موسوعة التفسير

سورةُ الفُرقانِ
الآيات (30-34)

ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ

غريب الكلمات:

مَهْجُورًا: أي: مَتروكًا، والهَجرُ والهِجْرانُ: مُفارقةُ الإنسانِ غَيْرَه، وأصلُ (هجر) هنا: يدُلُّ على قَطيعةٍ وقَطْعٍ [450] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 313)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 422)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/34)، ((المفردات)) للراغب (ص: 833)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 316). .
جُمْلَةً: أي: دَفعةً، مجتمِعًا، في وقتٍ واحدٍ، لا كما أُنزِل نُجومًا مُتَفَرِّقةً، ويُقالُ لكلِّ جماعةٍ غيرِ منفصلةٍ: جُمْلَةٌ، وأصلُ (جمل) هنا: تجمُّعٌ [451] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/481)، ((البسيط)) للواحدي (16/489)، ((المفردات)) للراغب (ص: 203)، ((تفسير الشوكاني)) (4/85). .
تَفْسِيرًا: أي: بَيانًا، وأصلُ (فسر): يدُلُّ على بيانِ شَيءٍ وإيضاحِه [452] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/504)، ((المفردات)) للراغب (ص: 636)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 263). .
يُحْشَرُونَ: أي: يُجمعونَ، والحشرُ: الجمعُ معَ سَوقٍ، وكلُّ جمعٍ حشرٌ، ويُطلَقُ أيضًا على البعثِ والانبعاثِ، أو الجمعِ بكثرةٍ [453] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 188)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/66)، ((المفردات)) للراغب (ص: 237)، ((تفسير ابن كثير)) (8/182)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 161). .

المعنى الإجمالي:

يقول تعالى: وقال الرَّسولُ لرَبِّه جَلَّ وعلا، مُشتَكيًا في الدُّنيا: يا رَبِّ، إنَّ الكُفَّارَ مِن قَومي ترَكوا هذا القُرآنَ وأعرَضوا عنه فلا يُؤمِنون به، ولا يَعمَلون بأحكامِه.
ثمَّ يقولُ الله تعالى مسَلِّيًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم: وكما جعَلْنا لك -يا محمَّدُ- أعداءً مِن مُشرِكي قَومِك، كذلك جعَلْنا لكُلِّ نبيٍّ مِن الأنبياءِ أعداءً مِن الكُفَّارِ المُشرِكين مِن أقوامِهم؛ فاصبِرْ كما صَبَروا، وكفى برَبِّك -يا محمَّدُ- هاديًا وناصِرًا لك على أعدائِك.
 ثمَّ يذكرُ الله تعالى أيضًا بعضَ شبهاتِ المشركينِ، فيقولُ: وقال الكُفَّارُ: هلَّا نزَّل اللهُ عليك -يا محمَّدُ- القُرآنَ دَفعةً واحِدةً لا مُفَرَّقًا؟ ويرُدُّ عليهم سبحانَه فيقولُ: كذلك نزَّلنا عليك القُرآنَ -يا محمَّدُ- مُفَرَّقًا؛ لنقَوِّيَ به قَلبَك، وتزدادَ ثَباتًا ويَقينًا، وجعَلْنا بَعضَه يَنزِلُ في إثْرِ بَعضٍ على تُؤَدةٍ وتمَهُّلٍ، وبيَّنَّاه تبيينًا.
ولا يأتيك هؤلاء المُشرِكون بمَثَلٍ مِن الأمثالِ التي مِن جُملتِها اقتِراحاتُهم القبيحةُ، يُريدونَ به القَدْحَ في نبوَّتِك، إلَّا جِئْناك في مُقابَلتِه بالجوابِ الحَقِّ الثابتِ الذي يُبطِلُ شُبهَتَهم بأحسَنَ ممَّا جاؤوا به كَشفًا وبَيانًا.
ثمَّ يبيِّنُ الله تعالى سوءَ مصيرِهم، فيقولُ: الذين يُحشَرون يومَ القيامةِ مَسحوبينَ على وُجوهِهم إلى جهنَّمَ أولئك شَرٌّ مَنزِلًا ومَكانًا في جهنَّمَ، وأضَلُّ النَّاسِ عن طريقِ الحَقِّ.

تفسير الآيات:

وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أكثَرَ الكُفَّارُ مِن الاعتراضاتِ الفاسِدةِ ووجوهِ التعَنُّتِ؛ ضاق صدرُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وشكاهم إلى اللهِ تعالى [454] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/455). .
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا.
أي: وقال الرَّسولُ مُشتَكيًا في الدُّنيا [455] ممَّن اختار أنَّه يقولُ ذلك في الدُّنيا: الزمخشريُّ، وابنُ عطيَّةَ ونسَبَه للجمهور، والرازيُّ ونسَبَه لأكثرِ المفسِّرينَ، والنسفيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/277)، ((تفسير ابن عطية)) (4/209)، ))تفسير الرازي)) (24/455)، ((تفسير النسفي)) (2/535)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/17). وممَّن اختار أنَّ هذا القولَ يقولُه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الآخرةِ: ابنُ جريرٍ، والثعلبيُّ، والواحديُّ، والبغويُّ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/442)، ((تفسير الثعلبي)) (7/132)، ((الوجيز)) (ص: 778) للواحدي، ((تفسير البغوي)) (3/445)، ((تفسير الشوكاني)) (4/85). إلى رَبِّه: يا رَبِّ، إنَّ كُفَّارَ قَومي تَرَكوا القُرآنَ العظيمَ وهجَروه؛ لا يَسمَعونه ولا يتدَبَّرونَه، ولا يُؤمِنونَ به، ولا يَعمَلون بأحكامِه [456] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (4/209)، ((تفسير القرطبي)) (13/27)، ((تفسير ابن كثير)) (6/108)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/17)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/48). ممَّن اختار في الجُملةِ أنَّ المرادَ بهَجرِ القُرآنِ: أنَّهم يَتركونَه، ويُعرِضونَ عنه؛ لا يُؤمِنونَ به، ولا يَعمَلونَ بما فيه: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جريرٍ، والسمرقنديُّ، والواحديُّ، والسمعانيُّ، والبغويُّ، والنسفيُّ، والخازنُ، وجلالُ الدِّينِ المحلِّيُّ، والشوكانيُّ، والقاسميُّ، والسعديُّ، والشنقيطيُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/233)، ((تفسير ابن جرير)) (17/444)، ((تفسير السمرقندي)) (2/536)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 778)، ((البسيط)) للواحدي (16/483)، ((تفسير السمعاني)) (4/18)، ((تفسير البغوي)) (3/445)، ((تفسير النسفي)) (2/535)، ((تفسير الخازن)) (3/313)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 474)، ((تفسير الشوكاني)) (4/85)، ((تفسير القاسمي)) (7/425)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/48). وممَّن قال بنحوِ هذا القَولِ مِنَ السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ، وابنُ زيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/444)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/320). قال ابنُ كثير: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا يقولُ تعالى مُخبِرًا عن رَسولِه ونَبيِّه محمَّدٍ -صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليه دائِمًا إلى يومِ الدِّينِ- أنَّه قال: يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا، وذلك أنَّ المُشرِكينَ كانوا لا يُصغُونَ للقُرآنِ ولا يَسمَعونَه، كما قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: 26] ، وكانوا إذا تُلِيَ عليهم القُرآنُ أكثَروا اللَّغَطَ والكلامَ في غَيرِه؛ حتى لا يَسمَعوه، فهذا مِن هِجرانِه، وتَرْكُ عِلْمِه وحِفْظِه أيضًا: مِن هِجرانِه، وتَركُ الإيمانِ به وتَصديقِه: مِن هِجرانِه، وتَرْكُ تَدَبُّرِه وتَفَهُّمِه: مِن هِجرانِه، وتَركُ العَمَلِ به، وامتِثالِ أوامِرِه واجتنابِ زواجِرِه: مِن هِجرانِه، والعُدولُ عنه إلى غَيرِه؛ مِن شِعرٍ، أو قَولٍ، أو غِناءٍ، أو لَهْوٍ، أو كلامٍ، أو طريقةٍ مأخوذةٍ مِن غَيرِه: مِن هِجرانِه). ((تفسير ابن كثير)) (6/108). ومِمَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى أنَّهم جَعَلوه كالهَذَيانِ، وما لا يُنتفَعُ به مِن القَولِ: ابنُ قُتَيْبةَ، والزجَّاجُ. يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 313)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/66). قال الماوَرْديُّ: (قولُه تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا [الفرقان: 30] فيه ثلاثةُ أوجُهٍ؛ أحَدُها: أنَّهم هَجَروه بإعراضِهم عنه، فصار مَهجورًا. قاله ابنُ زيد. الثَّاني: أنَّهم قالوا فيه هُجْرًا، أي: قَبيحًا. قاله مجاهِدٌ. الثَّالثُ: أنَّهم جَعَلوه هَجْرًا مِنَ الكلامِ، وهو: ما لا نَفْعَ فيه مِنَ العَبَثِ والهَذَيانِ. قاله ابنُ قُتيبةَ). ((تفسير الماوردي)) (4/143). !
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا شكا عليه الصلاةُ والسلامُ قومَه؛ سلَّاه اللهُ تعالى وعزَّاه، وأمرَه بالصَّبرِ والثَّباتِ، ووعدَه ورجَّاه [457] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص 176). ، وبَيَّنَ أنَّ له أُسوةً بسائِرِ الرسُلِ؛ فلْيَصبِرْ على ما يَلْقاهُ مِن قَومِه كما صَبَروا [458] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/455). .
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ.
أي: وكما جعَلْنا لك -يا محمَّدُ- أعداءً مِن مُشرِكي قَومِك، كذلك جعَلْنا لكُلِّ الأنبياءِ أعداءً مِن الكُفَّارِ المُشرِكين مِن أقوامِهم يُعارِضونَهم ويُؤذونَهم؛ فاصبِرْ كما صبَر أولئك الرسُلُ مِن قَبْلِك [459] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/444)، ((تفسير القرطبي)) (13/27)، ((تفسير ابن كثير)) (6/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/18)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/51). .
كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام: 112] .
وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا.
مُناسَبتُها لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّه جعَل لكُلِّ نبيٍّ عدوًّا مِن المجرمين، وهؤلاء المجرِمون يحاوِلون القضاءَ على الرِّسالةِ أو النبوَّةِ بواحدٍ مِن أمْرَينِ؛ إمَّا بإضلالِ النَّاسِ وصَدِّهم عمَّا جاءت به الرسُلُ، وإمَّا بقِتالِهم وإهلاكِهم، فيَعتَدُون على النَّاسِ بالقِتالِ- فقال الله تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا في مقابلةِ محاولةِ الإضلالِ، وَنَصِيرًا في مُقابلةِ محاولةِ القضاءِ على الأنبياءِ وأُمَمِهم [460] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 114). .
وأيضًا لَمَّا كان هذا مَوطنًا تتعلَّقُ فيه النفوسُ متشوِّقةً إلى الهدايةِ بعْدَ هذا الطَّبْعِ، والنُّصرةِ بعْدَ ذلك الجَعْلِ؛ كان كأنَّه قيل: لا تَحزَنْ؛ فلَنَجعلَنَّ لك وَلِيًّا ممَّن نَهْديه للإيمانِ، ولَننصرَنَّهم على عدوِّهم كما فعَلْنا بمَن قبْلَك، بل أعظم [461] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/377). .
وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا.
أي: وكفى برَبِّك -يا محمَّدُ- هاديًا يَهديك إلى الحَقِّ وإلى مصالحِ الدِّينِ والدُّنيا، وناصِرًا لك على أعدائِك، يدفَعُ عنك كُلَّ مَكروهٍ في أمرِ الدِّينِ والدُّنيا؛ فلا تُبالِ بمَن عاداك، واصبِرْ وامضِ لتبليغِ رِسالةِ الله إليهم، متوكِّلًا عليه سبحانه [462] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/445)، ((تفسير ابن عطية)) (4/209)، ((تفسير القرطبي)) (13/28)، ((تفسير ابن كثير)) (6/109)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582). .
كما قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي [الأعراف: 178] .
وقال سُبحانَه: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران: 160] .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذَكَرَ سُبحانَه شِكايةَ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم مِن هِجرانِ قَومِه للقُرآنِ، وقرَّرَ عداوتَهم له، ونُصرتَه عليهم؛ أتبَعَ ذلك بما يدُلُّ عليه، فقال عَطفًا على ما مضَى مِن الأشباهِ في الشُّبَهِ [463] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/378). :
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً.
أي: وقال كُفَّارُ قُرَيشٍ: هلَّا نزَّل اللهُ على محمَّدٍ القُرآنَ دَفعةً واحِدةً، ولم يُنَزَّلْ مُفَرَّقًا [464] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/445)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 778)، ((تفسير ابن كثير)) (6/109). ؟
كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ.
أي: كذلك نزَّلنا عليك القُرآنَ -يا محمَّدُ- مُفَرَّقًا؛ لنقوِّيَ قَلبَك فتَعِيَه وتحفَظَه، وتَزدادَ يقينًا وطُمأنينةً وثَباتًا [465] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/445)، ((تفسير القرطبي)) (13/28)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/19). .
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا.
أي: أنزَلْناه مفرَّقًا على تُؤَدةٍ وتَمَهُّلٍ، شَيئًا بعْدَ شَيءٍ، آياتٍ ثمَّ آياتٍ، وبيَّنَّاه تبيينًا [466] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/446)، ((تفسير القرطبي)) (13/29)، ((تفسير البيضاوي)) (4/123)، ((تفسير ابن كثير)) (6/109)، ((تفسير العليمي)) (5/23)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/20). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ التَّرتيلَ بمعنى الترسُّلِ، والتَّمكُّثِ شَيئًا بعْدَ شَيءٍ، آياتٍ ثمَّ آياتٍ، على تؤَدَةٍ وتَمهُّلٍ: مقاتلُ بنُ سليمانَ، وابنُ جرير، والزجَّاجُ، والزمخشريُّ، وابن عطية، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، والبيضاوي، وجلال الدين المحلي، السعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/234)، ((تفسير ابن جرير)) (17/446)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (4/66)، ((تفسير الزمخشري)) (3/278)، ((تفسير ابن عطية)) (4/209)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/320)، ((تفسير الرازي)) (24/457)، ((تفسير القرطبي)) (13/29)، ((تفسير البيضاوي)) (4/123)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 474)، ((تفسير السعدي)) (ص: 582). وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ، والنَّخَعيُّ، والحسن، وابن جُرَيج. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/446)، ((تفسير الثعلبي)) (7/132). ومِمَّن اختار أنَّ الترتيلَ بمعنى التَّبيينِ: السمرقنديُّ، وابنُ أبي زمنين. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (2/537)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (3/259). وممَّن قال بذلك مِن السلفِ: قَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/109). قال العليمي: (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا: أنزَلْنا بعضَه في إثرِ بعضٍ، وبيَّنَّاه تبيينًا). ((تفسير العليمي)) (5/23). وقال الثعلبي: (والترتيلُ: التبيينُ في ترسُّلٍ وتثبُّتٍ). ((تفسير الثعلبي)) (7/132). وقال ابن عاشور: (والترتيلُ يوصَفُ به الكلامُ إذا كان حسَنَ التأليفِ، بيِّنَ الدَّلالةِ... والترتيلُ يجوزُ أن يكون حالةً لنزولِ القرآنِ، أي: نزلَّناه مفرَّقًا منسَّقًا في ألفاظِه ومعانيه، غيرَ متراكمٍ، فهو مفرَّقٌ في الزمانِ، فإذا كمل إنزالُ سورةٍ جاءت آياتُها مرتَّبةً متناسِبةً، كأنَّها أُنزلت جُملةً واحدةً، ومفرَّقٌ في التأليفِ بأنه مفصَّلٌ واضحٌ... ويجوزُ أن يرادَ بـ «رتلناه»: أمَرْنا بترتيلِه، أي: بقراءتِه مرَتَّلًا، أي: بتمهُّلٍ بألَّا يُعجِّلَ في قراءتِه؛ بأن تُبيَّنَ جميعُ الحروفِ والحركاتِ بمهلٍ، وهو المذكورُ في سورةِ «المزمل» في قولِه تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] ). ((تفسير ابن عاشور)) (19/20). .
كما قال تعالى: وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: 106] .
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا رَدَّ تعالى اعتراضاتِهم، وأبطَلَ شُبُهاتِهم؛ أخبرَ بأنَّه لا يَزالُ القرآنُ كذلك: يَدمغُ باطلَهم بحقِّه فيُزهِقُه، ويَصدَعُ غشاءَ تَمويهِهم بصادقِ بيانِه فيُمَزِّقُه؛ لِطمأنةِ قلْبِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم وتثبيتِه، والوعدِ له بدوامِ النَّصرِ والتأييدِ [467] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 182). .
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا.
أي: ولا يَذكُرُ مُشرِكو قُرَيشٍ شُبهةً أو اقتِراحًا يُعارِضون به الحَقَّ ويَطعنونَ به فيه، إلَّا أنزَلْنا مِن القُرآنِ ما يُبطِلُ شُبهَتَهم، ويَرُدُّ حُجَّتَهم بأحسَنَ مِمَّا جاؤوا به؛ بيانًا ووضوحًا، وفصاحةً وتَفصيلًا [468] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/447، 448)، ((تفسير القرطبي)) (13/29)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/106)، ((تفسير ابن كثير)) (6/109)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/21). قال ابنُ القيمِ: (التفسيرُ الأحسَنُ: هو الألفاظُ الدالَّةُ على ذلك الحَقِّ، فهي تفسيرُه وبيانُه... فلا بدَّ مِن أن يكونَ التفسيرُ مُطابقًا للمُفَسَّرِ مُفهِمًا له، وكلَّما كان فَهْمُ المعنى منه أوضَحَ وأبْيَنَ، كان التفسيرُ أكمَلَ وأحسَنَ؛ ولهذا لا تجِدُ كلامًا أحسَنَ تفسيرًا ولا أتمَّ بيانًا مِن كلامِ الله سُبحانَه). ((الصواعق المرسلة)) (1/330، 331). وقال ابن عثيمين: (... فالمرادُ بالمثَلِ هنا الصِّفةُ، يعني: لا يأتونَك بصِفةٍ مِن القَولِ يُريدونَ بها إبطالَ دَعوتِك إلَّا جِئْناك بالحقِّ، إذَنْ فهُم يأتون بباطلٍ؛ لأنَّه قابَلَ قَولَهم بالحَقِّ، فهذا دليلٌ أيضًا على أنَّ كُلَّ شُبهةٍ يحتَجُّ بها المكَذِّبون للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فهي باطِلٌ، ولكِنَّ هذا الباطِلَ باطِلٌ في ذاتِه؛ قد يظهرُ لبعضِ النَّاسِ بُطلانُه، وقد يَخفى على بعضِ النَّاسِ بُطلانُه). ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 124). .
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أبطلَ سبحانه شُبَهَهم؛ بَيَّنَ مآلَهم وجزاءَهم [469] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 184). ، فقال تعالى:
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
أي: الذين يُجمَعونَ يومَ القيامةِ قَهرًا يُساقونَ مَقلوبينَ على وُجوهِهم إلى جهنَّمَ: أولئك شَرٌّ مُستقَرًّا ومُقامًا في جهنَّمَ، وأضَلُّ طَريقًا عن الحَقِّ [470] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/448)، ((تفسير القرطبي)) (13/30)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/381، 382)، ((تفسير السعدي)) (ص: 583). قال ابن جرير: (يقولُ تعالى ذِكرُه لنبيِّه: هؤلاء المُشرِكون -يا محمَّدُ- القائلون لك: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ومَن كان على مِثلِ الذي هم عليه من الكُفرِ بالله، الذين يُحشَرون يومَ القيامةِ على وُجوهِهم إلى جهنَّمَ، فيُساقُونَ إلى جهنَّمَ: شَرٌّ مُستقَرًّا في الدُّنيا والآخرةِ مِن أهلِ الجنَّةِ في الجنَّةِ، وأضَلُّ منهم في الدُّنيا طريقًا). ((تفسير ابن جرير)) (17/448). .
عن قَتادةَ، قال: حدَّثَنا أنسُ بنُ مالكٍ، ((أنَّ رجُلًا قال: يا رَسولَ اللهِ، كيف يُحشَرُ الكافِرُ على وجهِه يَومَ القيامةِ؟ قال: أليس الَّذي أَمْشاهُ على رِجلَيهِ في الدُّنيا قادِرًا على أن يُمشِيَه على وجْهِه يَومَ القيامةِ ؟)). قال قَتادةُ: بلى وعِزَّةِ رَبِّنا [471] رواه البخاري (4760)، ومسلم (2806) واللفظُ له. .

الفوائد التربوية:

1- قَولُه: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا فيه تَلويحٌ بأنَّ مِن حقِّ المؤْمنِ أنْ يكونَ كثيرَ التَّعاهُدِ للقُرآنِ؛ كَيْ لا يَندرِجَ تحتَ ظاهرِ النَّظمِ الكريمِ [472] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/215). .
2- قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا شكَا نبيُّنا صلَّى الله عليه وسلَّم إلى ربِّه هَجْرَ قومِه -وهم كفَّارُ قريشٍ- لهذا القرآنِ العظيمِ، أي: تَرْكَهم لتصديقِه والعملِ به، وهذه شكوى عظيمةٌ، وفيها أعظَمُ تخويفٍ لمَن هجَر هذا القرآنَ العظيمَ، فلم يعمَلْ بما فيه مِن الحلالِ والحرامِ والآدابِ والمكارمِ، ولم يعتقِدْ ما فيه مِن العقائدِ، ويَعتِبرْ بما فيه مِن الزَّواجرِ والقصصِ والأمثالِ [473] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (6/48). .
3- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ابتلاءُ اللهِ سُبحانَه وتعالى للمُؤمِنِ؛ فإنَّه إذا كان الإيمانُ قويًّا فإنه يَصمُدُ أمامَ هذه الشُّبُهاتِ، وأمامَ هذه العَداوةِ، وإذا كان ضعيفًا فإنه يتأثَّرُ، فهذا مِن حِكمةِ اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ أنَّ اللهَ يُقيِّضُ للإنسانِ ما يكونُ سببًا للحَيلولةِ بيْنه وبيْن دَعوتِه لِيَبلُوَهُ، قال سُبحانه وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ يعني: اطمأنَّ بحالِه التي هو عليها، وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج: 11] : وإنْ أصابَته فِتنةٌ وأمرٌ يَشغَلُه انقلبَ على وَجهِه [474] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 115). .
4- قال اللهُ تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وهذه العداوةُ التي ذكَرَها اللهُ تعالى تكونُ أيضًا لأتْباعِ الرُّسُلِ؛ لأنَّ هؤلاء عادَوُا الرسُلَ لدُعائِهم للحَقِّ، يعني: ما عادَوُا الرُّسُلَ لأشخاصِهم؛ ولهذا كان الرسولُ عليه الصلاةُ والسلامُ قبْلَ البَعثةِ عندَ قريشٍ ليس عدوًّا، بل هم يُسمُّونَه الأمينَ، فما دامتِ العداوةُ مِن أجْلِ الدعوةِ إلى الدِّينِ فسوف تكونُ لكلِّ مَن دعا إلى الدِّينِ؛ لأنَّ الذي يَدعو مثلًا إلى شريعةِ النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم هو يدعو إلى ما دعا إليه النَّبيُّ عليه الصلاةُ والسلامُ، فلا بُدَّ أن يكونَ له أعداءٌ، كما كان للأنبياءِ أعداءٌ؛ وعليه فالواجِبُ على مَن دعا إلى الهُدى وأُوذيَ أن يَصبِرَ، وأن يَتَأسَّى بما جرى للرسُلِ مِن قبْلِه، والرسُلُ أعظَمُ منزلةً عندَ اللهِ منه، ومع ذلك مَكَّنَ أعداءَهم ممَّا فعَلوه [475] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 115). .
5- قَولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا دَليلٌ على أنَّه يَنبَغي لِمَن أراد حِفظَ شَيءٍ أنْ يَحفَظَ منه قَدْرًا قليلًا، أو شَيئًا بعْدَ شَيءٍ؛ لِيَرسَخَ في قلبِه، ويأمَنَ مِن نسيانِه [476] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/509). .
6- قَولُه تعالى: وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا، أيْ: نزَّلْناه مُفَرَّقًا، وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ ذلك مِن دَلائلِ أنَّه مِن عِندِ اللهِ؛ لأنَّ شأنَ كلامِ النَّاسِ إذا فُرِّقَ تأليفُه على أزمنةٍ مُتباعِدةٍ أنْ يَعتَوِرَه التَّفكُّكُ وعدَمُ تَشابُهِ الجُمَلِ [477] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/20). .
7- قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا مِن محاسِنِ هذه الشَّريعةِ المطَهَّرةِ أنَّها نزلت بالتَّدريجِ المناسِبِ، ويُفيدُنا ذلك فائدةً عمليَّةً، وهي أن نقرأَ القرآنَ ونتفهَّمَه حتى تكونَ آياتُه على طَرفِ ألسنتِنا، ومعانيه نُصبَ أعيُنِنا؛ لِنُطبِّقَ آياتِه على أحوالِنا، ونُنزِلَها عليها، كما كانت تَنزِلُ على الأحوالِ والوقائعِ، فإذا حَدَثَ مرَضٌ قلبيٌّ أو اجتِماعيٌّ طلَبْنا دواءَه في القرآنِ، وطبَّقناه عليه، وإذا عَرَضَتْ شُبهةٌ أو ورَدَ اعتِراضٌ؛ طلَبْنا فيه الرَّدَّ والإبطالَ، وإذا نزلَتْ نازلةٌ طلَبْنا فيه حُكمَها، وهكذا نذهَبُ في تطبيقِه وتنزيلِه على الشُّؤونِ والأحوالِ إلى أقصى حَدٍّ يمكِنُنا [478] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 180، 181). .
8- قال الله تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا في تَنَزُّلِ آياتِ القرآنِ على حسَبِ الوقائعِ دَليلٌ على أنَّه ينبغي للمتكَلِّمِ في العِلمِ -مِن مُحَدِّثٍ ومُعَلِّمٍ- كلَّما حَدَثَ مُوجِبٌ أو حَصَلَ مَوسِمٌ، أن يأتيَ بما يناسِبُ ذلك مِن الآياتِ القُرآنيَّةِ والأحاديثِ النَّبويَّةِ، وفيها قدوةٌ صالحةٌ لأئمَّةِ الجُمَعِ وخُطبائِها في توخِّيهم بخُطَبِهم الوقائعَ النازِلةَ، وتطبيقِهم خُطَبَهم على مقتضى الحالِ، وذِكرِ المواعِظِ الموافِقةِ لذلك [479] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 582)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 181). .
9- في قَولِه تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا أنَّه ينبغي أن نقتديَ بالقرآنِ فيما نأتي به مِن كلامٍ في مقامِ الحِجاجِ أو مقامِ الإرشادِ، فلْنَتوَخَّ دائمًا الحقَّ الثابتَ بالبرهانِ أو بالعِيانِ، ولْنُفَسِّرْه أحسَنَ التفسيرِ، ولْنَشرَحْه أكمَلَ الشرحِ، ولْنُقَرِّبْه إلى الأذهانِ غايةَ التقريبِ، وهذا يَستدعي صحَّةَ الإدراكِ، وجَودةَ الفَهمِ، ومتانةَ العلمِ؛ لِتَصَوُّرِ الحقِّ ومعرفتِه، ويَستدعي حُسْنَ البيانِ، وعلومَ اللسانِ لتصويرِ الحقِّ وتجليتِه والدفاعِ عنه، فللاقتداءِ بالقرآنِ في الإتيانِ بالحقِّ وأحسَنِ بيانٍ علينا أن نُحَصِّلَ هذه كلَّها، ونتدرَّبَ فيها، ونَتمرَّنَ عليها؛ حتى نَبلُغَ إلى ما قُدِّرَ لنا منها، هذا ما على أهلِ الدعوةِ والإرشادِ وخدمةِ الإسلامِ والقرآنِ.
فأمَّا ما على عمومِ المسلمينَ مِن هذا الاقتداءِ: فهو دوامُ القصدِ إلى الإتيانِ بالحَقِّ، وبَذْلُ الجُهدِ في التعبيرِ بأحسَنِ لفظٍ وأقرَبِه، ومَن أخلَصَ قَصْدَه في شَيءٍ، وجعَلَه مِن دأبِه؛ أُعينَ -بإذنِ الله تعالى- عليه [480] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 183). .
10- قَولُه تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا يُؤخَذُ منه أنَّ كلَّ ذي باطلٍ نَجِدُ بيانَ باطلِه مِن الوحيِ المُنَزَّلِ على محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، فما مِن شُبهةٍ إلى يومِنا هذا تَرِدُ إلَّا وفي كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما يَدْحَضُها [481] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 126). . وإنَّك إذا تتبَّعْتَ آياتِ القرآنِ وجدْتَها قد أتتْ بالعَددِ الوافرِ مِن شُبَهِ الضَّالين واعتراضاتِهم، ونَقَضَتْها بالحقِّ الواضِحِ، والبيانِ الكاشفِ في أوجَزِ لفظٍ وأقْرَبِه وأبلَغِه، وهذا قِسْمٌ عظيمٌ جليلٌ مِن علومِ القرآنِ، يتحتَّمُ على رجالِ الدَّعوةِ والإرشادِ أن يكونَ لهم به فضلُ عنايةٍ، ومَزيدُ دِرايةٍ وخبرةٍ، ولا نحسَبُ شُبهةً تَرِدُ على الإسلامِ إلَّا وفي القرآنِ العظيمِ رَدُّها بهذا الوعدِ الصادقِ مِن هذه الآيةِ الكريمةِ؛ فعلينا عندَ وُرودِ كلِّ شُبهةٍ مِن كلِّ ذي ضلالةٍ أن نَفزَعَ إلى آيِ القُرآنِ [482] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 183). .
11- قال الله تعالى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ فيما يذكُرُه الله تعالى من هذا الجزاءِ العادلِ تخويفٌ عظيمٌ لنا مِن سوءِ الأعمالِ التي تؤدِّي إلى سوءِ الجزاءِ [483] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 185). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا في شكوى النبيِّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم مِن هجرةِ القرآنِ دَليلٌ على أنَّ ذلك من أصعبِ الأمورِ وأبغَضِها لديه [484] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 173). .
2- في قَولِه تعالى: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا كَراهةُ هَجْرِ المصحَفِ وعدَمِ تعهُّدِه بالقِراءةِ فيه [485] يُنظر: ((أحكام القرآن)) لابن الفرس (3/396)، ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 197). .
3- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا حُجَّةٌ على مَن يَعدِلُ عن القُرآنِ في الاحتِجاجِ به، ويَعيبُ على مَن يدعو إليه [486] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/508). .
4- قال الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ بيَّنَ أنَّ مَن هَجَرَ القرآنَ فهو مِن أعداءِ الرَّسولِ، وأنَّ هذه العَداوةَ أمرٌ لا بُدَّ منه، ولا مَفَرَّ عنه [487] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/106). ، فهؤلاء الذين سمَّاهم اللهُ تعالى أعداءً لنبيِّه، ووَصَفَهم بالإجرامِ: هم أولئك الذين هَجَروا القرآنَ وصَدَّوا عنه؛ فهذا تخويفٌ عظيمُ ووعيدٌ شديدٌ لكلِّ مَن كان هاجرًا للقرآنِ العظيمِ بوجهٍ مِن وجوهِ الهِجرانِ [488] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 176). !
5- هَجرُ القرآنِ أنواعٌ:
أحدُها: هَجرُ سَماعِه، والإيمانِ به، والإصغاءِ إليه.
الثاني: هَجرُ العمَلِ به، والوقوفِ عند حَلالِه وحرامِه، وإنْ قرأَه وآمنَ به.
الثالثُ: هَجرُ تحكيمِه والتَّحاكُمِ إليه في أصولِ الدِّينِ وفُروعِه، واعتقادُ أنَّه لا يفيدُ اليقينَ، وأنَّ أدلَّتَه لفظيَّةٌ لا تُحَصِّلُ العِلمَ.
الرابعُ: هَجرُ تدبُّرِه وتفَهُّمِه، ومَعرفةِ ما أراد المتكلِّمُ به منه.
الخامسُ: هَجرُ الاستشفاءِ والتَّداوي به في جميعِ أمراضِ القَلبِ وأدوائِها، فيَطلبُ شفاءَ دائِه مِن غيرِه، ويَهجُرُ التداويَ به، وكلُّ هذا داخِلٌ في قَولِه تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا، وإنْ كان بعضُ الهَجرِ أهْوَنَ مِن بعضٍ [489] يُنظر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 82). .
6- قال الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا في حكايةِ الله تعالى لهذه الشكوى وعيدٌ كبيرٌ للهاجرينَ بإنزالِ العقابِ بهم؛ إجابةً لشكوى نبيِّه، ولَمَّا كان الهجرُ طبقاتٍ أعلاها عدَمُ الإيمانِ به، فلكلِّ هاجرٍ حظُّه مِن هذه الشكوى وهذا الوعيدِ [490] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 173). .
7- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أنَّ الحقَّ يَتبيَّنُ بضِدِّه؛ لأنَّ اللهَ جَعَل عدوًّا مِن المجرمين يُنابِذُ الدَّعوةَ، فمِنَ الحكمةِ في ذلك أنْ تَتبيَّنَ الدعوةُ؛ لأنَّه إذا لم يكنْ لها مُعارِضٌ ما تَبيَّنتْ، لكنْ إذا كان لها مُعارِضٌ وكلَّما أُتِيَ بشُبهةٍ رُدَّ عليها، صار ذلك أبيَنَ وأوضَحَ [491] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 115). ، فمُعارَضةُ الباطلِ للحَقِّ ممَّا تَزيدُه وضوحًا وبيانًا وكمالَ استِدلالٍ، وبها يَتبيَّنَ ما يفعَلُ اللهُ بأهلِ الحقِّ مِن الكرامةِ، وبأهلِ الباطلِ مِن العُقوبةِ [492] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 582). .
8- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ عنايةُ اللهِ تعالى بالرَّسولِ، ووجْهُ ذلك: أنَّ كَوْنَ اللهِ يُسلِّي الرَّسولَ بما وقَعَ لغَيرِه، هذا دليلٌ على العنايةِ به. وكونُ الرَّسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم يحتاجُ إلى تلك التسليةِ يدُلُّ على أنَّ الرسولَ صلَّى الله عليه وسلَّم بَشَرٌ، يَنتابُه ما ينتابُ البشَرَ مِن الحُزنِ والأسَى، فيَحتاجُ إلى التسليةِ، وإذا كان الرسولُ يحتاجُ إلى ذلك فمَن دونَه مِن بابِ أَولى؛ فالنَّظرُ إلى ما أصاب الغيرَ يُهَوِّنُ على النفْسِ ما يُصيبُها، وهو مِن مقتضياتِ الطبيعةِ البشريَّةِ [493] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 114). .
9- في قَولِه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا حُجَّةٌ على المُعتَزلةِ والقدَريَّةِ [494] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/508). ، وردٌّ على زعمِهم أنَّ خالقَ الشرِّ غيرُه، تعالى شأنُه [495] يُنظر: ((تفسير الألوسي)) (10/15). ! ففي الآية حجَّةٌ على أنَّه تعالى خَلَقَ الخيرَ والشَّرَّ؛ لأنَّ قولَه تعالى: جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا يدُلُّ على أنَّ تلك العداوةَ مِن جَعْلِ اللهِ؛ ولا شكَّ أنَّ تلك العداوةَ كفرٌ [496] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (24/455). .
10- قَولُه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ فيه تَسليةٌ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحمْلٌ له على الاقتِداءِ بمَن قَبْلَه مِنَ الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسلامُ [497] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/277)، ((تفسير أبي حيان)) (8/102)، ((تفسير أبي السعود)) (6/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/17). .
11- قَولُه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ فيه تنبيهٌ للمُشركينَ؛ ليَعرِضوا أحوالَهم على هذا الحُكمِ التَّاريخيِّ؛ فيَعلَموا أنَّ حالَهم كحالِ مَن كَذَّبوا مِن قَومِ نوحٍ وعادٍ وثَمودَ [498] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/17، 18). .
12- في قَولِه تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا أنَّه قد وعَدَ اللهُ تعالى نبيَّه -بعْدَما أمَرَه بالتأسِّي والصَّبرِ-، بالهدايةِ والنَّصرِ؛ ففي هذا بِشارةٌ للدُّعاةِ مِن أُمَّتِه مِن بعْدِه، السَّائرينَ في الدَّعوةِ بالقرآنِ وإلى القرآنِ على نهْجِه: أن يَهديَهم ويَنصُرَهم، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] معهم بالفضلِ والنَّصرِ والتأييدِ، وهذا عامٌّ للمجاهِدِينَ المُحسنينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالَمينَ [499] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 177). .
13- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا دليلٌ على أنَّ الأخذَ بالأسبابِ لا يؤثِّرُ في توكُّلِ المتوكِّلِينَ، كما يزعُمُ جهَلةُ المتصوِّفةِ أنَّ طَلَبَ المكاسِبِ مُؤثِّرٌ في التوكُّلِ! ألَا يَعلمونَ أنَّ اللهَ جلَّ جلالُه كان قادِرًا على تثبيتِ القُرآنِ جملةً واحدةً في قلْبِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؟! ولكنَّه لمَّا جَعَل سببَه الحِفظَ بصِفةٍ أجراه عليها [500] يُنظر: ((النكت الدالة على البيان)) للقصاب (3/509). .
14- في قَولِ الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا إثباتُ الحكمةِ في أفعالِ اللهِ؛ لقَولِه تعالى: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ؛ لأنَّ «اللامَ» للتَّعليلِ، والتَّعليلُ معناه الحِكمةُ؛ ففيه رَدٌّ على طائفةٍ مِن طوائفِ البدعِ، يَرَونَ أنَّ أفعالَ اللهِ سُبحانه وتعالى غيرُ مُعَلَّلةٍ، وأنَّه عزَّ وجلَّ يخلُقُ الخَلقَ ويُشَرِّعُ الشَّرائعَ لمجرَّدِ المشيئةِ لا لحِكمةٍ! فهذه الآياتُ تُفيدُ بيانَ الحِكمةِ مِن إنزالِ القُرآنِ مُفَرَّقًا، وأنَّ أفعالَ اللهِ تعالى مُعَلَّلةٌ مَقرونةٌ بالحِكمةِ، لكنَّ هذه الحِكمةَ التي تكونُ لأفعالِ اللهِ عزَّ وجلَّ -سواءٌ كانت شرعيَّةً أو غيرَ شرعيَّةٍ- منها ما هو معلومٌ، ومنها ما هو مَجهولٌ لنا، ولكنَّها معلومةٌ عندَ اللهِ تعالى [501] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 123). .
15- في قَولِه تعالى: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا دَلالةٌ على اعتِناءِ اللهِ بكِتابِه القُرآنِ وبرَسولِه محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ حيثُ جَعَلَ إنزالَ كتابِه جاريًا على أحوالِ الرَّسولِ ومَصالحِه الدِّينيَّةِ [502] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 582). . وقولُه: لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ كلمةٌ جامعةٌ؛ لأنَّ تَثبيتَ الفؤادِ يَقتَضي كلَّ ما به خَيرٌ للنَّفْسِ [503] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/19). .
16- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ أنَّه لَمَّا كان البلاءُ والعَناءُ في سبيلِ التبليغِ متكَرِّرًا متجدِّدًا، كان مُحتاجًا إلى تجديدِ تقويةِ قلبِه، وكان ذلك مُقتضيًا لتفريقِ نزولِ الآيِ عليه [504] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 179). .
17- في قَولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا بيانُ حكمتينِ في إنزالِه مفرَّقًا:
الحكمةُ الأُولى: تثبيتُ قلبِه صلَّى الله عليه وسلَّم.
الحكمةُ الثانيةُ: تفريقُه مرتَّبًا على الوقائعِ.
وكان في تَينِك الحكمتينِ مَزيَّتانِ عظيمتانِ للقرآنِ العظيمِ على غيرِه مِن كُتُبِ اللهِ تعالى، فكان ما اعتَرَضوا به على أنَّه نقصٌ فيه عنها: هو كمالٌ له عليها [505] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 179). .
18- كانتِ الوقائعُ تقعُ، والحوادثُ تَحدُثُ، والشُّبَهُ تَعرِضُ، والاعتراضاتُ تَرِدُ؛ فكانتِ الآياتُ تَنزِلُ بما تتطلَّبُه تلك الوقائعُ مِن بيانٍ، وما تقتضيه تلك الحوادثُ مِن أحكامٍ، وما تَستدعيه تلك الشُّبَهُ مِن رَدٍّ، وتلك الاعتراضاتُ مِن إبطالٍ وغيرِه مِن مقتضياتِ نزولِ الآياتِ المعروفةِ بـ «أسبابِ النزولِ»، وفي بيانِ الواقعةِ عندَ وقوعِها، وذِكْرِ حُكْمِ الحادثةِ عندَ حدوثِها، ورَدِّ الشبهةِ عندَ عُروضِها، وإبطالِ الاعتراضِ عندَ ورودِه: ما فيه مِن تأثيرٍ في النفوسِ، ووَقْعٍ في القلوبِ، ورسوخٍ في العقولِ، وجلاءٍ في البيانِ، وبلاغةٍ في التطبيقِ، واستيلاءٍ على السامعِينَ، وما كان هذا كلُّه لِيأتيَ لولا تفريقُ الآياتِ في التنزيلِ، وترتيلُها وتنضيدُها هذا الترتيلَ العجيبَ، وهذا التنضيدَ الغريبَ؛ الذي بَلَغَ الغايةَ مِن الحُسْنِ والمنفعةِ، حتى إنَّه لَيَصِحُّ أن يُعَدَّ وحْدَه وجهًا مِن وجوهِ الإعجازِ، قال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [506] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 180، 181). .
19- في قَولِه تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ردٌّ على المتكلِّفِينَ مِن الجَهْميَّةِ ونَحوِهم، ممَّن يرى أنَّ كثيرًا مِن نُصوصِ القرآنِ محمولةٌ على غيرِ ظاهرِها، ولها مَعانٍ غيرُ ما يُفهَمُ منها؛ فإذَن -على قولِهم- لا يكونُ القُرآنُ أحسَنَ تَفسيرًا مِن غيرِه، وإنما التَّفسيرُ الأحسَنُ -على زَعمِهم- تَفسيرُهم الذي حَرَّفوا له المعانيَ تَحريفًا [507] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 583). !
20- قال الله تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا فمُخالفو الرسُلِ -ومنهم مُخالِفو ما جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ- لا يأتون بقِياسٍ يَرُدُّون به بعضَ ما جاءتْ به الرسُلُ، فيكونُ قياسًا أقاموا به باطلًا، إلَّا جاء اللهُ -فيما بَعَثَ به الرسُلَ- بالحَقِّ، وبقياسٍ أحسَنَ تَفسيرًا، وكشفًا وإيضًاحا للحَقِّ [508] يُنظر: ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (4/50). .
21- في قَولِه تعالى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أنَّ هؤلاء رفعوا وجوهَهم في الدنيا عنِ السجودِ للهِ، فأذلَّ اللهُ تلك الوجوهَ فمَشَوا عليها في المحشَرِ، ورفعوا رؤوسَهم كِبْرًا عن الحقِّ، فنَكسَها اللهُ يومَ القيامةِ، ومَشَوا في طريقِ النظرِ والاستدلالِ مَشيًا مقلوبًا، فمشوا في الآخرةِ مَشيًا مقلوبًا؛ فكان ما نالَهم مِن سوءِ تلك الحالِ جزاءً وِفاقًا لِمَا أَتوا مِن قُبحِ الأعمالِ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [509] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 185). [فصلت: 46] .

بلاغة الآيات:

1- قَولُه تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا عطْفٌ على قولِه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا [الفرقان: 21] ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ، مَسوقٌ لاستِعظامِ ما قالُوه، وبيانِ ما يَحِيقُ بهم في الآخرةِ مِنَ الأهوالِ والخُطوبِ. وإيرادُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعُنوانِ الرِّسالةِ الرَّسُولُ؛ لتَحقيقِ الحقِّ، والرَّدِّ على نُحورِهم؛ حيثُ كان ما حُكِيَ عنهم قدْحًا في رسالتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [510] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/214). .
- وفي قولِه: يَا رَبِّ إظهارٌ لعَظيمِ الْتِجائِه، وشِدَّةِ اعتِمادِه، وتَمامِ تَفويضِه لمالكِه، ومُدبِّرِ أمْرِه، ومُوالي الإنعامِ عليه [511] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 172). .
- وفي هذه الحِكايةِ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا تَعظيمٌ للشِّكايةِ، وتَخويفٌ وتَحذيرٌ لقَومِه؛ لأنَّ الأنبياءَ كانوا إذا التَجَؤوا إليه، وشَكَوا إليه قَومَهم، حَلَّ بهمُ العَذابُ ولمْ يُنظَروا [512] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/277)، ((تفسير البيضاوي)) (4/123)، ((تفسير أبي حيان)) (8/102)، ((تفسير أبي السعود)) (6/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/17). ، وتَأكيدُه بـ (إنَّ) للاهتِمامِ به؛ ليكونَ التَّشكِّي أقْوى [513] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/17). .
- والتَّعبيرُ عن قُرَيشٍ بـ قَوْمِي؛ لزِيادةِ التَّذَمُّرِ مِن فِعلِهم معه وتَوبيخِهم؛ لأنَّ شأنَ قَومِ الرَّجُلِ أن يوافِقوه، ويُصَدِّقوا به، ويَقبَلوا ما جاء به [514] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/17)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الفرقان)) (ص: 107، 108). . وأيضًا في التَّعبيرِ عنهم بـ (قَومِه) وإضافتِهم إليه، وفي التَّعبيرِ عن القُرآنِ باسمِ الإشارةِ القَريبِ (هَذَا): بَيانٌ لعظيمِ جُرْمِهم بتَرْكِهم للقُرآنِ، وهو قريبٌ منهم في مُتناوَلِهم، وقد أتاهُم به واحدٌ منهم، أقرَبُ النَّاسِ إليهم، فصَدُّوا وأبْعَدوا في الصَّدِّ عمَّن هو إليهم قريبٌ مِن قريبٍ، وهذا أقبَحُ الصَّدِّ وأظلَمُه [515] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 172). .
- وفِعلُ الاتِّخاذِ إذا قُيِّد بحالةٍ يُفيدُ شدَّةَ اعتِناءِ المُتَّخِذِ بتلك الحالةِ، بحيث ارتَكَب الفِعلَ لأجْلِها، وجعَلَه لها قَصْدًا؛ فقولُه: اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا أشَدُّ مُبالَغةً في هَجرِهمُ القُرآنَ مِن أنْ يُقالَ: (إنَّ قَومي هجَروا القُرآنَ) [516] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/17). ؛ فأشارَ بصِيغةِ الافتِعالِ اتَّخَذُوا إلى أنَّهم عالَجوا أنفسَهم في ترْكِه عِلاجًا كثيرًا، وأنَّهم جعَلوا الهَجْرَ مُلازِمًا له، ووصفًا مِن أوصافِه عندَهم، وذلك أعظَمُ مِن أنْ يُقالَ: هجَروه، الَّذي يُفِيدُ وُقوعَ الهِجرانِ منهم، دونَ دَلالةٍ على الثُّبوتِ والمُلازَمةِ؛ لِما يَرَوْنَ مِن حُسنِ نَظْمِه، ويَذُوقون مِن لَذيذِ مَعانيه، ورائقِ أساليبِه، ولَطيفِ عَجائبِه، وبَديعِ غَرائبِه [517] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/376، 377)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 173). .
- واسمُ الإشارةِ في قولِه: هَذَا الْقُرْآَنَ؛ لتَعظيمِه، وأنَّ مِثلَه لا يُتَّخَذُ مَهْجورًا، بل هو جَديرٌ بالإقبالِ عليه، والانتِفاعِ به [518] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/17). .
2- قَولُه تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا
- قَولُه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وُصِفَ أعداءُ الأنبياءِ بأنَّهم مِنَ المُجرِمينَ، أي: مِن جملةِ المُجرِمينَ؛ فإنَّ الإجرامَ أعَمُّ مِن عَداوةِ الأنبياءِ، وهو أَعظَمُها. وإنَّما أُريدَ هنا تحقيقُ انضِواءِ أعداءِ الأنبياءِ في زُمرةِ المُجرِمينَ؛ لأنَّ ذلك أَبلَغُ في الوصفِ مِن أن يقالَ: عَدُوًّا مُجرِمينَ [519] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/18). .
- قَولُه: وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا خبرٌ فيه وعْدٌ كَريمٌ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالهِدايةِ إلى مَطالِبِه كافَّةً، والنَّصرِ على أعدائِه [520] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/277)، ((تفسير أبي حيان)) (8/102)، ((تفسير أبي السعود)) (6/215)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/18). .
3- قَولُه تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا حِكايةٌ لاقتِراحِهمُ الخاصِّ بالقُرآنِ الكريمِ بعْدَ حِكايةِ اقتِراحِهم في حَقِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإيرادُهم بعُنوانِ الكُفرِ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا؛ لذَمِّهم به، والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ [521] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/215). . وهو اعتِراضٌ آخَرُ مِنِ اعتِراضاتِهم الباطلةِ، نسَقَه مع ما تقدَّمَ منها؛ لِيُجابَ عنه، ويُبيَّنَ خَطؤُهم فيه [522] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 177). .
- قَولُه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَمَّا كانوا -لشِدَّةِ ضَعفِهم- لا يَكادون يَسمَحون بتَسميةِ القرآنِ تَنزيلًا، فضْلًا عن أنْ يُسنِدوا إنزالَه إلى اللهِ سبحانه وتعالى؛ بَنَوْا للمَفعولِ في هذه الشُّبهةِ التي أَورَدُوها قولَهم: نُزِّلَ عَلَيْهِ [523] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/378). .
- والفِعلُ (نَزَّلَ) يأتي مُرادِفًا لـ (أنزَلَ)، والتَّضعيفُ أخو الهَمزةِ، ويأتي مُفيدًا للتَّكثيرِ، فيُفِيدُ تَكرُّرَ النُّزولِ وتجديدَه، وهو هنا لا يصِحُّ حمْلُه على التَّكثيرِ المُفيدِ للتَّدريجِ؛ لئلَّا يُناقِضَ قولَهم: جُمْلَةً وَاحِدَةً؛ فيكونُ مِن التَّضعيفِ المُرادِفِ للهمزةِ. والمُختارُ أنَّ (نزَّل) المُضاعَفَ يَرِدُ لكثرةِ الفِعلِ ولِقُوَّتِه؛ فجاء لكَثرتِه في آيةِ (آلِ عمرانَ): نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ [آل عمران: 3] ، وجاء لقُوَّتِه في هذه الآيةِ؛ لأنَّ إنزالَ الجُملةِ مرَّةً واحدةً أقوى مِن إنزالِ كلِّ جُزءٍ مِن الأجزاءِ بمُفرَدِه [524] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 177). .
- وقوله: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ استِئنافٌ واردٌ مِن جِهتِه تعالى لردِّ مقالتِهمُ الباطلةِ، وبيانِ الحِكمةِ في التَّنزيلِ التَّدريجيِّ [525] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/215، 216)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/19). . وعدَل فيه عن خِطابِهم إلى خِطابِ الرَّسولِ عليه الصلاةُ والسلامُ؛ إعلامًا له بحِكمةِ تَنزيلِه مُفرَّقًا، وفي ضِمْنِه امتِنانٌ على الرَّسولِ بما فيه تَثبيتُ قلْبِه، والتَّيسيرُ عليه [526] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/19). .
- قَولُه: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ الأصْلُ: أنزلناهُ كذلك...، فأوجَزَ بحذْفِ المُتعلَّقِ؛ لوُجودِ ما يدُلُّ عليه مِن إعراضِهم. وفُصِلَ -أي: لم يُعطَفْ على ما قَبْلَه-؛ لأنَّه جوابٌ عن اعتراضِهم [527] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 178). .
- ونَكَّر تَرْتِيلًا؛ للتَّفخيمِ والتَّعظيمِ؛ فالتَّنوينُ فيه تنوينُ تنويعٍ وتعظيمٍ، أي: نوعًا مِن التَّرتيلِ عظيمًا [528] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/216)، ((تفسير ابن باديس)) (ص: 178)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/20). .
4- قَولُه تعالى: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا فَذْلَكةٌ [529] الفَذْلكة: مِن فَذْلَكَ حِسابَه فَذْلَكَةً، أي: أَنْهاهُ وفَرَغَ مِنْه، وذكَر مُجمَلَ ما فُصِّل أوَّلًا وخُلاصتَه. والفَذْلكةُ كلمة منحوتةٌ كـ(البَسملة) و(الحوقلة)، من قولِهم: (فذَلِكَ كذَا وكذَا عددًا). ويُراد بالفذلكةِ: النتيجةُ لِمَا سبَق مِن الكلامِ، والتفريعُ عليه، ومنها فذلكةُ الحساب، أي: مُجمَلُ تفاصيلِه، وإنهاؤُه، والفراغُ منه، كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ بعْدَ قولِه: فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] . يُنظر: ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (27/293)، ((كناشة النوادر)) لعبد السلام هارون (ص: 17)، ((مفاتيح التفسير)) لأحمد سعد الخطيب (ص: 638، 639). جامِعةٌ تَعُمُّ ما تَقدَّمَ، وما عسَى أنْ يأتُوا به مِنَ الشُّكوكِ والتَّمويهِ بأنَّ كلَّ ذلك مَدْحوضٌ بالحُجَّةِ الواضحةِ، الكاشفةِ لتُرَّهاتِهم؛ فإنَّه لَمَّا استَقصى أكثرَ مَعاذيرِهم وتَعلُّلاتِهم، وردَّ عليها وأبطَلها؛ أتَى بهذِه الآيةِ الجامِعةِ العامَّةِ [530] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/21). .
- وفيه مِنَ الدَّلالةِ على المُسارعةِ إلى إبطالِ ما أَتَوْا به، وتَثبيتِ فؤادِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ما لا يَخفَى [531] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/216). .
- وتَنكيرُ (مَثَل) في سياقِ النَّفيِ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ ... للتَّعميمِ، أيْ: بكُلِّ مَثَلٍ [532] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/21). .
- وتَعْديةُ فِعْلِ يَأْتُونَكَ إلى ضَميرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لإفادةِ أنَّ إتيانَهم بالأمثالِ يَقصِدون به أن يُفحِموه. وجاءتْ صِيغةُ المضارِعِ في قولِه: وَلَا يَأْتُونَكَ؛ لتَشمَلَ ما عسى أنْ يأتُوا به مِن هذا النَّوعِ [533] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/21، 22). .
- والتَّعبيرُ بالمُضارِعِ يَأْتُونَكَ يُفِيدُ الحُدوثَ وتجدُّدَ الإتيانِ منهم. والتَّعبيرُ بالماضي جِئْنَاكَ -معَ أنَّه في معنى المُستقبَلِ- يُفِيدُ تحقُّقَ المجيءِ، وهو المُناسِبُ لمَقامِ الوعدِ والتَّثبيتِ [534] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 183). .
- وقولُه: جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ مُقابِلٌ لقولِه: لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ، وفي هذه المقابَلةِ إشارةٌ إلى أنَّ ما يأتُون به باطلٌ. والتَّعبيرُ في جانبِ ما يؤيِّدُه اللهُ مِنَ الحُجَّةِ بـ جِئْنَاكَ دُونَ: أَتَيْناك، كما عَبَّر عمَّا يَجيئون به بـ يَأْتُونَكَ: إمَّا لمُجرَّدِ التَّفنُّنِ، وإمَّا لأنَّ فِعلَ الإتيانِ إذا استُعمِلَ كثُرَ فيما يَسوءُ وما يُكرَهُ، كالوعيدِ والهِجاءِ، بخِلافِ فِعلِ المَجيءِ إذا استُعمِلَ؛ فأَكثَرُ ما يُستعمَلُ في وُصولِ الخَيرِ والوعدِ والنَّصرِ والشَّيءِ العظيمِ [535] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/22، 23). .
- قَولُه: وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا، أيْ: أحَقَّ في الاستِدلالِ؛ فالتَّفضيلُ للمُبالَغةِ؛ إذْ ليس في حُجَّتِهم حُسْنٌ أصلًا. أو يُرادُ بالحُسنِ ما يَبْدو مِن بَهْرَجةِ سَفسَطَتِهم وشُبَهِهم؛ فيَجيءُ الكشفُ عنِ الحقِّ أحسَنَ وقْعًا في نُفوسِ السَّامِعينَ مِن مُغالَطاتِهم؛ فيكونُ التَّفضيلُ بهذا الوجهِ على حقيقتِه، فهذه نُكتةٌ مِن دَقائقِ الاستِعمالِ، ودَقائقِ التَّنزيلِ [536] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/23). .
- قَولُه: تَفْسِيرًا في قولِه: وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا وُضِعَ موضعَ: معنًى ومؤدًّى، أي: أحسَنَ معنًى ومؤدًّى مِن سؤالِهم؛ فهو مِن وَضْعِ السَّببِ مَوضعَ المُسبَّبِ؛ لأنَّ التَّكشيفَ سببُ ظُهورِ المعنى وكشْفِه؛ ففيه المبالَغةُ مع الإيجازِ [537] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/278)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/229)، ((تفسير أبي حيان)) (8/104). .
5- قَولُه تعالى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا استِئنافٌ ابتِدائيٌّ لتَسليةِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولوعيدِ المُشركينَ وذَمِّهِم؛ لأنَّه تعالى لَمَّا قال لرَسولِه صلواتُ اللهِ عليه مُسَلِّيًا: وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا حرَّك منه صلواتُ اللهِ عليه بأنْ يَسألَ: فإذَنْ بماذا أُجيبُهم، وما يكونُ قَوْلي لهم؟ قيل: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ [538] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/23). . وفُصِلَتِ هذه الجُملةُ -أي: لم تُعطَفْ على ما قَبْلَها-؛ لأنَّها بَيانٌ لحالِهم في الآخرةِ، وهو غيرُ الموضوعِ المُتقدِّمِ [539] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 184). .
- والمرادُ بقولِه: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ القومُ الَّذينَ أَورَدوا هذه الأسئلةَ على سَبيلِ التَّعنُّتِ في قولِه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان: 32] ؛ فالموصولُ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ واقعٌ موقعَ الضَّميرِ، كأنَّه قيل: هُم يُحشَرون على وُجوهِهم؛ فوُضِع المُظهَرُ مَوضِعَ المُضْمَرِ؛ إشعارًا بتَوهينِهم، وتَحقيرًا لشأنِهم، ولتَحصيلِ فائدةِ أنَّ أصحابَ الضَّميرِ ثَبَتَ لهم مَضْمونُ الصِّلةِ، ولِيُبنَى على الصِّلةِ موقعُ اسمِ الإشارةِ، ومُقتضَى ظاهِرِ النَّظمِ أن يقالَ: (ولا يَأْتونَك بمَثَلٍ إلَّا جِئْناكَ بالحقِّ وأَحسَنَ تفسيرًا، هُمْ شَرٌّ مكانًا وأضَلُّ سبيلًا، ونَحشُرُهم على وُجوهِهم إلى جَهنَّمَ)، كما قال في سورةِ (الإسراء): وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ [الإسراء: 97] عَقِبَ قولِه: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء: 94] . وأيضًا يُعْلَمُ مِنَ السِّياقِ بطريقِ التَّعريضِ أنَّ الَّذينَ يُحشَرون على وُجوهِهم هُمُ الذين يأْتُون بالأمثالِ تَكذيبًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإذْ كان قصْدُهم ممَّا يَأْتون به مِنَ الأمثالِ تَنقيصَ شأنِ النَّبيِّ، ذُكِروا بأنَّهم أهْلُ شَرِّ المكانِ وضَلالِ السَّبيلِ دُونَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ [540] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (11/230)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/23، 24). .
- قَولُه: أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا فيه الإتيانُ باسمِ الإشارةِ أُولَئِكَ عَقِبَ ما تَقدَّمَ؛ للتَّنبيهِ على أنَّ المشارَ إليهم -وهم الَّذِينَ يُحْشَرُونَ ...- حَقِيقُونَ بما بعْدَ اسمِ الإشارةِ، وهو أنَّهم شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا، وأَحْرياءُ بالمكانِ الأَشَرِّ والسَّبيلِ الأَضَلِّ؛ بسَببِ ما اتَّصفوا به، ممّا دلَّتْ عليه الصِّلةُ، وهو حَشْرُهم على وُجوهِهم إلى جهنَّمَ، الذي ما أصابَهم إلَّا بما قدَّمتْ أيديهم، ولأجْلِ ما سَبَق مِن أحوالِهمُ الَّتي منها قولُهم: لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان: 32] ؛ فهم أَحِقَّاءُ بكونِهم شرًّا مكانًا وأضَلَّ سبيلًا؛ بسَببِ ما أدَّاهم إلى ذلك الحَشرِ؛ فاكتُفِيَ بذِكْرِ المُسبَّبِ عن السَّببِ [541] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 184)، ((تفسير ابن عاشور)) (19/24). .
- وصِيغتَا التَّفضيلِ شَرٌّ، وأَضَلُّ في قولِه: شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا مُستعمَلتانِ للمُبالَغةِ في الاتِّصافِ بالشَّرِّ والضَّلالِ. وتَعريفُ جُزْأَيِ الجملةِ يُفيدُ القَصْرَ، وهو قصْرٌ للمبالَغةِ بتَنزيلِهم مَنزِلةَ مَنِ انحصَرَ الشَّرُّ والضَّلالُ فيهم. ورُويَ: أنَّ الكفَّارَ قالوا للمسْلمينَ: هُم شَرُّ الخلْقِ، فنزلَتْ هذه الآيةُ؛ فيكونُ القصْرُ قصْرَ قلْبٍ، أيْ: هُم شَرٌّ مكانًا وأضَلُّ سبيلًا لا المسْلمون. وصِيغتَا التَّفضيلِ مَسْلوبتَا المُفاضَلةِ على كِلا الوَجهَينِ [542] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (19/24). .
- وأيضًا لم يُذكَرْ مع أفعلِ التَّفضيلِ المُفضَّلُ عليه؛ لِيُفِيدَ أنَّ مكانَهم شرُّ مكانٍ مِن أمكنةِ الشَّرِّ، وسبيلَهم أضلُّ سبيلٍ مِن سُبُلِ الضَّلالِ [543] يُنظر: ((تفسير ابن باديس)) (ص: 184). .