موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (189-193)

ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ

غريب الكلمات:

لِيَسْكُنَ: أي: ليأوِيَ. وأصلُ (سكن): يدلُّ على خلافِ الاضْطرابِ والحَركةِ [2314] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/88)، ((المفردات)) للراغب (ص: 417)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 93). .
تَغَشَّاهَا: أي: جامَعَها، وأصلُ (غشي): يدلُّ على تغطيةِ شَيءٍ بِشَيءٍ [2315] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 141)، ((المفردات)) للراغب (ص: 607)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 123)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 214)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 320). .
حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا: وذلك أوَّل الحَمْلِ، لا تجِدُ المرأةُ له ألَمًا، والخَفِيفُ: بإزاءِ الثَّقيلِ [2316] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 190)، ((المفردات)) للراغب (ص: 288)، ((تفسير ابن كثير)) (3/525)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 214). .
فَمَرَّتْ بِهِ: أي: استمَرَّت به، وقعَدَت وقامَت، ولم يُثقِلْها الحَملُ [2317] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 175)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 190)، ((المفردات)) للراغب (ص: 764)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 123)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 214). .
أَثْقَلَتْ: أَيْ: صارت ذات ثِقلٍ بكِبَرِ الولَدِ في بَطنِها، وأصلُ (ثقل): ضِدُّ الخِفَّةِ [2318] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/619)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/382)، ((تفسير ابن كثير)) (3/525). .

المعنى الإجمالي:

اللهُ الذي خَلَقكم- أيُّها النَّاسُ- مِن نَفسٍ واحدةٍ: هي آدَمُ، وخلقَ مِن آدَمَ زَوجَه حَوَّاءَ- عليهما السَّلامُ؛ ليأوِيَ إليها، فلما جامَعَها حمَلَت في رَحِمِها حملًا خفيفًا عليها، وذلك في أوَّلِه، فاستمَرَّتْ بذلك الحَملِ الخفيفِ تقومُ وتقعدُ مِن دُونِ أن يُثقِلَها الحَملُ، فلمَّا كبِرَ الجنينُ في بَطنِها وصار حَمْلُها ثقيلًا، دعا آدمُ وحوَّاءُ ربَّهما لَئِن آتيتَنا ولدًا سَوِيَّ الخِلقةِ لنكوننَّ ممَّن يشكُرُ نِعمَك، فلما آتاهما ما طلبَا جعَل أولادُهما لله شُركاءَ، فتنَزَّه جل وعلا عمَّا يُشركونَ.
أيعبُدُ المُشركونَ مع اللهِ ما لا يقدِرُ على خَلْقِ شَيءٍ، وهم مخلوقونَ مَصنوعونَ، ولا يستطيعونَ نصْرَ مَن يعبُدُهم، ولا أن ينصُروا أنفُسَهم ممَّن أراد بهم سُوءًا.
وإن تدْعُوا- أيُّها المُشركونَ- هذه الأصنامَ إلى طريقِ الحَقِّ، لا يستجيبوا لكم؛ لأنَّها جماداتٌ لا تعقِلُ، ولا تسمَعُ الدُّعاءَ، وسواءٌ عليكم أدعَوْتُموهم أم صَمَتُّم عن ذلك، فإنَّها لا تتَّبِعُكم ولا تسمَعُكم، فكيف تعبدونَ مَن هذه صِفَتُه.

تفسير الآيات:

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا تقدَّمَ سؤالُ الكُفَّارِ عن السَّاعةِ ووَقتِها، وكان فيهم من لا يُؤمِنُ بالبعثِ، ذكَرَ ابتداءَ خَلقِ الإنسانِ وإنشائِه؛ تنبيهًا على أنَّ الإعادةَ مُمكِنةٌ، كما أنَّ الإنشاءَ كان مُمكِنًا، وإذا كان إبرازُه مِن العَدَمِ الصِّرْفِ إلى الوجودِ واقعًا بالفِعلِ، فإعادَتُه أحرى أن تكونَ واقعةً بالفِعلِ [2319] يُنظَر: ((تفسير أبي حيان)) (5/244). .
وأيضًا لَمَّا أمرَ تعالى بالنَّظَرِ في الملكوتِ الدَّالِّ على الوحدانيَّة، وقسَّمَ خَلْقَه إلى مؤمنٍ وكافرٍ، ونفى قُدرةَ أحدٍ مِن خَلْقِه على نَفعِ نَفسِه أو ضَرِّها؛ رجع إلى تقريرِ التَّوحيدِ [2320] يُنظَر: ((تفسير الرازي)) (15/427)، ((تفسير أبي حيان)) (5/244). ، فقال تعالى:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
أي: اللهُ هو الذي خَلَقكم- أيُّها النَّاسُ- من آدَمَ، عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ [2321] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/617)، ((تفسير ابن كثير)) (3/524)، ((تفسير السعدي)) (ص: 311)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/404). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأنعام: 98] .
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا
أي: وخلقَ اللهُ- عزَّ وجلَّ- حوَّاءَ مِن آدَمَ، عليهما السَّلامُ [2322] يُنظَر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/79)، ((تفسير ابن جرير)) (10/617)، ((تفسير ابن جزي)) (1/316)، ((تفسير ابن كثير)) (3/524). والقولُ بأنَّ حواءَ مخلوقةٌ مِن آدمَ هو قولُ جمهورِ المفسِّرين، كما نسبه إليهم ابنُ الجوزيِّ، وهو قولُ مقاتلِ بنِ سليمانَ، وابنِ جريرٍ، وابنِ تيميةَ، وابنِ جزيٍّ، وابنِ القيِّم، وابنِ كثيرٍ، والشوكانيِّ. يُنظَر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (2/79)، ((تفسير ابن جرير)) (10/617)، ((بيان تلبيس الجهمية)) لابن تيمية (3/165)، ((تفسير ابن جزي)) (1/316)، ((مفتاح دار السعادة)) (1/242)، ((تفسير ابن كثير)) (3/524)، ((تفسير الشوكاني)) (2/312). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلف قتادةُ، والضحَّاك، ومقاتلُ بنُ حيَّان. ينظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (5/1630)، ((تفسير ابن جرير)) (10/617). .
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء: 1] .
وقال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الزمر: 6] .
وعن أبي هُريرة رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((اسْتَوْصوا بالنِّساءِ، فإنَّ المرأةَ خُلقت من ضِلَع، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضلعِ أعلاه، فإن ذهبْتَ تُقيمه كسرْتَه، وإن تركتَه لم يزلْ أعوجَ، فاستوصوا بالنِّساءِ )) [2323] رواه البخاري (3331) واللفظ له، ومسلم (1468). .
لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا
أي: خلَقَ اللهُ حوَّاءَ؛ لأجْلِ أن يأوِيَ إليها آدَمُ، ليقضِيَ وطَرَه ولَذَّتَه، ويأنَسَ بها، ويطمَئِنَّ إليها [2324] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/618)، ((تفسير القرطبي)) (7/337)، ((تفسير ابن كثير)) (3/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 311)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/413-414). قال القُرطبي: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ليأنَسَ بها ويطمئنَّ، وكان هذا كلُّه في الجنَّةِ، ثم ابتدأ بحالةٍ أخرى هي في الدُّنيا بعد هبوطِهما فقال: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا كنايةً عَن الوِقاعِ). ((تفسير القرطبي)) (7/337). ويُنظَر: ((تفسير أبي حيان)) (5/245). .
كما قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21] .
فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا
أي: فلمَّا جامَعَها حَمَلت في رَحِمِها حملًا يخِفُّ عليها، وذلك في أوَّلِه [2325] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/618)، ((تفسير ابن كثير)) (3/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 311)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/414). قال الشنقيطي: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا أي: جامَعها حَمَلَتْ مِن ذلك الجماعِ حَمْلًا خَفِيفًا إنَّما وُصف الحملُ بأنَّه خفيفٌ؛ لأنَّ المرأةَ في أوَّل حبلِها، ما دام حبلُها نطفةً فعلقةً فمضغةً، يكونُ خفيفًا، كأنَّها ليس في بطنِها شيءٌ، تذهبُ وتجيءُ، ولا تجدُ ثقلًا له إلى حوالي خمسةِ أشهرٍ، فبعدَ ستةِ أشهرٍ يعظمُ الجنينُ في بطنِها، وتثقلُ، وتكونُ الحركةُ ثقيلةً). ((العذب النمير)) (4/414). .
فَمَرَّتْ بِهِ
أي: فاستمَرَّتْ بذلك الحَملِ الخَفيفِ تقومُ وتقعُدُ، مِن غَيرِ أن يُثقِلَها الحَملُ [2326] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/618)، ((تفسير القرطبي)) (7/337)، ((تفسير ابن كثير)) (3/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 311)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/414). .
فَلَمَّا أَثْقَلَتْ
أي: فلما صار حَملُها ثقيلًا؛ لِكِبَر الجَنينِ في بطنِها، ودُنُوِّ وِلادَتِها [2327] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/619)، ((تفسير ابن كثير)) (3/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 311)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/414). .
دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
أي: نادى آدَمُ وحوَّاءُ إلهَهما وربَّهما قائِلَينِ: نُقسِمُ بك- يا ربَّنا- لئِنْ رَزَقْتَنا ولدًا سَوِيَّ الخِلقةِ صحيحًا لا عيبَ فيه [2328] ممَّن اختار هذا المعنى: ابنُ كثيرٍ، والسعديُّ، والشنقيطيُّ. يُنظَر: ((تفسير ابن كثير)) (3/525)، ((تفسير السعدي)) (ص: 311)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/414). وممن رُوي عنه نحوُ هذا القولِ مِن السَّلف: ابنُ عبَّاس، وأبو البَخْتري، وأبو صالحٍ، وسعيدُ بنُ جُبيرٍ، والسُّدِّي، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (5/1633)، ((تفسير ابن جرير)) (10/620). وذهب ابنُ جريرٍ إلى القَولِ بعُمومِ معنى الصَّلاحِ، فقال: (الصَّلاحُ قد يشمَلُ معانيَ كثيرةً؛ منها الصلاحُ في استواءِ الخَلقِ، ومنها الصَّلاحُ في الدِّينِ، والصَّلاحُ في العَقلِ والتَّدبير، وإذ كان ذلك كذلك، ولا خبَرَ عن الرَّسولِ يُوجِبُ الحجَّةَ بأنَّ ذلك على بعضِ معاني الصَّلاحِ دونَ بَعضٍ، ولا فيه من العَقلِ دليلٌ، وجبَ أن يعُمَّ كما عَمَّه اللهُ، فيقال إنَّهما قالا: لَئِن آتيتَنا صالحًا بجميعِ معاني الصَّلاحِ). ((تفسير ابن جرير)) (10/622). لنكونَنَّ ممَّن يشكُرُك على نِعَمِك [2329] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/619، 622)، ((تفسير ابن كثير)) (3/525)، ((تفسير الشوكاني)) (2/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 311)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/414). .
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا
أي: فلمَّا رزَقَهما اللهُ ولدًا صالحًا كمَا سألاه، جعَلَ أهلُ الكُفرِ مِن بني آدمَ [2330] قال الشنقيطي: (جرتِ العادةُ في القرآنِ أن يُسندَ فعلَ الآباءِ إلى الأولادِ، وربما أسنَد فعلَ الأولادِ إلى الآباءِ، وأنَّ الفعلَ هنا أُسنِد لآدمَ وحواءَ (جعلا) بألفِ التثنيةِ الواقعةِ على آدمَ وحوَّاء، والمرادُ ذريتُهما التي أعطاها الله التناسلَ، يخرجُ هذا بشرًا سويًّا، ويخرجُ بسلامٍ، ومع ذلك يكفرونَ بالله- جلَّ وعلا- ويعبدونَ غيرَه، والدليلُ على أنَّه أطلَق آدمَ وحواءَ وأراد ذريتَهما مِن القرآنِ، أنَّه قال بعده: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، ثم قال: أَيُشْرِكُونَ بصيغة الجمع مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ثمَّ ذكَر علاماتِ الأصنامِ التي يُشرك بها أولادُهم كما هو واضحٌ. وهذا القولُ أرجحُ، واختارَه غيرُ واحدٍ مِن المحقِّقين؛ لدلالةِ القرآنِ عليه). ((العذب النمير)) (4/419). وقال الرازي: (التَّقديرُ: فَلَمَّا آتَاهُمَا ولدًا صالحًا سويًّا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ أي: جعَلَ أولادُهما له شركاءَ، على حذفِ المُضافِ وإقامةِ المُضافِ إليه مقامَه، وكذا فِيمَا آتَاهُمَا أي: فيما آتى أولادَهما، ونظيرُه قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] أي: واسأل أهلَ القَريةِ. فإن قيل: فعلى هذا التَّأويلِ ما الفائدةُ في التثنيةِ في قوله: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ؟! قلنا: لأنَّ وَلَده قسمانِ: ذكرٌ وأنثى، فقولُه: جَعَلَا المرادُ منه الذَّكرُ والأنثى، مرةً عبَّرَ عنهما بلفظِ التَّثنيةِ؛ لكونِهما صِنفَينِ ونوعين، ومرةً عبَّرَ عنهما بلفظِ الجَمعِ، وهو قولُه تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ). ((تفسير الرازي)) (15/428، 426). لله شُرَكاءَ فيما رزَقَهم [2331] قال السعدي: (جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا أي: جعلا لله شركاءَ في ذلك الولدِ الذي انفَرد الله بإيجاده، والنعمةِ به، وأقرَّ به أعينَ والديه، فعَبَّداه لغيرِ الله، إمَّا أن يُسمِّياه بعبدِ غيرِ الله ... أو يُشركا بالله في العبادةِ، بعدما منَّ الله عليهما بما منَّ مِن النِّعمِ التي لا يُحصيها أحدٌ مِن العبادِ، وهذا انتقالٌ مِن النَّوع إلى الجنسِ، فإنَّ أولَ الكلامِ في آدمَ وحواءَ، ثم انتقَل إلى الكلامِ في الجنسِ، ولا شكَّ أنَّ هذا موجودٌ في الذريةِ كثيرًا، فلذلك قرَّرهم الله على بطلانِ الشركِ، وأنَّهم في ذلك ظالمون أشدَّ الظُّلمِ، سواء كان الشركُ في الأقوالِ، أم في الأفعالِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 312). ، سبحانَه [2332] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/623)، ((تفسير القرطبي)) (7/339)، ((تفسير ابن كثير)) (3/528)، ((تفسير السعدي)) (ص: 312)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/417- 420). اختار المعنى المذكور الزَّمخشري، والرَّازي، والقُرطبي، وابن جُزَي، وابنُ القيم، وابنُ كثير، والقاسمي، ومحمد رشيد رضا، والسَّعدي، والشِّنقيطي. يُنظَر: ((تفسير الزمخشري)) (2/187)، ((تفسير الرازي)) (15/427، 428)، ((تفسير القرطبي)) (7/339)، ((تفسير ابن جزي)) (1/316)، ((روضة المحبين)) لابن القيم (ص: 289)، ((تفسير ابن كثير)) (3/527، 528)، ((تفسير القاسمي)) (5/235، 236)، ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/432)، ((تفسير السعدي)) (ص: 312)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/417- 420)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/46). وممَّن رُوي عنه نحوُ هذا القولِ مِن السَّلف الحسنُ. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/629). وقيل: المرادُ بهما آدَمُ وحوَّاءُ- عليهما السَّلامُ؛ كان لا يعيشُ لهما ولدٌ، فأتاهما الشَّيطانُ فقال: إنْ سَرَّكُما أن يعيشَ لكما ولدٌ فسَمِّيَاه عبدَ الحارِثِ، فأشْرَكَا في التَّسميةِ، ولم يُشرِكا في العبادةِ، واختاره ابنُ جريرٍ، والواحديُّ، والسمعانيُّ، ونسبه ابنُ الجوزي إلى الجمهور. يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/624-630)، ((الوجيز)) (ص: 426)، ((تفسير السمعاني)) (2/240)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/178). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: سمرةُ بنُ جندبٍ، وابنُ عبَّاس، وأُبيُّ بنُ كعبٍ، وقتادةُ، ومجاهدٌ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ. ينظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/623)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (3/623). قال ابن كثير: (وقد تلقَّى هذا الأثرَ عن ابنِ عبَّاسٍ جماعةٌ من أصحابِه؛ كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومن الطبقة الثانية: قتادة، والسُّدِّي، وغيرُ واحد مِن السَّلَفِ، وجماعةٌ من الخَلَف، ومِن المفسِّرين من المتأخرينِ جماعاتٌ لا يُحصَوْنَ كثرةً، وكأنَّه- والله أعلم- أصلُه مأخوذٌ مِن أهلِ الكتابِ؛ فإنَّ ابنَ عبَّاسٍ رواه عن أُبيِّ بنِ كعبٍ، كما رواه ابنُ أبي حاتم.. وهذه الآثارُ يظهَرُ عليها- واللهُ أعلم- أنَّها من آثارِ أهلِ الكِتابِ، وقد صحَّ الحديثُ عن رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((إذا حدَّثَكم أهلُ الكتابِ، فلا تُصَدِّقوهم ولا تُكَذِّبوهم)). ((تفسير ابن كثير)) (3/528). وقال الرَّازي: (واعلَمْ أنَّ هذا التَّأويلَ فاسِدٌ، ويدلُّ عليه وجوهٌ: الأوَّل: أنَّه تعالى قال: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وذلك يدلُّ على أنَّ الذين أتَوْا بهذا الشِّرْكِ جماعةٌ. الثاني: أنَّه تعالى قال بعده: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف: 191] ، وهذا يدلُّ على أنَّ المَقصودَ مِن هذه الآيةِ الرَّدُّ على مَن جعَلَ الأصنامَ شُرَكاءَ لله تعالى، وما جرى لإبليسَ اللَّعينِ في هذه الآيةِ ذِكرٌ. الثالث: لو كان المرادُ إبليسَ لقال: أيُشرِكونَ مَن لا يخلُقُ شيئًا، ولم يقُل: مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا؛ لأنَّ العاقِلَ إنما يُذكَرُ بِصيغةِ «مَن» لا بصيغةِ «ما»... فثبت بهذه الوجوهِ أنَّ هذا القَولَ فاسِدٌ، ويجب على العاقِلِ المُسلِمِ ألَّا يلتَفِتَ إليه). ((تفسير الرازي)) (15/427). ويُنظَر: ((تفسير ابن جُزي)) (1/316). .
فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
أي: فتنزَّه اللهُ وتعاظَمَ عن شِركِ الذين يُشرِكونَ باللهِ، بأقوالِهم أو أفعالِهم [2333] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/631)، ((تفسير أبي السعود)) (3/304)، ((تفسير السعدي)) (ص: 312). !!
كما قال تعالى: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] .
وقال سبحانه: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 43] .
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا
أي: أيعبُدُ المُشركونَ مع اللهِ ما لا يقدِرُ على خلْقِ شَيءٍ [2334] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/632)، ((تفسير القرطبي)) (7/341)، ((تفسير ابن جزي)) (1/316)، ((تفسير ابن كثير)) (3/529)، ((تفسير الشوكاني)) (2/313). ؟!
كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج: 73] .
وَهُمْ يُخْلَقُونَ
أي: وهؤلاءِ الذينَ يعبدونَهم مع اللهِ- مِن الأصنامِ وغَيرِها- مخلوقونَ مَصنوعونَ [2335] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/633)، ((تفسير ابن عطية)) (2/488)، ((تفسير القرطبي)) (7/341)، ((تفسير ابن كثير)) (3/529)، ((تفسير الشوكاني)) (2/313). .
كما قال الله تعالى حاكيًا قولَ إبراهيمَ الخليلِ- عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95-96] .
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)
وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا
أي: ولا يستطيعُ هؤلاءِ الذين يعبدونَهم مع اللهِ، أن ينصرُوا عابِدِيهم [2336] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/633)، ((تفسير ابن جزي)) (1/316)، ((تفسير ابن كثير)) (3/529)، ((تفسير الشوكاني)) (2/313)، ((تفسير السعدي)) (ص: 312)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/421). .
كما قال تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ [الشعراء: 92-93] .
وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ
أي: ولا هؤلاءِ المعبودونَ مع اللهِ، يستطيعونَ أن ينصُروا أنفُسَهم ممَّن أرادَهم بسُوءٍ، فكيف يكونونَ آلهةً، وهم لا يملِكونَ لأنفُسِهم جلبَ نفْعٍ، ولا دفْعَ ضُرٍّ؟! ومَن عجَز عن نَصرِ نَفسِه فهو عن نَصرِ غَيرِه أعجَزُ [2337] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/633)، ((تفسير ابن جزي)) (1/316)، ((تفسير ابن كثير)) (3/529)، ((تفسير الشوكاني)) (2/313)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/421). .
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا أثبتَ اللهُ تعالى بالآيةِ المتقَدِّمةِ أنَّه لا قُدرةَ لهذه الأصنامِ على أمْرٍ مِن الأمورِ؛ بيَّنَ بهذه الآيةِ أنَّه لا عِلمَ لها بشيءٍ مِن الأشياءِ [2338] يُنظَر: ((تفسير الرازي)) (15/431). ، فقال:
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ
أي: وإن تَدْعُوا- أيُّها المُشركون- هذه الأصنامَ إلى طَريقِ الحقِّ، لا يستجيبوا لكم؛ لأنَّها جماداتٌ لا تعقِلُ، ولا تسمَعُ دعاءَ مَن دعاها [2339] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/634)، ((تفسير ابن كثير)) (3/529)، ((تفسير أبي السعود)) (3/305)، ((تفسير السعدي)) (ص: 312)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/422). .
كما قال تعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا [الأعراف: 198] .
سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ
أي: سواءٌ عليكم- أيُّها المُشركونَ- أدعوتُم هذه الأصنامَ، أم أنتم ساكتونَ عن دُعائِها؛ فإنَّها لا تتَّبِعُكم ولا تسمَعُكم، فكيف تعبدونَ مَن هذه صِفتُه وحالُه [2340] يُنظَر: ((تفسير ابن جرير)) (10/634)، ((تفسير أبي حيان)) (5/248)، ((تفسير أبي السعود)) (3/305)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/422). ؟!

الفوائد التربوية:

قولُه تعالى: تَغَشَّاهَا أي: أتاها، كغَشِيَها، ويزيدُ ما تُعطيه صيغةُ التَّفعُّل مِن جُهدٍ، وهو كنايةٌ نزيهةٌ عن أداءِ وظيفةِ الزَّوجيَّة، تشيرُ إلى أنَّ مُقتضى الفِطرةِ وأدبَ الشَّريعةِ فيها، السَّترُ [2341] يُنظَر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/432). .
إيتاءُ الصَّالِحِ مِن الوَلدِ نِعمةٌ مِن اللهِ على والِدَيه، فينبغي الشُّكرُ عليها؛ إذ هي مِن أجَلِّ النِّعَم؛ يُبَيِّنُ ذلك قَولُ اللهِ تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فأقسَمَا على أنَّهما يكونانِ مِن الشَّاكرينَ إنْ آتاهما صالحًا [2342] يُنظَر: ((تفسير أبي حيان)) (5/246). .

الفوائد العلمية واللطائف:

عِلَّةُ سُكونِ الرَّجُلِ إلى امرأتِه كَونُها مِن جِنسِه وجوهَرِه؛ قال اللهُ تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فالجِنسُ إلى الجِنسِ أميَلُ، وبه آنَسُ [2343] يُنظَر: ((تفسير أبي حيان)) (5/245)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (4/247). .
قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ احتُجَّ به على أنَّ العَبدَ غَيرُ مُوجِدٍ ولا خالقٍ لأفعالِه، خلافًا للمعتزلةِ القائلينَ بخلقِ الإنسانِ أفعالَ نفسِه؛ وذلك لأنَّ الله تعالى طعنَ في إلهيَّةِ الأجسامِ؛ بسببِ أنَّها لا تخلقُ شَيئًا، وهذا يقتضي أنَّ كلَّ مَن كان خالقًا كان إلهًا، فلو كان العبدُ خالقًا لأفعالِ نَفسِه، كان إلهًا، ولَمَّا كان ذلك باطلًا، عَلِمْنا أنَّ العبدَ غَيرُ خالقٍ لأفعالِ نَفسِه [2344] يُنظَر: ((تفسير الرازي)) (15/431)، ((التوضيح عن توحيد الخلاق)) لسليمان آل الشيخ (ص: 68). .
قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أشار إلى الأصنامِ في يُخْلَقُونَ بضميرِ العُقَلاءِ مِن قَبيلِ الحكايةِ؛ لاعتقادِ المُشركينَ فيها ما يعتَقِدونَه في العُقَلاءِ، أو لأنَّهم مُختَلِطونَ بمَن عُبِدَ مِن العقلاءِ؛ كالمَسيحِ وعُزيرٍ [2345] يُنظَر: ((تفسير ابن عادل)) (9/423)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/216). .
قَولُ اللهِ تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ لَمَّا كان المصنوعُ لا يكونُ صانعًا، اكتفى بالبناءِ للمَفعولِ، فقال: يُخْلَقُونَ [2346] يُنظَر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/192). ، والتعبيرُ بالفِعلِ المُضارعِ يُخْلَقُونَ؛ لِتصويرِ حُدوثِ خَلْقِهم، وكونِ مِثلِه ممَّا يتجَدَّدُ فيهم وفي أمثالِهم مِن المُشركين، وهذا أسوأُ فضائِحِهم في الشِّركِ [2347] يُنظَر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/438). .
قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ لعلَّه عبَّرَ بصيغةِ العاقِلِ عن الأصنامِ؛ إشارةً إلى أنَّهم لو كانوا يَعقِلونَ، وكانوا بهذه الصِّفاتِ الخَسيسةِ؛ ما أهَّلُوهم لِأنْ يكونوا أحبابَهم، فضلًا عن أن يجعَلوهم أربابَهم [2348] يُنظَر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/192). .
قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ الظَّاهِرُ أنَّ تَخصيصَ النَّصرِ مِن بين الأعمالِ التي يتخيَّلونَ أن تقومَ بها الأصنامُ؛ مقصودٌ منه تنبيهُ المُشركينَ على انتفاءِ مَقدرةِ الأصنامِ على نَفعِهم؛ إذ كان النَّصرُ أشَدَّ مرغوبٍ لهم، لأنَّ العَربَ كانوا أهلَ غاراتٍ وقتالٍ وَتِراتٍ، فالانتصارُ مِن أهَمِّ الأمورِ لَدَيهم، وأنَّ اللهَ أعلَمَ المسلمينَ بذلك؛ تعريضًا بالبشارةِ بأنَّ المُشركينَ سيُغلبونَ [2349] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/217). .
قَولُ اللهِ تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ جُعِلَ الأمرانِ سواءً على المُخاطَبينَ، ولم يُجعَلا سواءً على المدْعُوِّينَ: فلم يقُل (سواءٌ عليهم)، وإن كان ذلك أيضًا سواءً عليهم؛ لأنَّ المقصودَ مِن الكلامِ هو تأيِيسُ المُخاطبينَ مِن استجابةِ المَدعُوِّينَ إلى ما يَدعُونَهم إليه، لا الإخبارُ، وإن كان المعْنَيانِ مُتَلازِمَينِ [2350] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/219). .

بلاغة الآيات:

قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ
قوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ... جملةٌ مُستأنفةٌ استئنافًا ابتدائيًّا، عاد بها الكلامُ إلى تقريرِ دليلِ التَّوحيدِ، وإبطالِ الشِّركِ [2351] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/210). .
وإيقاعُ الموصولِ خبَرًا في قَولِه: هُوَ الَّذِي لِتَفخيمِ شأنِ المبتدأِ، أي: هو ذلك العظيمُ الشَّأنِ الذي خلقَكم جميعًا وحدَه مِن غَيرِ أن يكونَ لِغيرِه مدخلٌ في ذلك بوجهٍ مِن الوجوهِ [2352] يُنظَر: ((تفسير أبي السعود)) (3/303). .
قولُه: لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا تعليلٌ لِما أفادَتْه (مِن) التبعيضيَّة، أي: جعَلَ مِن نوعِ الرَّجُلِ زَوجَه ليألَفَها، ولا يجفُوَ قُربَها، ففي ذلك منَّةُ الإيناسِ بها، وكثرةُ ممارَستِها؛ لينساقَ إلى غِشْيانِها [2353] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/211). .
قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاهَا التغشِّي: كنايةٌ عن الجِماعِ، وصِيغَت هذه الكنايةُ بالفِعلِ (تغشَّى) الدَّالِّ على التكَلُّفِ- لأنَّه بزِنةِ تفعَّلَ- لإفادةِ قُوَّةِ التمَكُّنِ مِن ذلك؛ لأنَّ التكَلُّفَ يقتضي الرَّغبةَ [2354] يُنظَر: ((تفسير الزمخشري)) (2/186)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/212). .
وقد سلَكَ في وصفِ تَكوينِ النَّسلِ مَسلَكَ الإطنابِ؛ لِما فيه من التَّذكيرِ بتلك الأطوارِ الدَّالةِ على دقيقِ حِكمةِ اللهِ وقُدرتِه، وبِلُطفِه بالإنسانِ [2355] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/212). .
وإجراءُ صِفةِ رَبَّهُمَا المؤذِنةِ بالرِّفقِ والإيجادِ، في قَولِه: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا؛ للإشارةِ إلى استحضارِ الأبوَينِ هذا الوَصفَ عند دُعائِهما اللهَ، أي: يذكُرُ أنَّه باللَّفظِ أو ما يُفيدُ مَفادَه [2356] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/213).
قوله: جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا مرادٌ منه مع الإخبارِ التَّعجيبُ مِن سَفَهِ آرائِهم؛ إذ لا يَجعَلُ رشيدُ الرَّأيِ شريكًا لأحدٍ في مُلكِه وصُنعِه بدونِ حَقٍّ؛ فلذلك عُرِّفَ المشروكُ فيه بالموصوليَّةِ، فقيل فِيمَا آتَاهُمَا دونَ الإضمارِ، بأن يقال: (جعَلا له شُركاءَ فيه)؛ لِما تؤذِنُ به الصِّلةُ مِن فَسادِ ذلك الجَعلِ، وظُلْمِ جاعِلِه، وعدمِ استحقاقِ المَجعولِ شَريكًا لِما جُعِلَ له، وكُفرانِ نِعمةِ ذلك الجاعِلِ؛ إذ شكَرَ لِمَن لم يُعطِه، وكفَرَ مَن أعطاه، وإخلافِ الوَعدِ المؤَكَّدِ. وجعْلُ الموصولِ (ما) دون (مَن) باعتبارِ أنَّه عطيَّةٌ، أو لأنَّ حالةَ الطُّفولةِ أشبَهُ بغَيرِ العاقِلِ [2357] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/213-214). .
قوله: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ استئنافٌ مَسوقٌ لتوبيخِ المُشركينَ، واستقباحِ إشراكِهم على الإطلاقِ، وإبطالِه بالكُليَّةِ، والاستفهامُ مُستعمَلٌ في التَّعجيبِ والإنكارِ، وصيغةُ المُضارِعِ في (يُشْرِكُونَ) دالَّةٌ على تجدُّدِ هذا الإشراكِ منهم. ونفيُ المضارعِ في قَولِه: مَا لَا يَخْلُقُ للدَّلالةِ على تجدُّدِ نفيِ الخالقيَّةِ عنهم [2358] يُنظَر: ((تفسير أبي السعود)) (3/305)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/215). .
و (ما) في قَولِه تعالى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ لِما لا يَعقِلُ، ولَفظُها مفردٌ، وهو مِن صِيَغِ العُمومِ، فأُفرِدَ الضَّميرُ في يَخْلُقُ مراعاةً لِلَّفظِ، ثمَّ جُمِعَ في يُخْلَقُونَ مُراعاةً للمَعنى [2359] يُنظَر: ((تفسير المنار)) لمحمد رشيد رضا (9/438). .
وتقديمُ المَفعولِ في وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ للاهتمامِ بنَفيِ هذا النَّصرِ عنهم؛ لأنَّه أدَلُّ على عجزِ تلك الآلهةِ؛ لأنَّ مَن يُقصِّرُ في نَصرِ غَيرِه لا يُقصِّرُ في نَصرِ نَفسِه لو قَدَر [2360] يُنظَر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/217). .
قولُه: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ
الخطابُ للمُشركينَ، بطريقِ الالتفاتِ المُنبِئِ عَن مَزيدِ الاعتناءِ بأمْرِ التَّوبيخِ والتَّبكيتِ [2361] يُنظَر: ((تفسير أبي السعود)) (3/305). .
قوله: سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ استئنافٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قَبلَه، ومُبَيِّنٌ لكيفيَّةِ عدمِ الاتِّباعِ؛ فهو مؤكِّدُ لجُملةِ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ فلذلك فُصِلَ [2362] يُنظَر: ((تفسير أبي السعود)) (3/305)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/218). .
وعَطْفُ الجُملةِ الاسميَّةِ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ على الفِعليَّةِ أَدَعَوْتُمُوهُمْ لفائدةٍ وحِكمةٍ، وهي أنَّ صيغةَ الفِعلِ مُشعِرةٌ بالتجَدُّدِ والحُدوثِ حالًا بعد حالٍ، وصيغةُ الاسمِ مُشعِرةٌ بالدَّوامِ والثَّباتِ والاستمرارِ، فهؤلاءِ المُشركونَ كانوا إذا وقَعوا في مُهِمٍّ وفي معضلةٍ تضرَّعوا إلى تلك الأصنامِ، وإذا لم تَحدُثْ تلك الواقعةُ بَقُوا ساكِتينَ صامِتينَ، فقِيل لهم: لا فرقَ بينَ إحداثِكم دعاءَهم، وبينَ أن تستمرُّوا على صَمتِكم وسُكوتِكم [2363] يُنظَر: ((تفسير الرازي)) (15/431). .