موسوعة التفسير

سورةُ طه
الآيات (128-130)

ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ

غريب الكلمات :

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ: أي: يُبَيِّنْ لهم، أو يَتَبيَّنْ لهم، وأصلُ (هدي) هنا: التَّقدُّمُ للإرشادِ [1119] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 283)، ((تفسير ابن جرير)) (16/204)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/42)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 234)، ((تفسير الرسعني)) (4/581). .
لِأُولِي النُّهَى: أي: أصحابِ العقولِ، والنُّهَى جمعٌ، مفردُه نُهْيَةٌ، وسُمِّي العقلُ بذلك؛ لأنَّه يَنهَى عن قبيحِ الفعلِ، وأصلُ (نهي): يدُلُّ على غايةٍ وبلوغٍ [1120] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 279)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 475)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/359)، ((المفردات في غريب القرآن)) للراغب (ص: 827)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 228). .
لِزَامًا: أي: ملازمًا لا يفارقُ، أو: لازمًا، أو: حتمًا واقعًا، واللِّزامُ مصدرُ لازَمَ، وأصلُ (لَزِمَ): يَدُلُّ على مُصاحبةِ الشَّيءِ بالشَّيءِ دائمًا [1121] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 283)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/245)، ((تفسير ابن عطية)) (4/69)، ((المفردات)) للراغب (ص: 740)، ((تفسير الشوكاني)) (3/464). .
وَأَجَلٌ مُسَمًّى: أصلُ الأجَلِ: غايةُ الوَقتِ، والمُدَّةُ المضروبةُ للشَّيءِ، ومُسَمًّى أَي: مُثبَتٌ مُعَيَّنٌ [1122] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/207)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/64)، ((المفردات)) للراغب (ص: 639)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 406)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 49، 882). .
آَنَاءِ اللَّيْلِ: أي: ساعاتِه، وأصلُ (أني) هنا: ساعةٌ مِن الزَّمانِ [1123] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 283)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 69)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/141) و(5/225)، ((المفردات)) للراغب (ص: 96)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 234)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 152)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 201). .

مشكل الإعراب:

قولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى
قولُه تعالى: وَأَجَلٌ مَرفوعٌ بالعَطفِ على كَلِمَةٌ أي: ولولا كَلِمةٌ وأجَلٌ مُسمًّى لكان الأخذُ العاجِلُ لِزامًا لهم. وقيل: مَرفوعٌ عطفًا على الضَّميرِ المُستَترِ في (كان) العائدِ على الأخذِ العاجلِ المدلولِ عليه بالسِّياقِ، وقام الفَصلُ بـ (لِزَامًا) مَقامَ التأكيدِ. والتقديرُ: ولولا كَلِمةٌ سَبقَت مِن ربِّك، لكان الأخذُ العاجِلُ وأجَلٌ مُسَمًّى لازِمَين لهم [1124] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/195)، ((تفسير الزمخشري)) (1/1566)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/120)، ((تفسير الألوسي)) (8/588). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى موبخًا هؤلاء الذين لم ينتفِعوا بآياتِه: أفلَمْ يتبَيَّنْ لِمُشرِكي العَرَبِ -يا محمَّدُ- كَثرةُ مَن أهلَكْنا مِن الأمَمِ المكَذِّبةِ قَبْلَهم، وهم يمشونَ في ديارِهم، ويَرَون آثارَ هلاكِهم بسَبَبِ كُفرِهم؟! إنَّ في إهلاكِ تلك الأمَمِ المكذِّبةِ لَعِبَرًا وعظاتٍ لأهلِ العُقولِ الواعيةِ، ولولا تقديرُ اللهِ تأخيرَ عذابِهم إلى وقتٍ مقدَّرٍ، لحاقَ بهم الهلاكُ العاجِلُ.
 ثمَّ يأمرُ الله تعالى رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم بالمداومةِ على الصبرِ، والإكثارِ مِن ذكرِه، فيقول: فاصبِرْ على ما يقولُه المكَذِّبونَ بك مِن كُفَّارِ قَومِك، وسبِّحْ بحَمدِ رَبِّك قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ بأن تصلِّيَ صَلاةَ الفَجرِ، وقبلَ غروبِها بأن تصلِّيَ صلاةَ العَصرِ، ومِن ساعاتِ اللَّيلِ فَصَلِّ، وأطرافَ النَّهارِ؛ كي تَرْضى بما تُثابُ عليه.

تفسير الآيات:

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لما بيَّنَ الله تعالى أنَّ من أعرَضَ عن ذِكرِه كيف يُحشَرُ يوم القيامة، أتبَعَه بما يَعتَبِرُ به المكَلَّفُ من الأحوالِ الواقعةِ في الدنيا بمن كَذَّبَ الرسُلَ [1125] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/112). .
وأيضًا لما كان ما مضَى من هذه السورةِ وما قبلَها مِن ذكرِ مصارعِ الأقدمينَ، وأحاديثِ المكذبينَ، بسببِ العصيانِ على الرسلِ، سببًا عظيمًا للاستبصارِ والبيانِ، كانوا أهلًا لأن يُنكِرَ عليهم لزومَهم لعماهم؛ فقال تعالى [1126] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/364). :
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ.
أي: أفلَمْ يتبَيَّنْ لِمُشرِكي العَرَبِ كثرةُ من أهلَكْنا قبلهم من الأُمَمِ الماضيةِ، وهم يسيرونَ في مساكِنِهم إذا سافروا، ويَرَونَ آثارَ هَلاكِهم بسَبَبِ كُفرِهم، أفلا يخافونَ أنْ نُهلِكَهم مِثْلَهم، إن لم يؤمِنوا ويُذعِنوا للحَقِّ الذي جاءَهم [1127] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/204)، ((البسيط)) للواحدي (14/555)، ((تفسير القرطبي)) (11/260)، ((تفسير ابن كثير)) (5/325). قال ابنُ عاشور: (والمرادُ بالقرونِ: عادٌ وثمود؛ فقد كان العربُ يمرُّون بمساكِنِ عادٍ في رِحْلاتِهم إلى اليَمَنِ ونجران وما جاورها، وبمساكِنِ ثمودَ في رحلاتِهم إلى الشَّامِ، وقد مرَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمون بديارِ ثمودَ في مسيرِهم إلى تبوكَ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/335). ؟!
كما قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ [الأنعام: 6] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى.
أي: إنَّ في إهلاك الأمَمِ المكذِّبةِ لَدلالاتٍ وعِظاتٍ لِذَوي العُقولِ الصَّحيحةِ [1128] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/206)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 708)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/436)، ((تفسير ابن كثير)) (5/325). قال ابن القيم: (فأيُّ دَلالةٍ أعظَمُ مِن رَجُلٍ يَخرُجُ وَحدَه لا عُدَّةَ له ولا عَدَدَ ولا مالَ، فيدعو الأمَّةَ العظيمةَ إلى توحيدِ الله والإيمانِ به وطاعته، ويحَذِّرُهم من بأسِه ونِقمَتِه؛ فتتَّفِق كَلِمتُهم أو أكثَرِهم على تكذيبِه ومعاداتِه، فيُذَكِّرُهم أنواعَ العقوباتِ الخارجةِ عن قُدرةِ البَشَرِ، فيُغرِقُ المكَذِّبينَ كُلَّهم تارة، ويخسِفُ بغَيرِهم الأرضَ تارةً، ويُهلِكُ آخرينَ بالرِّيحِ، وآخرينَ بالصَّيحةِ، وآخرينَ بالمسخِ، وآخرينَ بالصَّواعِقِ، وآخرينَ بأنواعِ العقوباتِ، وينجو داعيهم ومَن معه، والهالِكونُ أضعافُ أضعافِ أضعافِهم عددًا وقُوَّةً ومَنعةً وأموالًا؟!). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 302). .
كما قال تعالى: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] .
وقال سُبحانَه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 36، 37].
وقال عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 51].
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
أنَّه لَمَّا هَدَّدَهم الله تعالى بإهلاكِ الماضين، ذكرَ سَبَبَ التأخيرِ عنهم [1129] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (2/491). .
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).
أي: ولولا تَقديرُ الله تأخيرَ العذابِ إلى وَقتٍ مُقَدَّرٍ [1130] قال ابنُ تيمية: (قوله: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي: إنَّ عذابَهم له أجلٌ مسمًّى: إمَّا يوم القيامةِ، وإمَّا في الدنيا كيومِ بدرٍ، وإما عَقِبَ الموتِ، وقد ذُكِر في الآيةِ الأقوالُ الثلاثةِ. فلولا كلمةٌ سبقَت مِن ربِّك إلى أجلٍ مسمًّى، لكان العذابُ لزامًا، أي: لازمًا لهم؛ فإن المقتضي له قائمٌ تامٌّ، وهو كفرُهم). ((مجموع الفتاوى)) (16/593). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/69). ؛ للزِمَهم الهلاكُ عاجِلًا [1131] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/207)، ((تفسير ابن عطية)) (4/69)، ((تفسير القرطبي)) (11/260)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/593)، ((تفسير ابن كثير)) (5/325)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/336، 337). .
كما قال تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان: 77] .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لمَّا أخبَرَ الله تعالى نبيَّه بأنَّه لا يُهلِكُ أحدًا قبلَ استيفاءِ أجَلِه؛ أمَرَه بالصبر على ما يقولونَ، فرَغَّبَه تعالى في الصبرِ، وبعَثه على الإدامةِ على الدعاءِ إلى الله تعالى، وإبلاغِ ما حُمِّلَ مِن الرسالةِ، وألَّا يكونَ ما يُقدِمونَ عليه صارفًا له عن ذلك [1132] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/113). .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ.
أي: فاصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يقولُ كُفَّارُ قَومِك مِن تكذيبِك، والاستهزاءِ بك، وإيذائِك، كقولهم: هو ساحِرٌ ومجنونٌ؛ فلا تستعجِلْ لهم العذابَ، ولا تحفِلْ بهم؛ فإنَّ لعذابِهم وَقتًا مضروبًا لا يُتقَدَّمُ عنه، ولا يُتأخَّرُ [1133] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/208)، ((تفسير القرطبي)) (11/260)، ((تفسير ابن كثير)) (5/325)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/337). .
  وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا.
أي: ونزِّه -يا محمَّدُ- ربَّك عن كلِّ نَقصٍ، حامدًا له بإثباتِ كُلِّ كَمالٍ مع محبَّتِه وتَعظيمِه سُبحانَه، وذلك بأن تصلِّيَ له وَحدَه قَبلَ طُلوعِ الشَّمسِ: صلاةَ الفَجرِ، وقبل غُروبِها، صلاةَ العَصرِ [1134] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/208)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 708)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (3/289 - 293) و(6/344)، ((تفسير ابن كثير)) (5/325)، ((فتح الباري)) لابن رجب (4/177)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/367). وممن ذهب إلى أنَّ المرادَ بالتسبيحِ قبلَ طلوعِ الشمسِ: صلاةُ الصبح، وبالتسبيحِ قبلَ غروبِ الشمسِ: صلاةُ العصرِ: ابنُ جرير، والواحدي، وابنُ تيمية، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/208)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 708)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/344)، ((تفسير ابن كثير)) (5/325). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: قتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/210).قال القرطبي: (قال أكثرُ المتأوِّلينَ: هذا إشارةٌ إلى الصلواتِ الخَمسِ). ((تفسير القرطبي)) (11/261). وقال الشوكاني: (ولو قيل: ليس في الآيةِ إشارةٌ إلى الصلاةِ، بل المرادُ التسبيحُ في هذه الأوقاتِ، أي: قول القائلِ: سبحانَ الله، لم يكن ذلك بعيدًا مِن الصوابِ). ((تفسير الشوكاني)) (3/465). وقال ابن تيمية: (قولُه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قد فسَّرَها كثيرٌ من المفَسِّرينَ أي: فصَلِّ بحَمدِ رَبِّك والثناء عليه، لم يذكُرِ ابن الجوزيِّ غيرَ هذا القول، قال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صَلِّ له بالحمدِ والثناءِ عليه. وتفسيرُ التسبيحِ بالصلاةِ فيها أحاديثُ صحيحةٌ وآثار كثيرة، مثل حديثِ جرير... وأمَّا قولُه: بِحَمْدِ رَبِّكَ... أي بحمدِ ربِّك وشكرِ ربِّك وطاعةِ ربِّك وعبادة ربِّك، أي: بذكرك ربَّك وشكرِك ربَّك وطاعتِك ربَّك وعبادتِك ربَّك، ولا ريبَ أنَّ حمدَ الربِّ والثناءَ عليه ركنٌ في الصلاةِ؛ فإنها لا تتمُّ إلا بالفاتحةِ التي نصفُها الأولُ حمدٌ لله وثناءٌ عليه وتحميدٌ له، وقد شُرع قبل ذلك الاستفتاحُ، وشُرع الحمدُ عند الرفعِ مِن الركوعِ، وهو متضمِّنٌ لحمدِ الله تعالى). ((جامع المسائل)) (3/289). وقال ابن تيمة أيضًا: (وقد قيل: إنِّ الصلاةَ إنما سمِّيت تسبيحًا؛ لاشتمالِها على القيامِ والقراءةِ، وتسمَّى ركعةً وسجدةً؛ لاشتمالِها على الركعةِ والسجدةِ... والمصلِّي إذا حمِد ربَّه في القيامِ، أو في القيامِ والقعودِ، وسبَّح في الركوعِ والسجودِ، فقد جمَع التسبيحَ والحمدَ، فسبَّح بحمدِ الله. فالصلاةُ تسبيحٌ بحمدِ ربِّه، كما بيَّن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك). ((جامع المسائل)) (3/293). وقال أيضًا: (فـ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ هي صلاةُ الفجرِ، ووَقَبْلَ غُرُوبِهَا هي العصرُ، وكذلك فسَّرها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم). ((جامع المسائل)) (6/344). وقال ابن رجب: (صلاةُ الصُّبحِ وصَلاةُ العَصرِ يدخُلُ في التسبيحِ قبلَ طلوعِ الشَّمسِ وقبلَ غروبِها). ((فتح الباري)) (4/177). .
كما قال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] .
وقال سُبحانَه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 97، 98].
وعن جريرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ الله عنه قال: ((كنَّا عند النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذ نظَرَ إلى القَمَرِ ليلة البَدرِ فقال: أمَا إنَّكم ستَرَونَ رَبَّكم كما تَرَونَ هذا، لا تضامُّونَ [1135] لا تضامون: يُروَى بالتشديدِ والتخفيفِ، فبالتشديدِ معناه: لا ينضمُّ بعضُكم إلى بعضٍ وتزدحمونَ وقتَ النظرِ إليه، وبالتخفيفِ معناه: لا ينالُكم ضيمٌ (أي: ظلم) في رؤيتِه، فيراه بعضُكم دونَ بعضٍ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (3/101). -أو لا تضاهون [1136] تضاهون: لا يشتبِهُ عليكم، ولا ترتابون فيه فيعارِض بعضُكم بعضًا. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (11/446). - في رؤيتِه، فإن استطعتُم ألَّا تُغلبوا على صلاةٍ قبل طلوعِ الشَّمسِ وقبل غُروبِها، فافعَلوا)) ثم قال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [1137] رواه البخاري (573) واللفظ له، ومسلم (633). قال ابن رجب: (وقد أدرج أكثرُ الرواةِ القراءةَ في الحديثِ، وبيَّن بعضُهم: أنَّ جريرًا هو الذي قرأ ذلك). ((فتح الباري)) (4/177). وقال أيضًا: (وقد قيل: إنَّ هذه الكلمة مُدرَجةٌ، وإنما القارئ هو جريرُ بن عبد الله البَجَلي. وقد خرجَّه مسلم في «صحيحه» عن أبي خيثمةَ، عن مروانَ بنِ معاويةَ -فذكر الحديثَ، وقال في آخرِه: ثم قرأ جرير: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39]. وكذا رواه عمرُو بنُ زرارةَ وغيرُه، عن مروانَ بنِ معاويةَ، وأدرجه عنه آخرون). ((فتح الباري)) (4/325-326). .
وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ.
أي: ومِن ساعاتِ اللَّيلِ فَصَلِّ -يا محمَّدُ [1138] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/208)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 708)، ((جامع المسائل)) لابن تيمية (6/345)، ((تفسير ابن كثير)) (5/326). قال ابن تيمية: (وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ مُطلَقٌ في آناءِ اللَّيلِ يتناولُ المغربَ والعِشاءَ). ((جامع المسائل)) (6/345). وقال ابن رجب: (وأما التسبيحُ من آناء الليل فيدخلُ فيه صلاة المغربِ وصلاةُ العشاء). ((فتح الباري)) (4/177). وقيل: المراد: صلاة المغرب والعشاء. وممن قال بذلك: مقاتل بن سليمان، ومكي، والواحدي، والبغوي، والبيضاوي، والخازن، والعُليمي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/46)، ((الهداية الى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7945)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 708)، ((تفسير البغوي)) (3/280)، ((تفسير البيضاوي)) (4/42)، ((تفسير الخازن)) (3/218)، ((تفسير العليمي)) (4/336)، ((تفسير القاسمي)) (7/166). وممن قال بهذا القولِ من السلفِ: قتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/211). وحملها ابنُ جرير على صلاةِ العشاءِ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/208). وممن قال بهذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/211). وحملها ابنُ كثيرٍ على قيامِ الليلِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (5/326). وممن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السلفِ: ابنُ عباسٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/211). .
كما قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 39، 40].
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى.
أي: وصلِّ -يا محمَّد- في أطرافِ النَّهارِ؛ كي ترضى بما يعطيك ربُّك مِن الثوابِ العاجِلِ والآجِلِ، ويطمَئِنَّ قَلْبُك وتقَرَّ عَينُك بعبادةِ رَبِّك، وتتسلَّى بها عن أذيَّتِهم، ويَهونَ عليك الصَّبرُ [1139] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/209-213)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 708)، ((تفسير البغوي)) (3/280)، ((تفسير القرطبي)) (11/261)، ((تفسير ابن كثير)) (5/326)، ((تفسير السعدي)) (ص: 516)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/339). قيل: المرادُ بذلك: صلاة الظهر. وممن قال به: الواحدي، والسمعاني، والبغوي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 708)، ((تفسير السمعاني)) (3/363)، ((تفسير البغوي)) (3/280). وممن قال بهذا القول من السلف: قتادة. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/211). وقيل: المراد بأطراف النهار: صلاةُ الظهر والمغرب. وممن قال بذلك: ابن جرير، والقرطبي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/208)، ((تفسير القرطبي)) (11/261). قال ابن جرير: (وقيل: أطراف النهار، والمراد بذلك الصلاتان اللتان ذكرنا؛ لأنَّ صلاةَ الظُّهرِ في آخر طَرَفِ النهار الأول، وفي أوَّلِ طَرَفِ النهار الآخِر، فهي في طرفَينِ منه، والطرف الثالث: غروبُ الشمس، وعند ذلك تصلَّى المغربُ، فلذلك قيل أطراف). ((تفسير ابن جرير)) (16/209). وذهب ابن رجب إلى أنه يدخلُ في أطراف النَّهارِ صلاةُ الفَجرِ وصلاة العصر، وربما دخلت فيه صلاةُ الظهر؛ لأنَّها في أول طرف النهار الآخر. يُنظر: ((فتح الباري)) (4/177، 178). وقال القرطبي: (وقالت فرقةٌ: المرادُ بالآية صلاة التطوُّع، قاله الحسنُ). ((تفسير القرطبي)) (11/261). ويُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/70). وقال ابنُ عاشور: (وقرأ الجمهورُ: لَعَلَّكَ تَرْضَى -بفتح التاء- بصيغة البناء للفاعل، أي: رجاءً لك أن تنالَ مِن الثوابِ عند الله ما ترضى به نفسُك. ويجوز أن يكون المعنى: لعلَّ في ذلك المقدارِ الواجِبِ من الصلواتِ ما ترضى به نفسُك دونَ زيادةٍ في الواجِبِ؛ رفقًا بك وبأمتك، ويبَيِّنُه قَولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «وجُعِلَت قرَّةُ عيني في الصَّلاةِ». وقرأ الكسائي، وشعبة عن عاصم: تُرْضَى -بضَمِّ التاء- أي: يُرضِيك ربُّك. وهو محتَمِلٌ للمعنيينِ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/339). .
عن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ الله عنه، قال: قال رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ لأهلِ الجنَّةِ: يا أهلَ الجنَّةِ، فيقولون: لبَّيك ربَّنا وسَعدَيك [1140] لبَّيك وسَعْديك: أي: لُزومًا لطاعتِك بعد لُزومٍ، وإسعادًا لأمرِك بعد إسعادٍ. ولبَّيك: مأخوذٌ مِن: لَبَّ بالمكانِ وألَبَّ، أي: أقام به. وأصلُ الإسعادِ والمُساعَدةِ: مُتابعةُ العبدِ أمرَ رَبِّه. يُنظر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (2/43). ، فيقولُ: هل رَضِيتُم؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خَلقِك؟! فيقولُ: أنا أُعطيكم أفضَلَ مِن ذلك، قالوا: يا رَبِّ، وأيُّ شَيءٍ أفضَلُ مِن ذلك؟! فيقولُ: أحِلُّ عليكم رِضواني، فلا أسخَطُ عليكم بعده أبدًا )) [1141] رواه البخاري (6549) واللفظ له، ومسلم (2829). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى فيه أنَّه ما كُلُّ أحدٍ ينتَفِعُ بالآياتِ، إنما ينتَفِعُ بها أولو النُّهى، أي: العقولِ السليمةِ، والفِطَرِ المُستقيمة، والألبابِ التي تَزجُرُ أصحابَها عمَّا لا ينبغي [1142] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 516). .
2- قال الله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى أمَرَ تعالى عَقيبَ الصَّبرِ بالتَّسبيحِ؛ لأنَّ ذِكرَ اللهِ تعالى يفيدُ السَّلوةَ والرَّاحةَ؛ إذ لا راحةَ للمُؤمِنينَ دونَ لقاءِ الله تعالى [1143] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/113). ، على أحدِ القولينِ في المرادِ بالتسبيحِ.

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى حُجَّةٌ على القَدَريَّةِ والمُعتزلةِ في ذِكْرِ سابقِ الكَلِمةِ، وهو -واللهُ أعلمُ- نظيرُ قَولهِ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 68] في معنى السَّبْقِ [1144] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقَصَّاب (2/305). .
2- تَسبيحُ اللهِ تعالى كثيرًا ما يُقرَنُ بتَحميدِه؛ فإنَّ الله تعالى يَذكُرُ في غيرِ مَوضِعٍ التَّسبيحَ بحَمدِه، كقَولِه جَلَّ وعلا: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، وقَولِه: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] ، وقَولِه: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر: 7] ، وقَولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ [الطور: 48]. والتَّسبيحُ والتَّحميدُ يَجمَعُ النفيَ والإثباتَ، وهو نفيُ المعائِبِ، وإثباتُ المحامِدِ؛ وذلك يتضَمَّنُ التعظيمَ؛ فالتسبيحُ يتضَمَّنُ التنزيهَ المُستَلزِمَ للتَّعظيمِ، والحمدُ يتضَمَّنُ إثباتَ المحامِدِ المتضَمِّنَ لِنَفي نقائِصِها [1145] يُنظر: ((جامع المسائل لابن تيمية)) (3/271). .
3- قَولُ الله تعالى: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ أفاد بذِكرِ الجارِّ في (الآناءِ) التبعيضَ؛ لأنَّ الليلَ محَلُّ الراحةِ، ونَزعُه من الأطرافِ لتيسُّرِ استغراقِها بالذِّكرِ؛ لأنَّ النَّهارَ مَوضِعُ النشاطِ واليَقَظةِ [1146] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/368). .
4- قول الله تعالى: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وجهُ الاهتمامِ بآناءِ اللَّيلِ: أنَّ اللَّيلَ وقتٌ تَميلُ فيه النُّفوسُ إلى الدَّعَةِ، فيُخشى أن يُتساهَلَ في أداءِ الصَّلاةِ فيه [1147] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/338). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى
- قولُه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ كلامٌ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لتَقريرِ ما قبْلَه مِن قولِه تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الآيةَ، والهمزةُ للإنكارِ التَّوبيخيِّ، والفاءُ للعطْفِ على مُقدَّرٍ يَقْتضيهِ المقامُ. واستعمالُ الهدايةِ باللَّامِ؛ إمَّا لتَنزيلِها مَنزِلةَ اللَّازمِ، فلا حاجةَ إلى المفعولِ، أو لأنَّها بمعنى التَّبيينِ، والمفعولُ مَحذوفٌ [1148] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/48). .
- قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى تَعليلٌ للإنكارِ، وتَقريرٌ للهدايةِ مع عدَمِ اهتدائِهم، وذلك إشارةٌ إلى مَضمونِ قولِه تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا إلخ، وما فيه مِن معنى البُعدِ؛ للإشعارِ ببُعْدِ مَنزلتِه وعُلوِّ شأْنِه في بابِه [1149] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/49). .
- وحرْفُ التَّأكيدِ (إنَّ)؛ للاهتمامِ بالخبرِ، وللإيذانِ بالتَّعليلِ. وفي هذا تَعريضٌ بالَّذين لم يَهْتَدوا بتلك الآياتِ بأنَّهم عَديمو العُقولِ، كقولِه: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [1150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (16/335). [الفرقان: 44] .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ بالفاءِ مِن غيرِ (مِن)، وفي (السَّجدةِ): أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ [السجدة: 26] بالواوِ وبعْدَه (مِن). ووجْهُه: أنَّ الفاءَ للتَّعقيبِ والاتِّصالِ بالأوَّلِ، فطال الكلامُ، فحسُنَ حذْفُ (مِن). والواوُ تدُلُّ على الاستئنافِ، وإثباتُ (مِن) مُسْتثقَلٌ [1151] يُنظر: ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 176)، ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/316). .
وفيه وجْهٌ آخرُ: أنَّ قولَه في الآيةِ الأُولى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كلامٌ لم يَتقدَّمْه ما يكونُ هذا معطوفًا عليه، وإنَّما هو كلامٌ مُستأنفٌ مُبتدأٌ، فما تقدَّمَ قبْلَه من قولِه تعالى إخبارًا عمَّن أعرَضَ عمَّا جاءت به الرُّسلُ: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا [طه: 124] إلى قولِه: وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه: 127] ، هذا إخبارٌ عن جَزاءِ مَن أعرَضَ ولم يُؤمِنْ، ثمَّ ورَدَ ما بعْدُ مُسْتأنَفًا واردًا مَورِدَ ما يَرِدُ من الكلامِ الْتِفاتًا، ثمَّ ابتدَأَ تَوبيخَهم وتذكيرَهم، فقال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، وإذا كان قولُه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مُبتدأً مُستأنَفًا، فالموضعُ للفاءِ، ومثله ما أتى ممَّا الوجْهُ فيه الاستئنافُ، ولم يُقْصَدْ عطْفُه على ما قبْلَه، وإنَّما ارتباطُه بما تقدَّمَه من جِهَةِ المعنى، ولا مدخَلَ فيه للعطفِ، مع أنَّ الالْتِحامَ حاصلٌ من وجْهٍ كما بيَّنَّا.
وأمَّا آيةُ (السَّجدةِ) فالْواوُ فيها عاطفةٌ على مُقدَّرٍ؛ لمَّا قال اللهُ تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا [السجدة: 22] ، كأنْ قد قِيلَ: أفلَا تذكَّروا ولم يُعرِضوا أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ [السجدة: 26] ، أولَمْ يُبيِّنْ لهم إهلاكُ مَن تقدَّمَهم منَ القُرونِ.
وأمَّا زِيادةُ (مِن) في قولِه في آيةِ (السَّجدةِ): مِنْ قَبْلِهِمْ [السجدة: 26] ، فإنَّها مقصودٌ فيها استغراقُ عُمومٍ لمُناسَبةِ ما تقدَّمَ هذه الآيةَ مِن حصْرِ التَّقسيمِ في قولِه: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ، وأُعْقِبَت به، ممَّا يُفْهِمُه قولُه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ [السجدة: 26] ؛ إذ ليس هنا الواردُ كالواردِ في سُورةِ (طه) من قولِه: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى [طه: 128] ، فهذا يُشعِرُ بخُصوصٍ يُناسِبُه سُقوطُ (مِن) الاستغراقيَّةِ، وما في آيةِ (السَّجدةِ) يُشعِرُ بعُمومٍ واستغراقٍ تُناسِبُه (مِن) في قولِه: مِنْ قَبْلِهِمْ، فجاء كلٌّ على ما يُناسِبُ ويَجِبُ [1152] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/342-343). .
2- قولُه تعالى: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى كَلامٌ مُستأنَفٌ سِيقَ لبَيانِ حِكْمةِ عدَمِ وُقوعِ ما يُشْعِرُ به قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الآيةَ، مِن أنْ يُصيبَهم مثْلُ ما أصاب القُرونَ المُهلَكةَ. وفي التَّعرُّضِ لعُنوانِ الرُّبوبيَّةِ مع الإضافةِ إلى ضَميرِه عليه السَّلامُ: تَلويحٌ بأنَّ ذلك التَّأخيرَ لتَشريفِه عليه السَّلامُ، كما يُنْبِئُ عنه قولُه تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] [1153] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/49). .
- و(اللِّزامُ) إمَّا مصْدرُ (لازَمَ)؛ وُصِفَ به لقصْدِ المُبالَغةِ في قُوَّةِ المعنى؛ كأنَّه حاصِلٌ من عِدَّةِ ناسٍ، وإمَّا (فِعال) بمعنى (مُفعِل)، أي: مُلْزِم، كأنَّه آلةُ اللُّزومِ؛ لفرْطِ لُزومِه [1154] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/96)، ((تفسير أبي حيان)) (7/397)، ((تفسير أبي السعود)) (6/49)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/336). .
- قولُه: أَجَلٍ مُسَمًّى معطوفٌ على كَلِمَةٌ، وفصْلُه عمَّا عُطِفَ عليه؛ للمُسارَعةِ إلى بَيانِ جَوابِ (لولا)، وللإشعارِ باستقلالِ كلٍّ منهما بنفْيِ لُزومِ العذابِ، ومُراعاةِ فواصلِ الآيِ الكريمةِ [1155] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/96)، ((تفسير أبي حيان)) (7/397)، ((تفسير أبي السعود)) (6/49)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/336). .
- وفي الآيةِ تَقديمٌ وتأخيرٌ، أي: ولولا كلمةٌ سبَقَتْ من ربِّك وأجَلٌ مُسمًّى، لكان العذابُ لِزامًا، أي: لازِمًا لهم كما لزِمَ الأُمَمَ الَّتي قبْلَهم [1156] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 369). .
3- قوله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى
- قولُه: وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ المُرادُ به المغربُ والعشاءُ -على أحدِ الأقوالِ- وتَقديمُ الوقْتِ فيهما؛ لاختصاصِهما بمَزيدِ الفضْلِ؛ فإنَّ القلْبَ فيهما أجمَعُ، والنَّفسَ إلى الاستراحةِ أميَلُ، فتكونُ العِبادةُ فيهما أشَقَّ [1157] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/96- 97)، ((تفسير البيضاوي)) (4/42)، ((تفسير أبي السعود)) (6/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/338). .
- قولُه: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ قيل: هو تَكريرٌ لصَلاتيِ الصُّبحِ والمغربِ إرادةَ الاختصاصِ، ومَجيئُه بلفْظِ الجمْعِ لأمْنِ الإلباسِ. وقيل: هو أمْرٌ بصَلاةِ الظُّهرِ؛ فإنَّه نِهايةُ النِّصفِ الأوَّلِ من النَّهارِ وبِدايةُ النِّصفِ الآخرِ، وجمْعُه باعتبارِ النِّصفينِ، أو لأنَّ النَّهارَ جنْسٌ، أو بالتَّطوُّعِ في أجزاءِ النَّهارِ [1158] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/96- 97)، ((تفسير البيضاوي)) (4/43)، ((تفسير أبي السعود)) (6/50)، ((تفسير ابن عاشور)) (16/339). . وقيل: هو تكريرٌ لصَلاتَيِ الصُّبحِ والعَصرِ؛ إعلامًا بمزيد فَضلِهما [1159] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (12/367). .
- وفيه مُناسبةٌ حَسنةٌ؛ حيث قال هنا: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130] ، وفي سُورةِ (ق): فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] ، فقال في الأُولى: وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وفي الثَّانيةِ: وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وفي سُورةِ الطُّورِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [الطور: 48، 49]، وذلك لرَعْيِ الفواصلِ ومَقاطعِ الآيِ؛ فقد تقدَّمَ قبْلَ آيةِ (ق) من قولِه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38]، فناسَبَ هذا قولُه: وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وأمَّا آيةُ (طه) فقدِ اكتنَفَها آيٌ، مَقاطِعُها الألِفُ المفتوحُ ما قبْلَها نُطْقًا وتقديرًا، فجاء ذلك على ما يجِبُ في السُّورتينِ.
أمَّا قولُه تعالى في السُّورتينِ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [طه: 130] [ق: 39] ، بناءً على المُتقدِّمِ فيهما من قولِه تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] واتِّصالِه به، فَبِيِّنُ الوُضوحِ؛ لأنَّ المُرادَ أمْرُه عليه السَّلامُ بالصَّبرِ على أذاهمْ في قولِهم: كاهنٌ، ومجنونٌ، وساحرٌ، إلى غيرِ ذلك ممَّا نزَّهَ اللهُ نَبِيَّه عليه السَّلامُ منه، فأُمِرَ بالصَّبرِ على ذلك، وأُمِرَ أنْ يَستعينَ بصبْرِه وصَلاتِه، كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ [البقرة: 45] ، وهو المُرادُ أيضًا هنا، وعن الصَّلاةِ عبَّرَ بالتَّسبيحِ -في قولِ أكثرِ المُفسِّرينَ-، وإنْ أُرِيدَ بالتَّسبيحِ معنى التَّنزيهِ بالذِّكرِ المعروفِ، فذلك أيضًا بَيِّنٌ، والمعنى مُتعارَفٌ، ويكونُ مأمورًا بالصَّبرِ والذِّكرِ والتَّنزيهِ، فالالْتِحامُ بيِّنٌ [1160] يُنظر: ((ملاك التأويل)) للغرناطي (2/343-344). .
- ومن المُناسَبةِ أيضًا قولُه هنا: وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وفي سُورةِ (هودٍ) قال: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ [هود: 114] ؛ قيل: جاءتِ التَّثنيةُ على الأصْلِ، والجمْعُ لأمْنِ اللَّبسِ؛ إذ النَّهارُ ليس له إلَّا طَرفانِ. وقيل: هو على حَقيقةِ الجمْعِ؛ الفجْرُ: الطَّرفُ الأوَّلُ، والظُّهرُ والعصرُ من الطَّرفِ الثَّاني، والطَّرفُ الثَّالثُ: المغرِبُ والعشاءُ. وقيل: النَّهارُ له أربعةُ أطرافٍ: عندَ طُلوعِ الشَّمسِ، وعندَ غُروبِها، وعندَ زَوالِ الشَّمسِ، وعندَ وُقوفِها للزَّوالِ. وقيل: الظُّهرُ في آخرِ طرَفِ النَّهارِ الأوَّلِ، وأوَّلِ طرَفِ النَّهارِ الآخِر، فهي في طَرفينِ منه، والطَّرفُ الثَّالثُ: غُروبُ الشَّمسِ، وهو وقْتُ المغربِ. وقيل: يُجْعَلُ النَّهارُ للجنْسِ، فلكلِّ يومٍ طرَفٌ، فيتكرَّرُ بتَكرُّرِه. وقيل: المُرادُ بالأطرافِ السَّاعاتُ؛ لأنَّ الطَّرفَ آخِرُ الشَّيءِ [1161] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/399). . وقيل: إنَّه إنَّما جُمِع؛ لأنَّه يتكَرَّرُ في كلِّ نهارٍ ويعودُ [1162] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (22/114). .