موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (124-127)

ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ

غريب الكلمات:

ضَنْكًا: أي: ضَيِّقةً، والضَّنكُ مِن المنازِلِ والأماكِنِ والمعايشِ: الشَّديدُ، وأصلُ (ضنك): يدلُّ على ضيقٍ [1092] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 283)، ((تفسير ابن جرير)) (16/192)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 313)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/373)، ((المفردات)) للراغب (ص: 512)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 580). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبينًا سوءَ عاقبةِ من أعرضَ عن ذكرِه وطاعتِه: ومَن أعرَضَ عن كِتابي فلم يتدَبَّرْه ولم يَعمَلْ بما فيه؛ فإنَّ له مَعيشةً ضَيِّقةً شاقَّةً في حياتِه وبعد مماتِه وفي الآخِرةِ، ونحشُرُه يومَ القيامةِ أعمى.
قال هذا المُعرِضُ عن ذِكرِ الله: ربِّ، لِمَ حَشَرْتَني أعمى، وقد كنتُ بَصيرًا في الدُّنيا؟ قال اللهُ تعالى له: كذلك أتَتْك آياتي البيِّناتُ، فأعرَضْتَ عنها، ولم تؤمِنْ بها، وكما تركتَها في الدُّنيا فكذلك اليومَ تُترَكُ في النَّارِ، وهكذا نُعاقِبُ مَن أسرَفَ على نَفسِه فعَصى رَبَّه، ولم يؤمِنْ بآياتِه، ولَعذابُ الآخرةِ المُعَدُّ لهم أشَدُّ ألَمًا وأدوَمُ وأثبَتُ بلا انقِطاعٍ.

تفسير الآيات:

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وعد اللهُ تعالى من يتَّبِعُ الهدى، أتبَعَه بالوعيدِ فيمن أعرَضَ، فقال [1093] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/110). :
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا.
أي: ومَن أعرَضَ عن كتابي [1094] قال ابن القيم: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا أي: عن الذِّكرِ الذي أنزلْتُه، فالذِّكرُ هنا مصدرٌ مُضافٌ إلى الفاعِلِ كقيامي وقراءتي، لا إلى المفعولِ، وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكُرَني، بل هذا لازِمُ المعنى ومقتضاه مِن وجهٍ آخَرَ...، وأحسنُ مِن هذا الوجهِ أن يقالَ: الذِّكرُ هنا مضافٌ إضافةَ الأسماءِ لا إضافةَ المصادِرِ إلى معمولاتِها، والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتَّبِعْه؛ فإنَّ القرآنَ يُسَمَّى ذِكرًا). ((مفتاح دار السعادة)) (1/42-43). فلم يتدَبَّرْه ولم يعمَلْ بما فيه؛ فإنَّ له معيشةً ضَيِّقةً مُدَّةَ حياتِه في الدُّنيا، وبعدَ مَوتِه في البَرزَخِ، وفي معادِه في الآخرةِ [1095] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/107)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 168)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 515)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/126، 127). وممَّن اختار أنَّ المعيشةَ الضنكَ عامةٌ: في الدُّنيا والقبرِ وفي الآخرةِ: ابنُ تيميةَ، وابنُ القيِّمِ، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. قال ابنُ القَيِّم: (المعيشةُ الضَّنكُ في الدُّنيا وفي البرزخِ، والعذابُ في الآخرةِ؛ قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه: 124] . وفُسِّرَت المعيشةُ الضَّنكُ بعَذابِ القَبرِ، ولا رَيبَ أنَّه من المعيشةِ الضَّنكِ، والآيةُ تتناولُ ما هو أعَمُّ منه، وإن كانت نكرةً في سياق الإثباتِ، فإنَّ عُمومَها من حيثُ المعنى؛ فإنَّه سُبحانَه رَتَّبَ المعيشة الضَّنكَ على الإعراضِ عن ذِكرِه، فالمُعرِضُ عنه له من ضَنكِ المعيشةِ بحَسَبِ إعراضِه... فالمعيشةُ الضَّنكُ لازمةٌ لِمَن أعرض عن ذِكرِ الله الذي أنزَلَه على رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم في دنياه، وفي البرزخِ، ويومَ معادِه). ((الجواب الكافي)) (ص: 120). وممن فسَّرها بعذابِ القبرِ: ابنُ جرير، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/198)، ((تفسير القرطبي)) (11/259). وممن قال بهذا القول مِن السلفِ: أبو سعيدٍ الخدري، وأبو هريرة، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ، وأبو صالح، والسُّدِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/196)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/180). وممن فَسَّرَها بضنك المعيشةِ في الدنيا: ابنُ كثير، وهو ظاهِرُ اختيارِ ابنِ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/322)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/331). .
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى.
أي: ونحشُرُ المُعرِضَ عن ذِكري يومَ القيامةِ أعمى لا يُبصِرُ [1096] يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (14/552)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/45)، ((تفسير السعدي)) (ص: 516)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/127). وممَّن قصَرَ معنى العمى هنا على عمى البَصَرِ على حقيقتِه: ابنُ القيم، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بهذا القولِ من السَّلفِ: ابنُ عبَّاس، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/200)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/181). ومِن المفسرينَ من عَمَّم المعنى ليشمَلَ عمى البَصَرِ والبصيرة، ومنهم: ابنُ جرير، فقال: (الصوابُ من القَولِ في ذلك ما قال الله تعالى ذِكرُه، وهو أنَّه يُحشَرُ أعمى عن الحُجَّةِ ورؤية الشيءِ، كما أخبر جلَّ ثناؤه، فعَمَّ ولم يُخَصِّص). ((تفسير ابن جرير)) (16/201). قال الواحدي: (قيل في التفسيرِ: أعمَى البصرِ. وقيل: أعمَى عن الحجةِ. يعني أنَّه لا حجةَ له يهتدي إليها، والأعمَى إذا أُطلِق كان الظاهرُ عمَى البصرِ). ((الوسيط)) (3/226). وقال الشنقيطي: (اعلمْ أنَّ في هذه الآيةِ الكريمةِ قرينةً دالةً على... أنَّ المرادَ بقولِه: ﯾ أي: أعمَى البصرِ لا يرى شيئًا. والقرينةُ المذكورةُ هي قولُه تعالى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا  ، فصرَّح بأنَّ عماه هو العمَى المقابلُ للبصرِ، وهو بصرُ العينِ؛ لأنَّ الكافرَ كان في الدنيا أعمَى القلبِ). ((أضواء البيان)) (4/127). ويُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/44-46). .
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125).
أي: قال: يا رَبِّ، لماذا حَشَرتَني أعمى، وقد كنتُ في الدُّنيا مُبصِرًا، وما الذي صيَّرني إلى ذلك [1097] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 516). ؟!
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126).
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا.
أي: قال اللهُ له: كذلك [1098] أي: مِثلَ ذلك فَعلْتَ أنت، ثُمَّ فَسَّره بِقَولِه:  أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا. وممَّن اختار هذا المعنى: الزمخشري، والرسعني، والبقاعي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/95)، ((تفسير الرسعني)) (4/580)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/363)، ((تفسير الشوكاني)) (3/462). وقال ابن جرير: (عنى بقَولِه كَذَلِكَ أَتَتْكَ هكذا أتَتْك). ((تفسير ابن جرير)) (16/202). جاءتك آياتُ كتابي فترَكْتَ الإيمانَ بها وتدبُّرَها، وأعرضتَ عن العَمَلِ بها [1099] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/202)، ((تفسير القرطبي)) (11/259)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/84)، ((تفسير السعدي)) (ص: 516). .
كما قال تعالى: ...وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر: 55 - 59] .
وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى.
أي: فكما تركتَ آياتي في الدُّنيا ولم تعمَلْ بها، فكذلك يومَ القيامة تُترَكُ في العذابِ [1100] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/202)، ((تفسير القرطبي)) (11/259)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 46، 47)، ((تفسير السعدي)) (ص: 516). قال ابنُ كثيرٍ: (أي: لَمَّا أعرضْتَ عن آياتِ الله، وعامَلْتَها معاملةَ مَن لم يذكُرْها، بعد بلاغِها إليك تناسَيْتَها وأعرَضْتَ عنها وأغفَلْتَها، كذلك نعامِلُك اليوم معاملةَ مَن ينساك... فإنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العمل). ((تفسير ابن كثير)) (5/324). .
كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف: 51] .
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127).
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ.
أي: ومِثلَ ذلك الجزاءِ الشَّديدِ لِمن أعرَضَ عن ذِكري، نجزي كُلَّ مَن جاوزَ الحَدَّ، فعصى رَبَّه ولم يؤمِنْ بآياتِه [1101] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/204)، ((تفسير القرطبي)) (11/259)، ((تفسير ابن كثير)) (5/324)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 516). .
وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى.
أي: وللعذابُ الواقِعُ في الآخرةِ أشدُّ ألَمًا [1102] قيل: المرادُ: ولعذابُ الآخرة أشَدُّ مِن عذابِ الدُّنيا. وممن اختاره: ابنُ كثيرٍ، والبقاعي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/324)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 516). وقيل: المرادُ: ولعذابٌ في الآخرةِ أشدُّ لهم مما وعدتُهم في القبرِ مِن المعيشةِ الضنكِ. وممن قال بذلك: ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/204). قيل: المرادُ: ولعذابُ الآخرة أشَدُّ مما يعذبهم به في الدنيا والقبر. وممن اختاره: البغوي، والعليمي والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (3/279)، ((تفسير العليمي)) (4/334)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/130). وقيل: أَشَدُّ وَأَبْقَى  من المعيشة الضَّنْك والمحشر على العَمى. وممن اختاره: الرسعني، وابن جزي. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (4/581)، ((تفسير ابن جزي)) (2/16). ، وأدوَمُ على أصحابِه بلا انقِطاعٍ [1103] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/324)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 516). قال الرازي: (بَيَّنَ... أَنَّ عذابَ الآخرةِ أشدُّ وأبقَى؛ أَمَّا الأشدُّ فلعِظَمِه، وأمَّا الأبقَى فلأنَّه غيرُ مُنْقَطِعٍ). ((تفسير الرازي)) (22/112). .
كما قال تعالى: لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ [الرعد: 34] .
وقال سُبحانَه: فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [الزمر: 26] .
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى [فصلت: 16] .

الفوائد التربوية:

1- قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا أصلُ الضَّنكِ في اللُّغةِ: الضِّيقُ والشِّدَّةُ، فهذه المعيشةُ الضَّنكُ في مقابلةِ التَّوسيعِ على النَّفسِ والبَدَنِ بالشَّهَواتِ واللَّذَّاتِ والرَّاحةِ؛ فإنَّ النَّفسَ كُلَّما وَسَّعْتَ عليها ضَيَّقْتَ على القَلبِ، حتى تصيرَ معيشةً ضنكًا، وكلَّما ضَيَّقْتَ عليها وسَّعْتَ على القَلبِ حتى ينشَرِحَ وينفَسِحَ، فضَنكُ المعيشةِ في الدنيا بموجِبِ التقوى سَعَتُها في البرزخِ والآخرةِ، وسَعَةُ المعيشةِ في الدنيا بحُكمِ الهوى ضَنكُها في البَرزخِ والآخرةِ؛ فآثِرْ أحسَنَ المعيشتَينِ وأطيبَهما وأدوَمَهما، وأشْقِ البَدَنَ بنَعيمِ الرُّوحِ، ولا تُشْقِ الروحَ بنعيمِ البَدَنِ؛ فإنَّ نَعيمَ الرُّوحِ وشقاءَها أعظَمُ وأدوَمُ، ونعيمُ البَدَنِ وشَقاؤه أقصَرُ وأهوَنُ، واللهُ المستعانُ [1104] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 168-169). .
2- قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى تضَمَّنَت هذه الآيةُ أنَّ مَن أعرَضَ عن الهُدى المُنَزَّلِ -وإنْ لم يُكَذِّبْ به- فإنَّه يكونُ يومَ القيامةِ في العذابِ المُهينِ، وأنَّ معيشتَه تكون ضَنْكًا في هذه الحياةِ وفي البَرزخِ والآخرةِ، وهي المضنوكةُ النَّكِدَةُ المحشوَّةُ بأنواعِ الهُمومِ والغُمومِ والأحزانِ، كما أنَّ الحياةَ الطيِّبةَ هي لِمَن آمنَ وعَمِلَ صالِحًا [1105] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (20/107). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي عَبَّر سُبحانَه عن الإعراضِ عن الهدى المُنَزَّلِ بـ «الإعراضِ عن ذِكْرِه»؛ لأنَّ فيما أنزلَه مِن الهُدى تذكيرًا للإنسانِ، وإنذارًا له وتخويفًا [1106] يُنظر: ((شرح مقدمة التفسير)) لابن عثيمين (ص: 36). .
2- قولُه تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا يَشْمَلُ الكافرَ -وله منها حقُّ الوعيدِ- ويَشملُ المؤمِنَ المرتكِبَ الكبيرة -وله نصيبٌ مِن ضَنْكِ العيشِ بقَدْرِ إعراضِه عن الذِّكْرِ- ومذهَبُ أهلِ السُّنَّة أنَّ الشَّخْصَ الواحِدَ تَجتَمِعُ فيه الحَسَناتُ والسيِّئاتُ، فيسْتَحِقُّ الثَّوابَ والعِقابَ جَميعًا [1107] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية)) للبعلي (ص: 189). .
3- قَولُه تعالى: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا فسَّرَها غيرُ واحدٍ مِن السَّلَفِ بعذابِ القَبرِ، وجَعَلوا هذه الآية أحَدَ الأدلَّةِ الدالَّةِ على عذابِ القَبرِ؛ ولهذا قال: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى أي: تُترَكُ في العذابِ، كما تَرَكتَ العمَلَ بآياتِنا، فذَكَر عذابَ البَرزخِ وعذابَ دار البوارِ، ونظيرُه قَولُه تعالى في حَقِّ آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا فهذا في البرزخِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آَلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46] فهذا في القيامةِ الكُبرى، ونظيرُه قوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام: 93] ، فقول الملائكة: الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ المرادُ به: عذابُ البرزخِ الذي أوَّلُه يومُ القَبضِ والموتِ، ونظيرُه قَولُه تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الأنفال: 50] فهذه الإذاقةُ هي في البرزخِ وأولها حينَ الوفاةِ؛ فإنَّه معطوفٌ على قَولِه: يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ، وهو من القَولِ المحذوفِ مَقولُه؛ لِدَلالةِ الكلامِ عليه كنظائِرِه، وكلاهما واقِعٌ وَقتَ الوفاةِ [1108] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/43). .
4- قَولُ الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى فيه سؤالٌ: أنَّنا نرى من المُعرِضينَ عن الإيمانِ من يكون في أخصَبِ عيشةٍ؟!
والجواب: أنَّ المعرضَ عن الإيمانِ وإن تنعَّم في الدنيا بأصنافِ النِّعم، ففي قلبِه مِن الوحشةِ والذلِّ والحسراتِ التي تقطعُ القلوبَ، والأماني الباطلةِ والعذابِ الحاضرِ ما فيه، وإنما يواريه عنه سكراتُ الشهواتِ، والعشقُ وحبُّ الدنيا والرياسةِ، وإن لم ينضمَّ إلى ذلك سكرُ الخمرِ، فسكرُ هذه الأمورِ أعظمُ مِن سكرِ الخمرِ، فإنه يفيقُ صاحبُه ويصحو، وسكرُ الهوى وحبِّ الدنيا لا يصحو صاحبُه إلا إذا كان صاحبُه في عسكرِ الأمواتِ، فالمعيشةُ الضنكُ لازمةٌ لمن أعرضَ عن ذكرِ الله الذي أنزله على رسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم في دُنياه وفي البرزخِ ويومَ معادِه [1109] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 120). ويُنظر أيضًا: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 369). .
5- نسيانُ ما أُمر المرء بحفظِه مذمومٌ، قال تعالى: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى، وهذا النسيانُ وإن كان متضمنًا لتركِ العملِ بها مع حفظِها، فإذا نُسِيت الآياتُ بالكليةِ حتى لا يعرفَ ما فيها كان ذلك أبلغَ في تركِ العملِ بها؛ فكان هذا مذمومًا [1110] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (17/185). .
6- قال تعالى: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ليس داخلًا في هذا الوعيدِ الخاصِّ نسيانُ لفظِ القرآنِ مع فهمِ معناه، والقيامِ بمقتضاه، وإن كان الإعراضُ عن تلاوةِ القرآنِ، وتعريضُه للنسيانِ، وعدمُ الاعتناءِ به؛ فيه تهاونٌ كبيرٌ، وتفريطٌ شديدٌ [1111] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/324)، ((فضائل القرآن)) لابن كثير (ص: 221). .
7- قَولُ الله تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ يؤكِّدُ القَولَ أنَّ السَّرَفَ هو: مجاوزةُ الحَدِّ في الفِعلِ كلِّه، لا في الإنفاقِ وَحدَه [1112] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/303). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى
- قولُه: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ... مُستأنَفٌ استئنافًا ابتدائيًّا [1113] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/332). .
- وجُملةُ: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا واقِعةٌ في طَريقِ المُحاوَرةِ؛ فلذلك فُصِلَت عن الَّتي قبْلَها، ولم تُعْطَفْ عليها [1114] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/332). .
- وفيه ثلاثةُ احتباكاتٍ [1115] الاحْتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالةِ الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخِرِ لدَلالةِ الأوائلِ، إذا اجتمَعَ الحذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ -كما هنا في هذِه الآيةِ- وهو مِن إبداعاتِ القُرآنِ وعناصِرِ إعجازِه، وهو مِن ألطفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347).. ؛ فتَقديرُ الأوَّلِ: ونحشُرُه يومَ القِيامة أعمَى ونَنساهُ. وتَقديرُ الثَّاني والثَّالثِ: قال: كذلك أتَتْك آياتُنا، فنَسِيتَها وعَمِيتَ عنها؛ فكذلك اليومَ تُنْسى وتُحشَرُ أعْمى [1116] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/332). .
2- قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى
- جُملةُ: َكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ تَذييلٌ؛ يجوزُ أنْ تكونَ من حِكايةِ ما يُخاطِبُ اللهُ به مَن يُحْشَرُ يومَ القيامةِ أعمى؛ قُصِدَ منها التَّوبيخُ له والتَّنكيلُ؛ فالواوُ عاطفةٌ الجُملةَ على الَّتي قبْلَها. ويجوزُ أنْ تكونَ تَذييلًا للقصَّةِ، وليست من الخِطابِ المُخاطَبِ به مَن يُحْشَرُ يومَ القيامةِ أعْمى؛ قُصِدَ منها موعظةُ السَّامعينَ؛ ليَحْذَروا مِن أنْ يَصيروا إلى مثْلِ ذلك المصيرِ، فالواوُ اعتراضيَّةٌ؛ لأنَّ التَّذييلَ اعتراضٌ في آخرِ الكلامِ، والواوُ الاعتراضيَّةُ راجعةٌ إلى الواوِ العاطفةِ، إلَّا أنَّها عاطفةٌ مجموعَ كلامٍ على مَجموعِ كلامٍ آخرَ، لا على بعْضِ الكلامِ المعطوفِ عليه [1117] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/333). .
- قولُه: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى يجوزُ أنْ يكونَ تَذييلًا للقصَّةِ، وليس من حِكايةِ خِطابِ اللهِ للَّذي حشَرَه يومَ القيامةِ أعْمَى؛ فالمُرادُ بعذابِ الآخرةِ مُقابِلُ عذابِ الدُّنيا المُفادِ من قولِه: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124] الآيةَ -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، والواوُ اعتراضيَّةٌ. ويجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ من حِكايةِ خِطابِ اللهِ للَّذي يَحشُرُه أعْمى؛ فالمُرادُ بعذابِ الآخرةِ: العذابُ الَّذي وقَعَ فيه المُخاطَبُ، أي: أشدُّ من عَذابِ الدُّنيا -على أحدِ الأقوالِ في التفسيرِ-، وأبْقى منه؛ لأنَّه أطوَلُ مُدَّةً [1118] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/333). .