيني)) (1/367)، ((تفسير القاسمي)) (4/102)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/166- 167). .
فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
أي: فافْصِلْ بَينَنا وبينَ هؤلاءِ القومِ الخارجينَ عن طاعتِك، بحُكمٍ وقَضاءٍ مِنكَ تَقضيه فينا وفيهم، فتُبعِدَهم عنَّا [560] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/305- 306)، ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/268). .
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26).
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ .
أي: فأجاب اللهُ تعالى دُعاءَ موسى عليه السَّلامُ فقال: إنَّ عُقوبتَهم أنْ يُحرَّمَ عليهم دُخولُ الأرضِ المقدَّسةِ التي نَكَصوا عن دُخولِها، مُدَّةَ أربعين سَنةً يَظلُّون فيها ضائعينَ وحائرينَ في الأرضِ، لا يَهتدُونَ إلى طريقٍ، ولا يَبقَوْنَ مُطمئنِّينَ [561] وهذا اختيارُ ابنِ جَرير في ((تفسيره)) (8/314-315)، وابنِ عطيةَ في ((تفسيره)) (2/176)، وابنِ كثيرٍ في ((تفسيره)) (3/79)، والسعديِّ في ((تفسيره)) (ص: 228)، وابنِ عثيمينَ في ((تفسير سورة المائدة)) (1/268- 269). قال السعديُّ: (ولعلَّ الحِكمةَ في هذه المدَّة أن يموتَ أكثرُ هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة، الصادرةَ عن قلوبٍ لا صَبرَ فيها ولا ثبات، بل قد أَلِفَتِ الاستعبادَ لعدُوِّها، ولم تكُن لها هِممٌ تُرقِّيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعُلوُّها، ولتظهرَ ناشئةٌ جديدةٌ تتربَّى عقولُهم على طلب قَهرِ الأعداء، وعدمِ الاستعباد، والذلِّ المانعِ من السَّعادة) ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/269). قال القرطبيُّ: ( أَرْبَعِينَ ظرفُ زمانٍ للتِّيهِ، في قولِ الحسنِ وقتادةَ، قالا: ولم يدخُلْها أحدٌ منهم، فالوقفُ على هذا على عَلَيْهِمْ. وقال الرَّبيعُ بنُ أنسٍ وغيرُه: إن أربعين سَنَةً ظرفٌ للتحريمِ، فالوقفُ على هذا على أربعين سنة، فعلى الأوَّل إنَّما دخَلها أولادُهم، قاله ابنُ عبَّاسٍ. ولم يبقَ منهم إلا يوشعُ وكالب، فخرج منهم يوشعُ بذرِّياتِهم إلى تلك المدينةِ وفتَحوها. وعلى الثَّاني فمَن بقي منهم بعدَ أربعينَ سنةً دخَلوها). ((تفسير القرطبي)) (6/130). وينظر: ((إيضاح الوقف والابتداء)) للأنباري (2/ 616). .
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
لَمَّا عَلِم اللهُ تعالى أنَّ موسى عليه السَّلامُ في غايةِ الرَّحمةِ على الخَلْقِ- خُصوصًا قومَه- وأنَّه يَحزَنُ عليهم؛ قال تَعالى [562] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/168). :
فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ .
أي: فلا تَحزنْ عليهم- يا موسى- ممَّا عاقَبَهم اللهُ تعالى به؛ فهُم يَستحقُّونَ هذه العقوبةَ؛ لخُروجِهم عن طاعةِ ربِّهم سُبحانَه [563] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/316)، ((تفسير ابن كثير)) (3/81)، ((تفسير السعدي)) (ص: 228)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/269). .

الفوائد التربوية:

1- أنَّ مَن رزَقَه اللهُ عِلمًا فقدْ أنْعمَ عليه نِعمةً عظيمةً، تحتاجُ إلى التذكُّرِ؛ لأنَّ نبيَّهم موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَكَّرَهم بهذه النِّعمة، مِن خلالِ تَذكيرِهم بنِعمةِ الأنبياءِ فيهم، فقال: يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ [564] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/257). .
2- يُستفادُ مِن قولِه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أنَّه ينبغي للداعيةِ أن يُذكِّرَ مَن يُوجِّهُ إليهم الخطابَ بنِعَمِ الله عليه؛ لأنَّ تذكيرَهم بالنِّعَم يُوجِبُ لهم مَحبَّةَ اللهِ [565] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/256). .
3- أنَّه كلَّما أَنعمَ اللهُ على عبدِه بنِعمةٍ وجَبَ عليه مِن السَّمعِ والطَّاعةِ ما لم يجبْ على غيرِه؛ لأمْرِه بدخولِ الأرضِ المقدَّسةِ، بعدَ ذِكرِ النِّعمِ مباشرةً؛ حيث قال: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [566] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/256). .
4- تقديمُ مقامِ العُلماءِ على الأمراءِ؛ لقوله: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ ثم قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا، فبَدأَ بالعلماءِ؛ لأنَّهم ورثةُ الأنبياءِ، وذَكَر بَعدَهم الأُمَراء؛ لأنَّهم إمَّا يكونونَ مِن الملوكِ، أو مِن وَرثتِهم أو نُوَّابِهم أو ما أشبهَ ذلِك [567] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/257). .
5- أنَّه ينبغي أن يُذَكَّر الإنسانُ بما خصَّه الله تعالى به مِن النِّعم؛ وذلك لقولِه: وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [568] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/257). .
6- يُستفادُ مِن قولِه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أنَّ الإيمانَ شرْطٌ في إخلاصِ التَّوكُّلِ على اللهِ عزَّ وجلَّ؛ إذ لا يَتوكَّلُ على اللهِ تمامَ التوكُّلِ إلَّا مَن كان عندَه إيمانٌ بما وعَدَ اللهُ به في قولِه: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [569] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/267). [الطلاق: 3] .
7- أنَّه يَنبغي للدَّاعيةِ أنْ يَذكُرَ ما يُهيِّجُ النُّفوسَ ويُغريها بالقَبولِ؛ لأنَّه ذكَرَ في الآية أنَّ الأرضَ مُقدَّسةٌ؛ هذا الأوَّل، والثاني: أنَّ اللهَ كتَبَها لهم. والثالث: قولُه: ادْخُلُوا الأَرْضَ وكأنَّ هذه بشارةٌ بأنَّهم سيَنتصِرونَ، وسوفَ يَدخُلون الأرضَ؛ فالبِشارةُ مِن وجوهٍ ثلاثة [570] ينظر:((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/269). .
8- أنَّه يَنبغي للدَّاعيةِ إلى الله أنْ يَذكُرَ عواقبَ السيِّئاتِ؛ مِن أجْلِ تَنفيرِ النُّفوسِ منها، وإنْ كانتِ الدَّعوةُ إلى اللهِ تعالى تَحصُل ببيانِ الحلالِ والحرامِ، لكن إذا ذَكَرَ التَّرغِيبَ والترهيبَ كان في ذلك حَفزٌ للنُّفوسِ على الامتثالِ؛ وجهُ ذلك أنَّ موسى قال لقومِه: فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [571] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/272). .
9- أنَّ التوكُّلَ على اللهِ عزَّ وجلَّ مِن أسبابِ النَّصرِ؛ لقولِ هذين الرَّجُلينِ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [572] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/276). .
10- أنَّه ينبغي ألَّا يَعتمِدَ الإنسانُ على نفْسِه وعلى السَّببِ الحسِّي فقط؛ لقولِهما بعدَ أنْ وجَّهَا قومَهما إلى أنْ يَدخُلوا عليهم البابَ: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [573] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/276). .
11- أنَّ إفرادَ اللهِ بالتوكُّلِ مِنَ الإيمانِ؛ لقوله: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وأنَّ نقْصَ التوكُّلِ على الله نقصٌ في الإيمانِ؛ لأنَّ ما رُتِّبَ على شيءٍ ازدادَ بزيادتِه ونَقَصَ بنَقْصِه [574] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/280). .
12- جوازُ دُعاءِ الإنسانِ ربَّه عزَّ وجلَّ أن يَفصِلَ بينَه وبينَ أهلِ الفُسوقِ والفُجورِ؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ، ويمكن أن يَتفرَّعَ على هذِه الفائدةِ جوازُ هِجرانِ الفَسَقةِ؛ لأنَّ الهجرَ مفارقةٌ [575] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/281). .
13- أنَّ التخلِّيَ عن الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ مِن الفِسقِ؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [576] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/282). .
14- إرشادُ الإنسانِ ألَّا يَحزنَ على الفاسقِ؛ لأنَّه إذا بذَلَ جُهدَه فيما يجبُ مِنَ الدَّعوةِ، فإنَّ هِدايةَ الخَلْقِ ليستْ إليه، بل إلى اللهِ، فلا يحزنْ؛ ولهذا قال الله: فَلَا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة: 26] [577] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/284). .

الفوائد العامة واللطائف:

1- نِداءُ موسَى عليه السَّلامُ قومَه، في قولِه: يَا قَوْمِ يتضمَّن استعطافًا لهم؛ لأنَّه فرْقٌ بين أنْ يكونَ المخاطَبُ من قومِك أو مِن غيرِ قومِك [578] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/258). .
2- الإشارةُ إلى أنَّ وجودَ الأنبياءِ بين الناسِ مِن أكبرِ النِّعمِ، فقال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ، ولا شكَّ أنَّ حاجةَ الناسِ إلى الأنبياءِ أعظمُ من حاجتِهم إلى الملوكِ، وإنْ كانوا يَحتاجونَ إليهم [579] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/256). .
3- في قوله كَتَبَ اللهُ لَكُمْ فائدةٌ عظيمةٌ؛ وهي أنَّ القومَ وإنْ كانوا جبَّارين، إلَّا أنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وعَدَ هؤلاءِ الضَّعفاءَ بأنَّ تِلك الأرضَ لهم، فإنْ كانوا مؤمنينَ مقرِّينَ بصِدقِ موسى عليه السَّلامُ عَلِموا قطعًا أنَّ اللهَ سيَنصرُهم ويُسلِّطهم عليهم؛ فحينئذٍ يُقدِمون على قِتالِهم مِن غَيرِ جُبنٍ ولا خوفٍ ولا هلَعٍ [580] ينظر: ((تفسير الرازي)) (11/332، 333). .
4- أنَّ الكتابةَ نوعانِ: شرعيَّةٌ، وقَدَريَّة؛ فالكتابةُ في قوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ بمعنى الكتابة القَدَريَّة، وتأتي غالبًا مقرونةً باللَّام، أما الكتابةُ الشَّرعيَّة فتأتي غالبًا لا دائمًا مقرونة بـ(على)؛ بدليل قوله: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ [الحشر:3] فالكتابةُ هنا: قَدَريَّة [581] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/269). .
5- أنَّ بَني إسرائيلَ كانوا أحقَّ بأرضِ الشَّامِ من غيرِهم،؛ لقوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فهم أحقُّ الناسِ بها، وهي مكتوبةٌ لهم حِينَ كانوا مؤمنينَ؛ لا لأنَّهم مِن بني إسرائيلَ، ولا شكَّ أنَّهم في عَهدِ موسى هم أفضلُ أهلِ الأرض، وموسى عليه السَّلامُ يُخاطِبُ قومًا صدَّقُوا وآمَنوا به، وقدْ قال اللهُ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] ، إذن فقولُ بني إسرائيلَ: إنَّ هذه أرضُ الميعادِ، نقول: إنْ شاءَ اللهُ هي أرضُ ميعادِ هلاكِكم، أمَّا أنَّها أرضٌ لكم مكتوبةٌ شرعًا فلا، وأمَّا قَدَرًا فيُمكِن، لكنْ شرعًا ليس لهم فيها حقٌّ إطلاقًا؛ قال: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [الأعراف: 128] ، فكما أنَّ اللهَ أَوْرَثَ بني إسرائيل بلادَ فِرعونَ وأرضَه؛ لأنَّهم كانوا مُسلِمينَ، فكذلك المسلمونَ المؤمنونَ بمُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَرِثونَ بَنِي إسرائيلَ [582] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/270). .
6- بَيانُ جفاءِ بني إسرائيلَ؛ وذلك أنَّ موسى عليه السَّلامُ كان يُخاطبهم بقولِه: يَا قَوْمِ بهذا اللَّفظِ، وهم يقولون: يَا مُوسَى، ولم يقولوا: يا نَبيَّ اللهِ، أو يا رسولَ الله، وهذا مِن جفائِهم وغِلَظ طَبائعِهم [583] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/272). .
7- سوءُ ظنِّ بَني إسرائيلَ باللهِ؛ وذلك لأنَّ نبيَّهم عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وعَدَهم أنَّ اللهَ كتَبَ لهم الأرضَ المقدَّسةَ في قولِه: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، ولكنَّهم اعتَمَدوا على الأمْرِ الماديِّ، فقالوا: إنَّ فيها قومًا جبَّارينَ [584] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/274). .
8- بعد أنْ قال قومُ موسى: وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا جاءَ تأكيدُ هذا المعنى بقولهم: فَإِنْ يَخْرُجُوا ولم يقولوا: (فإذا خرَجوا)، كأنَّهم يستبعدون خُروجَهم؛ لأنَّ (إنْ) الشَّرطيَّة: تتميَّز عن (إذا) بأنَّ (إنْ) يكونُ فِعلُ الشَّرطِ فيها حاصلًا وغيرَ حاصلٍ؛ فإنَّها للمَشكوكِ فيه، بلْ قد يكونُ مِنَ الأشياءِ المستحيلةِ، لكن (إذا) تكونُ للشَّرْطِ المَقطوعِ بوقُوعِه حَقيقةً أو حُكمًا [585] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/261)، وينظر أيضًا: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/77). .
9- بيان جُبنِ بَني إسرائيلَ؛ لقولِهم: لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا، وهذا غايةُ ما يكون مِن الجُبن؛ لأنَّ الجبانَ هو الذي يقولُ: لا أدخُلُ البلدةَ أو القريةَ أو المدينةَ إلَّا إذا خرَجَ منها أهلُها، ثم أكَّدوا هذا الجُبنَ مرَّةً ثانيةً بقولِهم: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [586] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين-سورة المائدة)) (1/274)، وينظر أيضًا: ((تفسير ابن عادل)) (7/272). .
10- أنَّ مَن غُزِيَ في عُقرِ دارِه فهو ذليلٌ، وهذا مَثَلٌ مشهورٌ: ما غُزِيَ قومٌ في عُقرِ دارِهم إلَّا ذَلُّوا؛ لقوله: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، وأهل البلدِ مغلوبونَ [587] ينظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/275). .
11- لَمَّا كان يَعلمُ الرَّجُلانِ المذكورانِ في قولِه تعالى: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أنَّه لا بدَّ مِن دخولِهم عليهم، وإنْ تَقاعَسوا وإنْ طال المدَى؛ لأنَّ اللهَ وعَدَ بنَصرِهم عليهم ووعْده حقٌّ، عبَّرَا بأداةِ التحقيقِ (إذا) فقالا: فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ، ثم أكَّدا خَبرَهما إيقانًا بوعدِ الله فقالَا: فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ، أي: لأنَّ المَلِكَ معكم دُونَهم [588] ينظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/76). .
12- قولُه تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ناسَب أوَّلُ الآيةِ آخِرَها؛ فبعدَ أنْ أمَرَ القومَ باتِّخاذِ الأسبابِ والوسائلِ أَمرَهم بالتَّوكُّل على اللهِ، والاعتمادِ على وعْدِه ونَصْرِه وخَبرِ رسولِه؛ ولذلك ذيَّلَا بقولهما: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؛ لأنَّ الشَّكَّ في صِدقِ الرَّسولِ مبطِلٌ للإيمانِ [589] ينظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/165) ((تفسير أبي حيان)) (4/220). .
13- إصرارُ بني إسرائيلَ على المعصيةِ، وعلى الجُبن والخَوَرِ؛ لقولهم: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا، وهذا ظاهرٌ في أنَّهم مُصرُّونَ على معصيةِ نبيِّهم الذي قال لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [590] ينظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/276)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/280). .
14- الغَطرسةُ العظيمةُ في بني إسرائيلَ؛ حيث قالوا لموسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، حتَّى قولهم: «اذْهَبْ»- بهذه الصِّيغة كأنَّهم آمِرونَ لموسى- أيضًا فيه استعلاءٌ واستكبارٌ، فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يعني: ما رَجَوْه رجاءً وقالوا: ألَا تذهبُ يا رسولَ اللهِ، أو يا نبيَّ اللهِ، أو ما أشبهَ ذلك، وجه ثالثٌ مِن الغطرسة في قولهم: إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، أي: لا نَتحرَّكُ ولا نذهبُ معَكم، لم يقولوا مثلًا: إنَّنا رِدْءٌ لك نَحمِيكَ مِن ظَهرِك، وما أشبهَ ذلك! ففيها أيضًا مُنتهَى الغطرسةِ مِن بني إسرائيلَ [591] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/280). .
15- في قولِه تَعالَى: إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ مواجهةٌ لنبيِّهم في هذا المقامِ الحرجِ الضيِّق، الذي قد دعَتِ الحاجةُ والضرورةُ فيه إلى نُصرةِ نبيِّهم، وإعزازِ أنفسِهم، وبهذا وأمثالِه يظهرُ التفاوتُ بين سائرِ الأُممِ وأُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حيث قال الصحابةُ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- حين شاورَهم في القِتالِ يومَ «بدر» مع أنَّه لم يُحَتِّمْ عليهم-: يا رسولَ اللهِ، لو خُضتَ بِنا هذا البحرَ لخُضناهُ معَك، ولو بلغتَ بِنا بَرْكَ الغُمادِ [592] بَرْك الغُماد- تُفتح الباءُ وتُكسَر، وتُضمُّ الغينِ وتُكسَر-: هو اسمُ موضِعٍ أو بَلَدٍ باليَمنِ، وقيل: هو موضعٌ وراءَ مكَّةَ بخَمسِ ليالٍ ممَّا يلِي البَحر. والبَرْك: حِجارةٌ مِثلُ حِجارةِ الحرَّة، خَشِنة يَصعُب المسلكُ عليها، وعرةٌ. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/121)، ((معجم البلدان)) لياقوت (1/399- 400). ما تخلَّفَ عنك أحدٌ، ولا نقولُ كما قال قومُ موسى لموسى: اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكِنْ اذهبْ أنتَ وربُّك فقاتِلَا إنَّا مَعكُما مقاتلونَ، مِن بَينِ يَديكَ ومِن خَلْفِكَ، وعن يَمينِكَ وعن يَسارِكَ [593] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 228). وينظر ما أخرجه مسلمٌ (1779) من حديثِ أنسٍ رضي الله عنه، وما أخرجه البخاريُّ (3952) من حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه. .
16- أنَّ التحريمَ يُطلَقُ على المنعِ القَدَريِّ؛ لقوله: قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً؛ فاللهُ تعالى لم يُرِدْ أنَّه حرَّمَ عليهم دخولَها شَرْعًا، لكنْ قَدَرًا، والتحريمُ يكون كونيًّا، ويكون شرعيًّا، فمِن التحريمِ القدَريِّ الكونيِّ: قولُه تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص: 12] ، ومِن التحريمِ الشرعيِّ: قولُه تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [594] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/283). [المائدة: 3] .

بلاغة الآيات:

1- قوله: وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ (إِذْ) ظَرْفٌ في مَحلِّ نصْبٍ على أنَّه مَفعولٌ لفِعلٍ مُقدَّرٍ، أي: واذْكُرْ وقْتَ قولِ موسَى لقومِه ناصحًا لهم ومُستميلًا لهم بإضافتِهم إليه يَا قَوْمِ ...؛ فتوجَّه الأَمْرُ بالذِّكر إلى الوقتِ دونَ ما وقَعَ فيه مِن الحوادثِ، مع أنَّها المقصودةُ بالذَّات؛ للمبالغةِ في إيجابِ ذِكرِها؛ لأنَّ إيجابَ ذِكرِ الوقتِ إيجابٌ لذِكرِ ما وقَعَ فيه بالطريقِ البُرهانيِّ [595] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/22). .
2- وفي قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا فيه- على أحدِ وُجوهِ التفسيرِ المذكورةِ-: تَشبيهٌ بليغٌ، حيث جعَلَهم كالملوكِ في تصرُّفِهم في أنفُسِهم، وسلامتِهم من العبوديَّةِ التي كانتْ عليهم للقِبط، أو استُعمل فِعل جَعَلَكُمْ في معنى الاستقبال، مِثل قوله: أَتَى أَمْرُ اللهِ [النحل: 1] ؛ قصدًا لتحقيقِ الخبر، فيكونُ الخبرُ بشارةً لهم بما سيكونُ لهم [596] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/161). .
3- قوله: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ: كرَّر النِّداءَ الذي ابتدأَ به مَقالتَه، وهو النِّداءُ بـيَا قَوْمِ؛ اهتمامًا بشأنِ الأمرِ، ومبالغةً في حثِّهم على الامتثالِ به [597] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/23)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/162). .
4- قوله: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا: فيه تأكيدٌ؛ حيثُ أكَّدوا الامتناعَ الثاني من الدُّخولِ بعدَ المحاورةِ أشدَّ توكيدٍ؛ دلَّ على شِدَّتِه في العربية بثَلاثةِ مؤكِّداتٍ: (إنَّ)، و (لن)، وكلمة (أبدًا)، حيثُ أكَّدوا نَفيَهم للإقدامِ عليهم بقولِهم: إِنَّا، وَعظَّموا تأكيدَهم بقولهم: لَنْ نَدْخُلَهَا، وزادوه تأكيدًا بقولِهم: أَبَدًا [598] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/77)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/166). .
5- قوله: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ: فيه تصريحٌ بمَفهومِ الغايةِ التي في قولِه: وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا؛ لقصدِ تَأكيدِ الوَعدِ بدُخولِها إذا خلَتْ مِنَ الجبَّارينَ الذين فيها [599] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/163). ؛ فأكَّدوا على دُخولهم إذا خرَج منها هؤلاءِ القومُ الجبَّارونَ بقولِهم: فَإِنَّا دَاخِلُونَ-فهو مُؤكَّد بـ(إنَّ) واسميَّةِ الجُملة- وهذا لا يَحتاجُ إلى توكيدٍ، لكن يَدلُّ على شِدَّةِ بلاهتِهم؛ لأنَّ المعروف أنَّه متى خلَتِ البلادُ مِن الأعداء فخرَجُوا منها، فالدُّخولُ في هذه الحالة لا يَحتاجُ إلى تأكيدٍ [600] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/274). .
6- قوله: قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا: فيه تعريضٌ؛ حيثُ يجوزُ أن يكونَ المرادُ بالخوفِ: الخوفَ مِن الله تعالى، أي: كان قولهما لقومِهما: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ناشئًا عن خوفِهما مِن الله تعالى، فيكون تعريضًا بأنَّ الذين عَصَوهما لا يخافونَ اللهَ تعالى [601] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/165)، ((تفسير أبي السعود)) (3/24). .
7- قوله: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ: فيه تقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيْهِم على المفعولِ به البَابَ؛ للاهتمامِ بالمقدَّم [602] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/24). .