موسوعة التفسير

سورةُ الإنسانِ
الآيات (23-26)

ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓ ﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ ﰙ ﰚ ﰛ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ

غريب الكلمات:

بُكْرَةً: أي: أوَّلَ النَّهارِ، وأصلُ (بكر): يدُلُّ على أوَّلِ الشَّيءِ وبَدئِه [253] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 140). .
وَأَصِيلًا: أي: آخِرَ النَّهارِ، وما بيْنَ العَصرِ إلى اللَّيلِ [254] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (19/123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/109)، ((المفردات)) للراغب (ص: 78)، ((تفسير القرطبي)) (14/198)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 215). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى مثبِّتًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّا نحن نَزَّلْنا عليك -يا محمَّدُ- القُرآنَ تَنزيلًا مُفَرَّقًا، فاصبِرْ لحُكمِ اللهِ على تبليغِ رِسالتِه، وما تَلْقاه مِن أذًى في سَبيلِ ذلك، وعلى تأخيرِ نَصرِك، ولا تُطِعْ فاجِرًا يَدعوك إلى مَعصيةِ اللهِ، أو كافِرًا باللهِ يدعوك لعبادةِ غَيْرِه.
ثمَّ يرشدُ الله سُبحانَه نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ما يُعينُه على الصَّبرِ والثَّباتِ، فيقولُ: واذكُرِ اسمَ رَبِّك -يا محمَّدُ- في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرِه، واسجُدْ للهِ تعالى في صَلاتِك في اللَّيلِ، وسَبِّحْه وَقتًا طَويلًا مِنَ اللَّيلِ.

تفسير الآيات:

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذكَرَ أوَّلًا حالَ الإنسانِ وقسَّمَه إلى العاصي والطَّائعِ؛ ذَكَرَ ما شرَّفَ به نَبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [255] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/369). .
وأيضًا لَمَّا ذَكَر أصنافَ الوعدِ والوَعيدِ؛ بيَّنَ أنَّ هذا الكتابَ يتضَمَّنُ ما بالنَّاسِ حاجةٌ إليه، فليس بسِحرٍ ولا كِهانةٍ ولا شِعرٍ، وأنَّه حَقٌّ [256] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/148). .
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23).
أي: إنَّا نحن نَزَّلْنا عليك -يا محمَّدُ- القُرآنَ تَنزيلًا مُفَرَّقًا بحَسَبِ الحِكْمةِ [257] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/572)، ((تفسير السمرقندي)) (3/529)، ((تفسير الزمخشري)) (4/674)، ((تفسير القرطبي)) (19/148)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/152)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/402). .
قال الله تبارك وتعالى: وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] .
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24).
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ.
أي: فاصبِرْ لحكَمِ ربِّك القَدَريِّ -ومنه تأخيرُ نَصرِك، وما يَنالُك مِن أذًى- فلا تَسخَطْه، ولِحُكمِه الدِّينيِّ مِن القيامِ بما ألْزَمَك القيامَ به في كِتابِه، وتبليغِ رِسالتِه، وتحمُّلِ ما تَلْقاه مِن أذى المُشرِكين في سَبيلِ ذلك [258] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/572)، ((تفسير الزمخشري)) (4/674)، ((تفسير القرطبي)) (19/149)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/154)، ((تفسير السعدي)) (ص: 902). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بقولِه: لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: قضائِه: القرطبيُّ، وابنُ كثير، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (19/149)، ((تفسير ابن كثير)) (8/294)، ((تفسير الشوكاني)) (5/ 426). قال الشوكاني: (ومِن حُكْمِه وقَضائِه تأخيرُ نَصرِك إلى أجَلٍ اقْتَضَتْه حِكْمَتُه). ((تفسير الشوكاني)) (5/426). وقال ابن جرير: (اصْبِرْ لِمَا امْتَحَنَك به رَبُّكَ مِن فَرائِضِه، وتبليغِ رِسالاتِه، والقيامِ بما ألْزَمَك القيامَ به في تَنزِيلِه الَّذي أوحاه إليك). ((تفسير ابن جرير)) (23/572). وقال ابنُ عطيَّة: (وحُكْمُ رَبِّه: هو أن يُبَلِّغَ ويُكافِحَ، ويَتحَمَّلَ المشَقَّةَ، ويَصبِرَ على الأذى؛ ليُعذِرَ اللهُ إليهم). ((تفسير ابن عطية)) (5/414). وممَّن جمَع بيْنَ المعاني السَّابقةِ: البِقاعي، والسعديُّ: قال البقاعي: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: المحسِنِ إليك بتَخصيصِه لك بهذه النِّعمةِ، على ضلالِ مَن حَكَم بضَلالِه، وعلى كلِّ ما يَنوبُك، وأَطِعْه في التَّعبُّدِ له بجميعِ ما أمَرَك به مِن الرِّفقِ، إلى أن يأمُرَك بالسَّيفِ). ((نظم الدرر)) (21/154). وقال السعدي: (اصبِرْ لِحُكمِه القَدَريِّ، فلا تَسخَطْه، ولِحُكْمِه الدِّينيِّ، فامْضِ عليه، ولا يُعَوِّقْك عنه عائِقٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 902). .
كما قال الله تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] .
وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا.
مُناسَبتُها لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مِن ضُروبِ إعراضِهِم عن قَبولِ دَعوتِه، ضَرْبٌ فيه رَغباتٌ منهم، مِثلُ أنْ يَترُكَ قَرْعَهم بقَوارِعِ التَّنزيلِ مِن تَأفينِ رأْيِهم، وتَحقيرِ دِينِهم وأصْنامِهم، ورُبَّما عَرَضوا عليه الصِّهرَ معهم، أو بَذْلَ المالِ منهم؛ أُعقِبَ أمْرُه بالصَّبرِ على ما هو مِن ضُروبِ الإعراضِ في صَلابةٍ وشِدَّةٍ؛ بأنْ نَهاهُ عن أنْ يُطِيعَهم في الضَّربِ الآخَرِ مِن ضُروبِ الإعراضِ الواقعِ في قالَبِ اللِّينِ والرَّغبةِ [259] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/403). .
وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا.
أي: ولا تُطِعْ فاجِرًا يَدْعوك إلى مَعصيةِ اللهِ، أو كافِرًا باللهِ جَحُودًا لنِعَمِه يدعوك لعبادةِ غَيرِه [260] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/572)، ((تفسير البيضاوي)) (5/272)، ((تفسير ابن كثير)) (8/294)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/154)، ((تفسير السعدي)) (ص: 902). قال الرازي: (كُلُّ مَن عَبَد غَيرَ اللهِ فقد اجتَمَع في حَقِّه هذان الوَصفانِ؛ لأنَّه لَمَّا عَبَد غَيْرَه، فقد عصاه وجَحَد إنعامَه). ((تفسير الرازي)) (30/759). وقال ابنُ تيميَّةَ: (قَولُه: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا ... «الكَفُور» هو الآثِمُ أيضًا، لكِنَّه عَطفُ خاصٍّ على عامٍّ. وقد قيل: هما وصفانِ لموصوفٍ واحدٍ، وهو أبلَغُ). ((مجموع الفتاوى)) (21/388). ويُنظر ما سيأتي في البلاغةِ (ص: 398). وقال ابن عاشور: (كان المُشرِكونَ يَعمِدونَ إلى الطَّلَبِ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَفعَلَ ما يَرغَبونَ، مِثلُ: طَرْدِ ضُعَفاءِ المؤمِنينَ مِنَ المجلِسِ، والإتيانِ بقُرآنٍ غيرِ هذا أو تبديلِه بما يُشايِعُ أحوالَهم، وأنْ يَكُفَّ عمَّا لا يُريدونَ وُقوعَه مِن تحقيرِ آلهتِهِم، والجَهْرِ بصَلاتِه؛ فحَذَّرَه اللهُ مِنَ الاستماعِ لِقَولِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (29/404). .
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا نهَى عن طاعَةِ الآثمِ والكفورِ القاطِعةِ عن اللهِ؛ أمَرَ بمُلازَمةِ الموصِلِ إلى اللهِ، وهو الذِّكرُ [261] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/155). .
وأيضًا لَمَّا نَهى اللهُ سُبحانَه وتعالَى حَبيبَه صَلواتُ اللهِ عليه، عن طاعةِ الآثِمِ والكَفورِ، وحثَّه على الصَّبرِ على أذاهم، وإفراطِهِم في العَداوةِ، وأراد أنْ يُرشِدَه إلى مُتاركتِهم- عقَّبَ ذلك بالأمرِ باستغراقِ أوقاتِه بالاشتِغالِ بالعِبادةِ لَيلًا ونَهارًا [262] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (16/212، 213). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
وأيضًا لَمَّا كان الصَّبرُ يُساعِدُه القيامُ بعبادةِ اللهِ، والإكثارُ منِ ذِكْرِه؛ أمَرَه اللهُ بذلك، فقال [263] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 901). :
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25).
أي: واذكُرِ اسمَ رَبِّك -يا محمَّدُ- في أوَّلِ النَّهارِ وآخِرِه [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/573)، ((تفسير القرطبي)) (19/150)، ((تفسير ابن كثير)) (8/294). قيل: المرادُ: صَلِّ لرَبِّك أوَّلَ النَّهارِ صَلاةَ الصُّبحِ، وصَلِّ في آخِرِه صَلاةَ الظُّهرِ والعَصْرِ. وممَّن ذهب إلى هذا القولِ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين، ومكِّيٌّ، والقرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/573)، ((تفسير السمرقندي)) (3/529)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/75)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (12/7942)، ((تفسير القرطبي)) (19/150). وقيل: المرادُ: الذِّكْرُ باللِّسانِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والبِقاعي، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/534)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/155، 156)، ((تفسير الشوكاني)) (5/426). وقيل بالعُمومِ، فيَدخُلُ في ذلك: الصَّلَواتُ المكتوباتُ وما يَتْبَعُها مِن النَّوافلِ، والذِّكرُ، والتَّسبيحُ، والتَّهليلُ، والتَّكبيرُ. وممَّن ذهب إلى هذا في الجملةِ: القاسميُّ، والسعديُّ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/378)، ((تفسير السعدي)) (ص: 902). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عاشور)) (29/405). .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26).
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ.
أي: واسجُدْ للهِ تعالى في صَلاتِك في اللَّيلِ [265] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/573)، ((تفسير القرطبي)) (19/150)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (23/87)، ((تفسير السعدي)) (ص: 902)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/406). قيل: المرادُ: صلاةُ المغرِبِ والعِشاءِ. وممَّن قال بهذا: السمرقنديُّ، وابنُ أبي زَمَنِين، والثعلبيُّ، والماوَرْدي، والبغوي، وابن الجوزي، والقرطبي، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/529)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (5/75)، ((تفسير الثعلبي)) (10/107)، ((تفسير الماوردي)) (6/172)، ((تفسير البغوي)) (5/195)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/381)، ((تفسير القرطبي)) (19/150)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/157). وقيل: المرادُ: صلاةُ العِشاءِ، والوترُ، وقيامُ اللَّيلِ. وممَّن قال بهذا: ابنُ تيميَّةَ. يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (23/87). وقيل: المراد: قيامُ اللَّيلِ. وممَّن ذهب إليه: القاسميُّ. يُنظر: ((تفسير القاسمي)) (9/378). وقال ابنُ عاشور: (هذا خاصٌّ بصلاةِ اللَّيلِ فَرضًا ونَفلًا). ((تفسير ابن عاشور)) (29/406). .
وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا.
أي: وسَبِّحِ اللهَ تعالى وَقتًا طَويلًا مِنَ اللَّيلِ [266] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/573)، ((تفسير القرطبي)) (19/150)، ((تفسير العليمي)) (7/242)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/406). قيل: المرادُ بالتَّسبيحِ هنا: قيامُ اللَّيلِ. وممَّن قال بهذا: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والقرطبيُّ، والبِقاعي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/534)، ((تفسير القرطبي)) (19/150)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/157). وقيل: المرادُ: تنزيهُ اللهِ تعالى عمَّا لا يَليقُ به. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/426). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القرطبي)) (19/150). وقال ابن عاشور: (التَّسبيحُ: التَّنزيهُ بالقَولِ وبالاعتقادِ، ويَشملُ الصَّلَواتِ والأقوالَ الطَّيِّبةَ، والتَّدَبُّرَ في دَلائلِ صِفاتِ اللهِ وكَمالاتِه، وغَلَب إطلاقُ مادَّةِ التَّسبيحِ على الصَّلاةِ النَّافِلةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (29/406). .
قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 97، 98].
وقال سُبحانَه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ [طه: 130].
وقال عزَّ وجلَّ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ [الطور: 48، 49].

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا أنَّه كان مِن المنتَظَرِ أنْ يُقالَ: «فاشكُرْ نِعمةَ رَبِّك»، ولكِنَّه عزَّ وجلَّ قال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ كلَّ مَن قام بهذا القرآنِ فلا بُدَّ أنْ يَنالَه ما يَنالُه ممَّا يحتاجُ إلى صبرٍ، وانظرْ إلى حالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حينَ ضَرَبه قَومُه فأَدْمَوه، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وَجْهِه الشَّريفِ، ويقولُ: ((اللَّهُمَّ اغفِرْ لِقَومي؛ فإنَّهم لا يَعلَمونَ !)) [267] أخرجه البخاريُّ (3477) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (1792). ؛ فعلى الدَّاعيةِ أنْ يكونَ صابِرًا مُحتَسِبًا [268] يُنظر: ((شرح ثلاثة الأصول)) لابن عثيمين (ص: 24). .
2- في قَولِه تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا أنَّه لَمَّا كان لا سَبيلَ إلى الصَّبرِ إلَّا بتعويضِ القَلْبِ بشَيءٍ هو أحَبُّ إليه مِن فَواتِ ما يَصبِرُ على فَوْتِه، أمَرَه بأنْ يَذْكُرَ ربَّه سُبحانَه بُكْرةً وأَصيلًا؛ فإنَّ ذِكْرَه أعظمُ العَونِ على تَحَمُّلِ مَشاقِّ الصَّبرِ، وأنْ يَصْبِرَ لرَبِّه باللَّيلِ فيَكونَ قيامُه باللَّيلِ عَونًا على ما هو بصَدَدِه بالنَّهارِ، ومادَّةً لِقُوَّتِه ظاهِرًا وباطِنًا، ولنَعيمِه عاجِلًا وآجِلًا [269] يُنظر: ((جامع الرسائل)) لابن تيمية (1/75). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان يُطِيعُ أحَدًا منهم، لكِنَّ المقصودَ بَيانُ أنَّ النَّاسَ مُحتاجونَ إلى مُواصَلةِ التَّنبيهِ والإرشادِ؛ مِن أجْلِ ما تركَّبَ فيهم مِن الشَّهَواتِ الدَّاعِيةِ إلى الفَسادِ، وأنَّ أحدًا لو استَغنَى عن توفيقِ اللهِ وإمدادِه وإرشادِه، لَكان أحَقُّ النَّاسِ به هو الرَّسولَ المعصومَ، ومتى ظَهَر ذلك عَرَف كُلُّ مُسلِمٍ أنَّه لا بُدَّ له مِن الرَّغبةِ إلى اللهِ، والتَّضَرُّعِ إليه أن يَصونَه عن الشُّبُهاتِ والشَّهَواتِ [270] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/758). .
4- في قَولِه تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا فَضْلُ العبادةِ باللَّيلِ [271] يُنظر: ((الكلم الطيب)) لابن تيمية (ص: 34). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، و(على) تُفيدُ الاستِعلاءَ، أي: أنَّه نَزَل إلى الرَّسولِ مِن فَوقٍ، وتُفيدُ أيضًا التَّحَمُّلَ؛ لأنَّه نَزَل عليه كأنَّه فوقَه، والشَّيءُ الَّذي فوقَك لا بدَّ أن تتحمَّلَه؛ ممَّا يدُلُّ على ثِقَلِ القُرآنِ. قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [272] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة ص)) (ص: 140). [المزمل: 5] .
2- قَولُ اللهِ تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا فيه سُؤالٌ: قَولُه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، دَخَل فيه أنْ لا تُطِعْ منهم آثمًا أو كَفُورًا، فكان ذِكْرُه بَعْدَ هذا تكريرًا؟
الجوابُ: الأوَّلُ أمرٌ بالمأموراتِ، والثَّاني نهيٌ عن المنهِيَّاتِ، ودَلالةُ أحَدِهما على الآخَرِ بالالتزامِ لا بالتَّصريحِ، فيكونُ التَّصريحُ به مُفِيدًا [273] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/758). .
3- قال تعالى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا فمَن سَبَّحَ اللهَ لَيلًا طويلًا لَمْ يكُنْ ذلك اليومُ ثَقيلًا عليه، بل كان أَخَفَّ شَيءٍ عليه [274] يُنظر: ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/85). .
4- قَولُه تعالى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا يَقتَضي نَهْيَ الإمامِ عن طاعةِ آثمٍ مِن العُصاةِ، أو كَفورٍ مِن المُشرِكين [275] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/414)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (21/388). .
5- قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا فيه سُؤالٌ: كَلِمةُ (أو) تَقتضي النَّهيَ عن طاعةِ أحَدِهما، فلِمَ لَمْ يَذكُرِ (الواو)؛ حتَّى يكونَ نَهيًا عن طاعتِهما جميعًا؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّه لو قِيلَ: (ولا تُطِعْهما) لَجاز أن يُطيعَ أحَدَهما؛ لأنَّ النَّهيَ عن طاعةِ مَجموعِ شَخصَينِ لا يَقتَضي النَّهيَ عن طاعةِ كُلِّ واحِدٍ منهما وَحْدَه، أمَّا النَّهيُ عن طاعةِ أحَدِهما، فيكونُ نَهْيًا عن طاعةِ مَجموعِهما؛ لأنَّ الواحِدَ داخِلٌ في المجموعِ.
الوَجهُ الثَّاني: تقديرُ الآيةِ: لا تُطِعْ منهم أحَدًا؛ سواءٌ كان آثِمًا أو كَفُورًا، كقَولِ الرَّجُلِ لِمَن يَسألُه شيئًا: (لا أُعطيك؛ سواءٌ سألْتَ أو سَكَتَّ) [276] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/759). ويُنظر ما يأتي في البلاغة (ص: 396). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ فيه إشارةٌ إلى الصَّلَواتِ الخَمْسِ، فالبُكرةُ صلاةُ الصُّبحِ، والأصيلُ: الظُّهرُ والعصرُ، وَمِنَ اللَّيْلِ: المغربُ والعِشاءُ [277] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/609)، ((الإكليل)) للسيوطي (ص: 279). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا
- هو استِئنافٌ ابتدائيٌّ للانتقالِ مِن الاستِدلالِ على ثُبوتِ البَعثِ بالحُجَّةِ والتَّرهيبِ والوَعيدِ للكافِرينَ به، والتَّرغيبِ والوعْدِ للمؤمنينَ به بمُرهِّباتٍ ومُرغِّباتٍ هي مِن الأحوالِ الَّتي تكونُ بعْدَ البَعثِ؛ فلمَّا استُوفِيَ ذلك ثُنِيَ عِنانُ الكلامِ إلى تَثبيتِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والرَّبطِ على قلْبِه؛ لدِفاعِ أنْ تَلحَقَه آثارُ الغَمِّ على تَصلُّبِ قَومِه في كُفْرِهم وتَكذيبِهم بما أُنزِلَ عليه، ممَّا شَأْنُه أنْ يُوهِنَ العَزيمةَ البشَريَّةَ، فذكَّرَه اللهُ بأنَّه نزَّلَ عليه الكتابَ؛ لئلَّا يَعبَأَ بتَكذيبِهم [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/402). .
- وفي إيرادِ هذا بعْدَ طُولِ الكلامِ في أحوالِ الآخِرةِ: قَضاءٌ لحقِّ الاعتناءِ بأحوالِ النَّاسِ في الدُّنيا؛ فابتُدِئَ بحالِ أشرَفِ النَّاسِ، وهو الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثمَّ بحالِ الَّذين دَعاهم الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ مَن يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ [الإنسان: 27] ، ومَن اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا [الإنسان: 29] فأدْخَلَهم في رَحمتِه [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/402). .
- وتَأكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) للاهتِمامِ به، وتَأكيدُ الضَّميرِ المتَّصلِ بضَميرٍ مُنفصِلٍ في قولِه: إِنَّا نَحْنُ؛ لتَقريرِ مَدلولِ الضَّميرِ تَأكيدًا لَفظيًّا؛ للتَّنبيهِ على عَظَمةِ ذلك الضَّميرِ؛ ليُفضِيَ به إلى زِيادةِ الاهتمامِ بالخبَرِ؛ إذ يَتقرَّرُ أنَّه فِعلُ مَن هذانِ الضَّميرانِ له؛ لأنَّه لا يَفعَلُ إلَّا فِعلًا مَنوطًا بحِكمةٍ وأقْصى الصَّوابِ. وهذا مِن الكِنايةِ الرَّمزيةِ [280] تَنقسِمُ الكِنايةُ باعتبارِ الوسائطِ (اللَّوازمِ) والسِّياقِ إلى أربعةِ أقسامٍ: تعريض، وتلويح، ورمْز، وإيماء؛ فالتَّعريضُ اصطِلاحًا: هو أنْ يُطلَقَ الكلامُ ويُشارَ به إلى معنًى آخَرَ يُفهَمُ مِن السِّياقِ. والتَّلويحُ اصطِلاحًا: هو الَّذي كثُرَتْ وسائطُه بلا تَعريضٍ، ويُنتقَلُ فيه إلى الملزومِ بواسِطةِ لَوازِمَ؛ نحو قولِ المرأةِ في حديثِ أمِّ زَرْعٍ: (زَوجي رفيعُ العِمادِ، طويلُ النِّجادِ، عظيمُ الرَّمادِ)، فقولُها: (عظيمُ الرَّمادِ) يدُلُّ على كثرةِ الجَمرِ، وهي على كثرةِ إحراقِ الحطَبِ، وهي على كثرةِ الطَّبائخِ، وهي على كثرةِ الأكَلةِ، وهي على كثرةِ الضِّيفانِ، وهي على أنَّه مِضْيافٌ؛ فانتقَل الفِكرُ إلى جملةِ وسائطَ. والرَّمزُ اصطلاحًا:  هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ خفاءِ في اللُّزومِ بلا تعريضٍ نحو: فلانٌ عريضُ القفا، أو عريضُ الوسادةِ؛ كناية عن بلادتِه وبلاهتِه. والإيماءُ أو الإشارةُ اصطلاحًا: هو الذي قلَّت وسائطُه، معَ وضوحِ اللُّزومِ، بلا تعريضٍ. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكاكي (ص: 402 وما بعدها)، ((التبيان في البيان)) للطِّيبي (145 - 155)، ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (2/300)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 286 - 290). ، وبعْدُ فالخبَرُ بمَجموعِه مُستعمَلٌ في لازِمِ معْناهُ، وهو التَّثبيتُ والتَّأييدُ، فمَجموعُه كِنايةٌ رَمزيَّةٌ [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/402). . فتَكريرُ الضَّميرِ بعْدَ إيقاعِه اسمًا لـ (إنَّ) تَأكيدٌ على تَأكيدٍ لمعْنى اختصاصِ اللهِ بالتَّنزيلِ؛ ليَتقرَّرَ في نفْسِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه إذا كان هو المُنزِّلَ لم يكُنْ تَنزيلُه على أيِّ وجْهٍ نزَلَ إلَّا حِكمةً وصَوابًا، كأنَّه قِيل: ما نزَّلَ عليك القرآنَ تَنزيلًا مُفرَّقًا مُنجَّمًا إلَّا أنا، لا غَيري، وقد عرَفْتَني حَكيمًا فاعلًا لكلِّ ما أفْعَلُه بدَواعي الحِكمةِ. فاجتماعُ التَّأكيدِ على التَّأكيدِ يُفيدُ مُفادَ القصْرِ [282] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْرِ الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقَصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زَيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكة الميداني (1/525). ؛ إذ ليس الحصرُ والتَّخصيصُ إلَّا تَأكيدًا على تَأكيدٍ [283] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/674)، ((تفسير البيضاوي)) (5/272)، ((تفسير أبي السعود)) (9/75)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/402، 403). .
- وجاء التَّوكيدُ بـ (إنَّ) لمَضمونِ الخبَرِ ومَدلولِ المُخبَرِ عنه، وأُكِّدَ الفِعلُ بالمَصدرِ [284] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/369). .
- وإيثارُ فِعلِ نَزَّلْنَا الدَّالِّ على تَنزيلِه مُنجَّمًا آياتٍ وسُورًا تَنزيلًا مُفرَّقًا: إدماجٌ [285] الإدماجُ: أنْ يُدمِجَ المتكلِّمُ غرضًا في غَرضٍ، أو بديعًا في بديعٍ بحَيثُ لا يَظهرُ في الكلامِ إلَّا أحدُ الغرَضينِ أو أحدُ البَديعينِ؛ فهو مِن أفانينِ البَلاغةِ، ويكونُ مرادُ البليغِ غَرَضينِ فيَقرِنُ الغرضَ المَسوقَ له الكلامُ بالغرضِ الثَّاني، وفيه تَظهرُ مَقدرةُ البليغِ؛ إذ يأتي بذلك الاقترانِ بدونِ خروجٍ عن غَرَضِه المسوقِ له الكلامُ ولا تَكلُّفٍ، بمعنى: أن يَجعلَ المتكلِّمُ الكلامَ الَّذي سِيق لِمعنًى -مِن مَدحٍ أو غيرِه- مُتضمِّنًا معنًى آخَرَ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/298)، ((علوم البلاغة البيان المعاني البديع)) للمراغي (ص: 344)، ((تفسير ابن عاشور)) (1/339)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (2/427). ؛ للإيماءِ إلى أنَّ ذلك كان مِن حِكمةِ اللهِ تعالَى الَّتي أومَأَ إليها تَأكيدُ الخبَرِ بـ(إنَّ)، وتَأكيدُ الضَّميرِ المتَّصلِ بالضَّميرِ المُنفصِلِ [286] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/402، 403). .
- وفيه تَعريضٌ بالمشركينَ الَّذين قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان: 32] ، فجَعَلوا تَنزيلَه مُفرَّقًا شُبهةً في أنَّه ليس مِن عندِ اللهِ، والمعْنى: ما أنْزَلَه مُنجَّمًا إلَّا أنا، واقتَضَت حِكْمتي أنْ أُنزِلَه عليك مُنجَّمًا [287] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/403). .
2- قولُه تعالَى: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا
- قوله: فَاصْبِرْ الفاءُ هي الفصيحةُ؛ أفْصَحَتْ عن شَرطٍ مُقدَّرٍ، أي: إنْ عرَفْتَ هذا فاصبِرْ [288] يُنظر: ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/326). . وهو أمْرٌ للرَّسولِ بالصَّبرِ على أعباءِ الرِّسالةِ وما يَلْقاه فيها مِن أذَى المشرِكين، وشدٌّ لعَزيمتِه ألَّا تَخورَ، وسَمَّى ذلك حُكمًا؛ لأنَّ الرِّسالةَ عن اللهِ لا خِيَرةَ للمُرسَلِ في قَبولِها، والاضْطِلاعِ بأُمورِها [289] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/403). .
- وعُدِّيَ فِعلُ (اصبِرْ) باللَّامِ؛ لتَضمُّنِ الصَّبرِ معْنى الخُضوعِ والطَّاعةِ للأمْرِ الشَّاقِّ [290] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/403). .
- وفي هذا النَّهيِ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا تَأكيدٌ للأمرِ بالصَّبرِ؛ لأنَّ النَّهيَ عنه يَشملُ كلَّ ما يَرفَعُ مُوجباتِ الصَّبرِ المرادِ هنا، والمقصودُ مِن هذا النَّهيِ تَأييسُهم مِن استجابتِه لهم حِينَ يَقرَأُ عليهم هذه الآيةَ؛ لأنَّهم يَحسَبونَ أنَّ ما عَرَضوه عليه سيَكونُ صارِفًا له عمَّا هو قائمٌ به مِن الدَّعوةِ؛ إذ همْ بُعَداءُ عن إدراكِ ماهيَّةِ الرِّسالةِ ونَزاهةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [291] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/403). .
- ومُقْتضَى الظَّاهرِ أنْ يقولَ: (ولا تُطِعْهم)، أو (ولا تُطِعْ منهم أحدًا)، فعُدِلَ عنه إلى آَثِمًا أَوْ كَفُورًا؛ للإشارةِ بالوصفَينِ إلى أنَّ طاعَتَهم تُفْضي إلى ارتكابِ إثمٍ أو كُفْرٍ؛ لأنَّهم في ذلك يَأمُرونَه ويَنهَونَه غالبًا، فهمْ لا يَأمُرونَ إلَّا بما يُلائِمُ صِفاتِهم [292] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/404). .
- والتَّقسيمُ بـ (أو) في قولِه: وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا باعتبارِ ما يَدْعونَه إليه؛ فالمعْنى: ولا تُطِعْ منهم راكبًا لِما هو إثمٌ داعيًا لك إليه، أو فاعلًا لِما هو كُفْرٌ داعيًا لك إليه؛ لأنَّهم إمَّا أنْ يَدْعوه إلى مُساعَدتِهم على فِعلٍ هو إثمٌ أو كفْرٌ، أو غيرُ إثْمٍ ولا كفْرٍ؛ فنَهى أنْ يُساعِدَهم على الاثنينِ دونَ الثَّالثِ [293] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/674)، ((تفسير البيضاوي)) (5/272)، ((تفسير أبي السعود)) (9/75)، ((تفسير ابن عاشور)) (29/404). . وقيل: (أو) إذا وقَعت في سياقِ النَّفيِ تُفيدُ مُفادَ واوِ العَطْفِ، فتدُلُّ على انتفاءِ المعطوفِ والمعطوفِ عليه معًا، ولا تفيدُ المفادَ الَّذي تُفيدُه في الإثباتِ، وهو كونُ الحُكمِ لأحدِ المتعاطِفَينِ [294] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (2/458). .
ومعْنى الآيةِ نهْيٌ عن طاعةِ أحَدِ هذينِ الموصوفينِ، ويُعلَمُ أنَّ طاعةَ كِلَيهما مَنهيٌّ عنها بدَلالةِ الفَحوى؛ لأنَّه إذا أطاعَهُما معًا فقدْ تَحقَّقَ منه طاعةُ أحَدِهما وزِيادةٌ [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/405). .
- والنَّهيُ عن طاعةِ كلِّ واحدٍ منْهما أبلَغُ مِن النَّهيِ عن طاعتِهما؛ لأنَّه يَستلزِمُ النَّهيَ عن أحدِهما؛ لأنَّ في طاعَتِهما طاعةَ أحَدِهما. ولو قال: لا تَضرِبْ زَيدًا وعَمْرًا، لَجاز أنْ يكونَ نَهيًا عن ضَرْبِهما جَميعًا، لا عن ضَرْبِ أحَدِهما [296] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/675)، ((تفسير البيضاوي)) (5/272)، ((تفسير أبي حيان)) (10/369)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 592)، ((تفسير أبي السعود)) (9/75)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/326). .
- و(مِن) للتَّبعيضِ، والضَّميرُ المجرورُ بها عائدٌ للمشرِكين، ولم يَتقدَّمْ لهم ذِكرٌ؛ لأنَّهم مَعلومونَ مِن سِياقِ الدَّعوةِ، أو لأنَّهم المفهومُ مِن قولِه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا، أي: لا كما يَزعُمُ المشرِكون أنَّك جِئتَ به مِن تِلْقاءِ نفْسِك، ومِن قولِه: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، أي: على أذَى المشرِكين. ويَؤولُ المعْنى: ولا تُطِعْ أحدًا مِن المشرِكين [297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/405). .
- والآثمُ والكَفورُ مُتلازِمانِ، فكان ذِكرُ أحَدِ الوصفينِ مُغْنِيًا عن الآخَرِ، ولكنْ جُمِعَ بيْنَهما لتَشويهِ حالِ المُتَّصِفِ بهما [298] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/404). .
- والكَفورُ وإنْ كان آثمًا، فإنَّ فيه مُبالَغةً في الكُفْرِ. ولَمَّا كان وَصْفُ الكُفورِ مُباينًا للمَوصوفِ بمجرَّدِ الإثْمِ، صَلَحَ التَّغايُرُ؛ فحَسُنَ العطْفُ [299] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/369)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (10/326). .
3- قولُه تعالَى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا
- قولُه: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا في ذِكرِ الوَقتَينِ إشارةٌ إلى دَوامِ الذِّكرِ، وذِكرُ اسمِه لازمٌ لذِكرِه [300] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/276). .
- وعلى القولِ بأنَّ قولَه: فَاسْجُدْ لَهُ يعني: فصَلِّ له صَلاتَيِ المَغرِبِ والعِشاءِ فقد ذَكَرَهما بالسُّجودِ تَنبيهًا على أنَّه أفضَلُ الصَّلاةِ، فهو إشارةٌ إلى أنَّ اللَّيلَ مَوضعُ الخُضوعِ [301] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/276، 277). .
- وتَقديمُ الظَّرفِ في قولِه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ؛ لِمَا في صَلاةِ اللَّيلِ مِن مَزيدِ الكُلفةِ والخُلوصِ، ومَزيدِ الفَضيلةِ؛ لأنَّ الالْتفاتَ فيه إلى جانِبِ الحقِّ أتمُّ؛ لزَوالِ الشَّاغِلِ للحواسِّ مِن حَركاتِ النَّاسِ وأصواتِهم، وسائرِ الأحوالِ الدُّنيويَّةِ؛ فكان أبْعَدَ عن الرِّياءِ، فكان الخُشوعُ فيه واللَّذَّةُ التَّامَّةُ بحلاوةِ العِبادةِ أوْفَى [302] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/272)، ((تفسير أبي السعود)) (9/76)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (21/157). .
- والمقصودُ بقولِه: وَسَبِّحْهُ صَلاةُ التَّطوُّعِ في اللَّيلِ، وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ، وقولُه: طَوِيلًا صِفةُ لَيْلًا، وحيث وُصِفَ اللَّيلُ بالطُّولِ بعْدَ الأمْرِ بالتَّسبيحِ فيه، عُلِمَ أنَّ لَيْلًا أُرِيدَ به أزمانُ اللَّيلِ؛ لأنَّه مَجموعُ الوقتِ المُقابِلِ للنَّهارِ؛ لأنَّه لو أُرِيدَ ذلك المِقدارُ كلُّه لم يكُنْ في وَصْفِه بالطُّولِ جَدْوى، فتَعيَّنَ أنَّ وصْفَ الطُّولِ تَقييدٌ للأمرِ بالتَّسبيحِ، أي: سبِّحْه أكثَرَ اللَّيلِ، فهو في معْنى قولِه تعالَى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا إلى أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [الإنسان: 2، 4]، أو يَتنازَعُه كلٌّ مِن (اسْجُدْ) و(سَبِّحْه) [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (29/406). .