موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (50-53)

ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ

غريب الكلمات:

أَفِيضُوا: يُقال: فاضَ الماءُ: إِذا سالَ مُنصَبًّا، وأفاضَ إِناءَه: إِذا مَلَأه حتَّى أسالَه، والإفاضَةُ التَّوسِعَةُ، وأصْلُ (فيض): يَدُلُّ على جَرَيانِ الشَّيءِ بِسُهُولَةٍ [598] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/465)، ((المفردات)) للراغب (ص: 648)، ((تفسير القرطبي)) (7/215). .
يَجْحَدُونَ: أي: يُنكِرونُها بألْسِنَتِهم وهم لها مُسْتَيْقِنونَ، والجُحودُ: نَفْيُ ما في القَلْبِ إِثْباتُه، وإِثْباتُ ما في القلبِ نَفْيُه، وأصلُ (جحد): يَدُلُّ على قِلَّةِ الخَيرِ [599] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 27، 28)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 187). .
تَأْوِيلَهُ: أي: تصديقَ مَا وُعِدوا به، والتَّأْويلُ: هو المصيرُ والمرجعُ والعاقبةُ، مِنَ الأَوْلِ؛ أي: الرُّجوعِ إلى الأصلِ [600] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/137)، ((مقاييس اللغة)) للراغب (1/162)، ((المفردات)) للراغب (ص: 99)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 111)، ((التبيان)) لابن الجوزي (1/119)، ((الكليات)) للكفوي (1/320). .
شُفَعَاءَ: جَمْعُ شَفيعٍ، وهو: النَّاصِرُ والمعينُ، والشَّفاعَةُ: الانْضِمامُ إلى آخَرَ نُصْرةً له، وسؤالًا عنه، وشَفَعَ لِفُلانٍ إذا جاءَ مُلْتَمِسًا مَطْلَبَه، ومُعينًا له؛ فأصلُ الشَّفْعِ: ضَمُّ الشَّيءِ إلى مِثلِه [601] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/290)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/201)، ((المفردات)) للراغب (ص: 457). .

المعنى الإجمالي:

ونَادى أَهلُ النَّارِ أَهلَ الجَنَّةِ طالِبينَ مِنهم أن يَسْقوهم مَاءً، أَو يُعطوهُم مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ مِنَ الطَّعامِ، فأجابوهُم أَنَّ اللهَ حَرَّمَ ماءَ الجَنَّةِ وطَعَامَهَا على الكافِرِينَ، الَّذينَ اتَّخذُوا دِينَهمُ الَّذي دُعُوا لاتِّباعِهِ سُخرِيةً ولَعِبًا، وخَدَعَتْهمُ الحياةُ الدُّنيا، فأعْرَضوا عَنِ الآخِرَةِ، ويَقولُ اللَّهُ يومَ القِيامَةِ: إنَّه في هذا اليَومِ  يَنْسَاهُم كَما نَسُوا لِقَاءِ يَومِهم هذا، ولأَنَّهم كانوا يَجْحَدونَ بآياتِه.
ويُخبِرُ تَعالَى مُقْسِمًا أَنَّه أَتَى هَؤلاءِ الكُفَّارَ بالقُرآنِ الَّذي بَيَّنَ فِيه جَميعَ ما يَحتاجُ النَّاسُ إلى بَيانِه، وهو سُبحانَه عالِمٌ بِما بيَّنَ فيه مِنَ الحَقِّ، فقد بَيَّنَهُ تَعالَى لأجْلِ أَنْ يَهتَدِيَ بِه المُؤمِنونَ ويَرْحَمَهم بسَبَبِ إيمانِهِم به في الدُّنيا والآخِرَةِ.
ثمَّ بيَّن الله تعالى عاقبةَ هؤلاءِ المكذِّبينَ بالقرآنِ قائلًا: هَلْ يَنْظُرُ الكُفَّارُ إلَّا حُصولَ ما أخْبَر بِه القرآنُ مِن وُقوعِ البَعْثِ وقِيامِ الحِسَابِ، وحُلولِ العَذابِ بهم، ودُخولِ أهلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأَهْلِ النَّارِ النَّارَ، يَومَ يَقَعُ ذَلِك يَقولُ الَّذينَ تَرَكُوا العَمَلَ بالقُرْآنِ مُتَنَدِّمِينَ: قَد ظَهَرَ لنا الآنَ أَنَّ رُسُلَ رَبِّنَا قَدْ جَاءَتْ بالحَقِّ، ونَحنُ كذَّبْنَاهُم، فهل لنا مِنْ شُفَعَاء فيَشْفَعوا لنا عِنْدَ رَبِّنا، أو نَرجِعُ للدُّنيَا فنَعْمَلَ صَالِحًا غَيْرَ الَّذي كُنَّا نَعْمَلُه مِنَ الكُفْرِ والمَعَاصِي؟! قَد خَسِرَ هؤلاءِ الكُفَّارُ أَنفُسَهُم، وغَابَ عنهم ما كانوا يَزْعُمونه كَذِبًا في الدُّنيا أَنَّهم شُرَكاءُ لِلَّهِ، أو لَهم آلِهَةٌ مِن دُونِ اللَّهِ تعالَى، فلم يَنْفعوهم بشيءٍ.

تفسير الآيات:

وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
مناسَبَةُ الآيَةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن اللَّهُ تَعالَى ما يَقولُه أصْحابُ الأعْرافِ لأهلِ النَّارِ؛ أَتْبَعَه بذِكْرِ ما يَقولُه أَهلُ النَّارِ لِأَهْلِ الجَنَّةِ [602] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/252). ، فقال تعالى:
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ
أي: ونادَى أَهلُ النَّارِ أَهْلَ الجَنَّةِ، مُستَغِيثين بِهم مِمَّا أَصَابَهم مِن شِدَّةِ الجُوعِ وَالْعَطَشِ، فَقالوا: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ صُبُّوا علَينا مِنَ الْمَاءِ [603] قال ابنُ عاشور: (الفَيضُ في الآيةِ إذا حُمِلَ على حقيقَتِه كان أصحابُ النَّارِ طالبينَ مِن أصحابِ الجَنَّةِ أن يَصُبُّوا عليهم ماءً ليشرَبُوا منه، وعلى هذا المعنى حمَلَه المفسرون... وعلى هذا الوَجهِ تكون (مِن) بمعنى بعض، أو صفةً لموصوفٍ مَحذوفٍ، تقديرُه: شيئًا مِن الماءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/148). أَو [604] قال الشنقيطي: (أو هنا مانعةُ خُلُوٍّ، مُجَوِّزةُ جَمعٍ، يجوز أن يكونَ الماءُ وَحْدَه، أو ما رزَقَهم اللهُ، أو الجميع). ((العذب النمير)) (3/303). مِمَّا رَزَقَكمُ اللَّهُ مِن مَآكِلِ الجَنَّةِ [605] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/235)، ((تفسير ابن كثير)) (3/423)، ((تفسير السعدي)) (ص: 290)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/148- 149)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/305). .
قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ
أي: قال أَهلُ الجَنَّةِ لِأَهْلِ النَّارِ: إنَّ اللَّهَ حَكَمَ بِمَنْعِ مَاءِ الجَنَّةِ وطَعَامِها من الكَافِرِينَ [606] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/237)، ((تفسير ابن كثير)) (3/424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 290)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/149)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/305-306). قال الشنقيطيُّ: (التحريمُ هنا تحريمٌ كونيٌّ قَدَريٌّ). ((العذب النمير)) (3/305).
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا
أي: يَقُولُ أَهْلُ الجَنَّةِ لِأَهْلِ النَّارِ: إنَّ اللهَ مَنَعَ ماءَ الجَنَّةِ وطَعامَها من الكافِرينَ الَّذينَ اتَّخذُوا دِينَهمُ الَّذِي دُعُوا إِلَيهِ، وأُمِروا بِه سُخْرِيَةً ولَعِبًا فاسْتَهْزَؤوا به وبكَلامِ اللهِ وبنَبِيِّه وبالمُؤمِنينَ [607] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/236 - 237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 290)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/149)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/307). .
كما قال تَعالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 57-58] .
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا
أي: وخَدَعَتْهُمُ الحياةُ الدُّنيا بزِينَتِها، فَرَضوا واطْمَأَنُّوا بِها، وأعْرَضوا عَنِ الآخِرَةِ [608] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/237)، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/308). .
كما قال تعالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس: 7-8] .
فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا
أي: يَقولُ اللَّهُ تعالى يَومَ القِيامَةِ: في هذا اليَومِ نَتْرُكُ الكُفَّارَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ عِطَاشًا جِيَاعًا، كَما تَرَكُوا الإِيمانَ والعَمَلَ الصَّالِحَ في الدُّنيا استِعدَادًا لِلِقَاءِ اللَّهِ يَومَ القِيَامَةِ [609] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/237 - 239)، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/313). قال ابن كثير: (أي: نعامِلُهم مُعاملةَ مَن نَسِيَهم؛ لأنَّه تعالى لا يشِذُّ عن عِلمِه شيءٌ ولا ينساه، كما قال تعالى: فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى [طه:52] ، وإنَّما قال تعالى هذا مِن بابِ المُقابلة، كما قال: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67] ، وقال: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:126] ، وقال تعالى: وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا [الجاثية: 34] ). ((تفسير ابن كثير)) (3/424). وقال الشنقيطي: (أي: نترُكُهم عن إرادةٍ وقَصدٍ يتقلَّبونَ في دَرَكاتِ النَّارِ، وأنواعِ العَذابِ. كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا أي: نِسيانًا كنِسيانِهم لقاءَ يَومِهم هذا؛ لأنَّ هذا اليومَ لم يَنسَوه، وإنَّما تَرَكوا العمَلَ له عمدًا وقَصدًا وعنادًا للرُّسلِ). ((العذب النمير)) (3/313). .
كمَا قَالَ تعالَى: فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: 14] .
وعَن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليه وسلَّم قال: ((يَلقى اللهُ العَبدَ فيَقولُ: أي فُلُ [610] أي فُلُ، معناه: يا فُلانُ، وقيل: إنَّها ترخيمُها. ينظر : ((النهاية)) لابن الأثير (3/923)، ((شرح النووي على مسلم)) (18/103). ، ألَمْ أُكرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وأُزَوِّجْكَ، وأُسَخِّرْ لَكَ الخَيْلَ والإِبِلَ، وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ [611] ترأَسُ أي: تكونُ رئيسًا على قَومِك. وتَربَعُ أي: تأخُذُ المِرباعَ، وهو ربُعُ الغَنيمةِ، وقيل: معناه ترَكْتُك مُستريحًا، لا تحتاجُ إلى مَشقَّةٍ وتَعَبٍ؛ من قَولِهم: ارْبَعْ على نَفْسِك؛ أي: ارْفُقْ بها. والمعنى: ألَمْ أجعَلْك رئيسًا مُطاعًا؛ لأنَّ المَلِكَ كان يأخُذُ الرُّبُعَ مِنَ الغَنيمةِ في الجاهِليَّةِ دونَ أصحابِه. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (18/104). ((النهاية)) لابن الأثير (2/186). ؟ فيَقولُ: بَلَى، فيَقولُ: أَفَظَنَنْتَ أنَّك مُلَاقِيَّ؟ فيَقولُ: لَا، فيَقولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كمَا نَسِيتَنِي، ثمَّ يَلْقَى الثَّانيَ فيَقولُ: أَي فُلُ، أَلَمْ أُكرِمْكَ، وأُسَوِّدْكَ، وأُزَوِّجْكَ، وأُسَخِّرْ لَكَ الخَيْلَ والإِبِلَ، وأَذَرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ؟ فيَقولُ: بَلَى أَي ربِّ، فيقولُ: أَفَظَنَنْتَ أنَّك مُلَاقِيَّ؟ فيَقولُ: لَا، فيَقولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كمَا نَسِيتَنِي )) [612] أخرجه مسلم (2968). .
وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ
أي: وَنَتْرُكُهم فِي النَّارِ لِكَونِهِم أَيضًا جَحَدُوا بِآيَاتِنَا فلَمْ يُصدِّقُوها [613] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/239)، ((البسيط)) للواحدي (9/162)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 396)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/314). .
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
مُناسَبةُ الآيَةِ لِمَا قَبْلَها:
أنَّ اللَّهَ تَعالَى لَمَّا شَرَحَ أَحوالَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وأَهْلِ النَّارِ، وأَهْلِ الأَعْرَافِ، ثمَّ شَرَحَ الكَلِمَاتِ الدَّائرَةَ بَين هَؤلاءِ الفِرَقِ الثَّلاثِ على وَجْهٍ يَصِيرُ سَماعُ تِلكَ المَناظَراتِ حَامِلًا للمُكَلَّفِ على الحَذَرِ والاحْتِرازِ، وداعِيًا له إلى النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ- بَيَّنَ شَرَفَ هذا الكِتابِ الكِرِيمِ، ونِهايَةِ مَنفَعَتِه فقال [614] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/253). :
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ
أي: وأُقسِمُ لَقَدْ أَتَيْنا هَؤلاءِ الكفَّارَ بالقُرآنِ الَّذي بَيَّنَّا فِيه جَمِيعَ ما يَحتاجُ النَّاسُ إلَى بَيانِه، ونَحنُ عالِمِينَ بِما بَيَّنَّا فِيه مِنَ الحَقِّ الَّذِي يُصلِحُ الخَلْقَ في كلِّ زَمَانٍ ومَكانٍ، وفِي أُمورِ دُنياهم وأُخْراهُم [615] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/240) ، ((تفسير البغوي)) (2/196)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/126)، ((تفسير القرطبي)) (7/217)، ((تفسير ابن كثير)) (3/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/152)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/315 - 316). .
كمَا قَالَ تعالَى: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] .
وقَالَ سُبحانَه: كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصلت: 3] .
وقَالَ تَبارَك وتَعالَى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] .
هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
أي: فَصَّلنَا القُرآنَ لِأَجْلِ أَن يَهتَدِيَ بِه المؤمِنونَ، ويَرْحَمَهُم اللَّهُ تَعالَى في الدُّنيا والآخِرَةِ بِسَببِ إِيمانِهم بِه، واتِّباعِهِم لَه [616] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/240) ، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/153). .
كما قال تَعالَى: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
وقالَ سُبحَانَه: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام: 155].
وقَالَ عزَّ وجلَّ: وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل: 77] .
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
مُناسَبَةُ الآيَةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن اللَّهُ تعالَى أنَّ هذا القُرآنَ الْعَظِيمَ هُو الَّذي أَنْزَلَه، وهو الَّذي فَصَّلَه، وبَيَّن حَلالَه وحَرامَه وعَقائدَه ومواعِظَه وأمثالَه وآدابَه ومَكارِمَه، وأنَّه بَيَّنَ هذا بعِلْمِه المحيطِ بكلِّ شَيءٍ- هَدَّدَ الكُفَّارَ الَّذينَ لَمْ يَعمَلوا به، فقال [617] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/337). :
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ
أي: هَل يَنْتَظِرُ الكُفَّارُ إلَّا وُقوعَ مَا أَخبَرَ به القُرآنُ؛ مِن وُقوعِ البَعْثِ، وقِيامِ الحِسابِ، وحُلولِ العَذابِ بهم، ودُخولِ أَهْلِ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، ودُخولِ أهلِ النَّارِ النَّارَ [618] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/240)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/378)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (5/1494)، ((تفسير ابن كثير)) (3/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/153)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/340). قال الشنقيطي: (أي: ما تَؤولُ إليه حقيقةُ ما كان يَعِدُ به، وينطِقُ به في دارِ الدُّنيا). ((العذب النمير)) (3/337). ؟
كما قال تعالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: 39] .
وقالَ عزَّ وجلَّ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [الأنعام: 158] .
يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ
أي: حينَ يَجِيءُ يَومُ القِيَامَةِ، الَّذي تَتَحَقَّقُ فِيه مَواعيدُ القُرْآنِ؛ مِنَ الحسابِ والثَّوابِ والعِقابِ، يَقولُ الَّذين تَرَكوا العَمَلَ بِالقُرْآنِ في الدُّنْيا مُتَنَدِّمينَ: قَد تبيَّن لَنا الآنَ أَنَّ رُسُلَ رَبِّنا صادِقونَ في دَعْواهم، وقَد جاؤونا بالحَقِّ فكَذَّبْناهم [619] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/242 - 243)، ((تفسير ابن كثير)) (3/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/154- 155)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/340). .
فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ
أي: يَقُولُ الكُفَّارُ يَومَ القِيامَةِ: فهَل لَنا مِن شُفَعاءَ فيَشْفَعوا لَنا عِندَ رَبِّنَا، فيُنقِذونا مِمَّا نَحن فِيهِ؟ أو هل لَنا أَن نَرجِعَ إلَى الدُّنيا فنَعْمَلَ فيها صَالِحًا غَيرَ الَّذي كُنَّا نَعْمَلُه مِنَ الكُفْرِ والمعاصي [620] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/244 - 245)، ((تفسير ابن كثير)) (3/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/157)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/341). ؟
كمَا قَالَ تَعالَى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام: 27-28] .
قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
أي: قَد أَضاعَ الكُفَّارُ حَظَّ أَنْفُسِهم مِنَ الثَّوابِ، وَأَهلَكُوها بِالعَذَابِ [621] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/244)، ((الوسيط)) للواحدي (2/375)، ((تفسير ابن كثير)) (3/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/157). قال القرطبي: (أي: فلم ينتَفِعوا بها، وكلُّ مَن لم ينتَفِعْ بنَفْسِه فقد خَسِرَها، وقيل: خَسِرُوا النِّعَمَ وحَظَّ أنفُسِهم منها). ((تفسير القرطبي)) (7/218). ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (2/240)، ((تفسير ابن عاشور)) (7/154). .
كما قال تَعالَى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنعام: 31] .
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
أي: وغابَ عَنهم الَّذين كانوا يَزْعُمونَ في الدُّنيا كَذِبًا أَنَّهم شُرَكاءُ لِلَّهِ أَو آلِهَةٌ لهم مِن دُونِ اللَّهِ، ظنُّوا أنَّهم سَيَشْفَعونَ لَهم يَومَ القِيامَةِ، فلَم يَنْفَعُوهم بِشَيءٍ [622] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/244 - 245)، ((تفسير ابن كثير)) (3/426)، ((تفسير السعدي)) (ص: 291)، ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/158)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (3/341). .

الفوائد العلمية واللطائف:

في قَولِه تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أَعْلَمَ اللهُ تعالى أنَّ ابنَ آدَمَ غَيرُ مُستغْنٍ عَنِ الطَّعامِ والشَّرَابِ وإن كانَ مُعَذَّبًا [623] يُنظر: ((التفسير الوسيط)) للواحدي (2/372) .
قولُ اللهِ تعالَى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ إنَّما طَلَبوا الماءَ خَاصَّةً؛ لِشِدَّةِ ما في بَوَاطِنِهم مِنَ الاحْتِرَاقِ واللَّهِيبِ بسَبَبِ شِدَّةِ حَرِّ جَهَنَّمَ [624] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (14/252). ، فقَدَّموا طلَبَ الماءِ؛ لأنَّ مَن كانَ في سَمُومٍ وحَمِيمٍ يكونُ شُعورُه بالحاجَةِ إلَى الماءِ البَارِدِ أَشَدَّ مِن شُعورِه بالحَاجِةِ إلَى الطَّعامِ الطَّيِّبِ [625] يُنظر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (8/390). .
قولُ اللهِ تعالَى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ لَفظُ (أَفِيضُوا) أَمْكَنُ مِن (اسقُونا)؛ لأنَّها تَقتَضِي التَّوسِعَةَ، كمَا يُقالُ: أفَاضَ اللهُ علَيهِ نِعَمَهُ؛ أي: وَسَّعَها [626] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/61). .
استُدِلَّ بِقولِ اللهِ تعالَى: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أنَّ سَقيَ الماءِ مِن أَفضَلِ الأعمالِ [627] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (7/215). قال ابنُ القيِّم: (وأفضلُ الصَّدقةِ ما صادفتْ حاجةً مِن المتصدَّق عليه، وكانت دائمةً مستمرةً، ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أفضلُ الصَّدقةِ سقىُ الماءِ». وهذا في موضعٍ يقلُّ فيه الماءُ، ويكثرُ فيه العطشُ، وإلَّا فسقيُ الماءِ على الأنهارِ والقنَى لا يكونُ أفضلَ مِن إطعامِ الطعامِ عندَ الحاجةِ). ((الروح)) (1/142). .
قولُ الله تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا، تَعلِيقُ الظَّرفِ بفِعلِ (نَنْساهُم) لِإِظهَارِ أنَّ حِرْمانَهم مِنَ الرَّحْمَةِ كان في أَشَدِّ أَوقاتِ احتِياجِهم إليها، فكانَ لِذِكْرِ (اليَومِ) أَثَرٌ في إثارَةِ تَحَسُّرِهم ونَدَامَتِهم [628] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/150). .

بلاغة الآيات:

قولُه: قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ استِئنافٌ مَبنِيٌّ على السُّؤالِ؛ كَأنَّه قِيل: فماذا قَالُوا؟ فقِيلَ: قَالوا: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [629] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/231). .
قولُه: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا:
دَلَّ مَعنى كافِ التَّشبيهِ في قولِه: كَمَا نَسُوا على أنَّ حِرْمانَهم مِن رَحْمَةِ اللهِ كانَ مُماثِلًا لإهْمالِهمُ التَّصديقَ باللِّقاءِ، وهي مُماثَلَةُ جَزاءِ العَمَلِ للعَمَلِ، وهي مُماثَلَةٌ اعتِبارِيَّةٌ، وإنَّما التَّعلِيلُ مَعنًى يَتَوَلَّدُ مِنِ استِعمالِ الكافِ في التَّشبِيهِ الاعتِبارِيِّ، ولَيس هذا التَّشبِيهُ بِمَجازٍ، ولكِنَّه حَقِيقةٌ خَفِيَّةٌ لِخَفاءِ وَجْهَ الشَّبَهِ [630] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/151). .
قولُه: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
قولُه: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فيه تَأكِيدُ هذا الفِعلِ بـ(لَامِ القَسَمِ) و(قَد)؛ إمَّا باعتِبارِ صِفَةِ (كِتابٍ)، وهي جُملَةُ: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً، فيكونُ التَّأكيدُ جارِيًا على مُقتَضَى الظَّاهِرِ؛ لأنَّ المُشرِكينَ يُنكِرونَ أن يَكون القُرآنُ مَوْصوفًا بتِلك الأوصافِ، وإمَّا تَأكيدٌ لفِعْلِ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ، وهو بُلوغُ الكِتابِ إلَيهم، فيكونُ التَّأكيدُ خارجًا على خِلافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ [631] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/152). .
وتَنكِيرُ كِتَابٍ قُصِدَ بِه تَعظِيمُ الكِتابِ، أو قُصِدَ بِه النَّوعِيَّةُ؛ أي: ما هو إلَّا كِتابٌ كالكُتُبِ الَّتي أُنزِلَتْ مِن قَبْلُ [632] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/152). .
قولُه: فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ تَنكِيرُ عِلْمٍ للتَّعظِيمِ؛ أي: عالِمِينَ أَعْظَمَ العِلْمِ، والعَظَمَةُ هُنا رَاجِعةٌ إلَى كمَالِ الجِنْسِ في حقيقَتِه، وأَعْظَمُ العِلْمِ هو العِلْمُ الَّذي لَا يَحتمِلُ الخَطَأَ [633] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/152). .
قولُه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ الجُملةُ مُستَأْنَفةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا؛ لأنَّ قولَه: وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يُثيرُ سؤالَ مَن يَسأَلُ: فماذا يُؤخِّرُهم عَنِ التَّصديقِ بِهذا الكِتابِ المَوصُوفِ بتلك الصِّفاتِ؟ وهَلْ أَعظَمُ مِنه آيَةً على صِدقِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عَلَيه وسلَّم؟ فكانَ قولُه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ كالجَوابِ عَن هذا السُّؤالِ [634] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/153). .
والاسْتِفهامُ في قولِه: هَلْ يَنْظُرُونَ إنْكارِيٌّ، أي: ما يَنظُرون إلَّا تأويلَه؛ ولِذلك جاءَ بعدَه الاسْتِثْناءُ، والاسْتِثْناءُ على حَقيقَتِه، وليس مِن تَأكيدِ الشَّيءِ بِما يُشبِهُ ضِدَّه، والقَصْرُ في (ما يَنظُرون إلَّا تأويلَه) إضافِيٌّ؛ أي: بالنِّسْبَةِ إلَى غَيرِ ذَلك مِن أَغراضِ نِسْيانِهم وجُحودِهم بالآياتِ [635] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/154). .
قولُه: قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ خَبَرٌ مُسْتَعمَلٌ في الإقْرارِ بخَطَئهِم في تَكذيبِ الرُّسُلِ، وإنْشاءٌ للحَسْرَةِ على ذلك [636] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/155). .
قولُه: فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا الاسْتِفهامُ في قوله: فَهَلْ يَجوزُ أن يَكونَ حَقيقيًّا يَقولُه بعضُهم لِبَعضٍ، ويَجوزُ أن يكونَ الاستفهامُ مُستَعمَلًا في التَّمَنِّي، ويَجوزُ أن يكونَ مُسْتَعمَلًا في النَّفيِ؛ على مَعنى التَّحَسُّرِ والتَّنَدُّمِ [637] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/156). .
ومِنْ في قولِه: مِنْ شُفَعَاءَ صلةٌ للتَّوكِيدِ على جَميعِ التَّقادِيرِ؛ فتُفِيدُ تَوكيدَ العُمومِ في المُسْتَفهَمِ عَنه؛ ليُفيدَ أنَّهم لا يَسألونَ عَمَّن تَوَهَّموهم شُفَعاءَ مِن أصنامِهم؛ إذ قَد يَئِسوا مِنهم؛ فإنَّهم يَتساءلُونَ عَن أيِّ شَفيعٍ يَشْفَعُ لَهم، ولو يَكون الرَّسولُ علَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ الَّذي نَاصَبُوه العَداءَ في الحَياةِ الدُّنيا [638] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/156). .
قولُه: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئنافًا ابتِدَائيًّا، تَذيِيلًا وخلاصَةً لِقصَّتِهم؛ أي: فكانَ حاصِلُ أَمرِهم أنَّهم خَسِرُوا أَنْفُسَهم مِنَ الآن، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [639] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (8-ب/157). .