موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (73-76)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ

غريب الكلمات:

يَسْلُبْهُمُ: أي: يختَطِفْ منهم، والسَّلبُ: نَزعُ الشَّيءِ مِن الغَيرِ على القَهْرِ، وأصلُ (سلب): يدُلُّ على أخذِ الشَّيءِ بخِفَّةٍ واختِطافٍ [1105] ينظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 419)، ((تفسير ابن جزي)) (2/46)، ((مقاييس اللغة)) (3/92). .
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: أي: ما أجلُّوا اللهَ حَقَّ إجلالِه، ولا عَظَّموه حقَّ تَعظيمِه، ولا عَرَفوه حقَّ مَعرِفتِه. والقَدْرُ: العَظَمةُ. يُقالُ لكُلِّ مَن عَرَف شَيئًا: هو يَقدُرُ قَدْرَه. وإذا لم يَعرِفْه بصِفاتِه: لا يَقدُرُ قَدْرَه، وحَقَّ قَدْرِهِ مِن إضافةِ الصِّفةِ إلى الموصوفِ، أي: ما قدَروا اللهَ قَدْرَه الحَقَّ، وأصلُ (قدر): يدُلُّ على مَبلغِ الشَّيءِ وكُنْهِه [1106] ينظر: ((تفسير الطبري)) (11/521)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/62)، ((البسيط)) للواحدي (8/274)، ((تفسير البغوي)) (5/400)، ((تفسير الألوسي)) (12/279)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/342) (24/61). .
يَصْطَفِي: أي: يَختارُ ويُخْلِصُ، والاصطِفاءُ: تَناوُلُ صَفْوِ الشَّيءِ، وتخيُّرُ الأصفَى، وأصلُ (صفو): يدُلُّ على خُلوصٍ مِن كُلِّ شَوبٍ [1107] ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/292)، ((التفسير البسيط)) للواحدي (3/335)، ((المفردات)) للراغب (ص: 488)، ((تفسير القرطبي)) (2/133)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/97). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى: يا أيُّها النَّاسُ، ضُرِبَ مَثَلٌ فاستَمِعوا له وتدَبَّروه: إنَّ الأصنامَ والأندادَ التي تَعبُدونَها مِن دُونِ اللهِ لن تَقدِرَ مُجتَمِعةً على خَلقِ ذُبابةٍ واحدةٍ، ولا تَقدِرُ أن تَستخلِصَ ما يَسلُبُه الذُّبابُ ممَّا عليها مِن طِيبٍ أو طَعامٍ ونحوِه، ضَعُفَ الطَّالِبُ -الذي هو المعبودُ مِن دُونِ اللهِ- أن يَستَنقِذَ ما أخَذَه الذُّبابُ منه، وضَعُفَ المطلوبُ الذي هو الذُّبابُ، وضَعُفَ العابِدُ لغير الله، وضعُف معبودُه، فكيف تُتَّخَذُ هذه الأصنامُ والأندادُ آلِهةً، وهي بهذا العَجزِ التامِّ والهوانِ؟!
هؤلاءِ المُشرِكونَ لم يُعَظِّموا اللهَ حَقَّ تَعظيمِه؛ إذ جعَلوا له شُرَكاءَ، وهو القَويُّ العزيزُ.
اللهُ سُبحانَه وتعالى يختارُ مِنَ المَلائِكةِ رُسُلًا إلى أنبيائِه، ويَختارُ مِنَ النَّاسِ رُسُلًا لتبليغِ رِسالاتِه إلى الخَلقِ، إنَّ اللهَ سَميعٌ لكُلِّ شَيءٍ، ومن ذلك سماعُه لأقوالِ عِبادِه، بصيرٌ بجَميعِ الأشياءِ، وبمَن يختارُه للرِّسالةِ مِن خَلْقِه، وهو سُبحانَه يَعلَمُ ما بيْن أيدِي الرُّسُلِ مِنَ الملائكةِ والنَّاسِ، وما خَلْفَهم، وإلى الله وَحْدَه تُرجَعُ الأمورُ.

تفسير الآيات:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا ذكَرَ اللهُ تعالى أنَّ الكُفَّارَ يَعبُدونَ ما لا دَليلَ على عبادتِه لا مِن سَمعٍ ولا مِن عَقلٍ، ويَترُكون عبادةَ مَن خلَقَهم؛ ذكَرَ ما عليه مَعبوداتُهم مِن انتِفاءِ القُدرةِ على خَلقِ أقَلِّ الأشياءِ، بل على رَدِّ ما أخَذَه ذلك الأقَلُّ منه، وفي ذلك تجهيلٌ عَظيمٌ لهم؛ حيثُ عَبَدوا مَن هذه صِفَتُه [1108] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/537). .
وأيضًا فإنَّه أُعقِبَت تضاعيفُ الحُجَج والمواعِظِ والإنذاراتِ التي اشتَمَلت عليها السُّورةُ مِمَّا فيه مَقنَعٌ للعِلمِ بأنَّ إلهَ النَّاسِ واحِدٌ، وأنَّ ما يُعبَدُ من دونِه باطِلٌ- أُعقِبَت تلك كُلُّها بمَثَلٍ جامعٍ لوَصفِ حالِ تلك المعبوداتِ وعابديها [1109] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/337). .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.
أي: يا أيُّها النَّاسُ [1110] قال ابنُ عطية: (الخطابُ بقَولِه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قيل: هو خِطابٌ يعُمُّ العالَم، وقيل: هو خِطابٌ للمُؤمِنينَ حينئذٍ، الذين أراد اللهُ تعالى أن يبَيِّنَ عِندَهم خطأَ الكافرينَ، ولا شَكَّ أنَّ المُخاطَبَ هم، ولكنَّه خِطابٌ يعُمُّ جَميعَ النَّاسِ). ((تفسير ابن عطية)) (4/133). وقال ابن عاشور: (المرادُ بالنَّاسِ هنا المُشرِكونَ، على ما هو المُصطلَحُ الغالِبُ في القرآنِ، ويجوزُ أن يكونَ المرادُ بالنَّاسِ جميعَ النَّاسِ مِن مُسلِمينَ ومُشرِكينَ). ((تفسير ابن عاشور)) (17/338). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 546). ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا للآلِهةِ التي يَعبُدُها المُشرِكونَ، فأنصِتُوا لهذا المَثَلِ، وتفهَّموا ما احتَوى عليه [1111] يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/46)، ((تفسير ابن كثير)) (5/453)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546). وممن قال بهذا المعنى في الجملة: ابنُ جُزَي، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: المصادر السابقة. ويُنظر أيضًا: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/466)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/139). وقيل: المرادُ: أنَّ المشركين شَبَّهوا الأصنامَ بالله، فعبَدوها معه، وأَشرَكوها في عِبادتِه. وممَّن قال بذلك: ابنُ جريرٍ، والسمعانيُّ، والبغويُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/635)، ((تفسير السمعاني)) (3/455)، ((تفسير البغوي)) (3/351). قال ابنُ عطية: (واختَلَف المُتأوِّلون في فاعل ضُرِبَ، مَن هو؟ فقالت فِرقةٌ: المعنى: ضَرَبَ أهلُ الكفرِ مَثَلًا للهِ أصنامَهم وأوثانَهم، فاستَمِعوا أنتم أيُّها النَّاسُ لأمْرِ هذه الآلهةِ. وقالت فِرقةٌ: ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لهذه الأصنام، وهو كذا وكذا). ((تفسير ابن عطية)) (4/133). .
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.
أي: إنَّ الذين تَعبُدونَ مِن دُونِ اللهِ مِنَ الأصنامِ وغَيرِها، لن يَقدِروا على خَلقِ ذُبابةٍ واحِدةٍ، ولو تَعاونوا جميعًا على ذلك [1112] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/635)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/466، 467)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/139)، ((تفسير ابن كثير)) (5/453، 454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546). .
كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20] .
وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((قال اللهُ عزَّ وجلَّ: ومَن أظلَمُ مِمَّن ذهَبَ يَخلُقُ كخَلْقي، فلْيَخلُقوا ذَرَّةً، أو لِيَخلُقوا حَبَّةً أو شَعيرةً!)) [1113] رواه البخاري (7559) واللفظ له، ومسلم (2111). .
وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.
أي: وإنْ يَختَطِفِ الذُّبابُ ويَختَلِسْ مِنَ الأصنامِ شَيئًا ممَّا عليها مِن طِيبٍ أو مما يُجعَلُ لها مِن طَعامٍ ونحوِه، لا تَستطِعِ الأصنامُ أن تَرُدَّ ما استَلَبَه الذُّبابُ، مع ضَعفِه وحَقارتِه [1114] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/635)، ((تفسير ابن الجوزي)) (3/250)، ((تفسير القرطبي)) (12/97)، ((تفسير ابن كثير)) (5/454). قال ابنُ الجوزي: (قال ابنُ عبَّاسٍ: كانوا يَطلُونَ أصنامَهم بالزَّعفرانِ فيَجِفُّ، فيأتي الذبابُ فيَختَلِسُه. وقال ابنُ جُريج: كانوا إذا طَيَّبوا أصنامَهم عَجَنوا طِيبَهم بشيءٍ مِن الحلواءِ، كالعَسَلِ ونحوه، فيقَعُ عليها الذُّبابُ فيَسلُبُها إيَّاه، فلا تَستطيعُ الآلهةُ ولا مَن عبَدَها أن يمنَعَه ذلك!). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/250). !
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
أي: ضعُفَت الآلِهةُ المعبودةُ مِن دُونِ اللهِ -كالأصنامِ- وعَجَزت عن استِنقاذِ ما يَسلُبُه الذُّبابُ منها، وضعُفَ الذُّبابُ، وضَعُفَ العابِدُ لغير الله، وضعُف معبودُه، فكيف يَعبُدُ المُشرِكونَ ما لا قُدرةَ له على خَلقِ ذُبابٍ، ولا على رَدِّ ما استَلَبَه منه [1115] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/636)، ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (1/139، 140)، ((تفسير ابن كثير)) (5/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546). وممَّن قال بأنَّ الطَّالِبَ هو الأصنامُ، والمطلوبَ هو الذُّبابُ: مقاتلُ بن سليمان، ويحيى بن سلام، وابن جرير، والنسفي، وابن جُزَي، وابن كثير، والنيسابوري، والشوكاني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/139)، ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/389)، ((تفسير ابن جرير)) (16/636)، ((تفسير النسفي)) (2/455)، ((تفسير ابن جزي)) (2/46)، ((تفسير ابن كثير)) (5/454)، ((تفسير النيسابوري)) (5/101)، ((تفسير الشوكاني)) (3/555)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546). قال الشوكاني: (فالصَّنَمُ كالطَّالِبِ؛ من حيثُ إنَّه يَطلُبُ خَلْقَ الذُّبابِ، أو يَطلُبُ استِنقاذَ ما سَلَبَه منه، والمطلوبُ الذُّبابُ). ((تفسير الشوكاني)) (3/555). وقيل: الطالبُ: هو الدَّاعي المُشرِكُ، والمطلوبُ: الأصنامُ المدعُوَّةُ. أي: ضَعُفتُم أنتم في دعوتِهم آلهةً، وضَعُفَت الأصنامُ عن صِفاتِ الإله. وممَّن قال بذلك: ابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/342). قال ابنُ الجوزيِّ: (فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدُها: أنَّ الطَّالِبَ: الصَّنَمُ، والمطلوبَ: الذُّبابُ. رواه عطاءٌ عن ابنِ عبَّاسٍ. والثاني: الطالِبُ: الذُّبابُ يَطلُبُ ما يَسلُبُه مِنَ الطِّيبِ الذي على الصَّنمِ، والمطلوبُ: الصَّنَمُ يطلُبُ الذُّبابُ منه سَلْبَ ما عليه. رُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ أيضًا. والثالثُ: الطَّالِبُ: عابِدُ الصَّنمِ يَطلُبُ التقَرُّبَ بعبادتِه، والمطلوبُ: الصَّنَمُ. هذا معنى قَولِ الضَّحَّاكِ، والسُّدِّي). ((تفسير ابن الجوزي)) (3/250). وممن اختار الجَمْعَ: ابنُ القيم، والبِقاعي؛ فقال ابن القيم: (الصَّحيحُ أنَّ اللَّفظَ يتناوَلُ الجَميعَ، فضَعُفَ العابِدُ والمعبودُ، والمُستَلِبُ والمُستَلَبُ؛ فمَن جعَلَ هذا إلهًا مع القويِّ العزيزِ فما قَدَره حَقَّ قَدْرِه، ولا عَرَفَه حَقَّ مَعرفتِه، ولا عَظَّمَه حَقَّ تَعظيمِه!). ((إعلام الموقعين)) (1/139، 140). وقال البِقاعي: (ضَعُفَ الطَّالِبُ أي: للاستِنقاذِ مِن الذُّبابِ، وهو الأصنامُ وعابِدوها وَالْمَطْلُوبُ أي: الذُّبابُ والأصنامُ اجتَمَعوا في الضَّعفِ، وإن كان الأصنامُ أضعَفَ بدَرَجاتٍ!). ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/96). ؟!
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74).
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.
أي: ما عظَّمَ المُشرِكونَ اللهَ حَقَّ تَعظيمِه، ولا عَرَفوا صفاتِ كَمالِه حينَ جَعَلوا الأصنامَ الضَّعيفةَ شُرَكاءَ له، فلم يُخلِصوا له العِبادةَ [1116] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/637)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 741)، ((تفسير القرطبي)) (12/98)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1363، 1364)، ((تفسير ابن كثير)) (5/454). !
كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67] .
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
أي: إنَّ اللهَ لَقَويٌّ قادِرٌ على خَلْقِ ما يَشاءُ، مَنيعٌ في مُلكِه، غالِبٌ وقاهِرٌ لكُلِّ شَيءٍ، لا يَقدِرُ شَيءٌ دُونَه أن يَسلُبَه مِن مُلكِه شَيئًا، وليس كآلهَتِكم -أيُّها المُشرِكونَ- التي لا تَقدِرُ على خَلقِ ذبابٍ، ولا على الامتناعِ منه إذا استَلَبها شيئًا، فكيف تَدْعُونها مِن دونِ الله [1117] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/637)، ((تفسير الزمخشري)) (3/171)، ((تفسير ابن كثير)) (5/454). ؟!
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبلَها:
لَمَّا قَدَّمَ اللهُ سُبحانَه ما يتعَلَّقُ بالإلهيَّاتِ، ذكَرَ هاهنا ما يتعَلَّقُ بالنبُوَّاتِ [1118] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/253). .
وأيضًا لَمَّا نَصَب اللهُ تعالى الدَّليلَ على أنَّ ما دعاه المُشرِكونَ لا يَصلُحُ أن يكونَ شَيءٌ منه إلهًا، بعد أن أخبَرَ أنَّه لم يُنَزِّلْ إليهم حُجَّةً بعِبادتِهم لهم، وخَتَم بما له سُبحانَه مِن وَصفَيِ القُوَّةِ والعِزَّةِ، بعد أن أثبَتَ أنَّ له المُلكَ كُلَّه؛ تلا ذلك بدَليلِه الذي تَقتَضيه سَعةُ المُلكِ وقُوَّةُ السُّلطانِ مِن إنزالِ الحُجَجِ على ألسِنَةِ الرُّسُلِ بأوامِرِه ونواهيه، المُوجِبِ لإخلاصِ العبادةِ له، المُقتَضي لِتَعذيبِ تارِكِها؛ فقال تعالى [1119] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/97). :
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.
أي: اللهُ يَختارُ مِنَ المَلائِكةِ رُسُلًا، كالذينَ يُرسِلُهم إلى أنبيائِه ومَن شاء مِن عِبادِه، ويَختارُ مِن النَّاسِ أيضًا رُسُلًا يُبَلِّغونهم وَحْيَه [1120] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/638)، ((منهاج السنة)) لابن تيمية (5/437)، ((تفسير ابن كثير)) (5/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (5/300). .
كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] .
وقال عزَّ وجلَّ: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] .
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
أي: إنَّ اللهَ سَميعٌ لكُلِّ شَيءٍ، بصيرٌ بكلِّ شَيءٍ، ومِن ذلك سَماعُه لأقوالِ عِبادِه، ورُؤيتُه لهم، فهو يَعلَمُ مَن يَستَحِقُّ مِن خَلْقِه اصطِفاءَه لرِسالتِه؛ فاختيارُه لهم عن عِلمٍ منه بأنَّهم أهلٌ لهذه الرِّسالةِ [1121] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/638)، ((تفسير القرطبي)) (12/98)، ((تفسير ابن كثير)) (5/454)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546). .
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76).
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.
أي: يَعلَمُ اللهُ ما بين أيدِي الرُّسُلِ مِنَ الملائكةِ والنَّاسِ، وما خَلْفَهم [1122] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/139)، ((تفسير ابن جرير)) (16/638)، ((تفسير ابن كثير)) (5/454، 455)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/98). قيل المراد: يعلَمُ ما كان قبْلَ خَلقِ الملائكةِ والأنبياءِ، ويعلَمُ ما يكونُ مِن بَعدِهم. قاله مقاتل بن سليمان، وابن جرير، والثعلبي، وابن عطية. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (3/139)، ((تفسير ابن جرير)) (16/638)، ((تفسير الثعلبي)) (7/35)، ((تفسير ابن عطية)) (4/134). وقيل: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِن أمرِ الآخرةِ. وَمَا خَلْفَهُمْ مِن أمرِ الدُّنيا. وممن اختاره: يحيى بنُ سلام، والسمرقندي. يُنظر: ((تفسير يحيى بن سلام)) (1/390)، ((تفسير السمرقندي)) (2/471). وقيل: يعلَمُ ما قَدَّموا مِن الأعمالِ، وما أخَّروا منها فترَكوه ولم يَعمَلوه. وممن ذهب إلى ذلك: السمعانيُّ، والقرطبي، الشوكاني، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/457)، ((تفسير القرطبي)) (12/98)، ((تفسير الشوكاني)) (3/556)، ((تفسير القاسمي)) (7/276). .
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
أي: وإلى اللهِ وَحْدَه لا إلى غَيرِه تُرجَعُ جَميعُ أمورِ عِبادِه، فيَحكُمُ بيْنهم يومَ القيامةِ، ويُجازيهم على ذلك [1123] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/638)، ((تفسير أبي السعود)) (6/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 546)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/345). قال السعدي: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي: هو يُرسِلُ الرُّسُلَ يَدْعونَ النَّاسَ إلى اللهِ؛ فمنهم المجيبُ، ومنهم الرادُّ لِدَعوتِهم، ومنهم العامِلُ، ومنهم النَّاكِلُ؛ فهذه وَظيفةُ الرُّسُلِ، وأمَّا الجزاءُ على تلك الأعمالِ فمَصيرُه إلى اللهِ تعالى، فلا تَعدَمُ منه فَضلًا أو عَدلًا). ((تفسير السعدي)) (ص: 546). .
كما قال تعالى في خاتمةِ سورةِ هُودٍ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 123] .

الفوائد التربوية:

1- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ، أي: تدَبَّروه حَقَّ تَدَبُّره؛ لأنَّ نَفْسَ السَّماعِ لا يَنفَعُ، وإنَّما ينفَعُ التدَبُّرُ [1124] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/251). .
2- قد ذكَرَ اللهُ سُبحانَه وتعالى هذه الكَلِمةَ: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في ثلاثِة مواضِعَ؛ لِيُثبِتَ عَظَمتَه في نَفْسِه، وما يَستَحِقُّه مِنَ الصِّفاتِ، ولِيُثبِتَ وَحدانيَّتَه وأنَّه لا يستَحِقُّ العبادةَ إلَّا هو، ولِيُثبِتَ ما أنزَلَه على رُسُلِه، فقال هنا في سورةِ الحجِّ: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، وقال في الزُّمَر: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر: 67] ، وقال في الأنعامِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] . وفي المواضِعِ الثَّلاثةِ ذَمَّ الذين ما قَدَروه حَقَّ قَدْرِه مِنَ الكُفَّارِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّه يجِبُ على المؤمِنِ أن يَقدُرَ اللهَ حَقَّ قَدرِه، كما يجِبُ عليه أن يتَّقِيَه حَقَّ تُقاتِه، وأن يجاهِدَ فيه حَقَّ جِهادِه؛ قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج: 78] ، وقال: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [1125] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/160، 161).   ل عمران: 102].
3- قَولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ إشارةٌ إلى العِلمِ التَّامِّ، وقَولُه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ إشارةٌ إلى القُدرةِ التَّامَّةِ والتفَرُّدِ بالإلهيَّةِ والحُكمِ، ومجموعُهما يتضَمَّنُ نهايةَ الزَّجرِ عن الإقدامِ على المَعصيةِ [1126] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/253). .
4- قال تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فلم يَقْدُرِ اللهَ حَقَّ قَدْرِه مَن هان عليه أمرُه فعَصاه، ونهيُه فارتَكَبه، وحَقُّه فضَيَّعه، وذِكْرُه فأهْمَله، وغَفَل قلبُه عنه، وكان هواه آثَرَ عندَه مِن طَلَبِ رضاه، وطاعةُ المخلوقِ أهمَّ مِن طاعتِه، فللَّهِ الفضْلَةُ مِن قلبِه وقولِه وعملِه، هواه المقدَّمُ في ذلك لأنَّه المهمُّ عندَه، يَسْتَخِفُّ بنظَرِ اللَّهِ إليه، واطِّلاعِه عليه بكلِّ قَلْبِه وجوارِحِه، ويَسْتَحي مِن النَّاسِ ولا يَسْتحي مِن اللَّهِ، ويخشَى النَّاسَ ولا يخشَى اللَّهَ، ويعامِلُ الخلقَ بأفضلِ ما يَقْدِرُ عليه، وإنْ عامَل اللَّهَ عامَله بأهونِ ما عندَه وأحقرِه، وإنْ قامَ في خدمةِ مَن يُحِبُّه مِن البشرِ قامَ بالجدِّ والاجتهادِ وبذلِ النَّصيحةِ، وقد أفْرَغ له قلبَه وجوارِحَه، وقَدَّمَه على الكثيرِ مِن مصالِحِه، حتَّى إذا قامَ في حقِّ رَبِّه -إنْ ساعَد القَدَرُ- قامَ قيامًا لا يَرْضاه مخلوقٌ مِن مخلوقٍ مِثْلِه، وبَذَل له مِن مالِه ما يستَحي أنْ يُواجِهَ به مخلوقًا مِثْلَه، فهل قَدَر اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه مَن هذا وصْفُه [1127] يُنظر: ((الجواب الكافي)) لابن القيم (ص: 142). ؟

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ... فتأمَّلْ هذا المَثَلَ الذي أمَرَ النَّاسَ كُلَّهم باستماعِه؛ فمَن لم يَستَمِعْه فقد عصى أمْرَه: كيف تضَمَّنَ إبطالَ الشِّركِ وأسبابِه بأصَحِّ بُرهانٍ في أوجَزِ عِبارةٍ وأحسَنِها وأحلاها؟ وأسْجَلَ على جميعِ آلهةِ المُشرِكينَ أنَّهم لو اجتَمَعوا كُلُّهم في صعيدٍ واحدٍ وساعَدَ بعضُهم بعضًا وعاوَنَه بأبلَغِ المعاوَنةِ لعَجَزوا عن خَلْقِ ذُبابٍ واحدٍ! ثمَّ بيَّن ضَعْفَهم وعَجْزَهم عن استِنقاذِ ما يَسلُبُهم الذُّبابُ إيَّاه حين يَسقُطُ عليهم! فأيُّ إلهٍ أضعَفُ مِن هذا الإلهِ المطلوبِ، ومِن عابِدِه الطَّالِبِ نَفْعَه وخَيْرَه -على قَولٍ في التَّفسيرِ-؟! فهل قَدَر القَويَّ العزيزَ حَقَّ قَدْرِه مَن أشرَكَ معه آلِهةً هذا شأنُها؟! فأقام سُبحانَه حُجَّةَ التَّوحيدِ، وبَيَّن إفكَ أهلِ الشِّركِ والإلحادِ بأعذَبِ ألفاظٍ وأحسَنِها، لم يَستكْرِهْها غُموضٌ، ولم يَشِنْها تطويلٌ، ولم يَعِبْها تقصيرٌ، ولم تُزْرِ بها زيادةٌ ولا نَقصٌ، بل بلَغَت في الحُسنِ والفَصاحةِ والبَيانِ والإيجازِ ما لا يَتوهَّمُ مُتوهِّمٌ ولا يَظُنُّ ظانٌّ أن يكونَ أبلَغُ في معناها منها، وتحتَها من المعنى الجَليلِ القَدْرِ العظيمِ الشَّرَفِ البالِغِ في النَّفْعِ ما هو أجَلُّ مِن الألفاظِ [1128] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/466). .
2- في قَولِه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ دَلالةٌ على عِلمِه سُبحانَه بالمُستَحيلِ [1129] يُنظر: ((شرح العقيدة الواسطية)) لابن عثيمين (1/184). .
3- قَولُه تعالى: ضَعُفَ الطَّالِبُ أي: الصَّنَمُ بطَلَبِ ما سُلِبَ منه وَالْمَطْلُوبُ الذُّبابُ بما سَلَب -على قَولٍ في التَّفسيرِ- وهذا كالتَّسويةِ بينهم وبين الذُّبابِ في الضَّعفِ، ولو حقَّقْتَ وجَدْتَ الطَّالِبَ أضعَفَ وأضعَفَ؛ فإنَّ الذُّبابَ حيوانٌ وهو جمادٌ، وهو غالِبٌ وذاك مغلوبٌ [1130] يُنظر: ((تفسير النسفي)) (2/455). .
4- قال تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، فكلمةُ (مِن) للتَّبعيضِ، وقال تعالى: جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ [فاطر: 1] ؛ فهنا جَعَل المَلائكةَ كلَّهم رُسُلًا؟
والجوابُ عن ذلك: أنَّ الملَكَ في اللُّغة: هو حاملُ الأَلُوكةِ؛ وهي الرِّسالة. فاسمُ الملائكةِ والملَكِ يَتضمَّنُ أنَّهم رُسُلُ اللهِ. أمَّا قوله: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ فالمرادُ به الذين يُرسِلُهم بالوحيِ؛ كما قال: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى: 51] .
وأمَّا عُمومُ الملائكةِ: فإنَّ إرسالَها لِتَفعلَ فِعلًا، لا لتُبلِّغَ رسالةً، فالملائكةُ رُسُلُ اللهِ في تنفيذِ أمْرِه الكَونيِّ الذي يُدبِّرُ به السَّمواتِ والأرضَ، كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ [الأنعام: 61] ، وكما قال: بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80]   [1131] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/720)، ((مجموع الفتاوى)) (4/119). . وقيل غيرُ ذلك [1132] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/253). .
5- قولُه تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ فيه: تَقريرٌ للنُّبوَّةِ [1133] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/80). ، ورَدٌّ لِمَا أنْكَروهُ مِن أنْ يكونَ الرَّسولُ مِن البشَرِ، وبَيانُ أنَّ رُسلَ اللهِ على ضَربينِ: ملائكةٍ، وبشَرٍ [1134] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/172). .
6- قولُه تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا فيه: تَزييفٌ لقولِهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، و: الملائكةُ بَناتُ اللهِ تعالى، ونحْوِ ذلك [1135] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (4/80)، ((تفسير أبي السعود)) (6/121). !
7- قولُه تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، وهذا نظيرُ قولِه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ [القصص: 68-69] ، ونظيرُ قولِه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام: 124] فأخبَر في ذلك كلِّه عن علمِه المتضمِّنِ لتخصيصِه محالَّ اختيارِه بما خصَّصها به، لعلمِه بأنَّها تصلحُ له دونَ غيرِها، فتدبَّرِ السِّياقَ في هذه الآياتِ تجِدْه متضمِّنًا لهذا المعنى، زائدًا عليه، واللهُ أعلمُ [1136] ينظر: ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/42). .

بلاغة الآيات:

1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ
- قولُه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ في افتتاحِ السُّورة بـ يَا أَيُّهَا النَّاسُ وتَنْهيتِها بمِثْلِ ذلك: شَبَهٌ بِرَدِّ العَجُزِ على الصَّدرِ، وممَّا يَزِيدُه حُسْنًا: أنْ يكونَ العَجُزُ جامِعًا لِمَا في الصَّدرِ وما بَعْده؛ حتَّى يكونَ كالنَّتيجةِ للاستدلالِ، والخُلاصةِ للخُطبةِ، والحَوصلةِ للدَّرسِ [1137] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/338). .
- وبُنِيَ فِعْلُ ضُرِبَ بصِيغةِ النَّائبِ، فلم يُذْكَرْ له فاعِلٌ، بعَكْسِ ما في المواضعِ الأُخرى الَّتي صُرِّحَ فيها بفاعِلِ ضَرْبِ المثَلِ، نحوُ قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا [البقرة: 26] ، وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا [النحل: 75] ؛ إذ أُسْنِدَ في تلك المواضعِ وغَيرِها ضَرْبُ المثَلِ إلى اللهِ، ونحوُ قولِه: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [النحل: 74] ، وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس: 78] ؛ إذ أُسْنِدَ ضَرْبُ المثَلِ إلى المُشرِكين؛ لأنَّ المقصودَ هنا نَسْجُ التَّركيبِ على إيجازٍ صالحٍ لإفادةِ احتمالينِ: أحدِهما: أنْ يُقدَّرَ الفاعِلُ اللهَ تعالى، وأنْ يكونَ المثَلُ تَشبيهًا تَمثيليًّا، أي: أوضَحَ اللهُ تَمثيلًا يُوضِّحُ حالَ الأصنامِ في فَرطِ العَجْزِ عن إيجادِ أضعَفِ المخلوقاتِ، كما هو مُشاهَدٌ لكلِّ أحدٍ. والثَّاني: أنْ يُقدَّرَ الفاعِلُ المُشرِكينَ، ويكونُ المثَلُ بمعنى المُماثِلِ، أي: جَعَلوا أصنامَهم مُماثِلةً للهِ تعالى في الإلهيَّةِ، وفُرِّعَ على ذلك المعنى مِن الإيجازِ قولُه: فَاسْتَمِعُوا لَهُ؛ لاسترعاءِ الأسماعِ إلى مُفادِ هذا المثَلِ ممَّا يُبْطِلُ دَعْوى الشَّركةِ للهِ في الإلهيَّةِ، أي: استَمِعوا استماعَ تَدبُّرٍ؛ فصِيغَةُ الأمْرِ في فَاسْتَمِعُوا لَهُ مُستعمَلةٌ في التَّحريضِ على الاحتمالِ الأوَّلِ، وفي التَّعجيبِ على الاحتمالِ الثَّاني [1138] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/338، 339). .
- واسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الماضي في ضُرِبَ مع أنَّه لَمَّا يُقَلْ؛ لِتَقريبِ زمَنِ الماضي من الحالِ، وذلك تَنبيهٌ للسَّامعينَ بأنْ يَتهَيَّؤوا لِتَلقِّي هذا المثَلِ؛ لِمَا هو مَعروفٌ لَدى البُلغاءِ مِن استشرافِهم للأمثالِ ومَواقِعِها [1139] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/339). . وقيل: اسْتُعْمِلَتْ صِيغَةُ الماضي معَ أنَّ الله تعالى هو المتكلِّمُ بهذا الكلامِ ابتداءً؛ لأنَّ ما أُورِد مِن الوصفِ كان معلومًا مِن قَبْلُ، فجاز ذلك فيه، ويكونُ ذِكرُه بمنزلةِ إعادةِ أمرٍ قد تقدَّم [1140] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/251). .
- وقولُه: ضُرِبَ مَثَلٌ مُجمَلٌ بُيِّنَ بقولِه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وقولُه: فَاسْتَمِعُوا لَهُ تَقريرٌ لِمَا يُرادُ مِن الإبهامِ والتَّبيينِ؛ مِن تَوخِّي التَّفطُّنِ لِمَا يُتْلى بعْدَ المُجمَلِ، وتَطلُّبِ إلْقاءِ الذِّهنِ، ويُؤيِّدُه تَصدُّرُ الآيةِ بقولِه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وتَذييلُ المثَلِ بقولِه تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وتَعليلُه بقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [1141] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/530). .
- قولُه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ بَيانٌ لـ مَثَلٌ؛ فإنَّ المثَلَ في مَعنى القولِ، فصَحَّ بَيانُه بهذا الكلامِ [1142] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/341). . وقيل: بَيانٌ للمَثلِ وتَفسيرٌ له، على أنَّ ضارِبَ المثَلِ هو اللهُ، وتَعليلٌ لبُطلانِ جَعْلِهم الأصنامَ مِثْلَ اللهِ سُبحانه في استحقاقِ العِبادةِ، على تَفسيرِ المَثلِ بالمُماثِلِ [1143] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/120). .
- وفي جُملةِ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا أُكِّدَ إثباتُ الخبَرِ بحَرفِ تَوكيدِ الإثباتِ وهو (إنَّ)، وأُكِّدَ ما فيه مِن النَّفيِ بحَرفِ تَوكيدِ النَّفيِ (لن)؛ لِتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلةَ المُنكِرينَ لِمَضمونِ الخبَرِ؛ لأنَّ جَعْلَهم الأصنامَ آلهةً يَقْتضي إثباتَهم الخَلْقَ إليها، وقد نُفِيَ عنها الخَلقُ في المُستقبَلِ؛ لأنَّه أظهَرُ في إفْحامِ الَّذين ادَّعَوا لها الإلهيَّةَ؛ لأنَّ نَفْيَ أنْ تَخلُقَ في المُستقبَلِ يَقْتَضي نَفْيَ ذلك في الماضي بالأحْرى؛ لأنَّ الَّذي يَفعَلُ شيئًا يكونُ فِعْلُه مِن بَعْدُ أيسَرَ عليه [1144] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/341). .
- وخُصَّ الذبابُ؛ لأربعةِ أمورٍ تخصُّه: لمهانتِه، وضَعفِه، ولاستقذارِه، وكثرتِه [1145] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/97). .
- قولُه: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ جوابُ (لو) محذوفٌ؛ لدلالةِ ما قبلَه عليه، والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ؛ ثقةً بدلالةِ هذه عليها، أي: لو لم يجتَمِعوا عليه لن يخلقُوه، ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه، وهما في موضعِ الحالِ، كأنَّه قيل: لن يخلقوا ذبابًا على كلِّ حالٍ [1146] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/ 120)، ويُنظر أيضًا: ((تفسير أبي حيان)) (5/538). .
- وقيل: قولُه: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ حالٌ؛ جِيءَ به للمُبالَغةِ، أي: لا يَقدِرونَ على خَلْقِه مُجْتَمعينَ له، مُتعاونينَ عليه؛ فكيف إذا كانوا مُنفَرِدينَ [1147] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/171)، ((تفسير البيضاوي)) (4/79). ؟!
- والاستنقاذُ في قولِه: لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مُبالَغةٌ في الإنقاذِ، مثْلُ الاستحياءِ، والاستجابةِ [1148] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/342). .
- وقولُه: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ تَذييلٌ وفَذْلكةٌ [1149] تقدم تعريفه (ص: 54). للغرَضِ مِن التَّمثيلِ، أي: ضعُفَ الدَّاعي والمَدْعُوُّ، إشارةً إلى إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ ... إلخ، أي: ضَعُفْتُم أنتم في دَعوتِهم آلهةً، وضَعُفَتِ الأصنامُ عن صِفاتِ الإلهِ -وذلك على قولٍ في التفسيرِ-. وهذه الجُملةُ كَلامٌ أُرْسِلَ مثَلًا، وذلك مِن بَلاغةِ الكلامِ [1150] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/342). . وقيل: معناهُ التَّعجُّبُ، أي: ما أضعَفَ الطَّالِبَ والمطلوبَ [1151] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/538). !
- والتَّشبيهُ في هذه الآيةِ ضِمْنِيٌّ خَفِيٌّ، يُنْبِئُ عنه قولُه: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ، وقولُه: لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ؛ فشُبِّهَتِ الأصنامُ المُتعدِّدةُ المُتفرِّقةُ في قَبائلِ العربِ -وفي مكَّةَ بالخُصوصِ- بعُظماءَ، أي: عندَ عابِدِيها، وشُبِّهَتْ هَيئتُها في العَجْزِ بهَيئةِ ناسٍ تَعذَّرَ عليهم خَلْقُ أضعَفِ المخلوقاتِ، وهو الذُّبابُ، بَلْهَ المخلوقاتِ العظيمةِ كالسَّمواتِ والأرضِ، وقد دَلَّ إسنادُ نَفْيِ الخَلْقِ إليهم على تَشبيهِهم بذَوي الإرادةِ؛ لأنَّ نَفْيَ الخَلْقِ يَقْتَضي مُحاولةَ إيجادِه، ولو فُرِضَ أنَّ الذُّبابَ سَلَبَهم شيئًا لم يَسْتَطيعوا أخْذَه منه، ودَليلُ ذلك مُشاهَدةُ عدَمِ تَحرُّكِهم، فكما عجَزَتْ عن إيجادِ أضعَفِ الخَلْقِ، وعن دَفْعِ أضعَفِ المخلوقاتِ عنها؛ فكيف تُوسَمُ بالإلهيَّةِ؟! ورُمِزَ إلى الهيئةِ المُشبَّهِ بها بذِكْرِ لوازمِ أركانِ التَّشبيهِ مِن قولِه: لَنْ يَخْلُقُوا، وقولِه: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا إلى آخِرِه؛ لا جرَمَ حصَلَ تَشبيهُ هَيئةِ الأصنامِ في عَجْزِها بما دونَ هَيئةِ أضعَفِ المخلوقاتِ [1152] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/340). .
- وفي الآيةِ ما يُعرَفُ بسَلامةِ الاختِراعِ؛ وهو اختراعُ القائِلِ معنًى لم يُسْبَقْ إليه؛ فقولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا الآيةَ، مِن أبلَغِ ما أنزَلَ اللهُ في تَجْهيلِ الكافرينَ وتَقريعِهم والاستِخفافِ بعُقولِهم؛ لِغَرابةِ التَّمثيلِ الَّذي تضمَّنَ الإفراطَ في المُبالَغةِ مع كونِها مُلازِمةً للحقِّ والواقعِ؛ فقدِ اقتصَرَ سُبحانَه على ذِكْرِ أضعَفِ المخلوقاتِ وأقَلِّها سَلْبًا لِمَا تَسلُبُه، وتَعجيزِ كلِّ مَن دُونَه عن خَلْقِ مِثْلِه، مع التَّضافُرِ والاجتماعِ، ثمَّ عدَلَ عن رُتْبةِ الخَلْقِ -لِمَا فيه مِن تَعجيزٍ- إلى استِنقاذِ النَّزْرِ القليلِ الَّذي يَسلُبُه الذُّبابُ؛ فقد تدرَّجَ في النُّزولِ على ما تَقْتضيه خُطَّةُ البَلاغةِ في التَّرتيبِ. ولم يُسْمَعْ مثْلُ هذا التَّمثيلِ في بابِه لأحدٍ قبْلَ نُزولِ الكتابِ العزيزِ [1153] يُنظر: ((بديع القرآن)) لابن أبي الأصبع (ص 200- 201)، ((الجدول في إعراب القرآن)) لمحمود صافي (17/150)، ((إعراب القرآن وبيانه)) لدرويش (6/481-482). .
2- قولُه تعالى: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعليلٌ لِمَا قبْلَها مِن نَفْيِ مَعرِفَتِهم له تعالى [1154] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/121). . وهو أيضًا تَذييلٌ للمثَلِ بأنَّ عِبادَتَهم الأصنامَ مع اللهِ استخفافٌ بحَقِّ إلهيَّتِه تعالى [1155] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/342). .
- وقولُه: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَعليلٌ لِمَضمونِ الجُملةِ قبْلَها؛ فإنَّ ما أشْرَكوهم مع اللهِ في العِبادةِ كلُّ ضَعيفٍ ذَليلٍ، فما قَدَروهُ حَقَّ قَدْرِه؛ لأنَّه قَوِيٌّ عَزيزٌ، فكيف يُشارِكُه الضَّعيفُ الذَّليلُ؟! والعُدولُ عن أنْ يُقالَ: (ما قدَرْتُم اللهَ حقَّ قَدْرِه) إلى أُسلوبِ الغَيبةِ: الْتِفاتٌ؛ تَعريضًا بهم بأنَّهم لَيسوا أهْلًا للمُخاطَبةِ تَوبيخًا لهم، وبذلك يَندمِجُ في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ تَهديدٌ لهم بأنَّه يَنتقِمُ منهم على وَقاحَتِهم. وتَوكيدُ الجُملةِ بحَرفِ التَّوكيدِ ولامِ الابتداءِ، مع أنَّ مَضمونَها ممَّا لا يُخْتَلَفُ فيه؛ لِتَنزيلِ عِلْمِهم بذلك مَنزِلةَ الإنكارِ؛ لأنَّهم لم يَجْرُوا على موجَبِ العِلْمِ حين أشْرَكوا مع القوِيِّ العزيزِ ضُعفاءَ أذِلَّةً [1156] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/342، 343). .
- وأيضًا في قولِه: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ وَضْعُ اسْمِه الأعظمِ (الله) الجامِعِ لأسمائِه الحُسْنى مَوضِعَ الضَّميرِ؛ تَقريرًا للقُوَّةِ الكاملةِ، والعِزَّةِ القاهرةِ، أو هو بمَنزِلَةِ اسمِ الإشارةِ المُؤْذِنِ بأنَّ ما بَعْدَه جديرٌ بمَن قبْلَه؛ لاتِّصافِه بتلك الصِّفاتِ الفائقةِ [1157] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/532، 533). .
3- قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
- جُملةُ: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ استئنافٌ ابتدائيٌّ، وتَقديمُ المُسنَدِ إليه -وهو اسمُ الجَلالةِ- على الخبَرِ الفِعْليِّ في قولِه: اللَّهُ يَصْطَفِي؛ لإفادةِ الاختصاصِ، أي: اللهُ وحْدَه هو الَّذي يَصْطفي لا أنتم تَصْطَفون وتَنْسِبون إليه. والإظهارُ في مَقامِ الإضمارِ هنا حيث لم يقُلْ: (هو يَصْطَفي من الملائكةِ رُسلًا)؛ لأنَّ اسْمَ الجَلالةِ أصْلُه الإلهُ، أي: الإلهُ المعروفُ الَّذي لا إلهَ غيرُه، فاشْتِقاقُه مُشيرٌ إلى أنَّ مُسمَّاهُ جامِعٌ كلَّ الصِّفاتِ العُلى؛ تَقريرًا للقُوَّةِ الكاملةِ، والعِزَّةِ القاهرةِ [1158] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/343، 344). .
- قولُه: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تَعليلٌ لمَضمونِ جُملةِ اللَّهُ يَصْطَفِي؛ لأنَّ المُحيطَ عِلْمُه بالأشياءِ هو الَّذي يَختَصُّ بالاصطفاءِ. وفيه: كِنايةٌ عن عُمومِ العِلْمِ بالأشياءِ بحسَبِ المُتعارَفِ في المعلوماتِ أنَّها لا تَعْدُو المسموعاتِ والمُبْصَراتِ [1159] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/344). .
4- قولُه تعالى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ جُملةٌ مُقرِّرةٌ لِمَضمونِ قولِه: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، وفائدتُها -زيادةً على التَّقريرِ-: أنَّها تَعريضٌ بوُجوبِ مُراقَبَتِهم ربَّهم في السِّرِّ والعلانيةِ؛ لأنَّه لا تَخْفى عليه خافيةٌ [1160] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/344). .
- وفي قولِه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ بُنِيَ فِعْلُ تُرْجَعُ إلى النَّائبِ؛ لظُهورِ مَن هو فاعِلُ الإرجاعِ؛ فإنَّه لا يَلِيقُ إلَّا باللهِ تعالى، فهو يُمْهِلُ النَّاسَ في الدُّنيا، وهو تُرْجَعُ الأُمورُ إليه يومَ القيامةِ [1161] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/345). .
- وتَقديمُ المجرورِ وَإِلَى اللَّهِ على الفِعْلِ تُرْجَعُ؛ لإفادةِ الحصْرِ الحقيقيِّ، أي: إلى اللهِ لا إلى غيرِه يَرجِعُ الجَزاءُ؛ لأنَّه مَلِكُ يومِ الدِّينِ [1162] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/345). .
- والتَّعريفُ في الْأُمُورُ للاستغراقِ، أي: كلُّ أمْرٍ. وذلك جَمْعٌ بينَ البِشارةِ والنِّذارةِ؛ تَبعًا لِمَا قبْلَه مِن قولِه: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [1163] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/345). .