موسوعة التفسير

سورةُ الحَجِّ
الآيات (11-13)

ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ

غريب الكلمات :

عَلَى حَرْفٍ: أي: على شَكٍّ، والحَرفُ: الطَّرَفُ والجانِبُ، نحو حَرفِ الجبلِ الذي عليه القائمُ غيرُ مستقرٍّ، وأصلُ (حرف): يدلُّ على حَدِّ الشَّيءِ [195]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 290)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/42)، ((البسيط)) للواحدي (15/285)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 243)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 301). .
فِتْنَةٌ: أي: ابتلاءٌ واختبارٌ بمكروهٍ يُصيبُه في أهلِه أو مالِه أو نفْسِه، وأصْلُ (فتن): يدُلُّ على اختِبارٍ وابتِلاءٍ [196]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 76)، ((تفسير ابن جرير)) (16/472، 473)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/472، 473)، ((البسيط)) للواحدي (15/287)، ((المفردات)) للراغب (ص: 624)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 29، 139 - 140)، ((تفسير الرسعني)) (5/18)، ((تفسير الشوكاني)) (3/520). .
انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ: أي: ارتَدَّ ورجَعَ عن دينِه إلى الكُفرِ، ويُطلَقُ الانقِلابُ كثيرًا على الانصرافِ منِ الجِهةِ التي أتاها إلى الجِهةِ التي جاء منها، وأصلُ (قلب): يدُلُّ على رَدِّ شَيءٍ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ [197]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/17)، ((البسيط)) للواحدي (15/287)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/213). .
الْمَوْلَى: أي: الوَليُّ النَّاصِرُ، وأصلُ (ولي): يدُلُّ على قُربٍ [198]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((تفسير ابن جرير)) (16/477)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/141)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 244)، ((تفسير ابن كثير)) (5/401). .
الْعَشِيرُ: أي: الصَّاحِبُ المُخالِطُ، وأصلُ (عشر): يدُلُّ على مُداخَلةٍ ومُخالَطةٍ [199]     يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 291)، ((تفسير ابن جرير)) (16/477)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/324)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 244)، ((تفسير ابن كثير)) (5/401)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 301). .

مشكل الإعراب:

قَولُه تعالى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
جملةُ يَدْعُو مُستأنفةٌ، ولَمَنْ ضَرُّهُ اللامُ زائدةٌ في المفعولِ للتأكيدِ، و(مَن) اسمٌ موصولٌ في محلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به، أي: يدعو مَنْ ضرُّه أقرَبُ، وضَرُّهُ أَقْرَبُ مبتدأٌ وخبَرٌ. ويؤيِّدُ هذا الوجهَ قراءةُ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ: (يَدْعُو مَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ)، وجملةُ ضَرُّهُ أَقْرَبُ صِلةُ (مَن) لا محَلَّ لها. وقيلَ: اللَّامُ في لَمَنْ للابتِداءِ مُزَحْلقةٌ عن محَلِّها الأصليِّ، وهي تُفيدُ تأكيدَ مَضمونِ الجُملةِ الواقِعةِ بَعدَها، وقُدِّمَت مِن تأخيرٍ؛ إذ حَقُّها أن تدخُلَ على صِلَةِ (مَنْ) الموصولةِ، والأصلُ: يدعو مَن لَضَرُّه أقرَبُ مِن نَفعِه. واللَّامُ في لَبِئْسَ واقعةٌ في جوابِ قَسَمٍ مُقَدَّر. وقيل غيرُ ذلك [200]     يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (2/217)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (3/415)، ((التبيان)) للعكبري (2/934)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (8/238)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/216)، ((المجتبى)) للخراط (2/743). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالى: ومِنَ النَّاسِ مَن يَعبدُ الله على شَكٍّ وترَدُّدٍ، فإنْ أصابه خيرٌ مِن صِحَّةٍ وسَعَةٍ وغَيرِهما، استمَرَّ على عبادتِه، وإنْ حصَلَ له ابتِلاءٌ بمَكروهٍ وشِدَّةٍ، رجَعَ عن دينِه، فهو بذلك قد خَسِرَ الدُّنيا؛ إذ لم يَظفَرْ بحاجَتِه منها، وحُرِمَ الطُّمأنينةَ ومُوالاةَ المُسلِمينَ، وخَسِرَ الآخِرةَ بدُخولِه النَّارَ، وذلك خُسرانٌ بيِّنٌ واضِحٌ.
 يَدْعو ذلك المرتَدُّ آلِهةً مِن دُونِ اللهِ لا تضُرُّه ولا تنفَعُه، ذلك هو الضَّلالُ البَعيدُ عن الحَقِّ. يدعو مَن ضَرَرُه المحقَّقُ أقرَبُ مِن نَفْعِه، قَبُحَ ذلك المعبودُ نَصيرًا، وقَبُحَ عَشيرًا ومُصاحِبًا!

تفسير الآيات:

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى حالَ المُظهِرينَ للشِّركِ المُجادِلينَ فيه؛ عقَّبَه بذِكرِ المُنافِقينَ [201]     يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/208). .
وأيضًا لَمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى قِسْمَيِ المصارِحينَ بالكُفرِ الكثيفِ والأكثَفِ صريحًا، وأفهَمَ المؤمِنَ المُخلِصَ؛ عطَفَ على ذلك المُذبذَبَ [202]     يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/16). .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ.
سَبَبُ النُّزولِ:
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، أنَّه قال في قَولِه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ: (كان الرَّجُلُ يَقدَمُ المدينةَ، فإنْ وَلَدَت امرأتُه غُلامًا، ونُتِجَت [203]     نُتِجَت: أي وَضَعت وولَدَت. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/12)، ((شرح القسطلاني)) (7/246). خَيلُه، قال: هذا دِينٌ صالِحٌ. وإنْ لم تَلِدِ امرأتُه، ولم تُنتَجْ خَيلُه، قال: هذا دينُ سَوْءٍ!) [204]     رواه البخاري (4742). .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ.
أي: ومِنَ النَّاسِ مَن يَعبُدُ اللهَ على شكٍّ [205]     قال الواحدي: (قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ أكثَرُ المفَسِّرين قالوا: على شَكٍّ وضَلالةٍ، وأصلُه مِن حَرْفِ الشَّيءِ: وهو طَرَفُه، نحوُ حَرفِ الجَبَلِ والدُّكَّانِ والحائطِ، الذي عليه القائِمُ غيرُ مُستَقِرٍّ؛ فالذي يَعبدُ اللهَ على حَرفٍ قَلِقٌ في دينِه، على غيرِ ثَباتٍ وطُمأنينةٍ، كالذي هو على حَرْفِ الجَبَلِ ونَحوِه؛ يَضطرِبُ اضطِرابًا، ويَضعُفُ قيامُه، فهو يَعرِضُ أن يَقَعَ في أحدِ جانِبَيِ الطَّرَفِ، فقيل للشَّاكِّ في دينِه: إنَّه يَعبُدُ اللهَ على حَرفٍ؛ لأنَّه ليس على يَقينٍ في وَعدِه ووعيدِه، بخِلافِ المؤمِنِ؛ لأنَّه عبَدَه على يقينٍ وبَصيرةٍ، ولم يكُنْ على حَرفٍ يَسقُطُ عنه بأدنى شَيءٍ يُصيبُه). ((الوسيط)) للواحدي (3/261). وقال الشوكاني: (وقيلَ: الحرفُ: الشَّرطُ، أي: ومِن النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ على شرطٍ، والشَّرطُ هو قولُه: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ أي: خيرٌ دُنيوِيٌّ مِن رخاءٍ وعافيةٍ وخِصْبٍ وكثرةِ مالٍ). ((تفسير الشوكاني)) (3/520). ؛ فلم يَدخُلِ الإيمانُ قَلْبَه على نحوٍ يَقينيٍّ، بل هو في شَكٍّ وقَلَقٍ وترَدُّدٍ في دينِ اللهِ [206]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/64) و(16/472)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 729)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (12/110)، ((تفسير ابن كثير)) (5/400)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534). وقال ابن عاشور: (هذا وصفُ فريقٍ يَضَعون أنفسَهم في مَعرِض الموازنةِ بين دِينِهم القديمِ ودِينِ الإسلامِ؛ فهُم يَقبلون دعوةَ الإسلامِ ويَدخُلون في عِداد متَّبعيه، ويَرقُبون ما يَنتابُهم بعدَ الدخولِ في الإسلامِ؛ فإنْ أصابهمُ الخيرُ عَقِبَ ذلك علِموا أنَّ دِينهم القديمَ ليس بحقٍّ، وأنَّ آلهتهم لا تَقدِر على شيءٍ؛ لأنَّها لو قدرَتْ لانتقمتْ منهم على نبْذِ عِبادتِها، وظنُّوا أنَّ الإسلامَ حقٌّ، وإنْ أصابهم شرٌّ مِن شرورِ الدُّنيا العارضةِ في الحياةِ، المسبَّبةِ عن أسبابٍ عاديَّةٍ، سَخِطوا على الإسلامِ، وانخلعوا عنه، وتوهَّموا أنَّ آلهتَهم أصابتْهم بسوءٍ؛ غضبًا مِن مفارقتِهم عِبادتَها!). ((تفسير ابن عاشور)) (17/210، 211). .
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ.
أي: فإنْ أصابَه خَيرٌ -كصِحَّةٍ، ورَخاءِ مَعيشةٍ، ورِزقٍ هَنيءٍ- ولم يقَعْ له مِنَ المكارِهِ شَيءٌ؛ رَضِيَ عن الإسلامِ، واستقَرَّ وثَبَتَ على عبادةِ اللهِ [207]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/472)، ((تفسير القرطبي)) (12/18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534). !
وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ.
أي: وإن أصابَتْه مِحنةٌ وإنْ قَلَّتْ -كبَلاءٍ في بَدَنِه أو أهلِه، أو ضيقٍ في مَعيشَتِه- ارتدَّ فرَجَع إلى الوجهِ الَّذي كانَ عليه مِن الكفرِ [208]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/472)، ((تفسير البغوي)) (3/326)، ((تفسير القرطبي)) (12/18)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/17)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534). فسَّر كثيرٌ مِن المفَسِّرينَ قَولَه تعالى: انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ بمعنى: رجَعَ إلى ما كان عليه مِنَ الكُفرِ بالله. وممَّن قال بذلك: ابنُ جرير، والبغوي، والقرطبي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/472)، ((تفسير البغوي)) (3/326)، ((تفسير القرطبي)) (12/18)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534). وممَّن قال بهذا القولِ من السَّلف: مُجاهد، والضحَّاك، وابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/473). وقال ابنُ تيميَّةَ: (المُهتدون لَمَّا كانوا على هُدًى مِن ربِّهم، ونُورٍ وبيِّنةٍ وبصيرةٍ، صار مكانةً لهم استقرُّوا عليها، وقد تُحيط بهم، بخِلاف الذين قال فيهم: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ [الحج: 11]؛ فإنَّ هذا ليس ثابتًا مستقِرًّا مطمئنًّا، بل هو كالواقفِ على حَرْفِ الوادي، وهو جانبُه؛ فقد يطمئنُّ إذا أصابه خيرٌ، وقد ينقلِبُ على وجهِه ساقطًا في الوادي). ((مجموع الفتاوى)) (15/63، 64).  وقال البِقاعي: (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ لِتَهيُّئِه للانقِلابِ، بكَونِه على شَفَا جُرُفٍ، فسقَط عن ذلك الطَّرَفِ مِن الدِّينِ سُقوطًا لا رجوعَ له بعدُ إليه، ولا حركةَ له معه؛ فإنَّ الإنسانَ مَطبوعٌ على المُدافَعةِ بكُلِّ عُضوٍ مِن أعضائِه عن وَجهِه، فلا يُمَكّنُ منه إلَّا بعدَ نهايةِ العَجْزِ، والمعنى: أنَّه رجَع إلى الوَجهِ الذي كان عليه مِن الكُفرِ أو الشَّكِّ رُجوعًا مُتمَكِّنًا، وهذا بخِلافِ الرَّاسِخِ في إيمانِه). ((نظم الدرر)) (13/17). !
كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 10-11].
وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ أعرابيًّا بايَعَ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الإسلامِ، فأصاب الأعرابيَّ وَعْكٌ [209]     وعْكٌ: أي: الحُمَّى، أو ألَمُها. يُنظر: ((النهاية)) لابن الأثير (5/207). بالمدينةِ، فأتى الأعرابيُّ إلى رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أقِلْني بَيعَتي [210]     أقِلْني بَيعتي: أي: أقِلْني ما بايعتُك عليه مِنَ البقاءِ بالمدينةِ؛ مِن الإقالةِ: وهي تَركُ العَقدِ وإبطالُه. يُنظر: ((المُعْلِم بفوائد مسلم)) للمازَري (2/121)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/80). ، فأبى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ جاءَه، فقال: أقِلْني بَيعَتي، فأبى، ثمَّ جاءَه فقال: أقِلْني بيعَتي، فأبى، فخرجَ الأعرابيُّ، فقال رَسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلَّم: إنَّما المدينةُ كالكِيرِ؛ تَنفي خَبَثَها، ويَنصَعُ طَيِّبُها [211]     يَنصَعُ طَيِّبُها: أي: يصفو ويَخلُصُ ويتمَيَّزُ. (طَيِّبُها) بفَتحِ الطاءِ وكسرِ الياءِ المشَدَّدةِ، على الروايةِ الصَّحيحةِ، ويُروى بكسر الطاءِ وضَمِّ الباءِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (9/156)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (5/1881). ) [212]     رواه البخاري (7211) واللفظ له، ومسلم (1383). .
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ.
أي: خَسِرَ هذا المُنقَلِبُ على وَجهِه خيرَ دُنياه، فلم يَظفَرْ بحاجَتِه منها، وحُرِمَ الطُّمَأنينةَ وثَناءَ المُسلِمينَ ومُوالاتَهم، وخَسِرَ خَيرَ آخِرتِه بدُخولِ النارِ، والحِرمانِ مِن الجَنَّةِ [213]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/475)، ((الوسيط)) للواحدي (3/261)، ((تفسير القرطبي)) (12/18)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/132) و (28/40)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/214). قال الرازي: (يخسَرُ في الدُّنيا العِزَّةَ والكرامةَ، وإصابةَ الغَنيمةِ، وأهليَّةَ الشَّهادةِ، والإمامةَ والقضاءَ، ولا يبقَى مالُه ودَمُه مصونًا، وأمَّا في الآخرةِ فيَفوتُه الثوابُ الدائِمُ، ويحصُلُ له العِقابُ الدَّائِمُ). ((تفسير الرازي)) (23/209). !
ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
أي: خَسارَتُه لِدُنياه وأُخراه هي الخَسارةُ العَظيمةُ البَيِّنةُ التي لا تَخفَى [214]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/475)، ((تفسير الشوكاني)) (3/520)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/214). .
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12).
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ.
أي: يدعو ذلك المرتَدُّ عن دينِ اللهِ آلِهةً سوى الله لا تضُرُّه ولا تَنفَعُه بذاتِها مُطلَقًا بأيِّ وَجهٍ مِن وُجوهِ الضُّرِّ أو النَّفعِ [215]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/476)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 729)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/272) و(28/40)، ((تفسير ابن كثير)) (5/401)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/18، 19)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/284). .
ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ .
أي: دُعاءُ غيرِ اللهِ هو الذَّهابُ البَعيدُ عن الحَقِّ [216]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/476)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 729)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/286). .
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13).
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
بعْدَ أن بيَّن لهم أنَّهم يعبدونَ ما لا غَناءَ لهم فيه، زاد فبيَّن أنَّهم يعبُدونَ ما فيه ضُرٌّ، فمضمونُ الجُملةِ ارتقاءٌ في تضليلِ عابدي الأصنامِ، وموضِعُ الارتقاءِ هو مضمونُ جملةِ مَا لَا يَضُرُّهُ [الحج: 12] ، كأنَّه قيل: ما لا يضُرُّه، بل ما ينجَرُّ له منه ضُرٌّ [217]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/215، 216). .
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.
أي: يَدعو المُشرِكُ مَخلوقًا ضَرَرُ عبادتِه أقرَبُ إليه مِن نَفعِها [218]     يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/476)، ((معاني القرآن)) للنحاس (4/384)، ((تفسير البغوي)) (3/326)، ((تفسير القرطبي)) (12/18)، ((تفسير ابن كثير)) (5/401)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534). .
لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ.
أي: لَبِئسَ النَّاصِرُ هذا المعبودُ مِن دُونِ اللهِ! ولَبِئسَ المُعاشِرُ والمصاحِبُ هو؛ فإنَّه لا يَنصُرُ عابِدَه، ولا يجلِبُ له خيرًا ولا نَفعًا [219]     يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (12/20)، ((تفسير ابن كثير)) (5/401)، ((تفسير السعدي)) (ص: 534)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/216)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (4/286). وممَّن ذهَب إلى أنَّ المراد: المعبودُ مِن دونِ الله: القرطبيُّ، وابنُ كثير، والسِّعدي، وابن عاشور، والشِّنقيطي. يُنظر: المصادر السابقة. وممَّن قال بنحو هذا القولِ مِن السَّلفِ: مجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/477). قال السعديُّ: (فإنَّ المقصودَ من المولى والعشيرِ حصولُ النفع، ودفْعُ الضرر؛ فإذا لم يَحصُلْ شيء من هذا، فإنه مذمومٌ ملومٌ). ((تفسير السعدي)) (ص: 534). وممَّن قال بنحو هذا القول مِن السَّلف: ابنُ زيد. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (16/477). وقال ابن جرير: (وقولُه: لَبِئْسَ الْمَوْلَى يقولُ: لبئسَ ابنُ العمِّ هذا الَّذي يعبدُ اللَّه على حَرْفٍ. وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ يقولُ: ولبئسَ الخليطُ المُعاشِرُ، والصَّاحِبُ هو). ((تفسير ابن جرير)) (16/477). وقال الرازي: (واعلَمْ أنَّ هذا الوَصفَ بالرُّؤساءِ أليَقُ؛ لأنَّ ذلك لا يكادُ يُستعمَلُ في الأوثانِ؛ فبَيَّن تعالى أنَّهم يَعدِلونَ عن عبادةِ الله تعالى الذي يَجمَعُ خَيرَ الدُّنيا والآخرةِ إلى عبادةِ الأصنامِ وإلى طاعةِ الرُّؤساءِ، ثمَّ ذَمَّ الرُّؤساءَ بقَولِه: لَبِئْسَ الْمَوْلَى والمرادُ: ذَمُّ مَن انتصَرَ بهم، والتجَأَ إليهم). ((تفسير الرازي)) (23/209). !

الفوائد التربوية :

1- قَولُ اللهِ تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ هذا بخِلافِ الرَّاسِخِ في إيمانِه؛ فإنَّه إن أصابَتْه سَرَّاءُ شكَر، وإنْ أصابَتْه ضَرَّاءُ حَمِدَ وصَبَر؛ فكُلُّ قَضاءِ اللهِ له خيرٌ [220]     يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (13/17). .
2- قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، وقال أيضًا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ؛ فلا بُدَّ مِن أذًى لكلِّ مَن كان في الدُّنيا، فإنْ لم يَصبِرْ على الأذَى في طاعةِ اللهِ، بلِ اختارَ المعصيةَ؛ كان ما يَحصُلُ له مِن الشرِّ أعظمَ ممَّا فرَّ منه بكثيرٍ؛ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة: 49] . ومَنِ احتَملَ الهوانَ والأذى في طاعةِ اللهِ على الكَرامةِ والعِزِّ في مَعصيةِ اللهِ -كما فعَلَ يُوسُفُ عليه السلامُ وغيرُه مِن الأنبياءِ والصَّالحينَ- كانتْ العاقبةُ له في الدُّنيا والآخِرَةِ، وكان ما حصَل له مِن الأذَى قد انقَلَب نعيمًا وسرورًا، كما أنَّ ما يَحصُلُ لأربابِ الذُّنوبِ مِن التنعُّمِ بالذُّنوبِ يَنقلِبُ حُزنًا وثُبورًا [221]     يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (15/132). .
3- العَبدُ على الحَقيقةِ مَن قام بعبوديَّةِ اللهِ على اختِلافِ الأحوالِ، وأمَّا عَبدُ السَّرَّاءِ والعافيةِ الذي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، فليس مِن عَبيدِه الذين اختارَهم لعُبوديَّتِه؛ فلا رَيبَ أنَّ الإيمانَ الذى يَثبُتُ على محَلِّ الابتِلاءِ والعافيةِ هو الإيمانُ النَّافِعُ وَقتَ الحاجةِ، وأمَّا إيمانُ العافيةِ فلا يكادُ يَصحَبُ العَبدَ، ويُبلِّغُه مَنازِلَ المُؤمِنينَ، وإنَّما يَصحَبُه إيمانٌ يَثبُتُ على البلاءِ والعافيةِ [222]     يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 277، 278). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- إنْ قِيلَ: إنَّ الله تعالى قال: فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ، ومُقابِلُ الخيرِ هو الشَّرُّ، فلماذا قال: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، ولم يقُلْ: (وإنْ أصابَه شَرٌّ انقلَبَ على وجهِه)؟
فالجوابُ: لأنَّ ما يَنفِرُ عنه الطبعُ ليس شرًّا في نفْسِه، بل هو سَببُ القُربةِ ورفعِ الدَّرجةِ بشرطِ التَّسليمِ والرِّضا بالقضاءِ [223]     يُنظر: ((حاشية زاده على البيضاوي)) (6/92). ، وأيضًا فلَمَّا كانتِ الشِّدَّةُ ليستْ بقبيحةٍ، لم يقُلْ تعالى: (وإنْ أصابَه شَرٌّ)، بلْ وصَفَه بما لا يُفيدُ فيه القُبحَ [224]     يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/209)، ((تفسير ابن عادل)) (14/31). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ فيه سُؤالٌ: كيفَ قال: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، والخيرُ أيضًا فِتنةٌ؛ لأنَّه امتحانٌ، وقال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35]  ؟
الجوابُ: أنَّ مِثلَ هذا كثيرٌ في اللُّغةِ؛ لأنَّ النِّعمةَ بلاءٌ وابتلاءٌ، لقولِه: فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ [الفجر: 15] ، ولكن إنَّما يُطلقُ اسمُ (البَلاء) على ما يَثقُلُ على الطَّبعِ، والمنافقُ ليس عِندَه الخيرُ إلَّا الخيرُ الدُّنيويُّ، وليس عِندَه الشرُّ إلَّا الشرُّ الدُّنيويُّ؛ لأنَّه لا دِينَ له؛ فلذلك وردتِ الآيةُ على ما يَعتقِدونَه، وإنْ كان الخيرُ كلُّه فِتنةً، لكنْ أكثرُ ما يُستعمَلُ فيما يَشتدُّ ويَثقُلُ [225]     يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/208). .
3- قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ فيه سؤالٌ: إذا كانتِ الآيةُ في المنافِقِ؛ فمَا معنى قولِه: انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وهو في الحقيقةِ لم يُسلِمْ حتى يَنقلِبَ ويرتدَّ؟
والجوابُ: أنَّ المرادَ أنَّه أظهرَ بلسانِه خِلافَ ما كان أَظْهَره، فصارَ يَذُمُّ الدِّينَ عِندَ الشِّدَّةِ، وكان مِن قَبلُ يَمْدَحُه، وذلك انقلابٌ في الحقيقةِ [226]     يُنظر: ((تفسير الرازي)) (23/208). .
4- ذَكرَ اللهُ تعالى في آياتِ هذه السورةِ ثَلاثةَ أصنافٍ: صِنفٌ يُجادِلُ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ، ويَتَّبِعُ كلَّ شيطانٍ مَريدٍ، مكتوبٍ عليه إضلالُ مَن تَولَّاه، وهذه حالُ المتَّبِعِ لِمَن يُضلُّه. وصِنفٌ يُجادِلُ في اللهِ بغَيرِ عِلمٍ ولا هُدًى ولا كِتابٍ مُنيرٍ، ثانِيَ عِطْفِه ليُضِلَّ عن سَبيلِ اللهِ، وهذه حالُ المتبوعِ المُستكبِرِ الضالِّ عن سبيلِ اللهِ. ثُمَّ ذَكَر حالَ مَن يَعبُدُ اللهَ على حَرْفٍ، وهذه حالُ المتَّبعِ لهواهُ، الذي إنْ حصَلَ له ما يَهواه مِن الدُّنيا عبَدَ اللهَ، وإنْ أصابَه ما يُمتَحَنُ به في دُنياهُ ارتدَّ عن دِينِه؛ فهذه حالُ مَن كان مريضًا في إرادتِه وقصْدِه، وهي حالُ أهلِ الشَّهواتِ والأهواءِ [227]     يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) لابن تيمية (5/263، 264)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (3/1088). .
5- كلُّ مَن يملِكُ الضُّرَّ والنفعَ فإنَّه هو المعبودُ حقًّا، والمعبودُ لا بدَّ أن يكونَ مالكًا للنفعِ والضَّررِ؛ ولهذا أنكَر الله تعالى على مَن عبَد مِن دونِه ما لا يملكُ ضرًّا ولا نفعًا، وذلك كثيرٌ في القرآنِ، ومِن ذلك قولُه تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ [228]     ينظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (3/2). .
6- قَولُ اللهِ تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ فيه سؤالٌ: الضَّرَرُ والنَّفعُ مَنفيَّانِ عن الأصنامِ، مُثبَتانِ لها في الآيتَينِ، وهذا قد يُتوَهَّمُ أنَّه تناقُضٌ؟
وللعُلماءِ أوْجُهٌ في الجوابِ عن ذلِك:
منها: أنَّ الأصنامَ لا تَضرُّ ولا تَنفعُ بأنفُسِها، ولكنْ عِبادتُها نُسِب الضَّرَرُ إليها، كقولِه: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] ، أضافَ الإضلالَ إليهم؛ إذ كانوا سَببَ الضلالِ؛ فكذا هنا: نفْيُ الضررِ عنهم؛ لكونِها ليستْ فاعلةً، ثم أضافَه إليها؛ لكونِها سَببَ الضَّررِ [229]     يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/490). .
ومنها: أنَّ الأصنامَ في الحقيقةِ لا تَضرُّ ولا تَنفَعُ، بيَّن ذلك في الآيةِ الأولى، ثم أثْبَتَ لها الضرَّ والنفعَ في الثانيةِ على طريقِ التَّسليمِ؛ أي: ولو سَلَّمْنا كونَها ضارَّةً نافعةً، لكان ضَرُّها أكثرَ مِن نفْعِها [230]     يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (7/490). .
ومنها: أنَّ المنفيَّ هو فِعلُهم، بقولِه: مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ، والمُثبَتَ اسمٌ مضافٌ إليه، فإنَّه لم يقُلْ: (يَضرُّ أعظمَ ممَّا يَنفَعُ)؛ بل قال: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، والشَّيءُ يُضافُ إلى الشَّيءِ بأدْنَى مُلابسةٍ؛ فلا يجبُ أنْ يكونَ الضَّرُّ والنَّفعُ المُضافانِ مِن بابِ إضافةِ المصدرِ إلى الفاعِلِ، بل قد يُضافُ المصدرُ مِن جِهةِ كونِه اسمًا، كما تُضافُ سائرُ الأسماءِ، وقدْ يُضافُ إلى مَحلِّه وزَمانِه ومكانِه وسَببِ حُدوثِه وإنْ لم يكُنْ فاعلًا؛ كقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سبأ: 33] ، ولا ريبَ أنَّ بينَ المعبودِ مِن دُونِ اللهِ وبين ضَرَرِ عابدِيه تعلُّقًا يَقتضي الإضافةَ، كأنَّه قيل: لَمَنْ شَرُّهُ أقربُ مِن خيَرِه، وخَسارتُه أقربُ مِن رِبحِه. فهكذا المدعوُّ المعبودُ مِن دونِ اللهِ الذي لم يَأمُرْ بعِبادةِ نفْسِه؛ إمَّا لكونِه جَمادًا، وإمَّا لكونِه عبدًا مُطيعًا للهِ مِن الملائكةِ والأنبياءِ والصَّالحينَ مِن الإنسِ والجِنِّ؛ فما يُدْعَى مِن دُونِ اللهِ هو لا يَنفعُ ولا يَضرُّ، لكنْ هو السَّببُ في دُعاءِ الداعي له، وعِبادتِه إيَّاه، وعِبادةُ ذاك ودُعاؤُه هو الذي ضَرَّه؛ فهذا الضَّرُّ المضافُ إليه غيرُ الضَّرِّ المنفيِّ عنه [231]     يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (15/273). ؛ فلمَّا كان الضَّرُّ الحاصلُ من الأصنامِ ليس ضَرًّا ناشئًا عن فِعلِها، بل هو ضَرٌّ مُلابِسٌ لها، أَثبَتَ الضرَّ بطريقِ الإضافةِ للضميرِ دون طريقِ الإسنادِ؛ إذ قال تعالى: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، ولم يقُلْ: (لَمَن يَضرُّ ولا يَنفَعُ)؛ لأنَّ الإضافةَ أوسعُ مِن الإسنادِ؛ فلمْ يَحصُلْ تَنافٍ بين قولِه: مَا لَا يَضُرُّهُ [الحج: 12] ، وقولِه: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لحج: 13]        [232]  يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/216)..

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ مثَلٌ لكونِهم على قلَقٍ واضطرابٍ في دِينِهم، لا على سُكونٍ وطُمأْنينةٍ، بتَمثيلِ حالِ المُتردِّدِ في عَمَلِه يُريدُ تَجرِبةَ عاقِبَتِه، بحالِ مَن يَمْشي على حَرفِ جبَلٍ أو حَرفِ وادٍ، فهو مُتهيِّئٌ لأنْ يَزِلَّ عنه إلى أسفَلِه، فيَنقلِبَ [233]     يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (3/146)، ((تفسير أبي حيان)) (7/489)، ((تفسير ابن عاشور)) (17/212). ، والحَرفُ هنا كِنايةٌ عن المقصدِ [234]     يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/34). .
- وقولُه: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ كالتَّوضيحِ والبَيانِ للجُملةِ السَّابقةِ، وتَكريرُ معنى الخُسرانِ والتَّصويرِ؛ لأنَّ فائدةَ البدَلِ التَّفسيرُ والتَّوكيدُ [235]     يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (10/450). .
- وجُملةُ: ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ مُعترِضةٌ بين جُملةِ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ، وجُملةِ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ. والإتيانُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ؛ لزِيادةِ تَمييزِ المُسنَدِ إليه أتَمَّ تَمييزٍ؛ لتَقريرِ مَدلولِه في الأذهانِ [236]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/214). .
- والتَّعبيرُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ وما فيه مِن معنى البُعْدِ؛ للإيذانِ بكونِه في غايةِ ما يَكونُ [237]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/98). .
- والقصْرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ المُسنَدِ الْخُسْرَانُ قَصرٌ ادِّعائيٌّ [238]     القصرُ الادِّعائي: ما كان القصرُ الحَقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاء والمبالَغةِ، بتنزيلِ غَيرِ المذكورِ مَنزلةَ العدَمِ، وقصْرُ الشيء على المذكورِ وحْدَه. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118)، و(3/6)، ((التعريفات)) للجرجاني (1/175-176)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ، والمقصودُ منه: تَحقيقُ الخبَرِ، ونَفْيُ الشَّكِّ في وُقوعِه. وضَميرُ الفصْلِ أكَّدَ معنى القصْرِ؛ فأفادَ تَقويةَ الخبرِ المقصورِ [239]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/214). .
2- قَولُه تعالى: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ
- قولُه: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ استئنافٌ مُبيِّنٌ لعِظَمِ الخُسرانِ [240]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/98). .
- وفي تَقديمِ الضَّرِّ على النَّفعِ: إشارةٌ إلى أنَّه تَملَّصَ مِن الإسلامِ تَجنُّبًا للضَّرِّ؛ لتَوهُّمِه أنَّ ما لَحِقَه مِن الضَّرِّ بسبَبِ الإسلامِ وبسَببِ غضَبِ الأصنامِ عليه، فعاد إلى عِبادةِ الأصنامِ حاسِبًا أنَّها لا تضُرُّه. وفي هذا الإيماءِ تَهكُّمٌ به، يَظهَرُ بتَعقيبِه بـ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ [241]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/214). .
- قولُه: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ فيه الإتيانُ باسمِ الإشارةِ ذَلِكَ؛ لزيادةِ تَمييزِ المُسنَدِ إليه أتَمَّ تَمييزٍ؛ لتَقريرِ مَدْلولِه في الأذهانِ. والقَصرُ المُستفادُ مِن تَعريفِ المُسنَدِ الضَّلَالُ قَصرٌ ادِّعائيٌّ، والمقصودُ منه: تَحقيقُ الخبرِ، ونَفْيُ الشَّكِّ في وُقوعِه. وضَميرُ الفصْلِ أكَّدَ معنى القَصرِ؛ فأفاد تَقويةَ الخبَرِ المقصورِ [242]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/215). .
3- قولُه تعالى: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ استئنافٌ مَسوقٌ لبَيانِ مآلِ دُعائِه المذكورِ، وتَقريرِ كَونِه ضَلالًا بعيدًا، مع إزاحةِ ما عسَى يُتَوهَّمُ مِن نَفْيِ الضَّررِ عن مَعبودِه بطريقِ المُباشَرةِ، ونَفْيِه عنه بطَريقِ التَّسبُّبِ أيضًا. ويجوزُ أنْ يكونَ الفِعْلُ يَدْعُو الثَّاني إعادةً للأوَّلِ، لا تأكيدًا له فقط، بل وتَمهيدًا لِمَا بعْدَه من بَيانِ سُوءِ حالِ مَعبودِه إثْرَ بَيانِ سُوءِ حالِ عبادتِه، بقولِه تعالى: ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ؛ كأنَّه قِيلَ من جِهَتِه تعالى بعْدَ ذِكْرِ عبادتِه لِمَا لا يَضُرُّه ولا ينفَعُه: (يَدْعو ذلك)، ثمَّ قيلَ: (لمَن ضَرُّه أقرَبُ مِن نَفعِهِ واللهِ لَبِئْسَ المَوْلى ولَبِئْسَ العَشيرُ)؛ فكلمةُ (مَن) وصِيغةُ التَّفضيلِ أَقْرَبُ للتَّهكُّمِ به [243]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/98). .
- قولُه: لَمَنْ ضَرُّهُ اللَّامُ للابتداءِ -على قولٍ-، وهي تُفِيدُ تأْكيدَ مَضمونِ الجُملةِ الواقعةِ بعْدَها، فلامُ الابتداءِ تُفِيدُ مُفادَ (إنَّ) مِن التَّأكيدِ [244]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/216). .
- قولُه: يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فيه إيثارُ (مَن) على (مَا)، مع كونِ مَعبودِه جَمادًا، وإيرادُ صِيغَةِ التَّفضيلِ أَقْرَبُ مع خُلُوِّه عن النَّفعِ بالمرَّةِ؛ للمُبالَغةِ في تَقبيحِ حالِه، والإمعانِ في ذَمِّه [245]     يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (6/98). . وكونُه أقرَبَ مِن النَّفعِ كِنايةٌ عن تَمحُّضِه للضَّرِّ، وانتفاءِ النَّفعِ منه؛ لأنَّ الشَّيءَ الأقرَبَ حاصِلٌ قبْلَ البعيدِ؛ فيَقْتضي ألَّا يَحصُلَ معه إلَّا الضَّرُّ [246]     يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (17/216). .