موسوعة التفسير

سُورةُ النِّساءِ
الآية (1)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ

غريب الكلمات:

وَبَثَّ: أي: ونشَر، وأصلُ البثِّ: التفريقُ، وكذلك إثارةُ الشَّيءِ وإظهارُه [11] ينظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (1/118)، ((المفردات)) للراغب (1/108)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/58)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/135) مقاييس اللغة (1/172)، ((الكليات)) للكفوي (1/247). .
تَسَاءَلُونَ: تطلُبون حقوقَكم، والسُّؤال يأتي بمعنى الطَّلب والالتماسِ، ويأتي بمعنى الاستفسارِ؛ يُقال: سأل يسألُ سؤالًا ومسألةً [12] ينظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/124)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (1/58)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 501). .
وَالْأَرْحَامَ: أي: القَرابَاتِ، واحِدَتُها رحِم، والرَّحِمُ: عَلاقة القرابَةِ، وأصل (رحم): الرِّقَّةُ والعطفُ والرَّأفة، ثم سُمِّيت رحِمُ الأنثى رَحِمًا مِن هذا؛ لأنَّ منها يكونُ ما يُرحَم ويُرقُّ له من ولدٍ [13] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/53)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/498)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/135). .
رَقِيبًا: أي: حافظًا، عالِمًا، مُطَّلعًا، وأصل رقب: يدلُّ على انتصابٍ لمراعاةِ شيءٍ [14] ينظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/236)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/427)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/135)، ((الكليات)) للكفوي (1/484). .

مشكل الإعراب:

قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ:
وَالأَرْحَامَ قُرِئ بالنَّصب، والجرِّ؛ فعلى قِراءة النَّصب، فهو عَطفٌ على اسمِ الله تعالى، أي: واتَّقوا الأرحامَ أن تَقطَعوها، ويجوزُ أنْ يكونَ عطفُه على موضِع بِهِ كما في: مررتُ بزيد وعمرًا، بعطف (عمرًا) على موضع بزيد؛ لأنَّه مفعولٌ به في موضِع نصْب، وإنَّما ضعُف الفِعلُ عن التعديةِ بنفْسه فتعدَّى بحَرْف جَرٍّ.
وعلى قِراء الجرِّ، فهو معطوفٌ على الهاء في بِهِ، من بابِ العَطفِ على الضَّميرِ المجرورِ من غيرِ إعادة الجارِّ [15] ((مشكل إعراب القرآن)) لمكي (1/187- 188)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/327)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/394)، (3/554). والوجه المذكور في قِراءة الجرِّ، وإنْ كان لا يُجيزه البصريُّون، إلَّا أنَّه ينبغي أن يجوز مطلقًا؛ لكثرة السماع الوارد به، واعتضادِه بالقياس، وضَعْفِ دليل المانعين. يُنظر: ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (2/394). .

المَعنَى الإجمالي:

يُخاطِبُ الله تعالى جميعَ البَشَر آمرًا إيَّاهم بتقواه؛ فهو الذي أَوجدَهم جميعًا من نفْسٍ واحدة، هي أبوهم آدَمُ عليه السَّلام، ومِن آدَمَ أوجد الله سبحانه حوَّاءَ، ونشَر منهما بشرًا كثيرًا من الرِّجال والنِّساء, وأمَرَهم سبحانه أيضًا أن يتَّقوه؛ فإنَّه سبحانه مَن يتساءلون به بينهم لعَظَمَتِه، وأمرهم أن يتَّقوا الأرحامَ فلا يَقْطَعوها؛ فإنَّهم يتساءلون بها أيضًا لِعِظَمِها، فلْيؤدُّوا حقَّها، إنَّ الله سبحانه مطَّلعٌ على جميع أعمالِهم، مراقِبٌ وحافظٌ لها.

تفسير الآية:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
مُناسَبةُ افتتاحِ السُّورةِ بالأمْر بالتقوى:
لقدِ اشتملتْ سورةُ النِّساء على أنواعٍ كثيرة من التكاليفِ؛ وذلك لأنَّه تعالى أمَر النَّاسَ في أوَّل هذه السورة بالتعطُّفِ على الأولاد والنِّساءِ والأيتام، والرأفة بهم، وإيصالِ حقوقِهم إليهم، وحِفْظ أموالِهم عليهم، وبهذا المعنى خُتِمت السورةُ، وهو قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ [النساء: 176] ، وذَكَرَ في أثناء هذه السُّورة أنواعًا أُخَر من التكاليف، وهي الأمْرُ بالطهارة والصَّلاة، وقِتال المشركين، ولَمَّا كانت هذه التكاليفُ شاقَّةً على النفوس؛ لثِقَلِها على الطِّباع، لا جرمَ افتَتَح السورةَ بالعِلَّة التي لأجلها يجب حمْلُ هذه التكاليفِ الشاقَّة، وهي تقوى الربِّ الذي خلَقَنا، والإلهِ الذي أَوْجَدَنا؛ فلهذا قال يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/475). :
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ
أي: يا أيها الناس قال الألوسي: (لفظ النَّاس يشملُ الذُّكور والإناث بلا نزاع) ((تفسير الألوسي)) (2/390). حققوا تقوى الله عزَّ وجلَّ، بامتثالِ أوامره، واجتنابِ نواهيه؛ وذلك لأنَّه ربُّكم، أي: خالِقُكم ومالِكُكم ومُدبِّركم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/339)، ((تفسير ابن كثير)) (2/206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/11-12). .
ولَمَّا أمَر الله عزَّ وجلَّ بتقواه، وذكَر السبَّبَ الدَّاعيَ لهذه التَّقْوى، ذكَر سببًا آخرَ موجِبًا لها يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 163). ، فقال:
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
أي: الذي أوجدَكم جميعًا- أيُّها الناس- من نَفْسٍ واحدةٍ، وهي آدَمُ عليه السَّلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/339-340)، ((تفسير ابن كثير)) (2/206)، ((تفسير السعدي)) (ص: 163)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/404). قال الرازي: (أجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنَّفس الواحدة هاهنا هو آدمُ عليه السَّلام) ((تفسير الرازي)) (9/477). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [الأنعام: 98] .
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
أي: وأَوجَدَ مِن آدَمَ عليه السَّلامُ امرأتَه حوَّاءَ عليها السَّلام يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/340)، ((تفسير ابن كثير)) (2/206)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (1/489). وممَّن قال من السَّلف: إنَّ المقصود من قوله: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا حواءُ: مجاهد، والسُّدِّي، وقتادة، ومقاتل. انظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (3/853). .
كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف: 189] .
وعن أبي هُريرةَ رضِي اللهُ عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((استوصُوا بالنِّساءِ؛ فإنَّ المرأةَ خُلقتْ من ضِلَعٍ الضِّلَع: مفرد أضلُع وأضلاع وضلوع، وهي عِظامُ الجَنبين. ((المصباح المنير في غريب الشرح الكبير)) للفيومي (2/363). ، وإنَّ أعوجَ شيءٍ في الضِّلَعِ أعلاه، فإنْ ذهبتَ تقيمُه كَسَرْتَه، وإنْ تركتَه لم يزلْ أعوجَ، فاستوصُوا بالنِّساءِ )) رواه البخاري (3331) واللفظ له، ومسلم (1468). وقال النوويُّ: (وفيه دليل لِمَا يقوله الفقهاء- أو بعضهم- أنَّ حواء خُلقت من ضِلع آدَم؛ قال الله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء: 1] ، وبيَّن النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّها خُلِقت من ضِلَع). ((شرح النووي على مسلم)) (10/57). .
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً
أي: إنَّ الله سبحانه قد نشَر من آدَمَ وحواءَ عليهما السَّلام في أقطارِ الأرض أعدادًا كثيرةً من الرِّجال والنِّساء، فجميعُهم بنو أبٍ واحدٍ، وأمٍّ واحدةٍ يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/339، 342)، ((تفسير ابن كثير)) (2/206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/13-14). .
كما قال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ [الروم: 20] .
ثم ذكَر داعيًا آخرَ من دواعي تقواه جلَّ وعلا يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 163). ، فقال:
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
أي: امتثِلوا ما أمَرَكم الله تعالى به، واجتنِبوا ما نهاكم عنه؛ فإنَّ تساؤُلَكم به، وتعظيمَكم له سبحانه، من الموجِبِ الدَّاعي لتَقْواه؛ حتى إنَّكُم إذا أرَدْتُم قضاءَ حاجاتِكم، توسَّلْتُم بها بالسُّؤالِ بالله، فيقول مَن يريد ذلك لغيرِه: أسألُك باللهِ أن تفعلَ كذا؛ لعِلمه بما قام في قلب الغيرِ من تَعظيمِ الله الذي يَمنعه أنْ يردَّ مَن سأله بالله؛ فكما عَظَّمتُم الله تعالى بذلك، فلْتعظِّموه أيضًا بتقواه سبحانه يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/343)، ((تفسير السعدي)) (ص: 163). وقيل المراد بـ تَسَاءَلُونَ بِهِ: تتعاهدون به وتتعاقدون؛ لأنَّ كلَّ واحد من المتعاقدين في النِّكاح وغيره، يسأل الآخَرَ تسليمَ مطلوبه. يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (32/113). .
وَالْأَرْحَامَ
مُناسَبتُها لِمَا قَبلَها:
أنَّ في إخبارِ الله سبحانه بأنه خَلَق النَّاسَ من نفسٍ واحدةٍ، وأنَّه بثَّهم في أقطارِ الأرض، مع رُجوعِهم إلى أصلٍ واحدٍ- عَطفًا لقلوبِ بعضِهم على بعضٍ، وترقيقَ بعضِهم على بعض. وقَرَن سبحانه الأمْرَ بتقواه بالأمر ببرِّ الأرحامِ والنهي عن قطيعَتِها؛ ليؤكِّدَ هذا الحَقَّ، وأنَّه كما يلزم القيامُ بحقِّ الله تعالى، كذلك يجب القيامُ بحقوق الخَلْق، والأقربين منهم خاصَّة، بل القيامُ بحقوقِهم هو مِن حقِّ اللهِ عزَّ وجلَّ الذي أمر به يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 163). ويُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/206-207). .
القِراءاتُ ذاتُ الأثَرِ في التَّفسيرِ
في قوله تعالى: وَالْأَرْحَامَ قراءتان:
1- وَالْأَرْحَامِ على أنَّها معطوفةٌ على الهاءِ في (به)، أي: تساءلونَ باللهِ وتَسَاءلون بالأرحامِ، أي: تتوسَّلونَ بها قرأ بها حمزة. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/247). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حُجَّة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 189)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/554). .
2- وَالْأَرْحَامَ على أنَّها معطوفة على لفظ الجلالةِ، أي: واتَّقوا الأرحامَ أن تَقْطَعوها قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/247). ويُنظر لمعنى هذه القراءة: ((حُجَّة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 189)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/554). .
وَالْأَرْحَامَ
أي: واحْذروا من أنْ تَقطعوا أرحامَكم، وتُفَرِّطوا في أداءِ حقِّهم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/339، 350)، ((تفسير السعدي)) (ص: 163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/15). وممَّن قال بنحو هذا القول من السَّلف: ابن عبَّاس، والضَّحَّاك، ومقاتل بن حيَّان، وعِكرمة، والسُّدِّي، ومجاهد- في رواية عنه، والرَّبيع، وابن زيد. انظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/347)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (3/854). ، وكما تتوصَّلونَ بهذه الصِّلة فيما بينكم لعِظَمِها من أجْل قضاءِ حاجةٍ، أو نَيْل مأرب، فآتوها حقَّها يُنظر: ((اقتضاء الصراط المستقيم)) لابن تيمية (2/327)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/15، 19). وممَّن قال من السَّلَف بنحو هذا القول: مجاهد- في رواية عنه- وإبراهيم، والحسَن- في رواية عنه. انظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/344)، ((تفسير ابن أبي حاتم)) (3/853). .
عن جَرير بن عبد الله رضِي اللهُ عنه، قال: ((كنَّا عندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في صَدر ِالنهارِ، قال: فجاءَه قومٌ حُفاةٌ عُراةٌ مُجتابي النِّمارِ أو العَباءِ النِّمار- بكسر النون-: جمْع نَمرة بفتحها، وهي ثياب صوف فيها تنميرٌ؛ كأنَّها أُخذت من لَونِ النَّمر؛ لِمَا فيها من السَّوادِ والبياض. والعَباء- بالمدِّ وبفتح العين-: جمْع عَباءة وعباية- لُغتان. وقوله: مجتابي النِّمار، أي: خَرَقوها وقوَّروا وسَطَها. ((شرح النووي على مسلم)) (7/102)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/118). ، مُتقلِّدي السيوفِ، عامَّتُهم من مُضَرَ، بل كلُّهم من مُضَرَ، فتمعَّر فتمعرَّ: أي: تغيَّر، وأصله قِلَّةُ النَّضارة وعدَم إشراق اللون. ((النهاية)) لابن الأثير (4/342). وجهُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِمَا رأى بهم من الفاقةِ، فدخَل ثم خرج، فأمَر بلالًا فأذَّن وأقام، فصلَّى ثم خطَب فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا. والآيةَ التي في الحشرِ: اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ؛ تصدَّقَ رجلٌ من دينارِه، من درهمِه، من ثوبِه، من صاعِ بُرِّه، من صاعِ تَمْرِه (حتى قال) ولو بشِقِّ تمرةٍ، قال: فجاءَ رجلٌ من الأنصارِ بصُرَّةٍ كادت كَفُّه تَعجِزُ عنها، بل قد عجَزتْ، قال: ثم تتابَعَ الناسُ، حتى رأيتُ كَومَين من طعامٍ وثيابٍ، حتى رأيتُ وجهَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يتهلَّلُ كأنَّه مَذْهَبةٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً، فله أجرُها، وأجرُ مَن عَمِل بها بعدَه، من غير أن يَنقُصَ من أجورِهم شيءٌ، ومن سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً سيئةً، كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عمِل بها من بعده، من غير أن يَنقُصَ من أوزارِهم شيءٌ)). وفي روايةٍ: ((كنَّا عِندَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صدرَ النَّهارِ، بمثلِ حديثِ ابنِ جعفرٍ، وفي حديثِ ابنِ معاذٍ من الزِّيادة قال: ثم صلَّى الظهرَ ثم خطَب، وفي رواية ٍ: كنتُ جالسًا عند النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأتاه قومٌ مُجتابي النِّمارِ، وساقوا الحديثَ بقِصَّتِه، وفيه: فصلَّى الظهرَ ثم صعِد منبرًا صغيرًا، فحَمِدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: أمَّا بعدُ؛ فإنَّ اللهَ أنزل في كتابِه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الآية)) رواه مسلم (1017). .
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
أي: إنَّ اللهَ تعالى مراقِبٌ لجميع أعمالِكم، وحافِظٌ لها، ومِن جُملةِ ذلك ما أمَرَكم به من تقوى ربِّكم، ورِعايةِ حُرمة أرحامِكم يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (6/350)، ((تفسير ابن كثير)) (2/206)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/16). .

الفوائد التربوية:

1- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، أنَّ الناس إذا عرَفوا كونَ الكلِّ من شَخْص واحد، ترَكوا المفاخَرةَ والتكبُّر، وأظهروا التواضُعَ وحُسنَ الخُلق يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/277).
2- في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا التحذيرُ من مخالفة الله عزَّ وجلَّ، ومَن آمَن بأنَّ الله رقيبٌ عليه، فسيحذرُ من مخالفة الله عزَّ وجلَّ، ويوجِبُ له ذلك مراقبتَه، وشِدَّة الحياءِ منه، بلزوم تقواه يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 163)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/18). .
3- في قوله: وخلق مِنْهَا زَوْجَهَا: تنبيهٌ على مراعاةِ حقِّ الأزواجِ والزَّوجات والقيامِ به؛ لكَوْنِ الزوجاتِ مخلوقاتٍ من الأزواجِ؛ فبينهم وبينهنَّ أقربُ نسَبٍ، وأشدُّ اتصالٍ، وأقرَبُ عَلاقة يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 163). .

الفَوائِدُ العِلميَّةُ واللَّطائف:

1- جعَل اللهُ تعالى قولَه يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ مَطْلعًا لسورتينِ في القرآن: إحداهما: هذه السُّورة، وهي السُّورة الرَّابعة مِن النِّصف الأوَّلِ من القرآن. والثانية: سُورةُ الحج، وهي أيضًا السورة الرَّابعة من النِّصف الثاني من القرآن، ثم إنَّه تعالى علَّل الأمرَ بالتقوى في هذه السُّورة بما يدلُّ على معرفةِ المبدأِ، وهو أنَّه تعالى خلَق الخَلْقَ مِن نفْسٍ واحدة، وهذا يدلُّ على كمالِ قُدرةِ الخالق، وكمالِ عِلْمه، وكمالِ حِكمتِه وجلالِه، وعلَّل الأمرَ بالتَّقوى في سورة الحجِّ بما يدلُّ على كمالِ معرفةِ المَعادِ، وهو قوله: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] ، فجعَلَ صدْرَ هاتين السورتين دلالةً على معرفة المبدأِ ومَعْرِفة المعاد يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/476). .
2- في قوله تعالى: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ دليلٌ على المعادِ؛ لأنَّه تعالى لَمَّا كان قادرًا على أنْ يُخرِجَ من صُلْب شخص واحد أشخاصًا مختلفين، وأنْ يَخلُقَ من قَطرة من النُّطفة شَخصًا عجيبَ التركيبِ، لطيفَ الصُّورة؛ فكيف يُستبعَد إحياءُ الأمواتِ وبعثُهم ونشورُهم؟! فتكون الآية دالَّةً على المعادِ من هذا الوجه يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/477). .
3- في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ...، في الآية تلويحٌ للمشركينَ بأحقيَّة اتِّباعِهم دعوةَ الإسلامِ؛ لأنَّ الناس أبناءُ أبٍ واحدٍ، وهذا الدِّين يدعو النَّاسَ كلَّهم إلى متابعته، ولم يَخصَّ أمَّةً من الأُمم أو نسبًا من الأنسابِ؛ فهو جديرٌ بأن يكون دينَ جميعِ البشر، بخلاف بقيَّة الشرائعِ، فهي مصرِّحة باختصاصِها بأُمَمٍ معيَّنة يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/215). .
4- في قوله: وَالْأَرْحَامَ تعريضٌ للمشركين بأنَّ أَوْلَى الناسِ بأن يتَّبِعوه هو محمَّد صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه مِن ذوي رَحِمِهم يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (4/215). .
5- في قوله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ردٌّ على الفِكرة المُلْحِدة أنَّ الناس تطوَّروا من القُرُود إلى البشريَّة؛ فالنَّفْسُ هي آدَمَ، الذي نحن مِن نَسْلِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/17). .
6- التَّذكيرُ بنِعمة الله عزَّ وجلَّ بما خَلَق لنا من الأزواجِ؛ لقوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا، و(مِن) هنا للتبعيض، ويجوز أن تكونَ بيانيَّةً للجِنس؛ أي: مِن جِنْسِها، وهذا من النِّعم الكبيرة، فلو كانت أزواجُنا من غَير جِنْسِنا، فلا يمكن أن نركنَ إليها أبدًا؛ بل ننفِرُ منها نفورًا شديدًا؛ لأنَّه لا يركَنُ الإنسانُ إلَّا إلى مَن كان مِن جِنْسِه يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/17). .
7- في قولِه تعالى: رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءَ خصَّ رجالًا بذكرِ الوصفِ بالكثرةِ دونَ النِّساء، قيل: حذَف وصفَ الثَّاني؛ لدلالةِ وصفِ الأوَّل عليه، والتقديرُ: ونساءً كثيرةً، ولأنَّ الفعل (بَثَّ) يقتضى الكثرةَ والانتشارَ، وقيل: لا يقدَّر الوصفُ، وإن كان المعنى فيه صحيحًا؛ لأنَّه نبَّه بخصوصيةِ الرِّجال بوصفِ الكثرةِ على أنَّ اللائقَ بحالِهم الاشتهارُ والخروجُ والبُروز، واللائقَ بحالِ النِّساء الخمولُ والاختفاءُ، وقيل: لأنَّ كثرة الرِّجالِ أهمُّ من كثرةِ النِّساء؛ فالكثرةُ في الرِّجال عزٌّ وفخرٌ يفتخرُ النَّاس به، بخلافِ النِّساء، فإنَّ الكثرةَ منهنَّ عالةٌ وتعبٌ وعناءٌ، وقيل: خُصِّصَ وصْفُ الكثرةِ بالرِّجال دونَ النِّسَاء؛ لأنَّ شهرةَ الرِّجالِ أتمُّ، فكانت كثرتُهم أظهرَ يُنظر: ((تفسير الرازي)) (9/479)، ((تفسير أبي حيان)) (3/496)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/217)، ((تفسير ابن عثيمين- سورة النساء)) (1/17). .
8- ذُكِرَ (الربُّ) أولًا في قوله اتَّقُوا رَبَّكُمُ وهو الاسمُ الذي يدلُّ على الإحسانِ والتربيةِ، وذُكِرَ ثانيًا (الله) في قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وهو الذي يدلُّ على القَهْر والهَيْبة؛ لأنَّه بنى الأَمْر بالتقوى أولًا على التَّرغيب، وثانيًا على التَّرهيب. كقوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة: 16] ، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء: 90] ، كأنَّه قال: إنَّه ربُّك أحْسنَ إليك، فاتَّقِ مخالفتَه وغَضَبَه وعقابَه؛ فإن لم تتَّقِه لذلك، فاتَّقِه لأنَّه شديدُ العقابِ يُنظر: ((البحر المحيط)) لابن حيان (3/496) .

بلاغة الآية:

1- في الآية بَراعةُ الاستهلالِ؛ فقد استهلَّ السورةَ بالإشارةِ إلى بَدء الخَلْق والتكوينِ، وألْمَع إلى دَورِ المرأةِ المهمِّ، وأَوْصى بصِلةِ الرَّحِم ((إعراب القرآن وبيانه)) لمحيي الدين درويش (2/148). ؛ حيث تَضمنَّت هذه الآيةُ المفتَتَحُ بها ما أكثرُ السُّورةِ في أحكامِه؛ من نِكاحِ النِّساءِ ومحرَّماتِه، والمواريثِ المتعلِّقَةِ بالأرحام، وأنَّ ابتداءَ هذا الأمر كان بخَلْق آدَمَ، ثم خَلَق زوجَه منه، ثم بَثَّ منهما رِجالًا ونساءً في غاية الكثرة ((الإتقان)) للسيوطي (3/382). ؛ فالآية تمهيدٌ لِمَا سيُبَيَّن في هذِه السُّورةِ من الأحكامِ المرتَّبةِ على النَّسَبِ والقرابة، وأيضًا في قولِه: الَّذِي خَلَقَكُمْ براعةُ استهلالٍ مناسِبَةٌ لِمَا اشتملتْ عليه السُّورةُ مِن الأغراضِ الأصليَّة، فكانتْ بمنزلةِ الدِّيباجةِ ((تفسير ابن عاشور)) (4/214- 215). .
2- قوله: اتَّقُوا رَبَّكُمُ: عبَّر بـرَبَّكُم، دون الاسم العَلَم (الله)؛ لأنَّ في معنى الربِّ ما يَبعث العبادَ على الحِرص في الإيمانِ بوحدانِيَّتِه؛ إذ الربُّ هو المالك الذي يرُبُّ مملوكَه، أي: يُدبِّر شؤونَه، مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطَبين؛ لتأييدِ الأمر، وتأكيدِ إيجاب الامتثالِ به على طريقةِ الترغيبِ يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/137)، ((تفسير ابن عاشور)) (4/214- 215). .
3- قوله: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا: إعادة الفِعل (خَلَق)- مع جوازِ عطفِ مفعولِه على مفعولِ الفِعل-؛ لإظهارِ ما بين الخَلقينِ من التفاوُتِ؛ فإنَّ الأوَّلَ بطريقِ التفريعِ من الأَصْل، والثاني بطريقِ الإنشاءِ من المادَّة؛ فإنَّه تعالى خلَقَ حواءَ مِن ضِلَع آدَمَ عليه السلام، وتأخيرُ ذِكْر خَلْقِها عن ذِكرِ خَلْقِهم؛ لأنَّ تذكيرَ خَلقِهم أدخلُ في تحقيقِ ما هو المقصودُ من حمْلِهم على الامتثالِ بالأمْر بالتقوى من تذكير خَلْقِها يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/138). .
- وتقديمُ الجارِّ والمجرور مِنْهَا؛ للاعتناءِ ببيانِ مبدئيَّةِ آدَمَ عليه السَّلام لها، مع ما فيه من التشويقِ إلى المؤخَّر، وإيرادُ حواء بعنوان الزوجيَّة تمهيدٌ لِمَا بعده من التناسُل يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/138). .
4- قوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً:
- وإيثارُ (رجالًا- ونساءً) على (ذكورًا- وإناثًا)؛ لتأكيدِ الكثرةِ، والمبالغةِ فيها بترشيح كلِّ فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئيَّة غيره يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/138). .
- وترتيب الأمْر بالتقوى على هذه القِصَّة؛ للدَّلالة على القُدرة القاهرةِ التي من حقِّها أنْ تُخشى، والنِّعمةِ الباهرةِ التي تُوجِب طاعةَ مُولِيها تفسير البيضاوي (2/58). .
5- قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ: فيه تكريرٌ للأمْر بالتقوى، وتذكيرٌ لبعضٍ آخَرَ من مُوجِبات الامتثالِ به؛ فإنَّ سؤالَ بعضِهم بعضًا باللهِ تعالى بأن يقولوا: أَسألُك بالله، وأَنْشُدُك اللهَ، على سبيلِ الاستعطاف، يَقتضي الاتِّقاءَ من مخالفةِ أوامرِه ونواهيه ((تفسير أبي حيان)) (3/532)، ((تفسير أبي السعود)) (2/138). .
- وتعليقُ الاتِّقاءِ بالاسمِ الجليل (الله)؛ لمزيدِ التأكيدِ والمبالغة في الحَمْلِ على الامتثالِ بتربيةِ المهابة، وإدخالِ الرَّوعة؛ لوقوعِ التساؤُلِ به لا بغيرِه من أسمائِه تعالى وصِفاته يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/138). .
- وفي قوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ قرَنَ اللهُ سُبحانَه الأرحامَ باسْمِه الكَريمِ؛ إيذانًا بأنَّ صِلةَ الأرحامِ مِن اللهِ بمكانٍ عظيمٍ ((تفسير الزمخشري)) (1/463)، ((تفسير البيضاوي)) (2/58)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (5/176). .
6- قوله: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا: خبرٌ جارٍ مجرَى التَّعليلِ للأمْرِ ووُجوبِ الامتثالِ به ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/556)، ((تفسير أبي السعود)) (2/139). ، مع ما فيه من التوكيدِ بـ(إنَّ)، واسميَّة الجملة.
- وإظهارُ الاسمِ الجليلِ اللهَ؛ لتَأكيدِه، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ عَلَيْكُمْ لرِعايةِ الفَواصِل يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (2/139). .
- والتعبيرُ بصِيغة فَعيل في قوله: رَقِيبًا؛ للمُبالغةِ ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (3/556)، ((تفسير أبي السعود)) (2/139). .