موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (175-178)

ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ

غريب الكلمات:

نَبَأَ: النَّبأُ: خَبَرٌ له شَأنٌ، وفائدةٌ عظيمةٌ، يحصُلُ به عِلمٌ أو غَلَبةُ ظَنٍّ، وأصلُ (نبأ): الإتيانُ مِن مكانٍ إلى مكانٍ [2107] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 142)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 461)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/385)، ((المفردات)) للراغب (ص: 788)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 157)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 200). .
فَانْسَلَخَ: أي: خرَجَ مِن العَمَلِ بها، وأصلُ (سلخ): إخراجُ الشَّيءِ عَن جِلدِه [2108] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/94)، ((المفردات)) للراغب (ص: 419)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 121). .
فَأَتْبَعَهُ: أي أدرَكَه ولَحِقَه، يقال: أتبعتُ القَومَ: إذا لحِقتُهم، وَأصل (تبع): يدلُّ على التُلُوِّ والقَفْوِ [2109] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 174)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/362)، ((المفردات)) للراغب (ص: 162)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 121).
الْغَاوِينَ: أي: الضَّالِّينَ أو الهالِكينَ، والغَيُّ: جَهلٌ مِن اعتقادٍ فاسدٍ، وأصلُ (غوي): يدلُّ على خِلافِ الرُّشدِ [2110] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/576)، ((المفردات)) للراغب (ص: 620)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 121). .
أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ: أي: اطمأنَّ إليها، ولزِمها، أو ركَن إلى الدُّنيا وسكَنَ؛ ظانًّا أنَّه يخلدُ فيها، وأصلُ (خلد): يدلُّ على الثَّباتِ والمُلازمةِ [2111] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 174)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 60)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/207)، ((المفردات)) للراغب (ص: 292)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 121)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 212)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 65). .
تَحْمِلْ عَلَيْهِ: أي: تَزجُرْه، أو تَطرُدْه، وأَصلُ (حمل): يَدُلُّ عَلَى إِقْلَالِ الشَّيْءِ، يُقَالُ: حَمَلْتُ الشَّيْءَ أَحْمِلُه حَمْلًا [2112] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 175)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/106)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 121). قال ابنُ عاشورٍ: (مَعْنَى إِنْ تَحْمِلْ عليه إِنْ تُطارِدْه وتُهاجِمْه. مُشتَقٌّ مِنَ الحَملِ الَّذي هو الهجومُ على أحدٍ لقِتالِه، يقالُ: حَمَل فلانٌ على القومِ حملَةً شعواءَ أو حملةً منكرةً. وقد أغْفل المُفَسِّرون توضيحَه، وأغْفل الرَّاغِبُ في «مُفرداتِ القرآنِ» هذا المعْنَى لهذا الفعلِ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/178) .
يَلْهَثْ: أي: يُخرجْ لِسانَه من حرٍّ أو عطَشٍ، واللَّهَثُ يقال للإعياءِ وللعَطشِ جميعًا [2113] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 508)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/214)، ((المفردات)) للراغب (ص: 748)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 213)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 994). .
سَاءَ: أي: قَبُحَ، والسُّوءُ: اسمٌ جامِعٌ للآفاتِ، ثم استُعمِلَ في كلِّ ما يُستقبَحُ. وهو أيضًا كلُّ ما يغمُّ الإنسان [2114] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 123)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/113)، ((المفردات)) للراغب (1 /441)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 73).
الْخَاسِرُونَ: أي: الهالكونَ والمَغبونونَ، والخُسرُ والخُسرانُ: انتقاصُ رأسِ المالِ، ويستعمَلُ في نُقصان العقل والإيمان، والثواب، وأصلُ (خسر) يدلُّ على النَّقصِ [2115] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 30)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/182)، ((المفردات)) للراغب (ص: 281- 282)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 73). .

المعنى الإجمالي:

يأمُرُ اللهُ تعالى نبيَّه أن يتلُوَ على قَومِه قصَّةَ الرَّجُلِ الذي عَلَّمَه اللهُ- عزَّ وجَلَّ- آياتِه، فتبرَّأَ منها وفارَقَها، فلَحِقَه الشَّيطانُ، وجَعَله له تابعًا، فصار مِن أهلِ الضَّلالِ والغَوايةِ، ولو شاء اللهُ لرَفَعه بها، ولكنَّه سكَنَ إلى الأرضِ وزِينَتِها، واتَّبَع ما تميلُ إليه نَفسُه مِن الباطِلِ، فمَثَلُه كمَثَلِ الكَلبِ؛ إنْ تَطرُدْه أو تترُكْه لا يزالُ لاهثًا، ذلك مَثَلُ القَومِ المكَذِّبينَ بآياتِ اللهِ، ثم أمر اللهُ نبيَّه أن يَقصُصَ على قَومِه وعلى اليهودِ القَصَصَ؛ لعَلَّهم يتفكَّرونَ.
قَبُحَ هذا المثَلُ الذي شُبِّه به المكَذِّبونَ بآياتِ اللهِ تعالى، والظَّالِمونَ لأنفُسِهم، مَن يَهدِ اللهُ تعالى فهو المُوفَّقُ، ومن يُضْلِلْه فأولئك الذينَ خَسِروا الدُّنيا والآخرةَ.

تفسير الآيات:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان تعالى قد ذكَرَ أخْذَ الميثاقِ على توحيدِه تعالى، وتقريرِ رُبوبِيَّتِه، وذكَرَ إقرارَهم بذلك، وإشهادَهم على أنفُسِهم- ذكَرَ حالَ مَن آمن به، ثم بعد ذلك من كَفَر، كحالِ اليهودِ؛ حيث كانوا مُقِرِّينَ مُنتظِرينَ بَعثةَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لِما اطَّلَعوا عليه مِن كُتُبِ اللهِ المُنزَّلةِ وتَبشيرِها به، وذِكْرِ صفاتِه، فلمَّا بُعِثَ كفروا به، فذُكِّرُوا أنَّ ما صدَرَ منهم هو طريقةٌ لأسلافِهم اتَّبَعوها [2116] يُنظَر: ((تفسير أبي حيان)) (5/220-221). .
وأيضًا مناسَبةُ هذه الآيةِ للتي قَبلَها أنَّها إشارةٌ للعبرةِ مِن حالِ أحدِ الَّذينَ أخَذَ اللهُ عليهم العَهدَ بالتَّوحيدِ والامتثالِ لأمرِ الله، وأمَدَّه اللهُ بعِلمٍ يُعينُه على الوفاءِ بما عاهدَ اللهَ عليه، وما أودعَ في فطرتِه، ثمَّ لم ينفَعْه ذلك كلُّه حين لم يُقَدِّرِ اللهُ له الهُدى المُستَمِرَّ [2117] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/173). .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا 
أي: واقرأْ- يا مُحمَّدُ- على قَومِك قِصَّةَ الرَّجُلِ الذي عَلَّمْناه آياتِنا [2118] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/566، 574)، ((الوسيط)) للواحدي (2/427)، ((تفسير ابن عطية)) (2/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 308)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/318). قيل: إنَّ المرادَ بالآياتِ هي الآياتُ الشَّرعيَّةُ المُنزَّلة، وممَّن اختار ذلك: السعديُّ، والشنقيطيُّ. يُنظَر: ((تفسير السعدي)) (ص: 308)، ((العذب النمير)) (4/324). وقيل: المرادُ بالآياتِ هنا: حُجَجُ التَّوحيدِ وفَهمُ أدلَّتِه. وممَّن اختار هذا: الواحدي، وابن عاشور. يُنظَر: ((الوسيط)) (2/427)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/175). وفي معنَى قولِه: آيَاتِنَا أقوالٌ أخرى، وذهب ابنُ جريرٍ إلى عدمِ تحديدِ مَعناها؛ لعَدَمِ وُجودِ دلالةٍ ثابتةٍ على ذلك. يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/566، 574-575). قال ابنُ كثير: (عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما في قَولِه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا قال: هو صاحِبُكم أميَّةُ بن أبي الصَّلتِ. وقد رويَ من غيرِ وجهٍ عنه، وهو صحيحٌ إليه، وكأنَّه إنما أراد أنَّ أميَّةَ بنَ أبي الصَّلت يُشبِهُه، فإنَّه كان قد اتَّصلَ إليه علمٌ كثيرٌ مِن عِلمِ الشَّرائِعِ المتقدِّمة، ولكنَّه لم ينتفِعْ بعِلمِه؛ فإنَّه أدرك زمانَ رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وبلَغَتْه أعلامُه وآياتُه ومُعجزاتُه، وظَهَرَت لكلِّ مَن له بصيرةٌ، ومع هذا اجتمَعَ به ولم يتَّبِعْه، وصار إلى مُوالاةِ المُشركين ومناصَرتِهم وامتداحِهم، ورثى أهلَ بَدرٍ من المشركينَ بمَرثاةٍ بليغةٍ- قبَّحَه اللهُ تعالى). ((تفسير ابن كثير)) (3/507). وقال ابنُ عاشورٍ: (ذهب كثيرٌ مِن المُفَسِّرينَ إلى أنَّها نَزَلتْ في رجلٍ مِن الكنعانيِّينَ، وكان في زمنِ موسى عليه السَّلامُ، يقال له: بلعامُ بنُ باعور، وذكروا قصَّتَه فخَلَطوها وغيَّرُوها واختَلَفوا فيها... فلا ينبغي الالتفاتُ إلى هذا القَولِ؛ لاضطرابِه واختلاطِه). ((تفسير ابن عاشور)) (9/175). وقال ابنُ جرير: (والصوابُ مِن القَولِ في ذلك أن يقالَ: إنَّ اللهَ- تعالى ذِكْرُه- أمَرَ نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يتلوَ على قَومِه خَبَرَ رجلٍ كان اللهُ آتاه حُجَجَه وأدلَّتَه، وهي الآياتُ... وجائزٌ أن يكونَ الذي كان اللهُ آتاه ذلك بلعم، وجائزٌ أن يكونَ أُمَيَّةَ، ولا خبَرَ بأيِّ ذلك المرادُ، وأيُّ الرَّجُلينِ المعنيُّ- يُوجِبُ الحُجَّةَ، ولا في العَقلِ دلالةٌ على أنَّ ذلك المعنيَّ به مِن أيٍّ، فالصوابُ أن يُقالَ فيه ما قال اللهُ، ويُقَرُّ بظاهِرِ التَّنزيلِ على ما جاء به الوَحيُ مِن اللهِ). ((تفسير ابن جرير)) (10/574، 575). .
فَانْسَلَخَ مِنْهَا
أي: فخرَج من تلك الآياتِ التي علَّمَه اللهُ تعالى إيَّاها، وتبرَّأَ منها وفارَقَها، ولم يَعْلَقْ به منها شيءٌ [2119] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/575)، ((الوسيط)) للواحدي (2/427)، ((تفسير السعدي)) (ص: 308)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/324). .
عن حُذيفةَ بنِ اليَمانِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ مِمَّا أتخَوَّفُ عليكم لَرجُلًا قرأَ القرآنَ، حتى إذا رُئِيَت بهجَتُه عليه، وكان ردءًا للإسلامِ، اعتراه إلى ما شاءَ الله، انسلَخَ منه، ونبَذَه وراءَ ظَهرِه، وسعى على جارِه بالسَّيفِ، ورماه بالشِّرْكِ، قلتُ: يا نبيَّ الله، أيُّهما أَوْلى بالشِّرْكِ: المرميُّ أو الرَّامي؟ قال: بل الرَّامي)) [2120] أخرجه البزار (2793)، والطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (865)، وابن حبان في الصحيح (81)، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (1859). حسَّن إسنادَه البزَّارُ كما في ((البحر الزخار)) (7/220)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/192)، وجوَّدَ إسنادَه ابنُ كثير في ((تفسير القرآن)) (3/509)، وحسَّن الحديثَ الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (3201). .
فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
أي: فلَحِقَه الشَّيطانُ وأدرَكَه، وجعَلَه له تابعًا يُطيعُ أمْرَه، فصار من الضالِّين الذين لا يَعملونَ بعِلْمِهم [2121] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/576)، ((الوسيط)) للواحدي (2/427)، ((تفسير ابن عطية)) (2/477)، ((تفسير القرطبي)) (7/321)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (7/625)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/129)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/176)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/324، 326). .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا كان قَولُه تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ مُوهمًا لِمَن لم يرسخْ قَدَمُه في الإيمانِ أنَّ الشيطانَ له تأثيرٌ مُستقِلٌّ في الإغواءِ- نفى ذلك؛ غيرةً على هذا المقامِ في مَظهَرِ العظمةِ، فقال [2122] يُنظَر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/159). :
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
أي: ولو شِئْنا لرَفَعْنا قَدْرَه ومنزِلتَه في الدُّنيا والآخرةِ، بتوفيقِنا له للعَمَلِ بآياتِنا [2123] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/576، 583)، ((تفسير القرطبي)) (7/321)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/129)، ((تفسير ابن كثير)) (3/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/176)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/327). قال ابنُ القَيِّم: (مضمونُ قَولِه: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا... أنَّه لم يتعاطَ الأسبابَ التي تقتضي رَفعَه بالآياتِ؛ من إيثارِ اللهِ ومَرضاتِه على هواه، ولكنَّه آثرَ الدُّنيا، وأخلدَ إلى الأرضِ، واتَّبعَ هواه). ((إعلام الموقعين)) (1/130). .
وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
أي: ولكنَّه سكَنَ إلى الحياةِ الدُّنيا، ومال إلى زِينَتِها، وآثَرَ لذَّاتِها وشَهَواتِها على الآخرةِ، واتَّبعَ ما تميلُ إليه نَفسُه مِن الباطِلِ، وخالَفَ أمرَ اللهِ [2124] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/576)، ((تفسير ابن كثير)) (3/509)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/177)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/327). قال الواحدي: (فسَّرُوا الْأَرْضِ في هذه الآيةِ بالدُّنيا، وذلك لأنَّ الدُّنيا هي الأرضُ؛ لأنَّ ما فيها مِن العَقارِ والرِّباع والضِّياعِ كُلُّها أرضٌ، وسائِرُ مَتاعِها يُستخرَجُ مِن الأرضِ، فالدُّنيا كلُّها هي الأرضُ، فصَلَح أن يعبِّرَ عنها بالأرضِ؛ لأنَّها هي). ((البسيط)) (9/467). .
فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ
أي: فمَثَلُ هذا الذي آتَيناه آياتِنا فانسلَخَ منها؛ في عَدَمِ اتعاظِه، وعَدَمِ تَركِه الحِرصَ على الدُّنيا بحالٍ- مَثَلُ الكَلْبِ الذي لا يترُكُ اللَّهَثَ بحالٍ، سواءٌ زَجَرتَه وطَرَدْتَه، أم تَركْتَه؛ فهذا الذي ترك العَملَ بكتابِ اللهِ، إن وعَظْتَه فهو على ضلالِه لا يتَّعِظُ، وإن تركْتَه فهو مستمِرٌّ في ضلالِه، لا يترُكُ في جميعِ الأحوالِ ما هو عليه من الكُفرِ، واللَّهَفِ على الدُّنيا [2125] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/586، 588)، ((البسيط)) للواحدي (9/471)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (ص: 128)، ((تفسير ابن كثير)) (3/511، 512)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/327-329). .
كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 6-7] .
وقال سبحانه: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ [الأعراف: 193] .
ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أي: ذلك المثَلُ المضروبُ لِتَشبيهِ المُنسلِخ مِن آياتِنا، بالكَلْبِ الذي يلهَثُ في جميعِ الأحوالِ؛ هو مَثَلُ جميعِ المُكَذِّبينَ بآياتِنا [2126] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/588)، ((البسيط)) للواحدي (9/471)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/330). قال القرطبي: (وهذا المثَلُ في قولِ كَثيرٍ مِن أهلِ العِلمِ بالتَّأويلِ؛ عامٌّ في كلِّ مَن أوتِيَ القُرآنَ، فلم يعمَلْ به). ((تفسير القرطبي)) (7/323). .
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
أي: فاسْرُدْ- يا مُحمَّدُ- على قَومِك مِن قُريشٍ، وعلى اليَهودِ، ما قصَصْتُه عليك في القُرآنِ من أخبارِ الأمَمِ السَّابقة؛ ليتفَكَّروا فيها، فيعتَبِروا ويتوبوا إلى ربِّهم، ولِيعلَمَ أهلُ الكِتابِ صِحَّةَ نبوَّتِك، فيُؤمِنوا بك [2127] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/589)، ((تفسير ابن عطية)) (2/478)، ((تفسير ابن كثير)) (3/512)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/179)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/330). .
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
أي: بِئسَ وقبُحَ هذا المَثَلُ الذي شُبِّه به المكَذِّبونَ بآياتِنا [2128] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/590)، ((تفسير القرطبي)) (7/324)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/179)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/330). قال ابن كثير: (أي: ساءَ مَثَلُهم أن شُبِّهوا بالكلابِ التي لا همَّةَ لها إلَّا في تحصيلِ أكلةٍ أو شهوةٍ، فمَن خرج عن حَيِّزِ العِلمِ والهُدى، وأقبل على شَهوةِ نَفْسِه، واتَّبَع هواه؛ صار شبيهًا بالكَلْبِ، وبِئسَ المثَلُ مثَلُه). ((تفسير ابن كثير)) (3/512). .
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليس لنا مَثَلُ السَّوءِ [2129] مَثَلُ السَّوءِ: أي: الصِّفةُ الذَّميمةُ. يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (5/2008). ؛ الذي يعودُ في هِبَتِه كالكَلبِ يَرجِعُ في قَيئِه )) [2130] رواه البخاري (2622) ومسلم (1622)، واللفظ للبخاري. .
وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ
أي: والَّذين كذَّبوا بآياتِنا، لم يظلِمْهم اللهُ سبحانه، بل كانوا يَظلِمونَ أنفُسَهم بنَقْصِها مِن الخَيرِ الذي ينفَعُها، وتعريضِها لعذابِ اللهِ [2131] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/590)، ((تفسير ابن كثير)) (3/512)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/180). .
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا وصَفَ الله تعالى الضَّالِّينَ بالوَصفِ المذكورِ فيما تقَدَّمَ مِن الآياتِ، وعرَّفَ حالَهم بالمَثَلِ المذكورِ؛ بيَّنَ في هذه الآيةِ أنَّ الهِدايةَ مِن اللهِ تعالى، وأنَّ الضَّلالَ مِن اللهِ تعالى [2132] يُنظَر: ((تفسير الرازي)) (15/407). ، فقال:
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي
أي: مَن يَهْدِه اللهُ فهو الموفَّقُ لاتِّباعِ الحَقِّ، ولا مُضِلَّ له [2133] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/590)، ((تفسير ابن كثير)) (3/512)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/331). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزُّمَر: 37].
وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ
أي: ومَن يُضْلِلْه اللهُ ويَخذُلْه، ولا يُوفِّقْه لطاعَتِه؛ فأولئك هم الذينَ خَسِروا الدُّنيا والآخرةَ [2134] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/590)، ((الوسيط)) للواحدي (2/428)، ((تفسير الرازي)) (15/408)، ((تفسير ابن كثير)) (3/512)، ((تفسير السعدي)) (ص: 309)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/331). .
كما قال تعالى: وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف: 17] .
وقال سبحانه: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء: 88] .

الفوائد التربوية:

قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فالرِّفعةُ عند اللهِ تعالى ليست بمجَرَّدِ العِلمِ- فإنَّ هذا كان مِن العُلَماءِ- وإنَّما هي باتِّباعِ الحَقِّ وإيثارِه، وقَصدِ مرضاةِ اللهِ تعالى، فإنَّ هذا كان مِن أعلَمِ أهلِ زَمانِه، ولم يرفَعْه اللهُ بعِلمِه، ولم ينفَعْه به، وفي الآيةِ أنَّه هو سبحانه الذي يرفَعُ عَبْدَه- إذا شاء- بما آتاه اللهُ مِن العِلمِ، وإنْ لم يرفَعْه اللهُ، فهو موضوعٌ لا يرفَعُ أحدٌ به رأسًا؛ فإنَّه سبحانه هو الخافِضُ الرَّافِعُ؛ وقد خَفَضَه اللهُ سبحانه، ولم يَرْفَعْه [2135] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/129). .
قال الله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ هَذَا مَثَلُ عَالمِ السُّوءِ، الَّذِي يعمَلُ بخِلافِ عِلْمِه، وقد تضمَّنَت هذه الآيةُ ذَمَّه مِن عِدَّة وجوهٍ:
أحدُها: أنَّه ضلَّ بعد العِلمِ، واختار الكُفرَ على الإيمانِ، عمدًا لا جَهلًا.
ثانيها: أنَّه فارقَ الإيمانَ مُفارقةَ مَن لا يعودُ إليه أبدًا؛ فإنَّه انسلخَ مِن الآياتِ بالجُملةِ، كما تنسلِخُ الحيَّةُ مِن قِشرِها، ولو بَقِيَ معه منها شيءٌ، لم ينسلِخْ منها.
ثالثُها: أنَّ الشَّيطانَ أدرَكَه ولَحِقَه بحيث ظفِرَ به وافترَسَه؛ ولهذا قال: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ولم يقُلْ تَبِعَه؛ فإنَّ في معنى أتبَعَه: أدرَكَه ولَحِقَه، وهو أبلَغُ مِن تَبِعَه لفظًا ومعنًى.
رابعُها: أنَّه غَوى بعد الرُّشدِ، والغَيُّ: الضَّلالُ في العِلمِ والقَصدِ، وهو أخَصُّ بفسادِ القَصدِ والعَمَلِ، كما أنَّ الضَّلالَ أخَصُّ بفسادِ العِلمِ والاعتقادِ، فإذا أُفرِدَ أحدُهما دخل فيه الآخَرُ، وإن اقتَرَنا فالفَرْقُ ما ذُكِرَ.
خامسُها: أنَّه سبحانَه لم يَشَأْ أن يَرفَعَه بالعِلمِ، فكان سبَبَ هلاكِه؛ لأنَّه لم يُرفَعْ به، فصار وَبالًا عليه، فلو لم يكُنْ عالِمًا، كان خيرًا له، وأخَفَّ لِعذابِه.
سادسُها: أنَّه سبحانه أخبَرَ عن خِسَّةِ هِمَّتِه، وأنَّه اختار الأسفَلَ الأدنى على الأشرَفِ الأعلى.
سابعُها: أنَّ اختيارَه للأدنى لم يكُنْ عن خاطرٍ وحديثِ نَفْسٍ، ولكنَّه كان عن إخلادٍ إلى الأرضِ، ومَيلٍ بكُلِّيَّتِه إلى ما هناك، وأصلُ الإخلادِ اللُّزومُ على الدَّوامِ، وعبَّرَ عن مَيلِه إلى الدُّنيا بإخلادِه إلى الأرضِ؛ لأنَّ الدُّنيا هي الأرضُ وما فيها، وما يُستخرَجُ منها مِن الزِّينةِ والمَتاعِ.
ثامنُها: أنَّه رغِبَ عن هُداه، واتَّبَع هواه، فجَعلَ هواه إمامًا له، يقتَدي به ويتَّبِعُه.
تاسعُها: أنَّه شبَّهَه بالكَلبِ الذي هو أخَسُّ الحيواناتِ هِمَّةً [2136] قال ابنُ القيِّم: (شَبَّه- سبحانَه- مَن آتاه كتابَه، وعلَّمَه العلمَ الذي منَعَه غيرَه، فتَرَك العمَلَ به واتَّبَع هواه، وآثَرَ سخَطَ اللهِ على رضاه، ودُنياه على آخِرتِه، والمخلوقَ على الخالقِ؛ بالكَلبِ الذي هو مِن أخبَثِ الحيواناتِ، وأوضَعِها قَدْرًا، وأخبَثِها نَفسًا، وهِمَّتُه لا تتعدَّى بطنَه، وأشَدِّها شَرَهًا وحِرصًا، ومِن حِرصِه أنَّه لا يمشي إلَّا وخَطْمُه في الأرضِ؛ يتشَمَّم ويتروَّح حِرصًا وشَرَهًا، ولا يزالُ يشَمُّ دُبُرَه دون سائرِ أجزائِه، وإذا رَمَيتَ له بحجَرٍ رجَعَ إليه ليَعَضَّه مِن فَرطِ نَهْمتِه، وهو من أمهَنِ الحيواناتِ، وأحمَلِها للهَوانِ، وأرضاها بالدَّنايا، والجِيَفُ المُروَّحةُ أحَبُّ إليه من اللَّحمِ الطَّريِّ، والعَذِرةُ أحَبُّ إليه من الحلوى، وإذا ظَفِرَ بمَيتةٍ تكفي مئةَ كلبٍ، لم يدَعْ كلبًا يتناوَلُ معه منه شيئًا إلَّا هَرَّ عليه وقَهرَه؛ لِحِرصِه وبُخلِه وشَرَهِه، ومِن عجيبِ أمْرِه وحِرصِه أنَّه إذا رأى ذا هيئةٍ رثَّةٍ، وثيابٍ دَنيَّةٍ، وحالٍ زَريَّةٍ، نبَحَه، وحمَلَ عليه، كأنَّه يتصوَّرُ مُشارَكتَه له، ومُنازَعتَه في قُوتِه، وإذا رأى ذا هيئةٍ حَسَنةٍ، وثيابٍ جَميلةٍ ورياسةٍ، وضَعَ له خَطْمَه بالأرضِ، وخضَعَ له، ولم يرفَعْ إليه رأسَه). ((إعلام الموقعين)) (1/127). ، وأسقَطُها نَفْسًا وأبخَلُها، وأشَدُّها كَلَبًا، ولهذا سُمِّيَ كَلْبًا.
عاشرُها: أنَّه شَبَّه لهَثَه على الدُّنيا وعدَمَ صَبْرِه عنها، وجَزَعَه لفَقْدِها وحِرصَه على تحصيلِها، بلَهَثِ الكَلْبِ في حالتَي ترْكِه، والحَمْلِ عليه بالطَّردِ، وهكذا هذا؛ إن تُرِكَ فهو لَهْثانُ على الدُّنيا، وإن وُعِظَ وزُجِرَ فهو كذلك؛ فاللَّهَثُ لا يُفارِقُه في كلِّ حالٍ، كلَهَثِ الكَلْبِ، وهذا التَّمثيلُ لم يقَعْ بكلِّ كَلْبٍ، وإنما وقعَ بالكَلْبِ اللَّاهِثِ، وذلك أخَسُّ ما يكونُ وأشنَعُه [2137] يُنظَر: ((الفوائد)) لابن القيم (ص: 101، 102). .
اتِّباعُ الإنسانِ لِهَواه، بتَحَرِّيه وتشَهِّيه ما تَميلُ إليه نفسُه في كلِّ عَمَلٍ مِن أعماله، دونَ ما فيه المصلحةُ والفائدةُ له؛ مِن حيث هو جَسَدٌ وروحٌ- يُضِلُّه عن سبيلِ اللهِ، المُوصِلةِ إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرة، ويتعَسَّفُ به في سُبُلِ الشَّيطانِ المُردِيَةِ المُهلِكة؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [2138] يُنظَر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/341). .
قال تعالى: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ هذه الآيةُ مِن أشَدِّ الآيِ على أصحابِ العِلمِ؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى أخبَرَ أنَّه آتاه آياتِه، فاستوجَبَ بالسُّكونِ إلى الدُّنيا واتِّباعِ الهوى، تغييرَ النِّعمةِ عليه، والانسلاخَ عنها، ومَنِ الذي سَلِمَ من هاتين الخَلَّتينِ، إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ [2139] يُنظَر: ((التفسير البسيط)) للواحدي (9/468). !
من كانت نِعَمُ اللهِ تعالى في حَقِّه أكثَرَ، كان بُعْدُه عن اللهِ- إذا أعرَضَ عنه- أعظَمَ وأكبَرَ؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا... وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [2140] يُنظَر: ((تفسير الرازي)) (15/405). .
لا يغتَرَّ أحدٌ بما أوتِيَ من المعارِف، وما حاز من المفاخِرِ واللَّطائِفِ؛ فإنَّ العِبرةَ بالخواتيمِ، يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ [2141] يُنظَر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/160). .
قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا عبرةٌ للمُوفَّقينَ؛ ليَعلَموا فَضلَ اللهِ عليهم في توفيقِهم [2142] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/176). .
قال الله تعالى: قال تعالى وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ أي: سكَن إليها، ونزَل بطبعِه إليها، فكانت نفسُه أرضيةً سفليةً، لا سماويةً علويةً، وبحسبِ ما يخلدُ العبدُ إلى الأرضِ يهبطُ مِن السَّماءِ [2143] يُنظَر: ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 194) .
قالَ الله تعالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا المُرادُ بهذا المثلِ: أنَّ منْ لم يزجرْه علمُه عن القبيحِ، صارَ القبيحُ عادةً له، ولم يؤثِّرْ فيه علمُه شيئًا، فيصيرُ حالُه كحالِ الكلبِ اللاهثِ فإنَه إنْ طُرِدَ لَهِثَ، وإنْ ترِكَ لَهِثَ، فالحالتانِ عنده سواءٌ. وهذا أخسُّ أحوالِ الكلبِ وأبشعُهَا، فكذلكَ من يرتكبُ القبائح مع جهلِهِ ومع علمِهِ، فلا يؤثِّرُ علمُه شيئًا، وكذلكَ مثلُ مَنْ لا يرتدعُ عن القبيحِ بوعظٍ ولا زجرٍ ولا غيرِهِ، فإنَّ فعلَ القبيحِ يصيرُ عادةً، ولا ينزجِرُ عنه بوعظٍ ولا تأديبٍ ولا تعليمٍ، بل هو متبعٌ للهَوى على كلِّ حالٍ، فهذا حالُ كلِّ مَن اتَبعَ هواه، ولم ينزجِرْ عنه بوعظٍ ولا غيرِهِ، وسواءٌ كانَ الهَوى المُتبعُ داعيًا إلى شهوةٍ حسيةٍ، كالزِّنا والسرقةِ وشربِ الخمرِ، أو إلى غضبٍ وحقدٍ وكبرٍ وحسدٍ، أو إلى شُبهةٍ مضلَّةٍ في الدِّينِ، وأشدُّ ذلكَ: حالُ من اتَّبع هواهُ في شبهةٍ مضلةٍ، ثمَّ من اتبع هواهُ في غضبٍ وكبرٍ وحقدٍ وحسدٍ، ثم من اتَّبع هواهُ في شهوةٍ حسيةٍ [2144] يُنظَر: ((تفسير ابن رجب الحنبلي)) (1/88، 89). .
قَولُ اللهِ تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يدلُّ على تعظيمِ شَأنِ ضَربِ الأمثالِ في تأثيرِ الكَلامِ، وكونِه أقوى مِن سَوقِ الدَّلائلِ والحُجَجِ المجَرَّدةِ، ويدلُّ على تعظيمِ شأنِ التفَكُّر، وكونِه مبدأَ العِلمِ، وطَريقَ الحَقِّ [2145] يُنظَر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/342). .
ما يحصُلُ بالقَلبِ مِن العِلمِ، وإن كان بكَسْبِ العَبدِ ونَظَرِه، واستدلالِه واستماعِه ونحو ذلك؛ فإنَّ الله تعالى هو الذي أثبَتَ ذلك العِلمَ في قَلْبِه، وهو حاصِلٌ في قَلْبِه بفَضلِ اللهِ وإحسانِه وفِعْلِه؛ قال الله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [2146] يُنظَر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/30). .
قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ فيه تنويهٌ بشأنِ المُهتَدينَ، وتلقينٌ للمُسلمينَ؛ للتَّوجُّهِ إلى اللهِ تعالى بطَلَبِ الهِدايةِ منه، والعِصمةِ مِن مَزالِقِ الضَّلالِ [2147] يُنظَر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (9/30)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/180). .
قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ العبدُ فقيرٌ إلى اللهِ في كُلِّ شَيءٍ، يحتاجُ إليه في كلِّ شَيءٍ، لا يستغني عن اللهِ طَرفةَ عَينٍ؛ فمَن يَهْدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هادِيَ له. فإذا ثبتَتْ هاتانِ المُقَدِّمتانِ، فنقول: إذا أُلهِمَ العبدُ أن يسألَ اللهَ الهدايةَ، ويستعينَه على طاعَتِه؛ أعانه وهداه، وكان ذلك سببَ سَعادَتِه في الدنيا والآخرةِ، وإذا خُذِلَ العَبدُ فلم يعبُدِ اللهَ، ولم يستعِنْ به، ولم يتوكَّلْ عليه؛ وُكِلَ إلى حَولِه وقُوَّتِه، فيُوَلِّيه الشَّيطانَ، وصُدَّ عن السَّبيلِ، وشَقِيَ في الدُّنيا والآخرةِ [2148] يُنظَر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/236، 237). .

الفوائد العلمية واللطائف:

قَولُه تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا دلَّت على مَنعِ التَّقليدِ لِعالِم إلَّا بحجَّةٍ يُبَيِّنُها؛ لأنَّ الله تعالى أخبَرَ أنَّه أعطى هذا آياتِه فانسلَخَ منها، فوجب أن يُخافَ مثلُ هذا على غَيرِه، وألَّا يُقبَلَ منه إلَّا بحُجَّةٍ [2149] يُنظَر: ((تفسير القرطبي)) (7/323). .
الآياتُ مِن شأنِها أن تكونَ سَببًا للهدايةِ والتَّزكيةِ؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا [2150] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/176). .
قَولُ اللهِ تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا التعبيرُ بالانسلاخِ المُستعمَلِ عند العَرَبِ في خروجِ الحَيَّاتِ والثَّعابينِ أحيانًا مِن جُلودِها؛ يدلُّ على أنَّه كان متمَكِّنًا منها ظاهرًا، لا باطنًا [2151] يُنظَر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/340). .
قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا قولُه: آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا أخبَرَ سبحانه أنَّه هو الذي آتاه آياتِه؛ فإنَّها نعمةٌ، واللهُ هو الذي أنعَمَ بها عليه، فأضافَها إلى نفسِه، ثمَّ قال: فَانْسَلَخَ مِنْهَا أي: خرجَ منها، كما تنسَلِخُ الحيَّةُ مِن جِلْدِها، وفارَقَها فِراقَ الجِلدِ ينسَلِخُ عن اللَّحمِ، ولم يقُلْ: (فسلخْناه منها)؛ لأنَّه هو الذي تسبَّبَ إلى انسلاخِه منها؛ باتِّباعِ هواه [2152] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/129). .
قال تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ فقد كان محفوظًا مَحروسًا بآياتِ اللهِ، محمِيَّ الجانِبِ بها مِن الشَّيطانِ، لا يَنالُ منه شيئًا إلَّا على غِرَّةٍ وخَطفةٍ؛ فلمَّا انسلَخَ من آياتِ اللهِ، ظَفِرَ به الشَّيطانُ ظَفَرَ الأسَدِ بفَريسَتِه، فكان مِن الغاوينَ العامِلينَ بخِلافِ عِلمِهم، الذينَ يعرِفونَ الحَقَّ ويعملونَ خِلافَه، كعُلَماءِ السُّوءِ [2153] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/129). .
قَولُ اللهِ تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ في هذا التعبيرِ تَعليمٌ للأدَبِ؛ في إسنادِ الخَيرِ إلى اللهِ، والشَّرِّ إلى غَيرِه، وإن كان الكُلُّ خَلْقَه [2154] يُنظَر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/159). .
قَولُ اللهِ تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا في تشبيهِ مَن آثَرَ الدُّنيا وعاجِلَها على اللهِ والدَّارِ الآخرةِ- مع وُفورِ عِلمِه- بالكَلْبِ في لَهَثِه؛ سِرٌّ بديعٌ، وهو: أنَّ الذي حالُه ما ذَكَرَه اللهُ؛ مِن انسلاخِه مِن آياتِه، واتِّباعِه هواه- إنَّما كان لشِدَّةِ لَهَفِه على الدُّنيا؛ لانقطاعِ قَلْبِه عن اللهِ والدَّارِ الآخِرةِ، فهو شديدُ اللَّهَفِ عليها، ولهَفُه نظيرُ لَهَثِ الكَلْبِ الدَّائِمِ في حالِ إزعاجِه وتَرْكِه [2155] يُنظَر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/128). .
قَولُ اللهِ تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ الاقتصارُ في الإخبارِ عَمَّن هَدى اللهُ بالمهتدي؛ تعظيمٌ لشَأنِ الاهتداءِ، وتَنبيهٌ على أنَّه في نفسِه كمالٌ جَسيمٌ، ونَفعٌ عَظيمٌ، لو لم يحصُلْ له غيرُه لَكَفاه، وأنَّه المُستلزِمُ للفوزِ بالنِّعَم الآجِلةِ، والعنوانُ له [2156] يُنظَر: ((تفسير الشربيني)) (1/537). .
أفضلُ ما يُقدِّر الله لعبدِه، وأجلُّ ما يقسِمُه له الهدَى، وأعظمُ ما يَبتَليه به، ويُقدِّرُه عليه الضَّلالُ، وكلُّ نعمةٍ دونَ نعمةِ الهدَى، وكلُّ مصيبةٍ دونَ مصيبةِ الضَّلالِ، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [2157] يُنظَر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 65). .
اتَّفقتْ رسلُ الله- مِن أوَّلِهم إلى آخرِهم- وكتبُه المنزلةُ عليهم على أنَّه سبحانَه يُضلُّ مَن يشاءُ، ويهدي مَن يشاءُ، وأنَّه مَن يهدِهِ الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأنَّ الهدَى والإضلالَ بيدِه لا بيدِ العبدِ، وأنَّ العبدَ هو الضالُّ أو المهتدي، فالهدايةُ والإضلالُ فعلُه سبحانه وقدرُه، والاهتداءُ والضلالُ فعلُ العبدِ وكسبُه، قال تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [2158] يُنظَر: ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 65). ويُنظَر أيضًا: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/236)، ((اجتماع الجيوش الإسلامية)) لابن القيم (2/290). .

بلاغة الآيات:

قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ
في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا عظَّمَ ما أعطاه بمَظهرِ العَظَمةِ، ولَفْظِ الإيتاءِ، بعدما عَظَّمَ خَبَرَه بلَفْظِ الإنباءِ [2159] يُنظَر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/156). .
قوله: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَأَتْبَعَهُ مِن (أتْبع) رُباعيًّا، أي: لَحِقه وصارَ معه، وهي مُبالغةٌ في حقِّه؛ إذ جُعِلَ كأنَّه هو إمامٌ للشَّيطانِ يَتْبَعُه، وكذلك قولُه تعالى: فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [2160] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/222). [الصافات:10] .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فيه تمثيلٌ لحالِ المتلَبِّسِ بالنَّقائصِ والكُفرِ، بعد الإيمانِ والتَّقوى؛ بحالِ مَن كان مُرتفعًا عن الأرضِ، فنزَلَ من اعتلاءٍ إلى أسفَل، فبِذِكرِ (الأرض) عُلِمَ أنَّ الإخلادَ هنا ركونٌ إلى السُّفلِ، أي: تلبُّسٌ بالنَّقائِصِ والمفاسِدِ [2161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/177). .
وقوله: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ جاءَ الاستدراكُ هنا تَنبيهًا على السَّببِ الذي لأجْلِه لم يُرفَعْ ولم يُشرفْ، كما فُعِل بغيرِه ممَّن أُوتِي الهُدَى فآثَرَه واتَّبعَه [2162] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/223). ؛ فعبر بقولِه: وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ ولم يقُل: (ولكنَّه أعْرَض عنها)؛ مُبالغةً وتنبيهًا على ما حَمَله عليه، وأنَّ حُبَّ الدُّنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ [2163] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (3/42). .
قوله تعالى: ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فيه تَشبيهُ المكذِّبينَ بالآياتِ- حيثُ أُوتوها وجاءتْهم واضحاتٍ تَقتضي التَّصديقَ بها، فقابَلُوها بالتكذيبِ، وانْسَلخوا منها- كما شُبِّهَ وصْفُ المُؤتَى الآياتِ المنسلخِ منها بالكَلبِ في أخسِّ حالاتِه، وذَلِكَ يَحتمِلُ أنْ يكونَ إشارةً لِمَثَل المنسلِخِ، وأنْ يكونَ إشارةً لوصفِ الكَلبِ، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ أداةُ التَّشبيهِ مَحذوفةً مِن ذَلِكَ، أي: صِفةُ ذلِك صِفةُ الذين كذَّبوا، ويَحتمِلُ أنْ تكونَ مَحذوفةً مِن مَثَلُ الْقَوْمِ، أي: ذلك الوصْفُ وصْفُ المنسلِخِ، أو وصفُ الكَلبِ كمَثَل الذين كذَّبوا بآياتِنا، ويَكون أبلغَ في ذمِّ المكذِّبين حيثُ جُعِلوا أصلًا، وشُبِّهَ بهم [2164] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/225). .
وجملةُ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا جملةٌ مُبَيِّنةٌ لجُملةِ: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا...، أي: ذلك التمثيلُ مَثَلٌ للمُشركينَ المُكَذِّبينَ بالقُرآنِ، وهو تَشبيهٌ بليغٌ؛ لأنَّ حالةَ الكَلبِ المُشبَّه شَبيهةٌ بحالِ المُكَذِّبين، وليستْ عَينَها [2165] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/179). .
قولُه: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تذييلٌ للقِصَّةِ المُمَثَّلِ بها، يشمَلُها وغَيرَها مِن القَصَص التي في القُرآن؛ فإنَّ في القَصَصِ تفكُّرًا ومَوعظةً، فيُرجى منه تفكُّرُهم ومَوعِظَتُهم [2166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/179). .
قولُه تعالى: سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ
قوله تعالى: سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا هذه الجُملةُ تأكيدٌ للجُملةِ السَّابقةِ [2167] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/226). ، وهي جملةٌ مُستأنفةٌ؛ لأنَّها جُعِلَت إنشاءَ ذَمٍّ لهم، بأنْ كانوا في حالةٍ شَنيعةٍ، وظَلَموا أنفُسَهم [2168] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/179-180). .
قوله: وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ فيه تقديمُ المَفعولِ أَنْفُسَهُمْ للاختصاصِ، كأنَّه قِيل: وخَصُّوا أنفُسَهم بالظُّلمِ، وما تَعدَّى أثرُ ذلك الظُّلمِ عنهم إلى غيرِهم [2169] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (2/179)، ((تفسير الرازي)) (15/406). .
وقولُه: كَانُوا يَظْلِمُونَ أقْوَى في إفادةِ وَصْفِهم بالظُّلمِ مِن أن يُقالَ: وظَلموا أنفُسَهم [2170] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/180). .
قوله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ تذييلٌ للقِصَّةِ والمَثَلِ وما أُعقِبا به من وَصْفِ حالِ المُشركينَ؛ فإنَّ هذه الجُملةَ تُحصِّلُ ذلك كُلَّه، وتجري مجرى المَثَلِ، وذلك أعلى أنواعِ التَّذييلِ [2171] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/180). .
والقَصرُ المُستفادُ مِن تعريفِ جُزأيِ الجُملةِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي قَصرٌ حقيقيٌّ ادِّعائيٌّ، باعتبارِ الكَمالِ، واستمرارِ الاهتداءِ إلى وفاةِ صاحِبِه. وكذلك القَولُ في فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وزِيدَ في جانِبِ الخاسرينَ الفَصلُ باسمِ الإشارةِ (أُولَئِكَ)؛ لزيادةِ الاهتمامِ بتَمييزِهم بعنوانِ الخُسرانِ تحذيرًا منه، فالقَصرُ فيه مؤكَّدٌ. وقد عُلِمَ مِن مُقابلةِ الهِدايةِ بالإضلالِ، ومُقابلةِ المهتدي بالخاسِرِ أنَّ المُهتديَ فائِزٌ رابِحٌ، فحُذِفَ ذِكرُ رِبحِه إيجازًا [2172] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/182). .
وجاء الإفرادُ في الأوَّلِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، والجَمعُ في الثَّاني فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ باعتبارِ اللَّفظِ والمعنى لـمَنْ؛ تنبيهًا على أنَّ المُهتَدينَ كواحدٍ، لاتِّحادِ طَريقتِهم، بخلافِ الضَّالِّينَ [2173] يُنظَر: ((تفسير الشربيني)) (1/537). .