موسوعة التفسير

سُورةُ ق
الآيات (36-40)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ

غريب الكلمات:

قَرْنٍ: القَرْنُ: القَومُ أو الأُمَّةُ مِنَ النَّاسِ المُقتَرِنونَ في زمنٍ واحدٍ، غَيْر مُقَدَّرٍ بمدَّةٍ مُعَيَّنةٍ، وقيل: مدَّةُ القرنِ مِئةُ سَنةٍ، وقيل: ثمانونَ، وقيل: ثلاثونَ، وقيل غيرُ ذلك، وهو مأخوذٌ مِن الاقتِرانِ، وهو اجتِماعُ شيئَينِ، أو أشياءَ في معنًى مِن المعاني، وأصلُ (قرن): يدُلُّ على جَمعِ شَيءٍ إلى شَيءٍ [396] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 150)، ((معاني القرآن)) للنحاس (2/400)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/76، 77)، ((المفردات)) للراغب (ص: 667)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 155)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 729). .
بَطْشًا: أي: قُوَّةً، والبَطْشُ: الأخذُ بعُنفٍ، وأصلُ (بطش): يدُلُّ على أخذِ الشَّيءِ بقَهرٍ وقُوَّةٍ وغَلَبةٍ [397] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/262)، ((المفردات)) للراغب (ص: 129). .
فَنَقَّبُوا: أي: طافوا وسارُوا وتوَغَّلوا، وأصلُه مِنَ النَّقْبِ: وهو الطَّريقُ، كأنَّهم سَلَكوا كُلَّ طَريقٍ، أو مِن التَّنقُّبِ عن الأمرِ، بمعنى البحثِ عنه، وأصلُ (نقب): يدُلُّ على فَتحِ شَيءٍ [398] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 467، 468)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/465)، ((البسيط)) للواحدي (20/413)، ((تفسير ابن جزي)) (2/304)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 388). .
مَحِيصٍ: أي: مَعدِلٍ ومَهْرَبٍ ومَفَرٍّ، وأصلُ (حيص): يدُلُّ على المَيلِ [399] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (13/627)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 468)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/124)، ((تفسير القرطبي)) (15/372)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 143)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 877، 882). .
شَهِيدٌ: أي: مُتفَهِّمٌ لِما يُخبَرُ به، شاهِدٌ له بقلبِه، غيرُ غافِلٍ عنه ولا ساهٍ، حَاضرٌ بفطنتِه، غيرُ غائبٍ، وأصلُ (شهد): يدُلُّ على حُضورٍ وعِلمٍ وإعلامٍ [400] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 419)، ((تفسير ابن جرير)) (21/463)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/221)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7061)، ((المفردات)) للراغب (ص: 467)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/170). .
لُغُوبٍ: أي: ضَعفٍ وإعياءٍ، وأصلُ (لغب): يدُلُّ على ضَعفٍ [401] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/381)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 405)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/256)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 389)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 801). .

المعنى الإجمالي:

يُبيِّنُ الله تعالى عاقِبةَ المكذِّبينَ في الأممِ السَّابِقةِ، فيقولُ: وكثيرًا أهلَكْنا مِن الأُمَمِ الماضيةِ مِن قَبلِ كُفَّارِ قُرَيشٍ، وقد كانوا أشدَّ منهم قُوَّةً، فساروا في الأرضِ، وطافوا، وتوَغَّلوا فيها، فما صرَفَهم ذلك عن العذابِ! فأنتم أيضًا -يا مَعشَرَ قُرَيشٍ- لن تُغنيَ عنكم قُوَّتُكم شَيئًا مِن عذاب الله، إنَّ في ذلكَ لَتذكيرًا ومَوعِظةً لِمَن كان له عَقلٌ يَعقِلُ به، أو استَمَع لكلامِ اللهِ تعالى غَيرَ غافِلٍ ولا سَاهٍ.
ثمَّ يذكرُ الله تعالى بعضَ مَظاهِرِ قُدرتِه، فيقولُ: ولقد خلَقْنا السَّمَواتِ والأرضَ وما بيْنَهما مِنَ الخَلقِ في سِتَّةِ أيَّامٍ، وما أصابَنا مِن تَعَبٍ أو إعياءٍ؛ فاصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يَقولُ الكُفَّارُ لك مِن أذًى وسُوءٍ، وسبِّحْ بحمدِ ربِّك قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبْلَ غُروبِها، ومِنَ اللَّيلِ فسبِّحْ ربَّك، وعَقِبَ الصَّلَواتِ.

تفسير الآيات:

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا أنذَرَ اللهُ تعالى الكافِرينَ بما بيْنَ أيديهم مِنَ اليَومِ العَظيمِ والعَذابِ الأليمِ؛ أنذَرَهم بما يُعَجَّلُ لهم مِنَ العذابِ المُهلِكِ والإهلاكِ المُدرِكِ، وبيَّنَ لهم حالَ مَن تقَدَّمَهم [402] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/149). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى أوَّلَ السُّورةِ تَكذيبَ الأُمَمِ السَّابِقةِ؛ ذكَرَ هنا إهلاكَ قُرونٍ ماضيةٍ [403] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/90). .
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا.
أي: وكثيرًا مِن الأُمَمِ الماضيةِ أهلَكْنا مِن قَبلِ كُفَّارِ قُرَيشٍ؛ بسَبَبِ كُفرِهم وتَكذيبِهم بالحَقِّ، والحالُ أنَّهم كانوا أقوى وأشدَّ منهم سَطوةً [404] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/460)، ((تفسير القرطبي)) (17/22)، ((تفسير ابن كثير)) (7/408)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/434، 435)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 108). !
قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ [الإسراء: 17] .
وقال سُبحانَه: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا [الروم: 9] .
فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ.
أي: فساروا في الأرضِ، وطافوا وتوَغَّلوا فيها، وتَقلَّبوا في أسفارِهم، وسلَكوا كلَّ طريقٍ [405] ممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمرقندي، والسمعاني، والبغوي، وابنُ جُزَي، والخازن، والشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/460)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/48)، ((تفسير السمرقندي)) (3/338)، ((تفسير السمعاني)) (5/246)، ((تفسير البغوي)) (4/276)، ((تفسير ابن جزي)) (2/304)، ((تفسير الخازن)) (4/190)، ((تفسير الشوكاني)) (5/94)، ((تفسير القاسمي)) (9/29). وممَّن قيَّد هذا السَّيرَ والتَّطْوافَ والبحثَ في الجملةِ بأنَّه كان طلبًا للمَهربِ، وطمَعًا في النَّجاةِ، وبحثًا عن المفَرِّ والمَلجأِ: ابنُ عطيَّة، والقرطبيُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/167)، ((تفسير القرطبي)) (17/22)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 108). وفسَّر مقاتلٌ (نَقَّبوا) بـ (هرَبوا). يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/115). قال ابن كثير: (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ قال ابنُ عبَّاسٍ: أثَّروا فيها. وقال مجاهدٌ: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ: ضرَبوا في الأرضِ. وقال قَتادةُ: فساروا في البلادِ، أي: ساروا فيها يَبتَغون الأرزاقَ والمَتاجِرَ والمَكاسِبَ أكثَرَ ممَّا طُفْتُم أنتم فيها، ويُقالُ لِمَن طَوَّف في البلادِ: نَقَّبَ فيها). ((تفسير ابن كثير)) (7/408). وقيل: المعنى: أنَّهم تَصَرَّفُوا فِي الأرضِ بالحفرِ والغَرْسِ والبناءِ، فبَنَوا الحُصونَ المنيعةَ، والمنازِلَ الرَّفيعةَ، وغرَسوا الأشجارَ، وأجْرَوُا الأنهارَ، وزرَعوا، وعَمَروا. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: السعديُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/323). قال ابن عاشور: (فيَكونُ في معنى قولِه: وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا في سورةِ الرُّومِ [9]). ((تفسير ابن عاشور)) (26/323). وقال البِقاعي: (فَنَقَّبُوا أي: أوقَعوا النَّقْبَ فِي الْبِلَادِ بأنْ فَتَحوا فيها الأبوابَ الحِسِّيَّةَ والمعنويَّةَ، وخَرَّقوا في أرجائِها ما لم يَقدِرْ غَيرُهم عليه، وبالَغوا في السَّيرِ في النِّقابِ: وهي طُرُقُ الجِبالِ والطُّرقُ الضَّيِّقةُ فَضلًا عن الواسِعةِ وما في السُّهولِ، بعُقولِهم الواسِعةِ، وآرائِهم النَّافذةِ، وطبائِعِهم القَويَّةِ، وبَحَثوا مع ذلك عن الأخبارِ، وأخبَروا غَيرَهم بما لم يَصِلْ إليهم، وكان كُلٌّ منهم نَقَّابًا في ذلك، أي: علَّامةً فيه؛ فصارت له به مناقِبُ أو مَفاخِرُ). ((نظم الدرر)) (18/435). ، فهل صرَفَهم ذلك عن العذابِ، وأنجاهم مِنَ الهَلاكِ؟ فأنتم أيضًا -يا مَعشَرَ قُرَيشٍ- لا مَفَرَّ لكم ولا مَحِيدَ إذا حَلَّ بكم الهَلاكُ، ولن تُغنيَ عنكم قُوَّتُكم وشِدَّتُكم شَيئًا [406] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/460، 461)، ((تفسير القرطبي)) (17/22، 23)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 13)، ((تفسير ابن كثير)) (7/408، 409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/323). !
كما قال تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم: 98] .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37).
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ.
أي: إنَّ في ذلكَ [407] قال ابنُ عاشور: (يجوزُ أن تكونَ الإشارةُ بذلك إلى إهلاكِ القُرونِ الأشَدِّ بَطشًا، ويجوزُ أن تكونَ إلى جميعِ ما تقَدَّم مِن استِدلالٍ وتَهديدٍ وتحذيرٍ مِن يومِ الجَزاءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/323). وممَّن قال بالمعنى الأوَّلِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، ومكِّي، والواحدي، وابن عطية، وابن الجوزي، والخازن، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/115)، ((تفسير ابن جرير)) (21/462)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7060)، ((الوسيط)) للواحدي (4/170)، ((تفسير ابن عطية)) (5/167)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/165)، ((تفسير الخازن)) (4/190)، ((تفسير القاسمي)) (9/30). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني في الجملةِ: الثعلبيُّ، والبغوي، والقرطبي، والبيضاوي، والبِقاعي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/106)، ((تفسير البغوي)) (4/276)، ((تفسير القرطبي)) (17/23)، ((تفسير البيضاوي)) (5/144)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/436)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 109). قال القرطبي: (قولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى أي: فيما ذَكَرْناه في هذه السُّورةِ تَذكِرةٌ ومَوعِظةٌ). ((تفسير القرطبي)) (17/23). وقال ابنُ عثيمين: (إِنَّ فِي ذَلِكَ أي: ما سَبَق من الآياتِ العَظيمةِ، ومنها ما قصَّ اللهُ تعالى في هذه الآياتِ الكريمةِ مِن إهلاكِ الأُمَمِ السَّابِقةِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 109). لَتذكيرًا ومَوعِظةً وعِبرةً لِمَن كان له عَقلٌ يَعقِلُ به ويَتدبَّرُ، فيَتذكَّرُ ويَخافُ عذابَ اللهِ تعالى [408] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/462)، ((تفسير القرطبي)) (17/23)، ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/5)، ((تفسير ابن كثير)) (7/409)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/323)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 109). قال ابن جرير: (والقلبُ في هذا الموضعِ: العَقلُ). ((تفسير ابن جرير)) (21/462). وقال ابنُ القيِّم: (لم يُرِدْ بالقَلبِ هنا مُضغةَ اللَّحمِ المُشتَرِكةَ بيْنَ الحَيَواناتِ، بل المرادُ ما فيه مِنَ العَقلِ). ((مفتاح دار السعادة)) (1/195). .
كما قال الله تبارك وتعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس: 69، 70].
أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
أي: أو استَمَع لكلامِ اللهِ تعالى وأنصَتَ إلى آياتِه إنصاتًا تامًّا، فلا يَغيبُ عنه شَيءٌ، وهو حاضِرُ القَلبِ غَيرُ غافِلٍ ولا سَاهٍ [409] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 419)، ((تفسير ابن جرير)) (21/463)، ((تفسير القرطبي)) (17/23)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/170)، ((تفسير ابن كثير)) (7/409)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/436)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 109). قال ابن القيِّم: (لم يُختَلَفْ في أنَّ المرادَ بالقَلبِ: القَلبُ الواعي، وأنَّ المرادَ بإلقاءِ السَّمعِ: إصغاؤُه وإقبالُه على المذكِّرِ، وتفريغُ سَمعِه له). ((مفتاح دار السعادة)) (1/170). قال الألوسي: (لَذِكْرى لإحدى طائفتَينِ مَن له قلبٌ يَفْقَهُ عن الله عزَّ وجلَّ، ومَن له سمْعٌ مُصْغٍ مع ذِهنٍ حاضرٍ، أي: لِمَن له استِعدادُ القَبولِ عن الفقيهِ إن لم يكُنْ فقيهًا في نفْسِه، وأَوْ لِمَنعِ الخُلوِّ مِن حيثُ إنَّه يجوزُ أن يكونَ الشَّخصُ فقيهًا ومُستعِدًّا لِلْقَبولِ مِن الفقيهِ. وذكر بعضُهم أنَّها لِتَقسيمِ المُتذَكِّرِ إلى تالٍ وسامعٍ، أو إلى فقيهٍ ومُتعَلِّمٍ، أو إلى عالِمٍ كامِلِ الاستِعدادِ لا يَحتاجُ لِغَيرِ التَّأمُّلِ فيما عندَه، وقاصِرٍ مُحتاجٍ لِلتَّعلُّمِ، فيَتذَكَّرُ إذا أقْبَلَ بكُلِّيَّتِه وأزالَ الموانِعَ بأسْرِها، فتأمَّل). ((تفسير الألوسي)) (13/341). ويُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/30). وقال ابن عاشور: (مَوقعُ أَو للتَّقسيمِ؛ لأنَّ المُتذكِّرَ إمَّا أنْ يَتذكَّرَ بما دلَّت عليه الدَّلائلُ العقليَّةُ مِن فَهمِ أدلَّةِ القرآنِ، ومِنَ الاعتبارِ بأدلَّةِ الآثارِ على أصحابِها، كآثارِ الأُمَمِ، مِثلُ ديارِ ثمودَ...، وإمَّا أنْ يَتذكَّرَ بما يَبلُغُه مِن الأخبارِ عن الأمَمِ، كأحاديثِ القرونِ الخاليةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/324). وقال أبو السعود: (كلمةُ أَو لمنعِ الخلوِّ دونَ الجمعِ؛ فإنَّ إلقاءَ السَّمعِ لا يُجدِي بدونِ سلامةِ القلبِ كما يلوحُ به قولُه تعالَى وَهُوَ شَهِيدٌ أي: حاضرٌ بفِطنتهِ؛ لأنَّ مَن لا يَحضُرُ ذِهنُه فكأنَّه غائبٌ). ((تفسير أبي السعود)) (8/134). وظاهرُ كلامِ أكثَرِ أهلِ العِلمِ أنَّ هذه الأوصافَ جميعًا لِمَوصوفٍ واحدٍ له قلبٌ حيٌّ، معَ إصغاءِ السَّمعِ، وحُضورِ القلبِ معَ ما يسمَعُ. يُنظر: ((الخلاصة في تدبر القرآن)) لخالد السبت (ص: 40). وممَّن اختار أنَّ هذَينِ الوصفَينِ لِصِنفَينِ مِن النَّاسِ: النَّيْسابوريُّ، والبِقاعي، والسعدي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (6/180)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 109). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (9/311) و(16/180)، ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/169، 171)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/218)، ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 3). .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّه لَمَّا دَلَّ اللهُ تعالى على تمامِ عِلمِه وشُمولِ قُدرتِه بخَلقِ الإنسانِ؛ ذكَّرَ بخَلقِ ما هو أكبَرُ منه [410] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/437). .
وأيضًا فمُناسَبةُ اتِّصالِ هذه الآيةِ بما قبْلَها أنَّه لَمَّا نزَلَ قولُه تعالى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا [ق: 6] إلى قولِه: لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 10] ، وكان ذلك قريبًا ممَّا وُصِفَ في التَّوراةِ مِن ترْتيبِ المخلوقاتِ إجمالًا، ثمَّ نزَلَ قولُه بعدَ ذلك: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] ، كان بعضُ اليهودِ بمكَّةَ يقولونَ: إنَّ اللهَ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ في سِتَّةِ أيامٍ، واستراحَ في اليومِ السَّابعِ، والاستِراحةُ تُؤذِنُ بالنَّصَبِ والإعياءِ، فلمَّا فَرَغَت الآيةُ مِن تَكذيبِ المشركينَ في أقوالِهم؛ عطَفَت إلى تَكذيبِ الَّذين كانوا يُحدِّثونَهم بحديثِ الاستِراحةِ، فهذا تأويلُ موقعِ هذه الآيةِ في هذا المحلِّ [411] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/325). .
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.
أي: ولقد أوجَدْنا السَّمَواتِ السَّبْعَ والأرضَ وما بيْنَهما مِنَ الخَلقِ في سِتَّةِ أيَّامٍ [412] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/465)، ((تفسير ابن كثير)) (7/409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 109، 110). .
كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [السجدة: 4] .
وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ.
أي: وما أصابَنا مِن جرَّاءِ ذلك أيُّ تَعَبٍ أو إعياءٍ؛ لكَمالِ القُدرةِ، وتَمامِ القُوَّةِ [413] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/465)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1025)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/36)، ((تفسير ابن كثير)) (7/409). .
قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأحقاف: 33] .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أخبَرَ اللهُ تعالى أنَّه خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ وما بيْنَهما في ستَّةِ أيَّامٍ، ولم يَمَسَّه مِن تَعبٍ ولا إعياءٍ؛ تكذيبًا لأعدائِه مِنَ اليَهودِ؛ حيثُ قالوا: إنَّه استراح في اليَومِ السَّابِعِ! أمَرَ نَبيَّه بالتَّأسِّي به سُبحانَه في الصَّبرِ على ما يقولُ أعداؤُه فيه، كما أنَّه سُبحانَه صَبَرَ على قَولِ اليَهودِ: إنَّه استراح! ولا أحَدَ أصبَرُ على أذًى يَسمَعُه منه تعالى [414] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 13). ويُنظر ما أخرجه البُخاريُّ (6099)، ومسلمٌ (2804) من حديثِ أبي موسى الأشعَريِّ رضيَ الله عنه. .
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ.
أي: فاصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يَقولُه الكُفَّارُ مِن الأَذَى والسُّوءِ [415] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/467)، ((تفسير القرطبي)) (17/24)، ((تفسير ابن كثير)) (7/409)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/326). قيل: المعنى: فاصبِرْ -يا محمَّدُ- على ما يقولُ هؤلاء اليهودُ، وما يَفتَرونَ على اللهِ، ويَكذِبونَ عليه [وذلك أنَّهم قالوا: إنَّ اللهَ خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيامٍ، ثمَّ استراح يومَ السَّابعِ]؛ فإنَّ اللهَ لهم بالمِرْصادِ. وممَّن قال بهذا المعنى في الجملةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والبغوي، وابن الجوزي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/116)، ((تفسير ابن جرير)) (21/467)، ((تفسير السمرقندي)) (3/339)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7063)، ((تفسير البغوي)) (4/277)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/165). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: الأمرُ بالصَّبرِ على يَقولُه المشرِكون مِن قُرَيشٍ: ابنُ أبي زَمَنين، والقرطبيُّ، والشوكاني، والقاسمي، وابنُ عاشور، وهو ظاهرُ اختيارِ الشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/279)، ((تفسير القرطبي)) (17/24)، ((تفسير الشوكاني)) (5/95)، ((تفسير القاسمي)) (9/31)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/326)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/431). قيل: المرادُ على هذا القول: أي: على ما يَقولونَ له: إنَّه ساحرٌ، وإنَّه شاعرٌ، وإنَّه كاهنٌ، وإنَّه مجنونٌ، وإنَّه كاذبٌ. وقيل: مِن إنكارِ البعثِ والتَّوحيدِ والنُّبوَّةِ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/279)، ((تفسير القاسمي)) (9/31). وممَّن اختار ما هو أعَمُّ مِن المشركين ومِن اليهودِ: ابنُ جُزَي، وجلال الدين المحلي، والثعالبي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/304)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 691)، ((تفسير الثعالبي)) (5/293)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/438). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن كثير)) (7/409)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 111). .
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا أمَرَه اللهُ تعالى بالصَّبرِ؛ أمَرَه بما يَستَعينُ به على الصَّبرِ، وهو التَّسبيحُ بحَمدِ رَبِّه قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبْلَ غُروبِها، وباللَّيلِ وأدبارَ السُّجُودِ [416] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 13). .
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.
أي: ونَزِّهْ ربَّك -يا محمَّدُ- قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبْلَ غُروبِها تَنزيهًا مُقتَرِنًا بوَصفِه بصِفاتِ الكَمالِ؛ محبَّةً له وتعظيمًا، وصَلِّ له [417] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/467)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/326، 327)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 111). ذكَرَ ابنُ عطيَّةَ أن (سَبِّحْ) معناه: (صَلِّ) بإجماعٍ مِن المتأوِّلينَ، ونسَبَ ابنُ عاشور هذا القولَ للجمهورِ. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/168)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/327). وقال ابنُ عثيمين: (سَبِّحْ تَسبيحًا مقرونًا بالحَمدِ في هذَينِ الوَقتينِ: قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ، وقبْلَ الغُروبِ. قال أغلَبُ المفسِّرينَ: المرادُ بذلك: صَلاةُ الفَجرِ، وصلاةُ العَصرِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 111). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بالتَّسبيحِ هنا: صَلاةُ الصُّبحِ قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ، وصلاةُ العَصرِ قبْلَ غُروبِها: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والثعلبي، والبغوي، والبيضاوي، وأبو السعود. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/467)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/49)، ((تفسير الثعلبي)) (9/106)، ((تفسير البغوي)) (4/277)، ((تفسير البيضاوي)) (5/144)، ((تفسير أبي السعود)) (8/134). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: قَتادةُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/467). وممَّن قال بأنَّ المرادَ بقوله: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ: صلاةُ الفَجرِ، وبقوله: (قَبْلَ الْغُرُوبِ): صلاةُ الظُّهرِ والعَصرِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والواحدي، والسمعاني، وجلال الدين المحلي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/116)، ((تفسير السمرقندي)) (3/339)، ((الوسيط)) للواحدي (4/171)، ((تفسير السمعاني)) (5/247)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 691)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/327). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/ 279)، ((تفسير الثعلبي)) (9/106). قال البِقاعي: (وَسَبِّحْ أي: أوقِعِ التَّنزيهَ عن كلِّ شائبةِ نَقصٍ مُتلَبِّسًا بِحَمْدِ رَبِّكَ... قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بصَلاةِ الصُّبحِ، وما يَليقُ به مِن التَّسبيحِ غيرها وَقَبْلَ الْغُرُوبِ بصَلاةِ العصرِ والظُّهرِ كذلك؛ فالعصرُ أصلٌ لذلك الوقتِ، والظُّهرُ تبَعٌ لها). ((نظم الدرر)) (18/438). وقال السعدي: (واشتغِلْ عنهم بطاعةِ ربِّك وتسبيحِه، أوَّلَ النَّهارِ وآخِرَه، وفي أوقاتِ اللَّيلِ، وأدبارَ الصَّلَواتِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 807). وقال الشنقيطي: (الصَّلاةُ داخِلةٌ في التَّسبيحِ المذكورِ). ((أضواء البيان)) (7/432). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 97، 98].
وقال سُبحانَه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه: 130] .
وعن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا عندَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فنَظَرَ إلى القَمَرِ لَيلةَ -يعني البَدر-، فقال: إنَّكم ستَرَونَ ربَّكم كما تَرَونَ هذا القَمَرَ لا تُضامونَ في رؤيتِه، فإنِ استطعتُم ألَّا تُغلَبوا على صلاةٍ قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبْلَ غروبِها فافعَلوا. ثمَّ قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)) [418] أخرجه البخاريُّ (554) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (633). .
وفي روايةٍ: عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضيَ الله عنه، قال: ((كُنَّا عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذْ نَظَر إلى القَمَرِ لَيلةَ البَدرِ، فقال: أمَا إنَّكم ستَرَونَ رَبَّكم كما تَرَونَ هذا، لا تُضامُّونَ -أو لا تُضاهونَ [419] لا تُضاهُونَ: مِنَ المُضاهاةِ، أي: لا يَشتَبِهُ عليكم ولا تَرتابونَ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (1/506). - في رؤيتِه، فإنِ استطَعْتُم ألَّا تُغلَبوا على صلاةٍ قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبْلَ غُروبِها، فافعَلوا. ثمَّ قال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130] )) [420] رواه البخاريُّ (573) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (633). .
وعن أبي مُوسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن صَلَّى البَرْدَيْنِ [421] البَرْدَينِ: أي: الفَجْرَ والعَصرَ؛ لِبَردِ الهواءِ فيهما بالنِّسبةِ إلى وَسَطِ النَّهارِ، ولِكَونِهما في طَرَفَيِ النَّهارِ. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (1/506)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (2/540). دخَلَ الجنَّةَ)) [422] رواه البخاري (574)، ومسلم (635). .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40).
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ.
أي: ومِنْ بَعضِ أوقاتِ اللَّيلِ فسبِّحِ اللهَ تعالى مُنزِّهًا له عن كُلِّ ما لا يَليقُ به، وصَلِّ له [423] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/468)، ((تفسير القرطبي)) (17/24)، ((تفسير ابن كثير)) (7/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 112). قال ابنُ العربي: (قَولُه تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فيه أربعةُ أقوالٍ: الأوَّلُ: هو تَسبيحُ اللهِ في اللَّيلِ. الثَّاني: أنَّها صلاةُ اللَّيلِ. الثَّالِثُ: أنَّها ركْعَتَا الفَجرِ. الرَّابعُ: أنَّها صلاةُ العِشاءِ الأخيرةِ... قَولُ مَن قال: إنَّه التَّسبيحُ، يُعَضِّدُه الحديثُ الصَّحيحُ: ((مَن تَعارَّ مِنَ اللَّيلِ فقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، سُبحانَ اللهِ، والحَمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبَرُ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ؛ كَفَّر عنه، وغَفَر له)). وأمَّا من قال: إنَّها صلاةُ اللَّيلِ فإنَّ الصَّلاةَ تُسَمَّى تَسبيحًا؛ لِما فيها مِن تسبيحِ الله، ومنه سُبحةُ الضُّحى. وأمَّا مَن قال: إنَّها صلاةُ الفَجرِ والعِشاءِ؛ فلأنَّهما مِن صَلاةِ اللَّيلِ، والعِشاءُ أوضَحُه). ((أحكام القرآن)) (4/161، 162). وقيل: المرادُ بالتَّسبيحِ باللَّيلِ هنا: صَلاتَا المَغرِبِ والعِشاءِ. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: مقاتلُ ابنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنين، والثعلبيُّ، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، وابنُ عطية، والقرطبي، والخازن، وجلال الدين المحلي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/116)، ((تفسير ابن جرير)) (21/468)، ((تفسير السمرقندي)) (3/339)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/279)، ((تفسير الثعلبي)) (9/106)، ((الوسيط)) للواحدي (4/171)، ((تفسير السمعاني)) (5/247)، ((تفسير البغوي)) (4/277)، ((تفسير ابن عطية)) (5/168)، ((تفسير القرطبي)) (17/24)، ((تفسير الخازن)) (4/191)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 692). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/106). وقال ابنُ عثيمين: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي: سَبِّحِ اللهَ مِنَ اللَّيلِ. و «مِنْ» هنا للتَّبعيضِ، يعني: سَبِّحْه أيَّ جُزءٍ مِنَ اللَّيلِ، ويَدخُلُ في ذلك صلاةُ المغرِبِ وصلاةُ العِشاءِ، ويدخُلُ في ذلك أيضًا التَّهَجُّدُ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 112). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/439). .
كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان: 26] .
وعن عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن تَعارَّ [424] تَعارَّ: أي: انتَبَه. يُنظر: ((إرشاد الساري)) للقَسْطَلَّاني (2/329). مِنَ اللَّيلِ فقال: لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ، الحَمدُ للهِ، وسُبحانَ اللهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبَرُ، ولا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ، ثمَّ قال: اللَّهُمَّ اغفِرْ لي، أو دعا؛ استُجِيبَ له، فإنْ توَضَّأَ وصَلَّى قُبِلَت صَلاتُه )) [425] رواه البخاري (1154). .
وَأَدْبَارَ السُّجُودِ.
أي: وسبِّحْ ربَّك -يا مُحمَّدُ- عَقِبَ الصَّلَواتِ [426] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 112). قال ابنُ العربي: (فيه قَولانِ؛ أحَدُهما: أنَّه النَّوافِلُ. الثَّاني: أنَّه ذِكرُ اللهِ بعدَ الصَّلاةِ، وهو الأقوى في النَّظَرِ). ((أحكام القرآن)) (4/162). وممَّن اختار أنَّ المرادَ: التَّسبيحُ بعدَ الصَّلَواتِ: البيضاويُّ، والنسفي، وأبو السعود، والسعدي. يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/144)، ((تفسير النسفي)) (3/369)، ((تفسير أبي السعود)) (8/134)، ((تفسير السعدي)) (ص: 807). وقال ابنُ كثير: (وَأَدْبَارَ السُّجُودِ قال ابنُ أبي نَجِيحٍ، عن مُجاهِدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ: هو التَّسبيحُ بعدَ الصَّلاةِ. ويؤيِّدُ هذا ما ثبت في الصَّحيحَينِ [البخاري (6329) ومسلم (595)] عن أبي هُرَيرةَ أنَّه قال: «جاء فُقراءُ المهاجِرينَ فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، ذهَب أهلُ الدُّثُورِ بالدَّرَجاتِ العُلى والنَّعيمِ المُقيمِ. فقال: وما ذاك؟! قالوا: يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصومون كما نَصومُ، ويَتصَدَّقون ولا نتصَدَّقُ، ويُعتِقونَ ولا نُعتِقُ! قال: أفَلَا أُعَلِّمُكم شيئًا إذا فعَلْتُموه سبَقْتُم مَن بَعْدَكم، ولا يكونُ أحدٌ أفضَلَ منكم إلَّا مَن فَعَل مِثلَ ما فعَلْتُم؟ تُسَبِّحون وتَحمَدونَ وتُكَبِّرونَ دُبُرَ كُلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثينَ. قال: فقالوا: يا رَسولَ اللهِ، سَمِعَ إخوانُنا أهلُ الأموالِ بما فعَلْنا، ففَعَلوا مِثلَه! قال: ذلك فَضلُ اللهِ يُؤتيه مَن يَشاءُ!». والقَولُ الثَّاني: أنَّ المرادَ بقَولِه: وَأَدْبَارَ السُّجُودِ هما الرَّكعتانِ بعدَ المَغرِبِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/410). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ -أي أنَّه التَّسبيحُ بعدَ الصَّلاةِ-: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/473)، ((تفسير الثعلبي)) (9/107). قال ابنُ تيميَّة: (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [الطور: 49] قال ابنُ عبَّاسٍ: هو التَّسبيحُ أدبارَ الصَّلاةِ. قلتُ: لَعلَّ هذا تفسيرٌ لِقَولِه: وَأَدْبَارَ السُّجُودِ؛ فإنَّه أنسَبُ، وقد رُوِيَ عن طائفةٍ مِنَ السَّلَفِ أنَّ «أدبارَ السُّجودِ»: الرَّكعتانِ بعدَ المَغرِبِ، و«إدبارَ النُّجومِ»: ركْعَتَا الفَجرِ). ((جامع المسائل - المجموعة الثالثة)) (ص: 294). وقيل: المرادُ: صَلِّ النَّوافِلَ المَسنونةَ عَقِبَ الفرائضِ. وممَّن اختاره: جلالُ الدِّين المحلي، والشربيني. يُنظر: ((تفسير الجلالين)) (ص: 692)، ((تفسير الشربيني)) (4/91). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: الرَّكعتانِ بعدَ المغربِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والسمعانيُّ، والواحديُّ ونسَبَه لأكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/116)، ((تفسير ابن جرير)) (21/474)، ((تفسير السمرقندي)) (3/339)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1025)، ((الوسيط)) للواحدي (4/171)، ((تفسير السمعاني)) (5/248). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (26/328). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عمرُ بنُ الخطَّابِ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، وأبو هُرَيرةَ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والحسَنُ بنُ عليٍّ، ومجاهدٌ في روايةٍ عنه، والحسَنُ البصريُّ، وعِكْرِمةُ، وأبو أُمامةَ، وإبراهيمُ النَّخَعيُّ، وقَتادةُ، والشَّعْبيُّ، والأوزاعيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/469)، ((تفسير الثعلبي)) (9/107). ((تفسير ابن كثير)) (7/410). وقال ابنُ عثيمين: (وهل المرادُ بالتَّسبيحِ أدبارَ الصَّلواتِ: النَّوافِلُ الَّتي تُصَلَّى بعد الصَّلواتِ، كراتِبةِ الظُّهرِ بَعْدَها، وراتبةِ المَغرِبِ بَعْدَها، وراتبةِ العِشاءِ بَعْدَها، أو المرادُ التَّسبيحُ الخاصُّ، وهو سُبحانَ اللهِ، والحَمدُ للهِ، واللهُ أكبَرُ؟ فيه قَولانِ للمُفَسِّرينَ، ولو قيل بهذا وهذا لَكان له وَجهٌ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 112). وممَّن ذهب إلى العُمومِ: البقاعي قال: (لَمَّا ذكَرَ الفرائِضَ الَّتي لا مَندوحةَ عنها على وَجهٍ يَشملُ النَّوافِلَ مِن الصَّلاةِ وغَيرِها، أتْبَعَها النَّوافِلَ المقَيَّدةَ بها فقال: وَإِدْبَارَ النُّجُومِ أي: الَّذي هو أكمَلُ بابِه، وهو صلاةُ الفَرضِ بما يُصَلَّى بَعْدَها مِنَ الرَّواتِبِ، والتَّسبيحُ بالقَولِ أيضًا). ((نظم الدرر)) (18/439). .
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن سَبَّح اللهَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثلاثينَ، وحَمِدَ اللهَ ثلاثًا وثلاثينَ، وكَبَّرَ اللهَ ثلاثًا وثلاثينَ، فتلك تِسعةٌ وتِسعونَ، وقال تمامَ المِئةِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحَمدُ، وهو على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ- غُفِرَت خَطاياه وإن كانت مِثْلَ زَبَدِ البَحرِ )) [427] رواه مسلم (597). .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ، أي: قَلبٌ عَظيمٌ حَيٌّ، ذَكِيٌّ زَكِيٌّ، فهذا إذا ورد عليه شَيءٌ مِن آياتِ اللهِ تذَكَّرَ بها وانتَفَع، فارتَفَع [428] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 807). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ جَعَلَ اللهُ سُبحانَه كَلامَه ذِكرَى لا يَنتفِعُ بها إلَّا مَن جَمَع هذه الأُمورَ الثَّلاثةَ‍:
أحدُها: أنْ يكونَ له قَلبٌ حيٌّ واعٍ، فإذا فُقِدَ هذا القَلبُ لم يَنتفِعْ بالذِّكرى.
الثَّاني: أنْ يُصغِيَ بسَمعِه كلِّه نحوَ المخاطَبِ، فإنْ لم يَفعَلْ لم يَنتفِعْ بكَلامِه.
الثَّالثُ: أنْ يُحضِرَ قَلبَه وذِهنَه عندَ المكَلِّمِ له، وهو الشَّهيدُ، أي: الحاضِرُ غيرُ الغائِبِ، فإنْ غاب قَلبُه وسافرَ في موضعٍ آخَرَ لم يَنتفِعْ بالخِطابِ، وهذا كما أنَّ المُبصِرَ لا يُدرِكُ حقيقةَ المَرئيِّ إلَّا إذا كانت له قوَّةٌ مُبصِرةٌ، وحَدَّقَ بها نحوَ المرئيِّ، ولم يكُنْ قَلبُه مَشغولًا بغيرِ ذلك؛ فإنْ فَقَدَ القوَّةَ المُبصِرةَ، أو لم يُحَدِّقْ نحوَ المرئيِّ، أو حَدَّقَ نحوَه ولكِنَّ قَلبَه كُلَّه في موضعٍ آخَرَ- لم يُدرِكْه؛ فكثيرًا ما يَمُرُّ بك إنسانٌ أو غيرُه، وقَلبُك مَشغولٌ بغَيرِه؛ فلا تَشعُرُ بمُرورِه؛ فهذا الشَّأنُ يَستدعي صِحَّةَ القَلبِ وحُضورَه، وكَمالَ الإصغاءِ [429] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/218). . وذلك على أنَّ هذه الأوصافَ لِمَوصوفٍ واحدٍ.
3- قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ مِنَ النَّاسِ مَن يُحرَمُ العِلمَ لِسُوءِ إنصاتِه، فيَكونُ الكلامُ والمُماراةُ آثَرَ عندَه وأحَبَّ إليه مِن الإنصاتِ، وهذه آفةٌ كامِنةٌ في أكثَرِ النُّفوسِ الطَّالبةِ للعِلمِ، وهي تمنَعُهم عِلمًا كَثيرًا، ولو كان حَسَنَ الفَهمِ. ذكَرَ ابنُ عبدِ البَرِّ عن بَعضِ السَّلَفِ أنَّه قال: (مَن كان حَسَنَ الفَهمِ رَديءَ الاستِماعِ، لم يَقُمْ خَيرُه بشَرِّه) [430] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/169). ويُنظر أيضًا: ((جامع بيان العلم وفضله)) لابن عبد البَرِّ (1/448). .
4- قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ تأمَّلْ ما تحتَ هذه الألفاظِ مِن كُنوزِ العِلمِ، وكيف تَفتَحُ مُراعاتُها للعَبدِ أبوابَ العِلمِ والهُدى، وكيف يَنغلِقُ بابُ العِلمِ عنه مِن إهمالِها وعدَمِ مُراعاتِها؛ فإنَّه سُبحانَه ذَكَر أنَّ آياتِه المَتلوَّةَ المسموعةَ والمرئيَّةَ المشهودةَ إنَّما تكونُ تَذكِرةً لِمَن كان له قَلبٌ؛ فإنَّ مَن عَدِمَ القَلبَ الواعيَ عن اللهِ لم ينتَفِعْ بكُلِّ آيةٍ تمُرُّ عليه، ولو مرَّت به كلُّ آيةٍ، ومُرورُ الآياتِ عليه كطُلوعِ الشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ ومُرورِها على مَن لا بصَرَ له! فإذا كان له قَلبٌ كان بمنزلةِ البَصيرِ إذا مرَّت به المرئيَّاتُ فإنَّه يراها، ولكِنَّ صاحِبَ القَلبِ لا ينتفِعُ بقَلبِه إلَّا بأمْرَينِ: أن يُحضِرَه ويُشهِدَه لِما يُلقَى إليه، فإذا كان غائبًا عنه مُسافِرًا في الأمانيِّ والشَّهَواتِ والخَيالاتِ لا ينتَفِعُ به. فإذا أحضَرَه وأشهَدَه لم ينتفِعْ إلَّا بأن يُلقِيَ سَمعَه ويُصغيَ بكُلِّيَّتِه إلى ما يُوعَظُ به ويُرشَدُ إليه.
وهاهنا ثلاثةُ أمورٍ:
أحدُها: سلامةُ القَلبِ وصِحَّتُه وقَبولُه.
الثَّاني: إحضارُه وجَمْعُه ومَنعُه مِن الشُّرودِ والتَّفَرُّقِ.
الثَّالِثُ: إلقاءُ السَّمعِ وإصغاؤُه، والإقبالُ على الذِّكرِ.
فذكرَ اللهُ تعالى الأمورَ الثَّلاثةَ في هذه الآيةِ [431] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/169). .
5- قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، في قَولِه: وَهُوَ شَهِيدٌ إشارةٌ إلى أنَّ مُجرَّدَ الإصغاءِ لا يُفيدُ ما لم يكُنِ المُصغِي حاضِرًا بفِطنتِه وذِهْنِه، وفي الآيةِ ترتيبٌ حَسَنٌ؛ لأنَّه إن كان ذا قَلبٍ ذَكيٍّ يَستخرِجُ المعانيَ بتدَبُّرِه وفِكرِه فذاك، وإلَّا فلا بُدَّ أن يكونَ مُستَمِعًا مُصْغيًا إلى كلامِ المُنذِرِ؛ لِيَحصُلَ له التَّذكيرُ [432] يُنظر: ((تفسير النيسابوري)) (6/180). . وذلك على القولِ بأنَّ الصِّفاتِ المذكورةَ لِصِنفينِ مِن النَّاسِ.
6- قَولُ اللهِ تعالى: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ فيه أنَّ مَن ألقَى سَمْعَه إلى آياتِ اللهِ، واستمَعَها استِماعًا يَسترشِدُ به، وقَلبُه شَهيدٌ حاضِرٌ؛ فهذا له ذِكرى ومَوعِظةٌ، وشِفاءٌ وهُدًى [433] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 807). .
7- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ لو شاء اللهُ لَكان ذلك في أقَلَّ مِن لَمحِ البَصَرِ، ولكِنَّه سَنَّ لنا التَّأنِّيَ بذلك [434] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/437). ، فهو سبحانه يُعَلِّمُ عِبادَه التَّأنِّيَ في الأمورِ؛ وألَّا يأخُذوا الأمورَ بسرعةٍ؛ لأنَّ المهمَّ هو الإتقانُ، وليس الإعجالَ والإسراعَ، وأيضًا فإنَّه سبحانَه يَخْلُقُ الأشياءَ بأسبابٍ ومقدِّماتٍ تَتكاملُ شيئًا فشيئًا حتَّى تتِمَّ، كما لو شاء لَخَلَق الجَنينَ في بطنِ أُمِّه في لحظةٍ، لكنَّه يخْلُقُه أطوارًا حتَّى يَتكاملَ، كذلك السَّمواتُ: لو شاء لَخَلَق السَّمواتِ والأرضَ وما بيْنَهما في لحظةٍ؛ ولكنَّه عزَّ وجلَّ يَخْلُقُ الأشياءَ تتكاملُ شيئًا فشيئًا [435] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 110). .
8- في قَولِه تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فَضيلةُ التَّسبيحِ والذِّكرِ في هذَينِ الوَقتَينِ [436] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/254). . فيُشرَعُ الذِّكرُ بعدَ صَلاةِ الفَجرِ إلى أن تَطلُعَ الشَّمسُ، وبعدَ العصرِ حتَّى تَغرُبَ الشَّمسُ، وهذانِ الوقتانِ -أي: وقتُ الفَجرِ ووقتُ العصرِ- هما أفضَلُ أوقاتِ النَّهارِ للذِّكْرِ؛ ولهذا أمَرَ اللهُ تعالى بذِكْرِه فيهما في مَواضِعَ مِن القرآنِ، كقَولِه: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 42] ، وقولِه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الإنسان: 25] ، وقولِه: وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [آل عمران: 41] ، وقولِه: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 11] ، وقولِه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: 17] ، وقولِه: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] ، وقولِه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ [الأعراف: 205] ، وقولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [437] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (2/525). [طه: 130] .
9- قال الله تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ، قولُه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ مِنَ الذَّمِّ لك، والتَّكذيبِ بما جِئتَ به، واشتَغِلْ عنهم بطاعةِ رَبِّك وتَسبيحِه؛ فإنَّ ذِكرَ اللهِ تعالى مُسَلٍّ للنَّفسِ، مُؤْنِسٌ لها، مُهَوِّنٌ للصَّبرِ [438] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 807). .
10- قَولُ اللهِ تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أمْرُه له بالتَّسبيحِ بعدَ أمْرِه له بالصَّبرِ على أذى الكُفَّارِ: فيه دليلٌ على أنَّ التَّسبيحَ يُعينُه اللهُ به على الصَّبرِ المأمورِ به، والصَّلاةُ داخِلةٌ في التَّسبيحِ المذكورِ [439] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/432). ؛ فإنَّ الصَّلاةَ أعظَمُ تِرياقٍ للنَّصرِ، وإزالةِ الهَمِّ؛ ولهذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا حَزَبه [440] حَزَبه أمرٌ: أي: نَزَل به مُهِمٌّ، أو أصابه غَمٌّ. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (1/377). أمرٌ صلَّى [441] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/440). والحديث أخرجه أبو داودَ (1319)، وأحمدُ (23299) مِن حديثِ حُذَيْفةَ رضيَ الله عنه. حسَّن إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (3/205)، وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/110)، وحسَّن الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (1319). .
11- في قَولِه تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ أمَرَه اللهُ تعالى أن يَصبِرَ على ما يَقولونَ، والصَّبرُ على ما يَقولونَ يتضَمَّنُ شَيئَينِ:
الأوَّلُ: عَدَمُ التَّضَجُّرِ مِمَّا يقولُ هؤلاء، وأن يتحَمَّلَ ما يقولُه أعداؤُه فيه وفيما جاء به.
والثَّاني: أن يَمضِيَ في الدَّعوةِ إلى اللهِ، وألَّا يَتقاعَسَ [442] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 111). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ جَمَع سُبحانَه بيْنَ السَّمعِ والعَقلِ، وأقام بهما حُجَّتَه على عِبادِه؛ فلا يَنفَكُّ أحَدُهما عن صاحِبِه أصلًا؛ فالكِتابُ المُنزَّلُ والعَقلُ المُدرِكُ حُجَّةُ اللهِ على خَلْقِه، وكِتابُه هو الحُجَّةُ العُظمى؛ فهو الَّذي عَرَّفَنا ما لم يكُنْ لِعُقولِنا سَبيلٌ إلى استِقلالِها بإدراكِه أبدًا، فليس لأحَدٍ عنه مَذهَبٌ، ولا إلى غَيرِه مَفزَعٌ في مَجهولٍ يَعلَمُه، ومُشكِلٍ يَستَبِينُه، ومُلتَبِسٍ يُوضِّحُه؛ فمَن ذهَب عنه فإليه يَرجِعُ، ومَن دَفَع حُكمَه فبه يُحاجُّ خَصيمَه؛ إذ كان بالحقيقةِ هو المُرشِدَ إلى الطُّرُقِ العَقليَّةِ والمعارِفِ اليَقينيَّةِ الَّتي بالعبادِ إليها أعظَمُ حاجةٍ، فمَن رَدَّ مِن مُدَّعي البَحثِ والنَّظَرِ حُكومتَه، ودفَعَ قَضيَّتَه؛ فقد كابَرَ وعانَدَ، ولم يكُنْ لأحدٍ سَبيلٌ إلى إفهامِه ولا مُحاجَّتِه، ولا تقريرِ الصَّوابِ عِندَه، وليس لأحَدٍ أن يقولَ: إنِّي غَيرُ راضٍ بحُكمِه بل بحُكمِ العَقلِ؛ فإنَّه متى رَدَّ حُكمَه فقد رَدَّ حُكمَ العَقلِ الصَّريحِ، وعانَدَ الكِتابَ والعَقلَ [443] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/458، 459). .
2- قَولُه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ مَن يُؤتَى الحِكمةَ ويَنتَفِعُ بالعِلمِ على مَنزِلتَينِ: إمَّا رجُلٌ رأى الحَقَّ بنَفْسِه، فقَبِلَه واتَّبَعه ولم يحتَجْ إلى مَن يدعوه إليه؛ فذلك صاحِبُ القَلبِ، أو رجُلٌ لم يَعقِلْه بنَفْسِه، بل هو محتاجٌ إلى مَن يُعَلِّمُه ويُبَيِّنُ له ويَعِظُه ويُؤَدِّبُه؛ فهذا أصغَى فألقَى السَّمعَ وهو شَهيدٌ، أي: حاضِرُ القَلبِ ليس بغائِبِه [444] يُنظر: ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (5/51). . وذلك على القولِ بأنَّ الصِّفاتِ المذكورةَ لِصِنفَينِ مِن النَّاسِ.
3- في قَولِه تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أنَّ العَقلَ في القَلبِ، وعُبِّرَ عنه بالقَلبِ؛ لأنَّه مَحَلُّ استِقرارِه [445] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/129). .
4- يَمتَنِعُ تعارُضُ الأدِلَّةِ القَطعيَّةِ؛ فلا يَجوزُ أن يَتعارَضَ دليلانِ قَطعيَّانِ، سَواءٌ كَانَا عقليَّينِ، أو سَمعيَّينِ، أو كان أحدُهما عَقليًّا والآخَرُ سَمعيًّا، فإنَّها مُتوافِقةٌ مُتناصِرةٌ مُتعاضِدةٌ؛ فالعَقلُ يدُلُّ على صِحَّةِ السَّمْعِ، والسَّمْعُ يُبَيِّنُ صِحَّةَ العَقلِ، وأنَّ مَن سَلَك أحَدَهما أفضَى به إلى الآخَرِ، وأنَّ الَّذين يَستَحِقُّونَ العَذابَ هم الَّذين لا يَسمَعونَ ولا يَعقِلونَ، كما قال اللهُ تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 44] ، وقال تعالى: كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 8 - 10] ، وقال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] ، وقال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ؛ فقد بَيَّن القُرآنُ أنَّ مَن كان يَعقِلُ أو كان يَسمَعُ فإنَّه يكونُ ناجيًا وسَعيدًا، ويكونُ مُؤمِنًا بما جاءت به الرُّسُلُ [446] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (2/39). .
5- قال سُبحانَه وتعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ في قَولِه عزَّ وجلَّ: وَمَا بَيْنَهُمَا أنَّ الَّذي بيْنَ السَّماءِ والأرضِ مخلوقاتٌ عظيمةٌ، يدُلُّ على عِظَمِها أنَّ اللهَ جَعَلَها عديلةً لِخَلْقِ السَّمواتِ وخَلْقِ الأرضِ؛ فهي مخلوقاتٌ عظيمةٌ [447] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 110). .
6- في قَولِه تعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ نَفيُ مَسِّ اللُّغوبِ الَّذي هو التَّعَبُ والإعياءُ؛ فدلَّ على كَمالِ القُدرةِ، ونِهايةِ القُوَّةِ، بخلافِ المَخلوقِ الَّذي يَلحَقُه مِن التَّعَبِ والكَلالِ ما يَلحَقُه [448] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (3/36). .
7- قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ فيه تقريرُ المَعادِ؛ لأنَّ مَن قَدَر على خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ ولم يَعْيَ بخَلْقِهنَّ: قادِرٌ على أن يُحييَ الموتَى بطَريقِ الأَوْلَى والأَحْرَى [449] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/409). .
8- قولُه تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ استُدِلَّ به على وُجوبِ التَّسبيحِ في الصَّلاةِ؛ فإنَّه أمرٌ بالصَّلاةِ كلِّها، كما ثَبَتَ في الصَّحيحَينِ عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَليِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنَّا عندَ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فنَظَرَ إلى القَمَرِ لَيلةَ -يعني البَدر-، فقال: إنَّكم ستَرَونَ ربَّكم كما تَرَونَ هذا القَمَرَ لا تُضامونَ في رؤيتِه، فإنِ استطعتُم ألَّا تُغلَبوا على صلاةٍ قبْلَ طُلوعِ الشَّمسِ وقبْلَ غروبِها فافعَلوا. ثمَّ قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ)) [450] أخرجه البخاريُّ (554) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (633). ، وإذا كان اللهُ عزَّ وجلَّ قد سمَّى الصَّلاةَ تسبيحًا فقد دَلَّ ذلك على وُجوبِ التَّسبيحِ، كما أنَّه لَمَّا سمَّاها قيامًا في قَولِه تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] دلَّ على وُجوبِ القيامِ، وكذلك لَمَّا سَمَّاها قُرآنًا في قَولِه تعالى: وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ [الإسراء: 78] دلَّ على وُجوبِ القرآنِ فيها، ولَمَّا سَمَّاها رُكوعًا وسُجودًا في مواضِعَ دلَّ على وُجوبِ الرُّكوعِ والسُّجودِ فيها؛ وذلك أنَّ تَسميتَها بهذه الأفعالِ دَليلٌ على أنَّ هذه الأفعالَ لازِمةٌ لها، فإذا وُجِدَت هذه الأفعالُ فتكونُ مِن الأبعاضِ اللَّازمةِ، كما أنَّهم يُسمُّونَ الإنسانَ بأبعاضِه اللَّازِمةِ له، فيُسمُّونَه رَقَبةً، ورَأسًا، ووَجهًا، ونحوَ ذلك، كما في قَولِه تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [النساء: 92] ، ولو جاز وُجودُ الصَّلاةِ بدونِ التَّسبيحِ لَكان الأمرُ بالتَّسبيحِ لا يَصلُحُ أنْ يكونَ أمرًا بالصَّلاةِ؛ فإنَّ اللَّفظَ حينَئذٍ لا يكونُ دالًّا على معناه، ولا على ما يَستلزِمُ معناه [451] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (22/550). ووُجوبُ التَّسبيحِ في الرُّكوعِ والسُّجودِ هو مذهبُ الحنابلةِ، بيْنَما مذهبُ الجمهورِ مِن الحنفيَّةِ والمالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ أنَّه مستحَبٌّ. يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/107)، ((التاج والإكليل)) للموَّاق (1/538)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (1/499)، ((كشاف القناع)) للبُهُوتي (1/347). !

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ انتِقالٌ مِن الاستِدلالِ إلى التَّهديدِ. وهو معطوفٌ على ما قَبْلَه، وهذا العطفُ انتقالٌ إلى الموعظةِ بما حَلَّ بالأممِ المُكذِّبةِ بعْدَ الاستِدلالِ على إمكانِ البَعثِ بقولِه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] ، وما فُرِّعَ عليه مِن قولِه: أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ [ق: 15] . وفي هذا العَطفِ الوعيدُ الَّذي أُجمِلَ في قَولِه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ إلى قولِه: فَحَقَّ وَعِيدِ [ق: 12، 14]؛ فالوعيدُ الَّذي حَقَّ عليهم هو الاستِئصالُ في الدُّنيا، وهو مَضمونُ قَولِه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا [452] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/555)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/322). . أوِ الواوُ استِئنافيةٌ، والكلامُ مُستأنَفٌ مَسوقٌ لذِكرِ إهلاكِ قرونٍ ماضيةٍ [453] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/297). .
- والخبَرُ الَّذي أفادَهُ قولُه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ تَعريضٌ بالتَّهديدِ، وتَسليةٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [454] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/322). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى هاهنا: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ، وقال في سُورةِ (ص): كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ [ص: 3] ؛ فحذَفَ الجارَّ هنا؛ وذلك يدُلُّ على أنَّ كُلَّ مَن كان قبْلَ قُريشٍ كانوا أقْوى منهم، وإثباتُه في (ص) يدُلُّ على أنَّ المذكورينَ بالإهلاكِ هناك -مع الاتِّصافِ بالنِّداءِ المذكورِ في قولِه: فَنَادَوْا [ص: 3] -  بَعضُ المُهْلَكينَ، لا كلُّهم [455] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/435). .
- وضَميرَا قَبْلَهُمْ ومِنْهُمْ عائدانِ إلى مَعلومٍ مِن المَقامِ، غيرِ مَذكورٍ في الكلامِ [456] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/322). .
- وفي قَولِه: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ دخَلَت الفاءُ للتَّسبيبِ عن قولِه: هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا، أي: شِدَّةُ بَطشِهم أبطَرَتْهم وأقدرَتْهم على التَّنقيبِ وقَوَّتْهم عليه. والجُملةُ مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ إلى آخِرِه، وجُملةِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ. وقيلَ: هيَ عاطفةٌ في المَعنى، كأنَّه قيلَ: اشتدَّ بطشُهم فنقَّبُوا. ويجوزُ أنْ يُرادَ: فنقَّبَ أهلُ مكَّةَ في أسفارِهم ومَسايرِهم في بلادِ القرونِ؛ فالفاءُ على هذا للتَّعقيبِ، وفيه الْتِفاتٌ [457] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/390، 391)، ((تفسير البيضاوي)) (5/143)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (14/555)، ((تفسير أبي السعود)) (8/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/323). ؟!
- وجُملةُ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ بدَلُ اشتِمالٍ مِن جُملةِ أَهْلَكْنَا، أي: إهلاكًا لا مَنْجى منه. ويجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ مُستأنَفةً؛ فالاستِفهامُ إنكاريٌّ بمَعنى النَّفيِ؛ ولذلك دخَلَت (مِن) على الاسمِ الَّذي بعْدَ الاستِفهامِ، كما يُقالُ: ما مِن مَحيصٍ. ويجوزُ أنْ تكونَ على إضمارِ قَولٍ هو حالٌ مِن واوِ (نقَّبوا)؛ أي: فنقَّبوا في البِلادِ قائلينَ: هلْ مِن مَحيصٍ؟ أو على إجراءِ التَّنقيبِ -لِما فيه من مَعنى التَّتبُّعِ والتَّفتيشِ- مُجْرى القولِ [458] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/133)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/323). .
2- قولُه تعالَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ
- قولُه: لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ قِيل: المُرادُ: قلْبٌ مَوصوفٌ بالوعْيِ، أي: لِمَن كان له قلْبٌ واعٍ، يُقالُ: لِفُلانٍ مالٌ، أي: كثيرٌ؛ فالتَّنكيرُ يدُلُّ على معنًى في التَّعظيمِ والكَمالِ، والمعنى: لِمَن كان له قلبٌ ذَكيٌّ واعٍ يَستخرِجُ بذَكائِه، أو لِمَن ألْقَى السَّمْعَ إلى المُنذِرِ فيَتذكَّرُ.
وقيل: هو لبَيانِ وُضوحِ الأمْرِ بعْدَ الذِّكْرِ، وأنْ لا خَفاءَ فيه لِمَن كان له قلْبٌ ما ولو كان غيرَ كاملٍ، كما يُقالُ: أعْطِه شيئًا ولو كان دِرهمًا، ونقولُ: الجنَّةُ لِمَن عمِلَ خَيرًا ولو حَسنةً، فكأنَّه تعالى قال: إنَّ في ذلك لَذِكرى لِمَن يصِحُّ أنْ يُقالَ: له قلْبٌ، وحينَئذٍ فمَن لا يَتذكَّرُ لا قلْبَ له أصلًا، كما في قَولِه تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18] ؛ حيثُ لم تكُنْ آذانُهم وألْسِنَتُهم وأعيُنُهم مُفيدةً لِمَا يُطلَبُ منها، كذلك مَن لا يَتذكَّرُ كأنَّه لا قلْبَ له [459] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/150)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/324). ويُنظر أيضًا: ((تفسير البيضاوي)) (5/144). .
- قولُه: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ شَبَّهَ توجيهَ السَّمعِ لتلك الأخبارِ دونَ اشتِغالٍ بغيرِها بإلقاءِ الشَّيءِ لِمَن أخَذَه [460] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/324). .
- وإلقاءُ السَّمعِ: مُعبَّرٌ به عن شِدَّةِ الإصغاءِ للقُرآنِ ومواعظِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كأنَّ أسماعَهم طُرِحَتْ في ذلك، فلا يَشغَلُها شَيءٌ آخَرُ تَسمَعُه [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/324). . وقيل: إنَّما قال: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ، ولم يقلْ: استمَعَ؛ لأنَّ إلقاءَ السَّمْعِ، أي: يُرسِلُ سَمْعَه، ولا يُمسِكُه وإنْ لم يقصِدِ السَّماعَ، أي: تَحصُلُ الذِّكرى لِمَن له سَمْعٌ، وهو تَعريضٌ بتَمثيلِ المشركينَ بمَن ليس له قلبٌ، وبمَن لا يُلقي سَمْعَه [462] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/324). .
- وقد جِيءَ بهذه الجُملةِ الحاليَّةِ؛ للإشارةِ إلى اقتِرانِ مَضمونِها بمَضمونِ عاملِها، بحيثُ يكونُ صاحبُ الحالِ مُلقِيًا سمْعَه وهو شَهيدٌ، وهذه حالةُ المؤمنِ؛ ففي الكلامِ تنْويهٌ بشأنِ المؤمنينَ، وتعريضٌ بالمشركين بأنَّهم بُعَداءُ عن الانتِفاعِ بالذِّكرياتِ والعِبَرِ [463] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/324). .
- وقد تَضمَّنتْ هذه الآيةُ تقسيمًا وترديدًا بيْنَ قِسمينِ؛ أحدُهما: مَن كان له قلبٌ. والثَّاني: مَن ألْقَى السَّمعَ وحضَرَ بقَلبِه ولم يَغِبْ، فهو حاضرُ القلبِ شاهِدُه لا غائبُه، وهذا -واللهُ أعلمُ- سِرُّ الإتيانِ بـ (أو) دونَ الواوِ؛ لأنَّ المنتفِعَ بالآياتِ مِن النَّاسِ نَوعانِ؛ أحدُهما: ذو القلبِ الواعِي الزَّكيِّ الَّذي يَكتفي بهِدايتِه بأدْنَى تنبيهٍ، ولا يَحتاجُ إلى أنْ يَستَجلِبَ قَلبَه ويُحضِرَه ويَجمَعَه مِن مَواضِعِ شَتاتِه، بل قَلبُه واعٍ، ذَكيٌّ، قابِلٌ للهُدَى، غَيرُ مُعرِضٍ عنه؛ فهذا لا يَحتاجُ إلَّا إلى وُصولِ الهُدى إليه فقط؛ لكَمالِ استِعدادِه، وصِحَّةِ فِطرَتِه، فإذا جاءَه الهُدى سارَعَ قَلبُه إلى قَبولِه، كأنَّه كان مَكتوبًا فيه، فهو قد أدرَكَه مُجمَلًا، ثمَّ جاء الهُدَى بتَفصيلِ ما شَهِدَ قَلبُه بصِحَّتِه مُجمَلًا، وهذه حالُ أكمَلِ الخَلقِ استِجابةً لِدَعوةِ الرُّسُلِ، كما هي حالُ الصِّدِّيقِ الأكبَرِ رَضيَ اللهُ عنه. والنَّوعُ الثَّاني: مَن ليس له هذا الاستِعدادُ والقَبولُ، فإذا وَرَدَ عليه الهُدَى أصْغَى إليه بسَمعِه، وأحضَرَ قَلبَه، وجَمَعَ فِكرَتَه عليه، وعَلِمَ صِحَّتَه وحُسنَه بنَظَرِه واستِدلالِه، وهذه طَريقةُ أكثَرِ المُستَجيبينَ، ولهم نُوِّعَ ضَرْبُ الأمثالِ، وإقامةُ الحُجَجِ، وذِكْرُ المُعارَضاتِ والأجوِبةِ عنها، والأوَّلونَ همُ الَّذين يُدْعَوْنَ بالحِكمةِ، وهؤلاء يُدعَوْنَ بالمَوعظةِ الحَسَنةِ؛ فهؤلاء نَوْعَا المُستَجيبينَ. وأمَّا المُعارِضونَ المُدَّعونَ لِلحَقِّ فنَوعانِ؛ نَوعٌ يُدْعَوْنَ بالمُجادَلةِ بالَّتي هي أحسَنُ، فإنِ استَجابوا، وإلَّا فبالمُجالَدةِ [464] يُنظر: ((مفتاح دار السعادة)) لابن القيم (1/171). ثم قال ابن القيِّم: (ومَن تأمَّلَ دعوةَ القرآنِ وجَدَها شامِلةً لهؤلاء الأقسامِ، مُتناوِلةً لها كلِّها؛ كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]؛ فهؤلاء المَدْعُوُّونَ بالكلامِ، وأمَّا أهلُ الجِلَادِ فهم الَّذين أمَرَ اللهُ بقتالِهم حتَّى لا تَكونَ فِتنةٌ ويَكونَ الدِّينُ كلُّه لله). . وذلك على القَولِ بأنَّ الصِّفاتِ المذكورةَ لِصِنفَينِ مِن النَّاسِ.
3- قولُه تعالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ
 - قولُه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تَكملةٌ لِمَا وُصِفَ مِن خلْقِ السَّمواتِ في قَولِه: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا إلى قولِه: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [ق: 6، 7]؛ لِيُتوَصَّلَ به إلى قولِه: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ إبطالًا لِمَقالةِ اليهودِ، والجُملةُ مَعطوفةٌ على الجُملةِ الَّتي قبْلَها عطْفَ القصَّةِ على القصَّةِ، وقَعَتْ مُعترِضةً بيْنَ الكلامِ السَّابقِ وبيْنَ ما فُرِّعَ عنه مِن قَولِه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ [465] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/326). [ق: 39].
- والواوُ في قَولِه: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ واوُ الحالِ؛ لأنَّ لِمَعنى الحالِ هنا مَوقعًا عظيمًا مِن تَقْييدِ ذلك الخَلْقِ العظيمِ في تلك المُدَّةِ القصيرةِ بأنَّه لا يَنصَبُ خالِقُه؛ لأنَّ الغرَضَ مِن مُعظَمِ هذه السُّورةِ بَيانُ إمكانِ البَعثِ؛ إذ أحالَه المشركون بما يَرجِعُ إلى ضِيقِ القُدرةِ الإلهيَّةِ عن إيقاعِه؛ فكانتْ هذه الآياتُ كُلُّها مُشتمِلةً على إبرازِ معنى سَعةِ القُدْرةِ الإلهيَّةِ [466] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/325). .
- وحقيقةُ المَسِّ: اللَّمسُ، أي: وضْعُ اليَدِ على شَيءٍ وَضعًا غيرَ شديدٍ، بخِلافِ الدَّفعِ واللَّطمِ، فعبَّرَ عن نَفْيِ أقلِّ الإصابةِ بنَفيِ المَسِّ؛ لنَفيِ أضعَفِ أحوالِ الإصابةِ؛ فنفْيُ قوَّةِ الإصابةِ وتمَكُّنِها أحْرَى [467] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/325، 326). .
4- قولُه تعالَى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ
- قولُه: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ تَفْريعٌ على ما تقدَّمَ كُلِّه مِن قولِه: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ [ق: 2] الآياتِ، ومُناسَبةُ وُقوعِه هذا المَوقعَ ما تضَمَّنه قولُه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ [ق: 36] الآيةَ، مِن التَّعريضِ بتَسليةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أي: فاصبِرْ على ما يقولُ المُشرِكون مِن التَّكذيبِ بما أخبَرْتَهم مِن البَعثِ وبالرِّسالةِ، وقد جمَعَ ذلك كُلَّه المَوصولُ، وهو مَا يَقُولُونَ، أي: الَّذي يَقولون [468] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/326). .
- وقال في الأُولى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، وفي الثَّانيةِ: فَسَبِّحْهُ؛ فقيل: الأمرُ في المَوضِعَينِ واحِدٌ، على تقديرِ: سَبِّحِ اللهَ مُقتَرِنًا بحَمدِ رَبِّك؛ وذلك لأنَّ (سَبِّحِ اللهَ) كقَولِ القائِلِ: (فسَبِّحْه)، غيرَ أنَّ المفعولَ لم يُذكَرْ أوَّلًا؛ لدَلالةِ قَولِه تعالى: بِحَمْدِ رَبِّكَ عليه، وثانيًا؛ لِدَلالةِ ما سَبَق عليه لم يَذكُرْ (بحَمدِ رَبِّك).
وقيل: على القَولِ بأنَّ (سَبِّحْ) بمعنى: صَلِّ، يكونُ الأوَّلُ أمرًا بالصَّلاةِ، والثَّاني أمرًا بالتَّنزيهِ، أي: وصَلِّ بحَمدِ رَبِّك في الوَقتِ، وباللَّيلِ نَزِّهْه عمَّا لا يَليقُ، وحينَئذٍ يكونُ هذا إشارةً إلى العَمَلِ والذِّكرِ والفِكرِ؛ فقَولُه (سَبِّحْ) إشارةٌ إلى خَيرِ الأعمالِ، وهو الصَّلاةُ، وقَولُه: بِحَمْدِ رَبِّكَ إشارةٌ إلى الذِّكرِ، وقَولُه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إشارةٌ إلى الفِكرِ حينَ هُدوءِ الأصواتِ، وصَفاءِ الباطِنِ، أي: نَزِّهْه عن كُلِّ سُوءٍ بفِكْرِك [469] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/153). .
- قولُه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ عطْفٌ على فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ؛ فهو مِن تَمامِ التَّفريعِ. ولعلَّ وجْهَ هذا العَطفِ أنَّ المشرِكين كانوا يَسْتهزِئونَ بالنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمؤمنينَ إذا قاموا إلى الصَّلاةِ [470] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/326). .
- قولُه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، أي: صَلِّ، فنُزِّلَ فِعلُ التَّسبيحِ مَنزِلةَ اللَّازِمِ، وهو الصَّلاةُ [471] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/327). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
- والفاءُ في قَولِه: فَسَبِّحْهُ للتَّفريعِ على قولِه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ على أنْ يكونَ الوقتُ في قَولِه: وَمِنَ اللَّيْلِ تأكيدًا للأمْرِ؛ لإفادةِ الوُجوبِ، فيُجعَلَ التَّفريعُ اعتِراضًا بيْن الظُّروفِ المتعاطِفةِ [472] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/328). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال تعالَى هنا: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وقال في سُورةِ (طه): وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه: 130] ، فوقَعَ في سُورةِ (طه): وَقَبْلَ غُرُوبِهَا، وفي هذه: وَقَبْلَ الْغُرُوبِ؛ وذلك لأنَّ فَواصِلَ أكثرِ الآياتِ في سُورةِ (طه) أواخِرُها ألِفٌ؛ فعُدِلَ إلى غُرُوبِهَا، وهو الأصلُ؛ لأنَّ الطُّلوعَ مُضافٌ إلى الشَّمسِ، وحقُّ الغُروبِ أنْ يكونَ مُضافًا إلى ضَميرِها، وضَميرُها بعْدَها ألِفٌ. وأمَّا سُورةُ (ق) فإنَّ فَواصِلَها مُردَفةٌ بواوٍ أو ياءٍ؛ كالسُّجودِ، والخُلودِ، والقَعيدِ، والعَتيدِ، والمَريجِ. والغُروبُ متى ذُكِرَ عُلِمَ أنه أُرِيدَ به غُروبُها، فكان ذلك أشبَهَ بالفواصلِ الَّتي تَقدَّمَتْها في المكانَينِ؛ فلذلك اختَلَفا [473] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1202، 1203)، ((أسرار التكرار في القرآن)) للكرماني (ص: 229)، ((بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز)) للفيروزابادي (1/438). . واللهُ أعلَمُ.