موسوعة التفسير

سُورةُ المائِدَةِ
الآيات (17 - 19)

ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ

غريب الكلمات:

عَلَى فَتْرَةٍ: على حِين فُتورٍ من الإرسالِ، وانقطاعِ الوَحْيِ، وأصل الفُتور: السكون بعد الحِدَّة، واللِّينُ بعدَ الشِّدَّة، والضَّعْف بعد القُوَّة [469] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 360)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/470)، ((المفردات)) للراغب (ص: 622)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 149)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 699). .
بَشِيرٍ: مُبشِّرٌ مَن أطاعَه، وأصلُ البُشرى: ظهورُ الشيءِ مع حُسنٍ وجمالٍ [470] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/251)، ((المفردات)) للراغب (ص: 126)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 69)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 239). .
نَذِيرٍ: مُنذِرٌ مَن عصاه، وأصْلُ النِّذارةِ: التخويفُ [471] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/414)، ((المفردات)) للراغب (ص: 798)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 232). .

المعنى الإجمالي:

يُخبر تعالى مُقْسِمًا أنَّ النَّصارى- القائلين بأنَّ الله هو عيسى ابنُ مريمَ- قد كَفروا، وأمَرَ نبيَّه محمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقولَ لهؤلاء النَّصارى على سبيلِ الإِنْكارِ والتَّوبيخ: من ذا الذي يملِكُ مِنْ أَمْرِ الله وإرادته شيئًا يَدْفَعُ به الهلاكَ عن المسيح ِوعن أمِّه وعن سائرِ أهلِ الأرضِ، إن أرادَ الله أن يُهْلِكَهم ويُبِيدَهم، لا أحدَ يَستطيع أنْ يدفع عن نفسِه الهلاكَ، فالجميعُ تحتَ قدرةِ اللهِ وإرادتِه وقهرِه، والمسيحُ وأمُّه في ذلك كسائرِ المخلوقاتِ، فدلَّ ذلك على بُطلانِ أُلُوهيَّة مَن سِوَى اللهِ تعالى، وللهِ وَحْدَه مُلكُ السَّمواتِ والأَرْضِ وما بينهما؛ يَخلُقُ ما يشاء، وهو على كلِّ شيءٍ قادرٌ، لا يُعْجِزُه شيءٌ.
ثم يُخبر تعالى أنَّ كلًّا مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى ادَّعَوْا أنَّهم في القُرْبِ من اللهِ بمنزلَةِ أبنائِه، وأحِبَّائِه، وأمَر نبيَّه مُحمَّدًا صلَّى الله عليه وسلَّمَ أن يقولَ لهم: إنْ كنتم حقًّا كما تَدَّعُونَ مِن كَوْنِكم أبناءَ اللهِ وأحباءَه، فلِمَ يُعذِّبُكم بذُنُوبِكم التي تَقْتَرِفونها؟! فالأمْرُ ليس كما تَدَّعُونَ، بل أنتم بشرٌ ممَّن خَلَقَ الله، يَغفِرُ لِمَن يشاءُ، ويُعذِّبُ مَن يشاءُ سبحانه، فله مُلْكُ السَّمواتِ والأرض وما بينهما، وإليه سبحانه المرجِعُ والمصيرُ في الآخِرَةِ.
ثم وجَّه الله الخطابَ إلى أَهْلِ الكتابِ مِنَ اليَهودِ والنَّصارى، أنَّه قد جاءَهم رَسولُه محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ يُوضِّحُ لهم الطريقَ القويمَ، والدِّين الحقَّ، في وقتٍ اشتدَّت الحاجةُ إليه بعد انقطاعٍ من الرُّسُلِ؛ أَرْسَلَه اللهُ تعالى حتى لا يكونَ لهم حُجَّةٌ فيقولوا: ما جاءَنا من بشيرٍ ولا نَذيرٍ، فقد جاءهم بشيرٌ ونذيرٌ هو محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم، واللهُ على كلِّ شيء قادرٌ، لا يُعْجِزُه شيءٌ، ومن ذلك قُدرتُه على خَلْقِ عيسى عليه السَّلامُ من أمٍّ بلا أبٍ، وقدرتُه على إهلاكِه وأُمَّه وجميعَ مَن في الأرضِ.

تفسير الآيات:

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبلَها:
لَمَّا ذكَر تعالى أخْذَ الميثاقِ على أهلِ الكِتابينِ، وأنَّهم لم يَقوموا به، بل نَقَضُوه، ذكَر أقوالَهم الشَّنيعةَ، فذكَر قول النَّصارى وردَّ عليهم [472] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 266). ، فقال:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
أي: أُقْسِمُ على أنَّ الذين ادَّعَوا أنَّ عيسى ابنَ مريمَ هو الله، قد كَفروا [473] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/266)، ((تفسير ابن كثير)) (3/68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 226)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/221-223). .
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
أي: قُلْ- يا مُحمَّدُ- لهؤلاءِ النَّصارى الجَهَلَةِ الذين افتَرَوْا عليَّ، وضلُّوا عن سواءِ السَّبيلِ بقَوْلِهم: إنَّ اللهَ هو المسيحُ ابنُ مريمَ، قل لهم: فمَن الذي يُطيقُ إذَنْ أن يَدْفَعَ مِن أَمْرِ اللهِ جلَّ وعزَّ شيئًا، فيردَّه إذا قَضَاه؟! فلو أراد أن يُهلِكَ المسيحَ ابنَ مريمَ بإعدامِه من الأَرْضِ وإعدامِ أمِّهِ مريمَ، وإعدامِ جميعِ مَن في الأَرْضِ من الخَلْقِ جميعًا؛ فمَن الذي يَقدِرُ على مَنْعِه وصَرفِه عن ذلك؟! وإذا كان المذكورونَ لا امتناعَ عندهم يمنَعُهم لو أرادَ اللهُ أن يُهْلِكَهم، ولا قُدْرَةَ لهم على ذلك- دلَّ على بُطلان إلهيَّةِ مَن لا يمتَنِعُ من الإهلاكِ، ولا في قوَّتِه شيءٌ من الفَكاكِ [474] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/266-267)، ((تفسير ابن كثير)) (3/68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 226-227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/223-225). .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ.
أي: وللهِ عزَّ وجلَّ وَحْدَه أمرُ تدبيرِ جميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأَرْضِ وما بينهما وتصريفِها؛ فهُم خَلقُه، مملوكونَ له مُدَبَّرون بأمْرِه، فيُهْلِك منهم ما يشاءُ، ويُبْقِي منهم ما يَشاء، ويُوجِدُ ما أراد حتى لو كان من أمٍّ بلا أبٍ، ويُعْدِمُ ما أراد، لا يمنَعُه من ذلك مانِعٌ، ولا يَدفَعُه عنه دافعٌ؛ يُنْفِذُ فيهم حُكْمَه، ويُمْضِي فيهم قضاءَه، ولن يقدِرَ على ذلك أحدٌ غيرُ الله الواحِدِ القهَّار؛ فكيف زَعَمْتُم- أيُّها النَّصارى- أنَّ المسيحَ إلهٌ، وهو لا يُطيقُ شيئًا من ذلك؟! وكيف يكونُ المملوكُ العبدُ إلهًا معبودًا؟! فهذا من أعظمِ المُحالِ [475] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/267-268)، ((تفسير ابن كثير)) (3/68)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/225-227). .
وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: إنَّ المعبودَ الحقَّ جلَّ جلالُه هو القادرُ على كلِّ شيء؛ فلا يُعْجِزُه شيءٌ أرادَه، ولا يَغْلِبه شيءٌ طلبَه، ومن ذلك قُدْرَتُه على خَلْقِ عيسى عليه السَّلامُ من أمٍّ بلا أبٍ، وهو القادِرُ أيضًا على إهلاكِ المسيحِ وأمِّه ومن في الأرض جميعًا سبحانه وتعالى [476] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/269)، ((تفسير ابن كثير)) (3/68)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/227). .
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18).
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ.
أي: قال كلٌّ من اليهودِ والنَّصارى: نحن أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، في مَودَّته وإكرامِه وإعزازِه لنا، وحُنوِّه وعَطْفِه علينا [477] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/269-270)، ((تفسير ابن كثير)) (3/68-69)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/237). وينظر أيضًا: ((التفسير الوجيز)) للواحدي (ص: 314)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/156). .
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ.
أي: قلْ لهم- يا محمَّدُ- إنْ كان الأمرُ كما تَدَّعونَ مِن أنَّكم أبناءُ اللهِ تعالى وأحبَّاؤُه، فأخْبروني- إذنْ- لِمَ أَعَدَّ اللهُ لكم نارَ جهنَّم على كُفْرِكم وافترائِكم وذُنُوبِكم؛ فإنَّ الحبيبَ لا يُعذِّب حَبيبَه، وأنتم مُقرُّون أنَّه مُعذِّبُكم؟!
كما قال تعالى عنهم: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً [478] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/270-271)، ((تفسير ابن كثير)) (3/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/237-238). [البقرة: 80] .
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ.
أي: ليس الأمرُ كما زعمتُم أنَّكم أبناءُ اللهِ وأحباؤُه، بل أنتم خَلقٌ خَلَقَكم اللهُ مثلَما خَلَقَ سائرَ بني آدمَ [479] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/271)، ((تفسير ابن كثير)) (3/69)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/238). .
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ.
أي: يُعامِلُكم كما يعامِلُ سائرَ البَشَرِ، فتجري عليكم بحِكْمَتِه أحكامُه الدَّائرةُ بينَ عَدْلِه وفَضْلِه، ولا تغترُّوا بتلك الأمانيِّ، وبمنازلِ أنبيائِكم وصالحي آبائِكم عندَ الباري؛ فإنَّهم إنما نالوا القُرْبَ منه بطاعتِه، واجتنابِ مَعْصِيَتِه، فجِدُّوا أنتم أيضًا في ذلك [480] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/271-272)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/239). .
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
أي: وللهِ عزَّ وجلَّ وحدَه أمْرُ تدبيرِ جميعِ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وتَصريفِه، فهم خلقُه ومُلكُه، وإليه وحده سبحانه المرجعُ والمنقلَبُ في الآخرة، فأيُّ شيءٍ خصَّكم بهذه الفضيلةِ التي تَزْعُمونها، وأنتم مِن جُملةِ المماليك، ومِن جُملةِ مَن يرجِعُ إلى اللهِ في الدَّارِ الآخِرَةِ، فيُجازيكم بأعمالِكم، واعلموا- يا مَن تدَّعونَ أنَّكم أبناءُ الله وأحبَّاؤه- أنَّه إنْ عذَّبكم بذُنُوبِكم، لم يكُن لكم منه مانِعٌ، ولا لكم عنه دافِعٌ؛ لأنه لا نسَبَ بينه وبين أحدٍ فيُحابِيَه، فاتَّقوا غَضَبَه وعِقابَه، ولا تغترُّوا بالأمانيِّ وفَضائِلِ الآباءِ [481] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/272-273)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/239). .
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19).
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا.
أي: يا أيُّها اليهودُ والنَّصارى- الذين أنعمَ اللهُ عليكم بالتوراةِ والإنجيلِ، وتَعلمونَ منهما بَعثةَ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّمَ- ها قدْ أتاكم محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ [482] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/70)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عاشور)) (6/157)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/244). .
يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ.
أي: جاءَ يُوضِّحُ لكم الحقَّ، ويُبيِّنُ كلَّ ما تحتاجون إليه من المطالِبِ الإلهيَّةِ، والأحكامِ الشَّرعيَّة، وذلك بعدَ شِدَّةِ حاجةٍ إليه، ومُضِيِّ زمنٍ طويلٍ بين إرسالِ عيسى عليه السَّلام وبَعثةِ محمَّدٍ خيرِ الأنامِ [483] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/274)، ((تفسير ابن كثير)) (3/70)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/244-245). قال الألوسي: (الفترةُ فعلةٌ مِن: فتَر عن عملِه، يفترُ فتورًا. إذا سكَن، والأصلُ فيها الانقطاعُ عمَّا كان عليه مِن الجدِّ في العملِ، وهي عندَ جميعِ المفسِّرين انقطاعُ ما بينَ الرَّسولين) ((تفسير الألوسي)) (3/274). .
عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال: ((أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بابنِ مريمَ؛ الأنبياءُ أولادُ عَلَّاتٍ [484] أولاد عَلَّات: العَلَّات- بفتح العين، وتشديدِ اللَّام-: الضَّرائر، وأصله أنَّ مَن تزوَّج امرأةً ثم تزوَّج أخرى كأنَّه عَلَّ منها، والعَلَل الشُّرْب بعدَ الشُّرب، وأولاد العَلَّات الإخوةُ من الأبِ وأُمَّهاتهم شتَّى. ينظر: ((فتح الباري))لابن حجر (6/489)، ((شرح النووي على مسلم)) (15/119). ، وليس بَيني وبينَه نبيٌّ )) [485] رواه البخاري (3442)، ومسلم (2365) واللفظ له. .
وعن عِياضِ بنِ حِمار المُجاشعيِّ، أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال ذاتَ يومٍ في خُطْبَتِه: ((ألَا إنَّ ربِّي أمَرَني أنْ أُعلِّمَكم ما جَهِلتُم ممَّا عَلَّمني يَومِي هذا: كلُّ مالٍ نَحَلْتُه عبدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلقْتُ عِبادي حُنفاءَ كلَّهم، وإنَّهم أَتتْهم الشياطينُ فاجْتالَتْهم [486] فاجْتَالتْهم: أي: استخفَّتْهم فجالوا معهم في الضَّلال؛ يُقال: جالَ واجتالَ: إذا ذهَب وجاءَ، ومنه الجولانُ في الحَربِ، واجتالَ الشَّيءَ إذا ذَهَب به وساقَه، والجائلُ: الزائلُ عن مَكانِه. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/317). عن دِينِهم، وحَرَّمَتْ عليهم ما أَحللْتُ لهم، وأَمَرَتْهم أن يُشرِكوا بي ما لم أُنَزِّلْ به سُلْطانًا، وإنَّ اللهَ نظَرَ إلى أهلِ الأرضِ، فمَقَتَهم عرَبَهم وعَجَمَهم، إلَّا بَقايَا من أهلِ الكتابِ، وقال: إنَّما بَعثتُك لأَبتلِيَكَ وَأبتليَ بك، وأنزلتُ عليكَ كتابًا لا يَغسِلُه الماءُ، تَقرؤُه نائمًا ويَقْظانَ، وإنَّ اللهَ أمَرَني أنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلتُ: رَبِّ إذًا يَثْلَغُوا رَأْسَي [487] يَثْلَغوا رأسي: أي: يَشدَخُوه ويشجُّوه، والثَّلغ: الشَّدخ، وقيل: هو ضَربُك الشيءَ الرَّطبَ بالشيءِ اليابسِ حتى يَنشدِخَ. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/220)، ((شرح النووي على مسلم)) (17/198). فيَدَعُوه خُبْزَةً، قال: اسْتَخْرِجْهم كما اسْتَخرَجوكَ، واغْزُهم نُغْزِكَ [488] نُغْزِكَ: نُعِنْكَ؛ مِن أغزَيتَه: إذا جَهَّزْتَه للغَزْوِ، وهيَّأْتَ له أسبابَه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (17/198) ((مرقاة المفاتيح)) للمُلا الهروي (8/3369). ، وأَنفِقْ فسنُنفِقُ عليك، وابعثْ جَيشًا نَبعثْ خَمسةً مِثلَه، وقاتِلْ بمَن أطاعَكَ مَن عَصاكَ... )) الحديث [489] رواه مسلم (2865). .
أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ.
أي: أَرْسلناه إليكم؛ قَطْعًا لعُذركم؛ كي لا تَحتجُّوا قائلين بأنَّه لم يأتِنا رسولٌ منذ عهدٍ طويلٍ، يُبشِّر بالخيرِ مَن آمَن به وأطاعَه، ويُنذرُ بالشرِّ مَن كذَّبَ به وعَصاه [490] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/275-276)، ((تفسير ابن كثير)) (3/72)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/245-247، 251). .
فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ.
أي: فها قد جاءَكم هذا البَشيرُ والنَّذيرُ؛ محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، فالآن لا حُجَّةَ لكم، ولا عُذرَ بَقِيَ لديكم [491] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/276)، ((تفسير ابن كثير)) (3/72)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/247). .
وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
أي: لا يُعجِزُ اللهَ تعالى شيءٌ أرادَه، ولا يفوتُه شيءٌ طَلَبَه، ومن ذلك قُدْرَتُه على بَعْثِ الرُّسل وإنزال الكتُبِ، وإثابةِ المؤمنينَ المُطيعينَ، ومعاقبَةِ المكذِّبين العاصينَ [492] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (8/276)، ((تفسير السعدي)) (ص: 227)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/247). .

الفوائد التربوية:

1- أنَّه ينبغي أن يُنادَى المخاطَب بالوَصْفِ الذي يَقتضي أن يقومَ بما وُجِّه إليه؛ لقوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ وهذا موجودٌ في اللُّغة العربيَّة، فإذا كنتَ تُخاطِب مؤمنًا تقول: يا أيُّها المؤمِنُ، وإذا كنت تُخاطِب رجلًا تقول: يا أيها الرَّجُلُ، ومن فوائد ذلك: أولًا: توبيخُ هذا الرَّجُلُ إذا خالف؛ لأنَّه لا يَنبغي أن يُخالِفَ وهو متَّصِفٌ بهذه الصِّفة. ثانيًا: حثُّه على الموافقَةِ باعتباره هذا الوصفَ الذي اتَّصف به [493] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/247). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قوله: إِنَّ اللهَ هُوَ فيه فائدة لُغويَّة؛ إذ إنَّ (هو) ضميرُ فَصْل، وضميرُ الفَصل يُفيد ثلاثةَ أشياءَ: الأوَّل: الحَصْر، والثاني: التوكيد، والثالث: التمييزُ بين الصِّفة والخَبَر، وهذا الأخيرُ أحيانًا يُستغنَى عنه، ويُعرَفُ الخبر بدونه، لكن يُؤتى به، كقوله تعالى: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ [الشعراء: 40] ، وقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ أكَّدوا تأكيدًا بهذا الضميرِ أنَّ الله هو المسيحُ ابنُ مريم [494] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/222). .
2- جوازُ انتسابِ الإنسانِ إلى أُمِّه إذا لم يكُن له أبٌ؛ لقوله: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [495] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/231). .
3- شِدَّة الردِّ على النَّصارى؛ حيث قال الله عزَّ وجلَّ: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا؛ إذ إنَّ اللهَ إذا أراد شيئًا فإنَّ الشَّرَفَ والجاه والرِّئاسة ولو في الدِّينِ لا تمنع ممَّا أرادَ الله؛ لأنَّ المسيحَ ابنَ مريمَ عليه الصَّلاة والسَّلام مِن أُولي العَزمِ من الرُّسُلِ [496] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/233). .
4- قوله: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ... فيه الردُّ على أهلِ الباطِلِ بالأدلَّة السمعيَّة والعقليَّة [497] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/233). .
5- أنَّه عند المناظرة يَنبغي أنْ تَبدأَ بأوَّل مَا يَحتجُّ به المناظِرُ، وتُبَيِّن أنَّه على خِلاف ما ناظَرَ عليه؛ ووجهُ ذلك: أنَّ الله بدَأَ بذِكر إهلاكِ المسيحِ وأُمِّه، الذي يعتقِدُ هؤلاءِ أنه إلهٌ، قال تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [498] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/234). .
6- يَنبغي في المُناظَرَةِ إبطالُ حُجَّةِ الخَصْمِ، ثم الإتيان بما يُثْبِتُ خلافَ قَوْلِه، فالله عز وجل قال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، فنقَض سبحانه دعواهم أن يكونوا أحِبَّةً وأبناءً بأمرين: الأمرُ الأوَّل: أنَّهم أذنبوا. والأمرُ الثاني: أنَّهم عُذِّبوا. فكيف يقولون أنَّهم أبناءُ الله وأحباؤُه، وهم يعْصونه ويُذنبون؟! ثم كيف يكونُ حبيبًا لهم وهو يعذِّبُهم؟! ثم احتجَّ الله عليهم بعدَ أن أَبْطَلَ حُجَّتهم، فقال: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَنْ خَلَقَ، أي: كسائرِ البَشَرِ [499] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/237). .
7- لَمَّا بطَل مُدَّعى النَّصارى أُلوهيَّةَ عيسى عليه السَّلام على أتْقَنِ منهاجٍ وأخْصَرِه، وذلك في قولِه تعالى: الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ حيث وصَفه بما هو في غايةِ الوضوحِ في بطلانِ قولِهم؛ لبعدِه عن رتبةِ الألوهيَّة في الحاجةِ إلى امرأة فقال: ابْنُ مَرْيَمَ فهو محتاجٌ إلى كفالتِها بما لها مِن الأمومةِ، وكان ربما دقَّ على بعضِ الأفهام ذلك- أَوضَحَه بِقَوْلِه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ دالًّا على أنَّ المسيحَ عليه السَّلامُ عبدٌ مملوكٌ للهِ [500] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/64). .
8- أنَّ عذابَ اللهِ لبني إسرائيلَ- أي: لليهودِ والنَّصارى- لم ينقطعْ ولن ينقَطِعَ؛ لقوله: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، فلم يقُل: فلِمَ عذَّبَكم؛ ليُستَفاد بذلك أنَّ تَعذيبَ اللهِ تعالى لهم مستمرٌّ؛ لأنَّ الفِعل المضارِعَ يُفيد الاستمرارَ [501] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/241). .
9- الاحترازُ عمَّا يُوهِمُ باطِلًا؛ حيث قال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ، ولم يقُلْ: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ فقط؛ لأنَّه لو قالَها بدون أنْ يَقْرِنَها بقوله: بِذُنُوبِكُمْ لأَوْهَم أنَّ اللهَ تعالى يُعذِّب بغيرِ ذنبٍ [502] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/242). .
10- قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فيه الإشارةُ إلى أنَّ ما بين السَّماءِ والأَرْضِ هو خَلقٌ عظيمٌ، حتى جعَلَه اللهُ عزَّ وجلَّ عديلًا، أو قَسيمًا للسَّمواتِ والأَرْضِ [503] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/235). .
11- قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المَصِيرُ، وقَبْلَها قال تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فاختَلَفَ ختْمُ الآيتينِ، فقال في السَّابقَةِ: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ لأنَّ المقام مقامُ ردٍّ على الذين قالوا: إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، أمَّا هنا فالمقامُ مقامُ تهديدٍ ووعيدٍ، فقال: وَإِلَيْهِ المَصِيرُ أي: إليه وحْدَه المرجِعُ لا إلى غيرِه؛ فقد تقدَّمَ الخبر وَإِلَيْهِ، وتقديمُ الخبرِ يُفيد الحَصْرَ، إذَن: فليست المسألَةُ مسألةَ دَعْوى أنَّكم أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤه، وإنَّما المسألَةُ مسألةُ عملٍ؛ إمَّا سيِّئ وإمَّا حَسَن [504] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/139- 240) . .
12- قوله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا فيه إقامةُ الحُجَّة على الأمَّةِ؛ حيث إنَّ محمدًا رسولُ الله، فهو حُجَّةٌ عليه الصَّلاة والسَّلام، فبمُجرَّد أنْ شَهِد اللهُ أنَّه رسولُه، كان ذلك حُجَّةً، وقد قال الله تعالى: لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ [505] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/249). [النساء: 166] .
13- أنه لا حظَّ للرَّسولِ عليه الصَّلاة والسَّلام في شيءٍ من الرُّبوبيَّة؛ لقَوْلِه: قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا، ووجه ذلك: أنَّه رسولٌ، والرَّسولُ لا يُمكن أن يكون شريكًا للمُرسِلِ فيما يختصُّ به [506] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/249). .
14- أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مُبَيِّنٌ للخَلْقِ، وأنَّه ليس فيما جاء به شيءٌ من الغُموضِ والإلغازِ؛ لقوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ، أمَّا غيرُ العربِ من أهل الكتاب فبيانُه يكونُ عن طريق التَّرجمة؛ ولهذا لم يَنتشرِ الإسلامُ في البلادِ الأعجميَّة إلا بواسِطَةِ التَّرجمة، وأنَّه إذا احتجْنا إلى معرفة اللُّغاتِ الأجنبيَّة لبيانِ الشريعة، كان ذلك ممَّا يُثابُ عليه؛ لأنَّ مِن صفاتِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ أنَّه يُبيِّنُ للنَّاسِ بأيِّ وسيلةٍ، وعلى هذا فمَن تعلَّمَ اللُّغةَ غيرَ العربيَّة مِن أجلِ الدَّعوة إلى الله، كان مُثابًا على ذلك؛ لأنَّها وسيلةٌ لتبيينِ الشَّريعةِ ونَشْرِها [507] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/249). .
15- رِسالةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كانتْ على فترةٍ من الرُّسُلِ؛ ليس بينه وبين عيسى رسولٌ؛ لقوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وكلَّما طال زمنُ الرِّسالةِ صار الناسُ أشدَّ حاجةً إلى الرَّسولِ؛ ولهذا جعَل اللهُ ذلك مِنَّةً عُظمى على أهلِ الكتابِ؛ حيث جاءَهم على فترةٍ، ومِثْل هذا يكونُ أيضًا في الواقعِ المَحْسُوس، فالإنسانُ الذي يَشرَبُ الماءَ على عطشٍ أشدُّ شوقًا إلى الماءِ والحاجةِ إليه مِن إنسانٍ يَشْرَبُه على رِيٍّ [508] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/250). .
16- إثباتُ الرِّسالاتِ السابقة للرَّسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام؛ لقوله: عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ والظَّاهِرُ أنَّ هذا يُشيرُ إلى أنَّ الرَّسولَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ هو آخِرُ الأنبياءِ؛ لقوله: مِنَ الرُّسُلِ يعني ليس بعدَه رسولٌ، وهذا هو الذي صرَّحَ الله به في كتابِه في قوله: وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب: 40] ، وقد قال: وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ولم يقُل: (وخاتم المُرسَلين) مع أنَّه قال: رَسُولُ اللهِ؛ لأنَّه قد يكون نبيًّا ولا يكون رسولًا، ومحمَّدٌ رسولُ الله صَلَواتُ اللهِ وسلامُه عليه خاتَمُ الأنبياءِ والمُرسَلينَ [509] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/251). .
17- رحمةُ الله تعالى بالخَلْقِ؛ حيث أَرْسَلَ الرُّسلَ؛ لئلَّا يكونَ لأحدٍ حجَّةٌ عليه سبحانه؛ لقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، ومِن ثَمَّ فمَن لم تَبْلُغْه الرسالةُ فإنَّه معذورٌ [510] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/251). .
18- أنَّه لا حُجَّةَ للإنسان بالقَدَرِ على مخالفةِ الرُّسُلِ؛ لقوله تعالى: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ وَجْهُ الدَّلالة: لو كان لهم حقٌّ لم يرتفعْ بإرسالِ الرُّسل، وهو كذلك [511] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/251). .
19- أنَّه متى احْتِيجَ إلى التوكيدِ، فلا عيبَ في التَّكرارِ؛ لقوله: فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ بعد قوله: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ، ولهذا كان مِن آدابِ الخُطبةِ أنَّ الإنسانَ يُكرِّر في المواضع المهمَّة، وأنَّ هذا لا يُعَدُّ عِيًّا ولا يُعدُّ زيادةً [512] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/252). .
20- ختَم الله عزَّ وجلَّ هذه الآيةَ بالقُدرَةِ في قوله: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ؛ إشارةً إلى أنَّه تبارك وتعالى قادِرٌ على بَعْثِ الرُّسلِ، وقادرٌ على ألَّا يَبْعَثَهم، وأنَّ الأَمْرَ كلَّه بيدِه تبارك وتعالى [513] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (6/71)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة المائدة)) (1/247). .

بلاغة الآيات:

1- قوله: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا: فَمَنْ استفهامٌ للإنكارِ والتَّوبيخِ، أي: لا يُوجَدُ أحدٌ يستطيعُ أن يردَّ إرادتَه؛ لأنَّه هو المالكُ لأمرِ الوجودِ كلِّه، ولا يملكُ أحدٌ مِن أمْرِه شيئًا يستطيعُ به أن يَصرِفَه عن عملٍ يُريدُه، أو يَحمِلَه على أمرٍ لا يُريدُه، أو يَستقِلَّ بعملٍ دونَه [514] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/19)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (6/256- 257). ، والفاءُ عاطفةٌ للاستفهامِ الإنكاريِّ على قَوْلِهم: إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ؛ للدَّلالَةِ على أنَّ الإنكارَ ترتَّب على هذا القَوْلِ الشَّنيعِ؛ فهي للتَّعقيبِ الذِّكْرِيِّ [515] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/153). .
- وتنكيرُ شَيْئًا للتَّقليلِ والتَّحقيرِ، ولَمَّا كان الاستفهامُ في قوله: فَمَنْ يَمْلِكُ بمعنى النَّفْيِ، كان نفيُ الشَّيءِ القليل مقتضيًا نفيَ الكثيرِ بطريق الأَوْلى [516] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/154). .
2- قوله: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فيه: عَطْفُ العامِّ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا على الخاصِّ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ؛ ليكونَا قد ذُكرَا مرَّتين: مرَّةً بالنصِّ عليهما، ومرَّة بالاندراجِ في العامِّ، وذلك على سبيلِ التَّوكيدِ والمبالَغَةِ في تعلُّق نَفاذِ الإرادةِ فيهما، وكذلك تأكيدُ عَجْزِ المسيحِ [517] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/210)، ((تفسير أبي السعود)) (3/20). .
3- قوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: تذييلٌ فيه تعظيمُ شأنِ اللهِ تعالى، وردٌّ آخَرُ عليهم بأنَّ الله هو الذي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرضَ، ومَلَكَ ما فيها من قَبْلِ أن يظهرَ المسيحُ؛ فالله هو الإلهُ حقًّا، وأنَّه يَخلُقُ ما يشاء، فهو الذي خَلَقَ المسيحَ خلقًا غيرَ معتادٍ؛ فكان مُوجِبَ ضلالِ مَن نَسَبَ له الأُلوهيَّةَ [518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/155). .
- وجملة: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا جملةٌ مؤكِّدةٌ لِقَوْلِه: إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ودالَّة على أنَّه إذا أراد فَعَلَ؛ لأنَّ مَن له ذلك المُلْك يَفعلُ في مُلْكِه ما يشاءُ [519] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/211). .
4- قوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فيه إيجازٌ: حيثُ إنَّ ظاهِرَ اللَّفظ: أنَّ جميعَ اليهودِ والنَّصارى قالوا عن جميعِهم ذلك، وليس كذلك، بل في الكلامِ لفٌّ وإيجازٌ. والمعنى: وقالت كلُّ فِرقةٍ من اليهودِ والنَّصارى عن نفْسها خاصَّةً: نحن أبناءُ الله وأحبَّاؤُه [520] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (4/211). .
5- قوله: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ فيه: تعريضٌ أيضًا بأنَّ المسيحَ عليه السَّلام بَشَرٌ [521] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/156). .
6- قوله: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ: فيه احتراسٌ؛ لأنَّه لَمَّا رتَّبَ على نَوَالِ العذاب إيَّاهم أنَّهم بشرٌ، دفَع توهُّمَ النَّصارى أنَّ البشريَّة مقتضيةٌ استحقاقَ العذابِ بوراثةِ تبعةِ خَطيئة آدَم، فقال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، أي: مِن البَشَرِ، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [522] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (6/157). .
7- قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ: فيه إيثارُ الجملةِ الفعليَّة على غيرها؛ للدَّلالةِ على تجدُّدِ البيانِ [523] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/18). .
8- قوله: مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ: زِيادَةُ ذِكْرِ مِنْ في الفاعِلِ؛ للمبالغةِ في نفْي المجيء، وتَنكير بَشِيرٍ ونَذِيرٍ؛ للتَّقْليلِ [524] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/22). .
9- قوله فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ التنوين في بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ؛ للتَّفخيمِ، أي: لا تَعتذِروا بذلك؛ فقد جاءَكم بشيرٌ أيُّ بشيرٍ، ونذيرٌ أيُّ نذيرٍ [525] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/22). .
- قوله: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: اعتراضٌ تذييليٌّ مُقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبْلَه، وإظهارُ الاسْمِ الجليلِوَاللَّهُ للتَّعليلِ، وتقويةِ استقلالِ الجُملةِ [526] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/20). .